⏪⏬
منذ فترةٍ طويلة، وأنا أبحثُ عن رواية عربية تصنف كرواية تتابع أجيال، رواية تعرض في صفحاتها سيرةً ذاتية وتاريخية لأي شخصٍ ما، أو تتناول حياة عائلة معينة، ولا يهم إن كان لوجودها حقيقة أو خيال، حكاية يكون الزمن فيها البطل، بجانب صراعه
الطويل مع الأشخاص، وفي رواية "دَرب الإمبابي" للكاتب المصري محمد عبد الله سامي، الصادرة عن مركز المحروسة للنشر بالقاهرة، التي وصلت مؤخرًا للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد فرع المؤلف الشاب، وجدت ضالتي، رواية تتابع أجيال عن عائلة الشيخ "علي أبو طويلة" وجذره الذي مده في مدينة "إمبابة" بجوار مقام شيخه "إسماعيل الإمبابي" وجذره الآخر في "قليوب".
- رحلة طويلة من طنطا
"بحق رحلته الطويلة من طنطا إلى بولاق التي ظن أهلها أنه جاء ليهدم مقام وليّهم ويحل محله فآذوه وضربوه حتى ساقوه إلى بر النهر".
تبدأ رحلة الشيخ الصالح إسماعيل الإمبابي وبناء مقامٍ له في مدينة "إمبابة"، من مدينة طنطا يوم أن قرر السيد أحمد البدوي الاستقرار في إمبابة، وأن رحلته هناك بدأت ووجب عليه الرحيل.
أما رحلة بطل الرواية الحاج علي، تبدأ برحلة شيخه إسماعيل الإمبابي الذي لن يتوانى أن يذكره مَرَّة طوال سنواته المئة في إمبابة وقليوب، وسوف يتبع ما رآه في حلمه وما أشار به عليه شيخه.
- فن الحكاية
للأدب سحرٌ حين يجمع تاريخ مدينةٍ كاملة في قالب حكايةٍ، تأخذك معها وتأسرك بسحرها، خصوصًا إذا كان الكاتب يملك أدوات السحر في يده، فيعرف جيدًا كيف يصوغ حكايته، كيف يعشّق التفاصيل الصغيرة فلا تتوه، وتكون بصحبته من أول كلمة يبدأ بها لآخر كلمة ينهي بها روايته، وهذا ما حدث مع رواية "درب الإمبابي"، حيث أسرني محمد عبد الله سامي في ملحمته عن الحاج علي أبو طويلة، وعن السحر الذي تجلى في مدينة إمبابة لأكثر من مئة سنة، وامتد لمدينة قليوب"، المدن التي ذرع فيها علي أبو طويلة بذوره.
يمتلك محمد عبد الله سامي هنا معنى فن الحكاية، كيف تكتب ملحمة خاصة بك، عن حكاية لك، عاشها هو أو سمع عنها أو عاشها غيره، وبالتبعية نعيشها نحن القراء معه.
- الفرّة وفرقة التحديات السرية
"كان يقضي أسعد لحظاته، بعد أن تخطى التسعين وفقد معظم بصره، حين يعود من قليوب إلى إمبابة، في بيت ابنه الأوسط محيي بمدينة العمال، حيث يجلس على الكنبة العالية التي تتوسط غرفة الجلوس، فيلتف أحفاده حوله أرضًا مفترشين الكليم والشلت الصغيرة، ليستمعوا إلى حكايته الجديدة".
علي أبو طويلة كان صبيًا وقت أن ذهب أحمد عرابي باشا على حصانه ناحية القصر، تبدأ حكايته من هنا، وقت أن كان يجمع زملاءه ويشكل معهم فرقة مراهنات، على أي شيءٍ يقع أمامهم، دون هدف محدد، فقط قتلًا للوقت، خصوصًا أنه لم يرغب أبدًا أن يتعلم ويذهب للكتّاب، كانت الفرقة اسمها "فرقة التحديات السرية" لصاحبها علي أبو طويلة والمسؤول عنها وعن أفرادها.
صبي شقي جدًا، لا رغبةَ له في التعلم، يثير المشاكل، لديه طاقة كبيرة، تجعله يود فعل أشياء كثيرة، حتى إن كانت طائشة، على عكس أخيه "الحسن" الشخص المحب للعلم، المؤدب، الذي نادرًا ما يثير مشكلة أو يشكي منه أحد.
البلد وقتها وعلى فتراتٍ متقطعة، أصابتها أكثر من "فرّة"، تعبير صاغه علي، ويقصد به بعض الأوبئة التي أصابت مصر آنذاك، مَرّة أصابهم "السل" ومَرَّة "الطاعون" قادمًا من أوروبا ومَرَّة "الكوليرا" التي أطاحت بالكثير من شباب وأطفال وشيوخ ونساء، وطير وحيوان، مَن نجى منها، كتب له عمر جديد، مثلما كتب لعلي النجاة، على عكس أخيه، الأمر الذي جعله يشعر بالانهزام لأول مَرَّة، ويعرف معنى كلمة "المرض".
"اعتاد من أبيه على الغرابة في حياته وحكاياته التي كانت مصبوغة بمسحة عالم السحر والأساطير والمعجزات، تمامًا مثل عالم وليّه الشيخ إسماعيل".
الجفاف والصراع الأبدي
"كان المرض لعليّ، على طول عمره، قاب قوسين أو أدنى منه، يتنكر له في أوجهٍ عدة، يتوارى في بعض الأحيان، يتناساه في أحيان أخرى، لكنه قط لم يغب".
منذ صغر علي أبو طويلة والمرض يلاحقه، مَرَّة يسرق منه أخيه، ومَرَّة أخرى يصاب هو بمرضٍ يعلق معه لآخر عمره، كان "الجفاف" سر عائلة علي أبو طويلة، العفريت الذي يخشى منه، شبح يترصد دائمًا له ويلازمه طوال عمره، فيه وفي أبنائه وأحفاده.
"كانا - الجفاف وعلي - متلازمين، حيثما ولى وجهه رآه".
- وكالة الحاج رضوان وابنته فاطمة
"متعلقًا بين طرف عينيها الكحيلتين وطرف البرقع الذي كان يتهدل أحيانًا فيكشف وجنتها الخمرية، حتى استدارت فوجهت نور عينيها إليه، نظرت إليه، رأته، لم تشح بنظرها عنه، قرعت الطبول في صدره، أحالته إلى عليّ غير الذي كان".
في وكالة الحاج رضوان للأقمشة وجد علي ضالته، وذهبت أيام شقاوته، وفرقة التحديات السرية لحال سبيلها، منذ أن سلمه والده الريس إبراهيم للحاج رضوان، وأصبحت الوكالة بيت علي الثاني، والطريق الذي سوف يمشي فيه.
كان كار الأقمشة هو الكار الذي اتخذه علي منذ صغره، وزاد تمسكه به أكثر يوم أن زوجه الحاج رضوان بابنته وقرة عينه "فاطمة" التي أغرم بها علي منذ أول مَرَّة رآها فيها، وكانت عونًا له يوم أن قرر أن تكون له تجارته الخاصة.
تعلم علي أبو طويلة من الحاج رضوان الحكمة والفطنة، وشرب منه أصول الصنعة، كان طيب اللسان، كلامه معسول، يعجب النساء التي تتودد على وكالات الأقمشة، فأصبح اسمه معروفًا بسرعة كبيرة.
"أعاد النظر إلى أبنائه الثلاث الكبار، فرأى أعوامه العشرين قد استحالت فيهم إلى شخوص وطباع".
- مئة سنة من إمبابة
"يحكي لها عن أسبابه وانتصاراته، ودربه الذي ترك عليه أثره، يراها صبية شابة كما رآها أول مرة، اشتاق إلى "فاطمة" فاستسلم أخيرًا للنداء الذي لطالما كان يتجاهله".
تنتمي رواية "دَرب الإمبابي" لأدب الواقعية السحرية، رواية تتابع أجيال، على غرار رواية "مئة عام من العزلة" الرواية الشهيرة للكاتب الكولومبي غابرييل ماركيز، هنا محمد عبد الله سامي يكتب مئة عام من عزلته الخاصة عن مدينته إمبابة، رواية يتجاوز عدد أشخاصها أربعين، صعب أن تتوه فيهم، أو تفقد قدرتك على التركيز، رواية الصراع فيها قائم بين الإنسان ونفسه، تأخذ في بعض الأحيان منحى صوفي لا يطغى عليها، وخطوطها الدرامية سلسة لا تتعثر أبدًا، كذلك السرد والاستهلال، يجعلك تقف طويلًا لتتأكد فعلًا أن هذه أول رواية يكتبها الكاتب.
إذ يثبت محمد عبد الله سامي من خلال روايته الأولى أقدامه في ميدان الأدب وكتابة الرواية، ويجعلك تنتظر بشوق ما سوف يكتبه تاليًا، مشروعه الجديد الذي دون شك سوف يكون قوي كسابقه.
سامي يرقص مع إيقاع الرواية بصفحاتها التي تقترب من الأربعمئة، كراقص محترف، يدعوك لترقص معه على المسرح دون خجل أو خوف أن تذل قدمك في مَرَّة فتنكسر رقبتك.
تخلو هذه الرواية من الشر، حتى في شخوصها، لا تجده فيها، لكنها شريرة بطريقةٍ أخرى، طريقة الثبات في الذاكرة، مهما تحيي من عمر، فإذا كان صراع الحاج علي أبو طويلة مع المرض والزمن صراعًا أبديًا يكاد لا ينتهي أو لا مفر منه، فالذكريات التي سوف تبقى لديك من هذه الرواية كثيرة ومحببه، لا تود أن تذهب مع النسيان.
هناك أدب خلق ليبقى، مهما يمر عليه من زمن، ومحمد عبد الله سامي وضع قدمًا في هذا الأدب.
تنتمي رواية "دَرب الإمبابي" لأدب الواقعية السحرية، رواية تتابع أجيال، على غرار رواية "مئة عام من العزلة" الرواية الشهيرة للكاتب الكولومبي غابرييل ماركيز، هنا محمد عبد الله سامي يكتب مئة عام من عزلته الخاصة عن مدينته إمبابة، رواية يتجاوز عدد أشخاصها أربعين، صعب أن تتوه فيهم، أو تفقد قدرتك على التركيز، رواية الصراع فيها قائم بين الإنسان ونفسه، تأخذ في بعض الأحيان منحى صوفي لا يطغى عليها، وخطوطها الدرامية سلسة لا تتعثر أبدًا، كذلك السرد والاستهلال، يجعلك تقف طويلًا لتتأكد فعلًا أن هذه أول رواية يكتبها الكاتب.
إذ يثبت محمد عبد الله سامي من خلال روايته الأولى أقدامه في ميدان الأدب وكتابة الرواية، ويجعلك تنتظر بشوق ما سوف يكتبه تاليًا، مشروعه الجديد الذي دون شك سوف يكون قوي كسابقه.
سامي يرقص مع إيقاع الرواية بصفحاتها التي تقترب من الأربعمئة، كراقص محترف، يدعوك لترقص معه على المسرح دون خجل أو خوف أن تذل قدمك في مَرَّة فتنكسر رقبتك.
تخلو هذه الرواية من الشر، حتى في شخوصها، لا تجده فيها، لكنها شريرة بطريقةٍ أخرى، طريقة الثبات في الذاكرة، مهما تحيي من عمر، فإذا كان صراع الحاج علي أبو طويلة مع المرض والزمن صراعًا أبديًا يكاد لا ينتهي أو لا مفر منه، فالذكريات التي سوف تبقى لديك من هذه الرواية كثيرة ومحببه، لا تود أن تذهب مع النسيان.
هناك أدب خلق ليبقى، مهما يمر عليه من زمن، ومحمد عبد الله سامي وضع قدمًا في هذا الأدب.
*محمد حسن خليفة
كاتب صحفي وباحث حر، يكتب في السياسة والأدب والفن والشأن المصري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق