أنساب ضوء خافت يداعب شعرها الذهبى ليكشف عن حمرة خديها وبراءة طفولتها, حين غالبها النُعاس على كرسيها فى ركن القاعة , فبدت كالملاك النائم وحولها الصغار يشاهدون التلفاز الذى يبث حلقة كرتونية كل يوم فى هذا الميعاد أثارت ضحكاتهم المكنونة , قبل أن تجمعهم أَسِرة غرفهم ليكون الكل نيام فى الموعد المحدد بعد العشاء.
لحظتها شرفت الدار " سيدة كريمة"-على درجة من العز والأفتخار , سبقتها سنوات تحنو على من فيها - أطفال أيتام- بكل ماتجود به النفس من غذاء وكساء ورِياش – فى أستقبالها الكريم نهضت مديرة الدار ومشرفة الأطفال , غاص الجمع فى صالة التلفاز فى طريقهم الى مقصورة المديرة ,لحظتها وَمِضت عيني (السيدة الكريمة) على الملاك النائم وقد بدا رأسها يتدلى على كتفها فيما لاح شعرها الذهبى المُشِع يُزغلل عيون الزائرة , فتركت الركب وأنطلقت اِليها تُقبِل خديها فزادهما أحمرارا مع البياض الناصع ومسحت على شعرها فأنسابت الجفون ووجنات الصغيرة تتفتح وكأنها برعم يَحُفه الهواء فيطل من كأس الزهرة فى بريق ولمعان .
فى فيلا تفوح بكل مقومات الثراء ,قَطَنَت " السيدة الكريمة", وعلى خِدمتها سيدة تقوم بكل الأشغال المنزلية وتشرف على من يأتى للتنظيف ,وجناينى لروضة الفيلا اِتُخِذت منه حارسا يَخفُر الدار وقد اقام فى غرفة عند مدخل الفيلا ليل نهار .
لم يَغَفل " للسيدة الكريمة" جفن فى هذه الليلة , واِن درجت تغط فى ثُبات عميق منذ غادر زوجها الحياة وتركها وحيدة بلا أولاد , فصورة الملاك النائم فى دار الايتام لم تفارق مخيلتها , حتى غامت مقلتيها بعد آذان الفجر , فلاحت لها كما لم تر أجمل منها على مدار السنين فأحتضنتها وقَبَلت وجنتيها, وقدمت لها الشهد وماء المُحيا وأنطلقت فى كل مكان تختال بها وتفاخر كل من تقابلة فأنتشت فى غبطة وأبتهاج نشوة لاتعادلها ليلة عُرسِها ولايوم الزفاف- وفجأة من على سريرها أنتفضت بعد أن أفاقت من الكرى وبدا عليها العُبوس , وقد تمنت دوام الرؤيا وفرح النفوس و اصطفى الحُلم جفنيها ولم تفيق الى هذا الكابوس , لكنها على الفور أدركت أن الحلم لابد أن يصير حقيقة يدوم فيها الفرح ويغيم الكابوس , لحظتها طارت على قدميها الى دار الأيتام ,واتخذت كل الأِجراءات اللازمة لتستضيف (هناء )الملاك النائم ,مدى الحياة فى كنفها وعلى تربيتها تقوم بأحسن ماتتمناه فتاة لتضحى زينة البنات .
صارت الرؤيا واقع حين سكِنت هناء حضن "السيدة الكريمة"داخل جدران فيلتها بحى "زيزينيا" الراقى بالأسكندرية , ومضت الأيام تنثر العز عليها لتفيض نورا على مقلتيها , وتفوح بالأنس والفرح على أمها الجديدة "السيدة الكريمة".
فازت هيام بالثانوية العامة بدرجات العُلا أهلتها الى مبتغاها (كلية الفنون الجميلة –قسم عماره)ففى غدوها ورواحها كانت ترى موقعها فى (جليم)لقربها من سكنها الجديد الأنيق .
فى مطلع كل عام جامعى يبرق كرنفال ازياء الطالبات حيث تتلألأ "هناء"بجمالها وخطاها وقوامها الممشوق وقدها المياس وأزيائها التى لاتضاهيها أى من الطالبات فكانت محط الأنظار, ولأن الهيئة الخارجية لا تُلبى رغبة أساتذة الكلية , فكان جوابها انها فتية وعلى العلم والفن تقية ومن اوائل الكلية , فتبادلت المراكز مع زميلها فى السنة الدراسية "سراج"هى الأولى وهو الثانى أو العكس , لكنها حظيت بالطالبة المثالية , ودام لها التفوق فى البكالريوس فكانا هى وسراج أوائل الكلية.
كان سراج لايفارقها طوال أيام الدراسة صباحا , وفى العشية هى بين عيونه دائمة ,و أميرة احلامه الهائمة ,فطغى حبها على ايامه ولياليه ,وبدا الوجد نار فى قلبه وكيانه أن هى غامت يوما تُرديه, جذب سراج اليها ,عيونها الزرقاء فلاح الضوء المنير من محياها ,وعقلها الراجح وفكرها الناصع , وبدت انها الوصى على حركاته وثكناته – فى جوانح كليهما نور ونار للآخر , ضياء المستقبل ونار البُعاد او الفراق , كلاهما عاشق ولهان فى الآخر و لكن أى منهما لايبوح ,واِن فاح الوجد وتكلمت العيون .
مديرة الفيلا المقيمة تُخبر "السيدة الكريمة"أن هناك من ينتظرها وهناء فى صالة الأستقبال – ولجت هناء كعب السيدة الكريمة , فهوى بصرها على سراج الذى لم يتوان فقدم لهما أمه,المنبهرة بالمكان والعز الذى تشاهده الآن فغشى بصرها من شدة الضياء , ولاح انهما حضرا لخطبة " هناء" دون سابق استئذان .
لسانها صنع الأبهة والعز والفشخرة ,فنسجت "أم سراج" من نفسها سيدة مجتمع منذ وفاة زوجها وأنبرت تتواتر بشغف على حفلات السُهار والديفيليه ,و خَاللت سيدات نوادى الروتارى, فغامت لياليها مابين فندق فلسطين بحدائق المنتزه وباقى فنادق الخمس نجوم بحاضرة الأسكندرية , و لاحت تتباهى بِعِلية القوم ,لا يلفت انتباهها اِلا من هم على قدر من الثراء , لذا انبهرت بهناء ولم تدر بما وراء الحجاب .
حين أَفل الضيوف رَنَتّ السيدة الكريمة الى هناء على استحياء وتابعت الى غرفتها وأزلجت الباب , فهل حان الكشف عن المستور الآن؟
فطنت هناء الحال , وغامت عن أعينها ماهى فيه وعادت كاميرا العقل فلاش باك , فهى اِن كانت صغيرة لكنها كانت مدركة ولو على الشعيرة .
فى يوم من ايام شتاء الأسكندرية المنهمر رُوِعت من نومها على يد شخوص يخطفونها من سريرها ويخوضون فى النار , ولم تدر بعد ايام سوى انها بين جدران ملجأ للأيتام , وبعد العلاج النفسى وطمأنة السريرة وهدهدت النفس والأعصاب المثيرة ,أدركوها أن أمها وأبيها , قد شب حريق فى غرفتهما وهم نيام فحُرِقا , وأن عناية الله انقذتها حيث غرفة نومها بعيدا عن غرفه والديها التى شب فيها النار.
صراع داخلى نشب فى سريرة هناء , لكنها سرعان ما ابلغت سراج بالحريق الذى غيب والديها وانها تربية ملجأ الأيتام , فأُسقِط َمن المفاجأة ,لكنه أفاق , ودار فى خُلده معاناتها وخفق قلبه لمأساتها وبرق الدمع من عينية ليُتمِها صغيرة , فأعلن فى وجهها انه وقد زاد حبه لها تصميما على الأقتران بها , فغمرت الدموع عينيها بين يديه , وتوسلت اليه أن يخبر والدته أولا وقبل كل شىء.
أنتفضت أم سراج وهاجت وقد غام العز عنها وأتضح أن الثراء ليس لها وابنها مستقبلا ,فلا تملكه من ستتسمى بزوجة سراج, وهى التى تباهت بالنسب والماس والذهب وأفحر أنواع الأساس ,والآن بعد الحقيقة ستكون زوجة وضيعة لأبنها تهين كيانها وتدنى من وضعها أمام شلة الأنس التى تماهت معها من مافيا رجال الأعمال ونهب وافقار الفقراء , فأقسمت أمام ابنها أن هناء لن تكون زوجته ولا على ذمته مستقبلا .
أمام تصميم " سراج" , مَكِرت امه , مكراً , واضمرت فى نفسها الضغينة ,والى ملجأ الأيتام حطت الرحال , واوهمت من هناك انهم لابد ان يساعدون هناء على الزواج من ابنها , فاعطوها كامل بيانات ابيها وأمها ومكان الحريق , فأنتقلت الى "كرموز وصارت الى العنوان المكنون,وسألت الجيران , فأشاروا اليها بأن مؤرخ الحى " عم عبد الرحمن" الذى سيدلها ويشفى غليلها , فقابلته وذكرته بأسم والدى "هناء" وحادثة الحريق , فأخذ الرجل نفس عميق وعلى سجيته غوى أن يظهر عبقريته وينشط قريحته ,فتصاعد دخان نرجيلته وحيا ضيفته بفنجان قهوة سادة , وبدأ يسرد الحكاية .
فى مديرية أمن القاهرة ,أتما أجراءات الأفراج معاً, بعد عناء خمس سنوات أشغال أمضاهم فى سجن المرج , أما هى فكان العناء أشد وأنكى حيث قضت ثلاث سنوات فى سجن النساء بالقناطر – أستغله تاجر مخدرات لتوصيل اللفائف من الحشيش الى أصحاب الكيف , ثم أوشى به فى نهاية المطاف- اما هى فقد قبض عليها حين أستدرجتها من تروج للدعارة .
طيلة محبسهما لم يسأل عنها أى من أهلهما , فأتخذا من بعضهما ونس ورفيق وعزما على الطريق الى الأسكندرية , فحطا بها , وعَمِلا عند تاجر أسماك فى منطقة راس التين , وقررا الزواج حتى لايثيرا الشبهات ,لكن تاجر الأسماك محترف الأصطياد , فتحرى عنهما وأدرك حكايتهما , فكشف لهما الحقيقة وكسر عينهما فى دقيقة , وهو صاحب الكيف والمزاج من الحشيش والنسوان , فأستغلهما فى جلب ما يصفو له المزاج وللفنجرة على الخِلان, وأراد لهما الأطمئنان فأسكنهما فى مكان يملكه فى (كرموز)أنجبا فيه (هناء).
وفى يوم مشهود أنهمر فيه الصَيب مدراراً وبات البرد زمهريراً , فأوى الى مكنته وزوجته يشعل الفحم فى موقده حتى صار لظى , وكان قد تحصل على فرش حشيش من معلم الأسماك الخسيس ,وغدت أم هناء تجاريه فى انفاس النرجيلة , حتى تصاعد دخان الحشيش من الشيشة وصار لذيذ ,فانسطلا غير مدركين اِلا اللهو والأنبساط , فناما فى الأحضان وعبق هبو مخدر الحشيش الجدران , وران السكون فلم يُسمع اِلا صوت الغنج والمجون , فانقلب موقد الفحم المشتعل بالنار واِلتهم مافى الغرفة من فروشات وهما على الوهم انها مهرجان فالنشوة والأنسطال غيبا العقول فأدركت النار الفحول التى اختنقت من السناج فأحترقت ام هناء وابيها بحروق أودت بحياتهما المهينة,وانقذ الجيران هناء التى كانت وحيدة فى غرفتها , وهذه كانت حكايتها .
أدركت أم سراج الحكاية ,فأطريت "عم عبد الرحمن " على الرواية , التى أسرها له صديقه تاجر الأسماك , وأدرك نهايتها بنفسه فى مكان اقامته بكرموز.
طيرت الريح أم سراج الى ابنها فكشفت له المكتوم وحقيقة من خطفت قلبه المشغوف فأصطفى حبها ,وتقدم لزواجها , فلم ينصاع لروايتها , وأثر التمسك بها , وآثرها على كل بنات جنسها , فأرعدت أمه بتجريسها, وأعلمت "هناء" بحقيقة اصلها وأرباب السجون والديها ,, فأدركها سراج قبل أن تفقد صوابها وتغيم الى المجهول , واتفقا على الهروب الى القاهرة ليشقا المستقبل والطريق بعيدا عن أعين الأم والصديق , ويعملا فى العاصمة الجديدة فالبناء على اشده فيها – وهما المهندسين المعماريين- و على الزواج هناك عزما على رجاء الصبيان والبنات .
وفى اللحظة المعهودة حجزا فى القطار من محطة سيدى جابر وخلال الرحلة التى استمرت ثلاث ساعات خاصمت شفتاهما الكلام وزاغت الأبصار , وبدا الوجوم على الوجوه , ولم يدركا بعضهما اِلا لحظة الوصول الى محطة رمسيس بالقاهرة , فاِذابقاطرة القطار قد تعدت الحدود وأنفلتت تصطدم بصداد الحديد نهاية الرصيف ليدوى الأنفجار وتهب النار تستعر فى كل مكان وتتأجج وفى عربات القطارتتوهج , فاحتضن سراج هناء وذابا فى بعضهما البعض فصارا جسم واحد وهتفا من الأعماق , لا اله الا الله , فصعدت الروح الى بارئها وتحول الجسم الى رماد بين القضبان يطير , فأستقال الوزير , ولاح على المسئولين أن كل شىء يسير
فالبشر مهمشين .
طارت أخبار الأبتلاء الى أم سراج , فطار عقلها وفقدت الأدراك ولم تدر عن حياتها اِلا أيام الفقر والضنى وهى ترقص فى الأفراح الشعبية من اجل لقمة عيش لأ سرتها المضنية ,حينها اعجب بها والد سراج , وعلا بها أو تدنى الى فنادق الخمس نجوم ترقص فى مجون فجن جنونها النقوط , وكونا ثروة نقلتهم الى مصاف رجال الأعمال والأحتيال الى أن مات ابو سراج , تلك حكايتها , ظلت تؤلف لها وترويها وتغني على الايقاع ,وتحكى حكاية هناء وسراج والقطار والنار ونفسها الشريرة ,ذهابا واِيابا كل يوم فى ذات الساعة والدقيقة على كورنيش الأسكندرية من أمام المرسى ابو العباس حيث أتخذت من عتباته مكان نومها تصحو لتروى حكايتهاعلى مدى مسيرتها على الكورنيش الى أن ينتهى بها المطاف على عتبات سيدى بشر فتنام عند مدخل المسجد على البلاط فتصحو والى حيث أتت تعود حتى أدركها الجنون.
فى زيزينيا سما فوق فيلا "السيدة الكريمة" أربعة طوابق خصص الدورين الأول والثانى للأيتام من البنات , والثالث والرابع للأيتام من الأولاد , وأنارتهما بكرمها بيافطة بطول العمارة وعرضها , زينتها بكلمات من ضياء "دار هناء وسراج للأيتام " .
ولم تنبث شفتيها بكلمة عن حكايتها , ولم تفارق هناء مخيلتها .
بقلم : محمود كامل الكومى
كاتب ومحامى – مصرى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق