الاتجاه المقاوم في القصة القصيرة في لبنان
أحمد سويد ـ عبد المجيد زراقط ـ علي حجازي
الدكتور يوسف الصميلي
المقدمة:
ـ يكاد الأدب العربي في كثير من نصوصه أن يكون أدب مقاومة، سواء في الشعر وفي النثر، وهو ما تجلى واضحاً في الأدب العربي الحديث على امتداد الوطن العربي كله، وليس على القارئ إلاّ أن يتصفح بعض الروايات أو الدواوين، ليكتشف أن المقاومة جزء من التكوين الذاتي في الشخصية العربية ولعل ما نحن بصدده اليوم أبلغ دليل على ذلك.
وفي لبنان كان الأدب العاملي وما زال رائداً في هذا الاتجاه، ربما لأن جبل عامل كان وما زال وهو يستمر، ثغراً لبنانياً عربياً، قدره أن يواجه وأن يصمد، وأن يجعل من أرواح بنية بيارق حرية في رحاب الفداء والشهادة.
ولعل في ظاهرة المقاومة النبيلة في هذه الحقبة القائمة، دليلاً على أن الثغر العاملي ظل على دوره التاريخي مقاوماً في لحظة الهزيمة والتخلي، مواجهاً في لحظة الاستسلام والتراخي، معانياً ومحروماً في لحظة يعيش فيها الكثيرون متخمين على أكثر من صعيد، فالعاملي مقاوم كمقاتل في خندقه، وكفلاح مع محراثه، وككاتب بقلمه، والعامليون كلهم شكلوا حالة خاصة، سوف يتطلع إليها التاريخ بعين الإجلال والإكبار، قائلاً لأمتنا ولأعدائها على حد سواء، هناك في الجنوب وعلى أرضه طويت صفحة من سفر الأساطير، لتحل محلها صفحات من تاريخ صحيح.
لذلك لا عجب أن يكون كتاب الجنوب مواكبين لهذا التاريخ الصحيح ولهذه الظاهرة النبيلة ظاهرة المقاومة، وليس هذا البحث إلاّ نموذجاً متمثلاً في القصة.
القصيرة عند كل من أحمد سويد وعبد المجيد زراقط وعلي حجازي.
*أولاً ـ أحمد سويد:
إن أحمد سويد في مجموعته "النوافذ المغلقة وعيون الأحباب" صور في قصة "الحوت والزيتون" الفلاح الجنوبي الطيب، مترقباً يومياً غارات العدو، تقصف أحراش الزيتون وبساتين البرتقال، وحقول القمح، دون أن يملك ما يقاوم به العدوان إلاّ التشبث بالأرض والعناية بها، والمزيد من غرس أشجار الزيتون فيها.
الفلاح الجنوبي الطيب، فهم المقصود من هذه الغارات، فالعدو "يستهدف كل ما يرمز إلى الحياة فوق أرضنا" ولذا كانت مقاومته بقدر فهمه، أي بمزيد من العلاقة بالأرض، والحرص على زيادة غرس الأشجار فيها، في وقت أصبح فيه الموت عادة يومية، وصارت الطمأنينينة تهرب من النفوس، مفتشة عن ملاذ آمن تجده، وإن كانت تجد العزاء أحياناً في تلك الدهاليز البدائية ـ جور التبغ ـ وهذه هي أزمة صابر في القصة الأخرى "الموت والقمر صابر".
أزمة صابر هي الوطن المهدد والسكان النازحون، وقد تجلى ذلك في صورتين تتزاحمان في ذهنه، الأولى: "صورة أهل قريتي يهبون لنجدة القمر حين كان يهم بهم الحوت، كانوا ينهدون إلى أواني النحاس وألواح التنك، يقرعونها بشدة، ويهرعون إلى بنادق الصيد يطلقون منها العيارات في الفضاء ويظلون يلاحقون الحوت اللعين بقرعهم المتواصل وطلقاتهم إلى أن يرغموه على الهرب وإطلاق القمر" والثانية "قوافل النازحين نحو المسرب الشمالي، حتى خلت القرية من ساكنيها، وبقيت وحدها فريسة للحرائق والرهبة والأشباح"، وبين هاتين الصورتين، صورة المقاومة وصورة النزوح، كان موقفه فاختار المقاومة "لن أتركها وحيدة، ولن أخرج منها كما خرجوا، فعزيز عليّ أن أخرج من ثيابي، من جلدي، من هويتي.
وإذا كانت هذه القصة غنية بالدلالات بحكم البعد الأسطوري الذي غلف حكايتها، فإن الحوت مثل رمز العدو، والقمر رمز الأرض، التي تستحق أن يضحى من أجلها، أما صابر الذي اختار البقاء في القرية، أي اختار المواجهة، فإنه في البداية تساءل حين رأى منزله مدمراً "يا اللَّه، ألا يستطيع هذان الساعدان أن يحميا منزلي؟"... إنها بداية التفكير بالفعل، والمقبرة في القصة، بقدر ما هي رمز
للانتهاء، فهي مجال للاستثارة، وربما كان اللواذ بها من الغارات، حافزاً على الفعل، لأنها تذكر بالمصير المحتوم، مهما امتد بالإنسان الأجل، ولجوء الأحياء إليها، تعبير عن موتهم الحقيقي، فالأولى تركها والعودة إلى القرية حتى ولو أصبحت يباباً" وكأن هذه العودة تعني استئناف الحياة الطبيعية في ظل الخطر، كما تعني الولادة من جديد، لكن المخاض عسير، فالشعور بالخطر، ما زال فردياً، وما زال صابر يعاني من كوابيس الرعب والجنون، وما زال يلقي بالمسؤولية على الوطن، متهماً إياه بالجبن مردداً "الجبان هو وطني... الجبان هو وطني".
هذه الحالة الإفرادية للشعور بالخطر والاستعداد للمواجهة، نمت في قصة أخرى من مجموعة "ليلة القبض على سر الأدهم" هي قصة "تداعيات جمجمة في زمان الغضب"، حيث الشاب المقاوم نضال، يتخذ من إحدى الصخرات، متراساً استعداداً لعملية فدائية، وأثناء انتظاره موعد البدء بالتنفيذ، تتداعى إلى ذهنه عمليات أخرى، قام بها رفاق له على الدرب الطويل فاسترجع ذكرى والده الشهيد، وجارته أم علي التي أتى العدو على كامل مؤونتها، وموسم الحصاد الذي أحرقه العدو لترويض الأهالي، واستشهاد صديقه محمد في عملية غلب عليها الانفعال على الفعل، وعملية باسل الرائعة التي أودت بالدورية وآلياتها، وتلك اللحظة التي اقتنص فيها جندي العدو الطفل علاء، إنها مشاهد من صرع طويل اختار الناس خلاله المقاومة واختار العدو تصعيد عدوانه محاولاً إهلاك الحرث والنسل، لكن صوت الجارة أم علي يظل الأقوى والأبقى، "مهما فعلتم لن نرحل، هذه أرضنا، نحن مغروسون فيها كغابات السنديان، ولن يقتلعنا منها حقدكم وإرهابكم، ارحلوا عنا يا برابرة، بالروح، بالدم نفديك يا جنوب".
أما قصة "ليلة القبض على سر الأدهم" من المجموعة التي تحمل العنوان نفسه، فتحكي حكاية المجتمع المقاوم، والصراع الخفي بين المقاومين والعملاء، في ظل تكيف واضح مع هذا الوضع، أي وضع استمرار العدوان، وتالياً استمرار المقاومة، وانجراف ذوي النفوس الضعيفة إلى جانب العدو، فأبو طراف الأدهم، واحد من أولئك الرجال العاديين، الذين يعيشون في القرية، إنه مواطن أصيل، وفلاح عريق، هانئ البال في بيته الأليف ومع بقرته الشهباء، وهره عنتر ودجاجته العديدة، لا يعكر صفو أيامه إلاّ ذلك الكابوس الذي اسمه الاحتلال.
والأدهم أبو طراف في الوقت نفسه من رجالات المقاومة، فبيته ملاذهم في السماء، حيث يعرض على مسامعهم تحركات العدو، كما سمع عنا أو شاهدها، ويضع نفسه، وخبرته بالمسالك الوعرة والطرق الخفية بين أيديهم، وبينه وبين نفسه، يظل حذراً من العبسي اعتماداً على سوء ظن المختار.
وبخبرته الطويلة، يعرف الأدهم أصحاب مواقع الأقدام في الليل البهيم، ويتوقع أن يأتي عليه الدور، بدفع ضريبة الصمود والمواجهة فتتداعى إلى ذهنه كل صور التعذيب بأسلوب الاستباق، وتراوده كإنسان لحظة ضعف، لا تلبث أن تنهزم، أمام إصراره على درب المقاومين بأنفة وكبرياء.
والقصة ناطقة الدلالة، بقوة المقاومة، وتحولها إلى موقف جمعي، وحالة حياة، وتوقع الأسوأ من العدو، لذلك لم تكن الصدفة هي التي منعت المقاومين من التواجد في منزل الأدهم ليلة القبض عليه بوشاية من العبسي، فهم عرفوا بأن عين العدو أصبحت تركز عليه من خلال عيونهم الخبيئة.
وأما قصة "حفلة حضارية" فتكاد تكون تتمة لقصة "ليلة القبض على سر الأدهم" فهي تحكي حكاية المقاوم في أقبية العدو وبين جلاديه، إنه محمود الذي يحاول التغلب على لحظات الوجع بالاسترجاع والاستذكار، مستذكراً العمليات الفدائية التي نفذها كجنوبي من جبشيت، اتسعت مساحة مقاومته باتساع الجنوب، فعملية البطيخ تمت في النبطية، حين تحولت أكوام هذه الثمرة إلى قنابل موقوتة، ألحقت بالعدو خسائر فادحة، وعملية الليطاني تمت على ضفتي النهر السليب مدمرة موقع العدو وآلياته. وعملية التابوت استهدفت الطرقات التي يستخدم عليها العدو آلياته، فتم زرعها بالألغام، وعملية بلال كانت مدينة صيدا مسرحاً له.
إنه مقاوم جسور صبور، لم يتمكن العدو منه إلاّ بوشاية من أحد العملاء، ولم يستكن أمام حلقات التعذيب المتعددة، رافضاً كل عروض الصداقة والتفاهم والحرية، تاركاً لعضلاته المتشنجة الاسترخاء أمام شعاع الضوء الذي ما زال معه.
*ثانياً ـ عبد المجيد زراقط:
إن عبد المجيد زراقط في مجموعته "ذات عصر" قد اصطحبنا إلى جبل عامل في رحلة عرفنا خلالها معالم الطبيعة وملامح الناس، وامتدت بنا المسافات زمناً
طويلاً، بين الطمأنينة التي كانت عنوان كيان الأسرة وبنيانها، والقلق الذي بدأت عليه النفوس، بسبب تداعيات الحياة التي فرضتها المقاومة.
العاملي في هذه المجموعة: مواطن كسائر المواطنين، يفترس العمل ويلتحف القناعة، فهو الفلاح في الحقل والمهاجر في دنيا الاغتراب، والمعلم في المدرسة، والشيخ في حلقة الوعظ والتوجيه، وهو أيضاً عين السلطة على الآخرين، على اختلاف نماذج ورموز هذه السلطة، وتعاقب سحنات وجوهها، لكن الحد واضح وفاصل بين المواطن الكادح في الوطن، وبين المواطن عين السلطة، وهو ما نلحظه على امتداد المجموعة كلها، فأبو حسن لا يستطيع أن يتملق المختار لتقدير الأضرار التي حلت بمنزله، وأودت بدابته، لأن مقتضى الحال خير شاهد على ما حل به وبأسرته، وهذا المقتضى، أبلغ من مر الشكوى وصغار التملق، وأم محمد لا تستطيع أن تتهاون مع عينه أخرى من هذه "العين" التي دبرت نقل عمل ابنها ثم جاءت في إحدى المرات لتساومها على ما قد يأتيها من مال بسبب الأضرار التي لحقت بشجيرات الزيتون التي تملكها بسبب القصف الإسرائيلي.
إن مجموعة "ذات عصر" تمسك بحلم المواطن العاملي، وتحاول: أن تجسده واقعاً ملموساً، فالقصص "سلة سمير" والصبي والوردة، وهموم أبي حسن، ومن يوميات الحاجة أم محمد. أحلام قيد التحقيق إذا ما سارت الحياة سيراً عادياً، ولا تخرج هذه الأحلام عن دائرة اهتمام المواطن الريفي، إذ كل واحد يريد أن تفتر البسمات على شفاه أهلية وبنيه، وكل إنسان يسعى لأن يكون له منزل يبنيه وبيت يؤويه، فإذا ما عاندته الحياة، لتحقيق هذا الحلم، قد يصبر ويحاول من جديد، وقد ييأس وينثني عن عزمه، وقد ينتقم ممن يرى فيه سبب الوضع الذي آل إليه، والحال التي أصبح عليها، وفي هذه الأحلام لا نستطيع أن نحدد اتجاهاً بعينه يحكمها ويسيرها، إلاّ اتجاه الحياة نفسها، وتقلب موازينها، وهذا التقلب لا يأخذ منحى عادياً، تفرضه المسافة الممكنة بين الحلم والواقع، وإنما تعصف به رياح عاتية تستهدف اقتلاع المواطن من جذوره، الأمر الذي يجعله يستمرئ الثبات، والتشبث بالأرض، فجمال الصبي الصغير في "الصبي والوردة" وجد نفسه بين حالين كلتاهما صعبة ومرة، إذ كيف يستطيع أن يطرد الخوف والقلق الذي جتاح المنزل بأسره، ولا يستجيب لرغبة والده بالرحيل؟! وفي الوقت نفسه لمن يترك هذه الأزهار التي غرس ورودها، واعتنى بنموها، فهي غرسه الجميل وحلمه المحقق، وبين هذين المتنازعين، كانت الغلبة للبقاء على الرحيل، وللأزهار على الرصاص، وللحياة على الموت، ومن المفارقات اللافتة في هذه القصة، أن فوارغ طلقات المدافع، هي الأواني المستخدمة في زرع الورود، وبالرغم من شفافية الواقع، إلاّ أن القصة ذات بعد إنساني لا يمكن تجاوزه، فهذا المواطن قادر من موقع التجذر على أن يستبدل البناء بالدمار وأن يزرع الحياة في أوعية الموت، وهذه الحقيقة تسطع مرة أخرى في قصة "من يوميات الحاجة أم محمد" حين تنشغل تلك الأم الصبور عن القلق على مصير ابنها، بلملمة ما يهتم به من بقايا القنابل المضيئة، يحتفظ بها الأطفال على سبيل التذكار، ويتخذون منها دمى وألعاباً، كما يحاول الكبار أن يزينوا بها صدور غرف الاستقبال متخذين منها وسائل للزينة أو أواني للأزهار.
إن مجموعة "ذات عصر" حاولت أن تبلور مفهوماً وطنياً لدى الإنسان العاملي، فالمقاومة ليست بندقية تحمل، ولا رصاصة تطلق، وإنما هي حياة يومية يتكيف المواطن مع أحوالها وظروفها. ويستعد لتحمل تبعاتها وأعبائها، وتتجسد فيها شخصية هذا المواطن تمام التجسيد، فالأسرة تبحث عن الاستقرار، وأحلام الأطفال والرجال معاً، تتوهج حباً للأرض إلى حد الذوبان فيها، وهذا الإنسان العادي العامل الحالم، لا يفلسف الأمور، ولا يتعب نفسه بتفسير الأحداث، وإنما يتابع الأخبار ليبحث عن نفسه في نتائجها، فالهرب قصد النجاة، أو البقاء حرصاً على المنزل، قضية محض خاصة. لكن عدوى التفاؤل سرعان ما تسري على لسان الطبيب حكاية مشوقة عن ذلك الصبي الودود في "الصبي والوردة" وأبو محمد في "راحة البال" نموذج الريفي الحكيم المحنك. مقابل أبي قاسم نموذج الريفي الساذج. وهذا النسيج الريفي، هو الذي يوجد المعادلة، لاستمرار الأحاديث عن التقاط طرائف السذج، التي يحسن الحديث عنها المحنكون، ثم تأتي شخصية المعلم كدائرة مستقلة عما حولها، لكنها متممة لها. فهو ليس كالفلاح في حقله ولا كالبقال في حانوته، فحركته تتجاوز دائرة اهتمامهم، وربما كانت كلمة أبي محمد عن الماء الراكد أبداً آسن، تفسيراً لحيوية المعلم من خلال سمته الساكن، لكنه مبادر، ومتعاون مع المقاومة، وهذه المقاومة، يدفع المواطنون أعباءها دماء وأرزاقاً، وأبو محمد الذي يعرف بلدته الخالصة، وكان يزورها دورياً قبل الشريط الشائك. يسبح بأحلامه بعيداً، ولا يعي ما حوله، بعدما أخذ بخبر اعتقال الأستاذ، ولم يستفق من شروده، إلاّ على قذائف القصف وتفرق الرجال من ساحة لقرية.
وأبو حسن في همومه كأبي محمد، فهو يعرف الأرض المحتلة، ويلعن الذين حرموه منها، وهو يتطلع إلى هؤلاء الشباب كبدايات للتحرير، لهذا عمل على مساعدتهم، علماً بأنه يكره السلاح، لأنه مرتبط في ذهنه بالاستعراض في الساحات العامة، على خواصر رجال الأمن، لكن الجريح الذي حملته دابته، إنسان آخر، فقد وثق به وأسعفه، ثم كانت المفارقة الحزينة، حين أصاب القصف تلك الدابة، الأمر الذي أدى أن تتداعى في ذهن أبي حسن مجموعة أسئلة عن قوة اختراق العدو، وكيفية معرفته بأن دابته هي التي حملت الفدائي الجريح. فأصيبت بالقصف وقضت، وتستمر المفارقة حزينة، حين يأتي المختار ومن معه من عيون السلطة لتخمين الأضرار، فلقد شككوا في إمكان انقضاء أجل الدابة بسبب القصف، لكنه تحامل على مصابه، وعاد إلى إطراقه السابق ينكت الأرض بقشة رفيعة، دون أن يعترض سبيل الدود.
إن الإنسان العاملي في مجموعة "ذات العصر" وبخاصة في قصتي "صناعة الزمن" و"عيد الحدودي مهجراً" أصبح معنياً بما يجري، ولم يعد مجرد شاهد عليه، وأصبح قادراً على الدفاع عن نفسه وأرضه، فهو يؤمن الماء لتبغه، وينصب الكمائن للعدو، والمقاوم يداعب ماسورة بندقيته كعاشق يتلمس شعر حبيبته في العتمة.
إن هذه المجموعة "ذات عصر" تفتح العيون على المقاومة، باعتبارها فعلاً عاماً لا عمل أفراد، ولهذا نفذت إلى مسارب النفوس، واستقرت مكينة ثابتة، فوجدناها في المجموعة القصصية الأخرى "مناديل" جزءاً لا يتجزأ من المسار اليومي للحياة، كما رأينا على لسان أم صابر حين أرادت أن تبث روح التحدي في ابنها، فكظمت غيظاً وعضت على جرحها وهدأت من غضبه قائلة: "إهدأ... أمنزلنا أول منزل يدمرونه أكرم الزيتون أول أرض يصادرونها؟ أأبو عبد اللَّه أو أب ... غصت أمي، مسحت دمعاتها". ومثل هذه الصورة عن الأم، يساعد في فهم الموقف على حقيقته، حين ترفض بوصفها نموذجاً إنسانياً، أن تغادر منزلها، مهما اشتدت عليها وطأة
الظروف، فيعرف الابن حقيقة شعورها، ويجد في هذه المعرفة حافزاً له على تفعيل المقاومة، "واللَّه أعرف سر بقائك... إلى أين تذهبين؟ أين تجدين بيتاً؟ الأبنية كثيرة، لكنها ليست بيتك، ليس فيها ماء وضوئك، وزاوية صلاتك... وجيب سبحتك... وأكياس مؤونتك... وأمكنة مر بها الحبايب وعاشوا فيها".
إنها حميمة المكان، الناطقة بدلالتها المعنوية، والتي لها في الوجدان العميق، محلها الراسخ، لذلك يصعب اقتلاعها ومسحها من الأفئدة، ولهذا يأتي عنا تلقائياً لأنه دفاع عن الذات، خاصة حين تقترن هذه الحميمية بتلقائية الذكريات والحكايات الهادفة "بقيت أمي تحدثني كل مساء، وكنت أردد رحمك اللَّه يا جدي، لم ترموا البنادق عندما أحاطوا بكم، بقيتم قرب الشيخ القسام".
إن المواطن المقاوم في قصص زراقط، تجلى صورة مشرقة في الأم والابن والجد والأب، لتتجسد فيه صورة الوطن، الذي ينمو حبه والتعلق به، بمقدار النمو الإنساني نفسه، فالعلاقة بالأرض تتدرج بتدرج الزمن وعمر الإنسان، من صبي يلهو، إلى فتى يعمل، إلى شاب يتأمل في ترابط محكم النسج. فجمال في "الصبي والوردة" من مجموعة "ذات عصر" الذي آثر كطفل البقاء على الرحيل والموت على الحياة، هو نفسه حمزة في قصة "رجال عرفوا الطريق" من مجموعة "مناديل" حين استرجع في خندق المقاومة شريط ذكرياته مع الأرض تعطي وفي كل الفصول. وحلمت كثيراً... ولكنهم أتوا... مثل هذه الغيوم، يمتطون حديداً وزرداً ويشهرون حديداً وحراباً، أتوا: سود شقر رماديون... فوهات حديدهم واسعة".
هذه الصورة للوطن بين أرض معطاء ومواطن منسي، هي التي جعلت المقاومة تستمد شرعيتها من هذا الواقع الأليم "قال السمين: غادر، هذه الأرض لنا، والماء الذي تصرفه نحن بحاجة إليه، لدينا مشاريع كثيرة... صرحت كيف تكون أرضك وأنت لم ترها إلاّ منذ أشهر؟ كيف تكون لك وحياتها تعرف لون عيني، وحصاها يعرف خطوط أصابعي... لم أكمل... ارتميت وحديدهم الأسود البارد في عنقي، ثم رحت اصرخ... هذه أرضنا وظلوا يطلقون النار، ويغرسون حرباتهم في جسدي".
إن الواقع المرير هو الذي حرك في النفوس شعوراً جماعياً بحتمية المقاومة، دفاعاً عن النفس، واستعادة للحق، وتحريراً للأرض، فالمقاومة ليست خطة ترسم، ولا برنامجاً يعد، ولكنها حالة عامة، يعيش الجميع هاجسها، لأنهم بنو تجربتها.
*ثالثاً ـ علي حجازي:
في قصص علي حجازي، وفي مجموعتيه "القبضة والأرض" و"العيون الغاربة" تتجلى لنا المقاومة كهدف وكوسيلة من وجه، وكحالة وكمناخ من وجه آخر، ففي قصة "القبضة والأرض" لم نعرف شيئاً عن أفراد المجموعة فهم يتحركون سراً في وسط يحضنهم، ومحيط يحنو عليهم، وقد حددوا لأنفسهم غاية محددة، هي مقاومة العدو، وكانت العملية الفدائية التي هي موضوع القصة قد ذهبت بقبضة موسى، وبترتها من المعصم، لكنه لم يأبه، وخاطب زميله جميلاً قائلاً: "نحن بحاجة إلا آلاف القبضات يا جميل... نحن بحاجة إلى قبضات قوية" وقصة "أبو منصور" تبين أن المقاومة ليست عملاً إفرادياً، فقد تعود عليها الناس، واستمدوا الشجاعة من بعضهم بعضاً، وتلاشت بين جموعهم الأدوار الرئيسة والأدوار الثانوية، ولم تعد هناك فوارق بين مقعد ومعافى، فكلهم قادر على الفعل، ولكل نصيب في أعمال المقاومة، فأم وجدي المقعدة، استنفزت جنود الاحتلال، وأبو جمال شارك بحمل الجرحى غير عابئ بعمليات التمشيط من حوله، والحاج حسين طعن إسرائيلياً بسكينة، وأم فارس رمت جندياً بصفيحة فأردته، والأطفال يرشقون دوريات العدو بالحجارة، والبنات يساعدن بتضميد الجروح، وكل هذه الأعمال، كانت تستحث "أبو منصور" لأن يقوم بعمل ما، وأن يكون له دور، فتحامل على خوفه، واستفزته النخوة، واستذكر ولديه "منصور ومالك" فهما برعاية اللَّه بين شباب المقاومة ومن رجالاتها وخطرت بباله أم وجدي، التي قضت شهيدة على يدي أحد العملاء، فدعا على العميل بدخول النار، ودعا لأم وجدي بدخول الجنة، وهب من رقدته على دوي الانفجار، وشاهده الناس يحمل مقاومين مجروحين على ظهر حماره مردداً: اللَّه أكبر اللَّه أكبر. واللَّه قتلته، وهو يعني أنه قتل الخوف. فأصبح موقفه حكاية تحكى، ولم يعد بين أهل القرية خائفون.
وقصة "لعبة أيمن" تأكيد على أن المقاومة أصبحت حالة ومناخاً، فالجميع هنا بمن في ذلك النسوة والأطفال يشاركون في المقاومة، والمترددات من النسوة، أمثال أم جميل يجدن التشجيع على المشاركة من الفتيات أمثال سلوى وسناء، والجميع درع ضد العدو، الذي يعتمد على العملاء المقنعين، الذي يرشدونه، إلى أماكن المقاومين، ودور الأطفال في هذه القصة مميز، إذ أن وعيهم تجاوز الزمن الذي هم فيه، كمؤشر على تجذر الحالة، واشتداد ساعد المقاومة، وهو ما شعر به الأهلون، فأولوا أبناءهم الثقة. وبينما أيمن ابن الثانية عشرة يتنظر "كانت البندقية تلمع في يد والده وهو يقول له: أيمن... خذ يا أيمن... هذه بندقيتك يا حبيب".
وقصة "هكذا تكلم بلال" ربما كانت مستوحاة من العملية الاستشهادية التي نفذها الشهيد "بلال فحص" ضد العدو الإسرائيلي في الجنوب، مكتشفة أهمية الفعل الناتج عن المعاناة، والذي يتخذ من استعادة الذكريات، التاريخية مادة للعمل الإيجابي، مشيحاً بفكره عن قواعد التسليم بالأمر الواقع، التي يمتلئ بها قاموسنا الشعبي، فالمقاومة لم تعد مبادرة فردية، بل هي حالة عامة، إنها مجتمع مقاوم، فالوالد شهيد، والشقيق في المعتقل، وبلال على الطريق نفسها، لأنه من الجذور نفسها، وربما كانت قصة "الجذور" هي التتمة الطبيعية لقصة "هكذا تكلم بلال" فهي تحكي حكاية بيت عادي، دفع ضريبة المقاومة، دماً ومالاً وبناء، وهذه قصة كل بيت جنوبي، ففي كل أسرة شهيد، وكل أسرة عرضة لأن يتم نسف منزلها، انتقاماً من إصرارها على المقاومة، وليس رب الأسرة... سالم ـ إلا واحداً من آباء كثر، فهو قلق على بنيه، فخور بهم، حزين إذا استشهد واحد منهم، لكنه موقن بأنها فدية الأرض، التي حين نحفر الأساس للبناء عليها، فإنما نحفر في رحمها، وحين نبدأ البناء، يتساعد الجميع لإنهائه، إنها المقاومة مقرونة بطيب معدن الريف في الجنوب، والمقاربة واضحة بين رحم الأرض ورحم المرأة، فكلاهما جذر الحياة الحقيقي والأصيل.
ولا يكتمل هذا الجانب المقاوم في قصص علي حجازي، إلا إذا شهدنا مصير الخونة والعملاء في قصة "أبو محمد" التي تحكي حكاية "سمير" الخائن العميل، الذي وشى بالمقاوم محمد، وأرشد العدو إلى مخبأه، حيث وجد الوالد عجوزاً صلباً أنوفاً لا يخشى العدو، ولا يعبأ بنزف الدم من أذنه وأنفه بعد ضربه ضرباً مبرحاً، بل أن هذا العجوز المقاوم حدَّق بالعميل صارخاً "لم تتخفى بلثمتك يا سمير؟ أتخجل من مواجهتي؟ ماذا فعل لك أهل ضيعتك حتى خنتهم...؟ والأرض... نعم. الأرض، التي كنت ترعى فيها غنمك ومواشيك، هل بخلت عليك بعيشها يوماً؟... أخبرني هل اصطاد منكم محمد خنزيراً الليلة؟ أخبرني؟... وأنا لا أعلم شيئاً عنه، وليتني أعلم، وليته يسمح لي بالعمل معه..."... ولا تنتهي هذه القصة إلا بعد أن ينال المقاومون من دورية العدو، ويتخلف سمير عن فلول الهاربين ليقع بين يدي زوجته، التي كثيراً ما كانت تبصق في وجهه معنفة إياه: "عد عن غيك يا... وهذه المرة وصلت مع النسوة، ولما رأت "سمير" هجمت عليه، فظن أنها ستساعده ولو مرة واحدة، إلا أنها غرزت أصابعها في عنقه جيداً.
والجنوب في مجموعة "القبضة والأرض" تاريخ طويل من المقاومة، ففي قصة "خديجة" استرجاع للتاريخ واستذكار لأحداثه، حين كان الأتراك يسوقون الشباب جماعات جماعات، فتنقطع أخبارهم عن ذويهم، كزوج خديجة الذي اقتيد أثناء الحرب العالمية الأولى ولم تعد تعرف عنه شيئاً، وظلت تفتات على الانتظار إلى أن جنت لكنها لم تفقد الإحساس بخطر العدو، فكانت ترى في الجنود الإسرائيليين صورة الجنود الأتراك، فتعاود الصراخ القديم الذي ينبئ الآخرين بالخطر، "خراواوي" وقد ظن الناس عندما سمعوها أول مرة، بأن الأتراك قد عادوا بالفعل.
وخديجة هذه، تمثل الأم الصبور، التي تحرص على رعاية ابنها، ممنية النفس بأن ترى فيه الجد العطوف الذي مات جوعاً أثناء الحرب العالمية الأولى، والأب الذي لم يعد من سفر طويل، والخال الذي استشهد مقاوماً ضد الفرنسيين... إنها قصة كل بيت جنوبي، فهل وقد ذهب كل الغزاة، سيكون للعدو الصهيوني مستقر على هذه الأرض الولود؟ والجواب بالتأكيد لا.
في مجموعة "العيون الغاربة" يتحول حل الأرض إلى شيء داخلي "لا يمكن تلقينه أو تعليمه إنه يوجد مع رسيس الروح وخفق الدم في العروق، كما في قصة "عود مزهر من المرج" التي تحكي قصة الأسرة الجنوبية المهجرة، التي لم يتسن لربها أن ينشئ أبناءه على الامتثال لواجب الوطن، فإذا به يفاجأ بتنازع الابنين على عود أخضر، كاد عبد اللَّه أن يكسره لدى محاولته مصادرته من أخيه فراس، لأنه من الضيعة التي يخشى أن لا يعود إليها، خاصة تلك البقعة المسماة "المرج" التي وعدهم الأب بأن يبني عليها بيتهم وإنه من أرضنا... أمسكته، حدقت به جيداً، همت دموعي، كرجت، قل تحفزت للقفز ثم ضممته مع شقيقه إلى صدري وكان عناق طويل... أنا الذي ظننت نفسي مهزوماً في زرع جب الأرض في أفئدة هؤلاء الفتية، الذين منحوني اليوم درساً في حب الأرض وعيدانها".
وفي قصة "عزف على مزع الجسد" معاناة ومكابدة، لاقتناص لحظة فرح، فالأمن والعدو، ضدان لا يلتقيان، ولحظة الفرح الوحيدة هي لحظة مقاومة، في كل خطوة يتم خطوها على درب الحياة الطويل فمن يستظل بشجرة الزيتون ليعزف لحن السعادة، كمن يرتاض سيراً على قدميه طلباً لصيد عصفور، كمن يملأ السهل بألحان الغناء على أوتار التعب، كلهم فقدوا لحظة الفرح الرتيبة، لكنهم لم يفقدوا الأمل، فكان البقاء في الأرض، والاستمرار في الحياة الطبيعية، نوعاً من المقاومة، مهما كانت الأعباء والتضحيات، وهو ما يتضح في قصة "القطار" التي تحكي حكايات الصمود، فالحياة تستأنف بعد كل غارة مدمرة، مخلفة وراءها، أما ثكلى، أو صبياً يتيماً، أو زوجة أرملة، تظهر آثار ذلك في المجتمع الذي سرعان ما تجعل منه فطرته، متكاملاً اجتماعياً، فسامر واحد من آخرين ابتلوا بفقدان الأهل، ولم يجدوا في غير العنفوان والكبرياء وسيلة للاستمرار والبقاء.
وفي قصة "بعد الفجر" نشهد مواقف متعددة عند حاجز العبور بين أرضين، حرة ومحتلة والفلاح وحده سيد الموقف. إذ يقوم بدور مزدوج، فهو يحرث الأرض ويتعاون مع المقاومة بعض القنابل على جنبات الطريق كمن يزرع القثاء.
عند المعبر، ليس كل العابرين متشابهين، فذلك الإنسان القلق التي يتابع بصمت كل ما يجري على جانبي الحاجز، قد خبر كل أساليب العدو، وعرف مكامن ضعفه وأدرك أن توتر جنده الدائم ناتج عن حالة الرعب التي يعيشها، والتي تعبر عن نفسها بزخات الرصاص فوق رؤوس العابرين وعلى جنبات الأرض التي يقفون عليها، مثيرة زوبعة من الغبار والدخان، وإذا كانت مثل هذه الأمور تقلق العابرين، فهي بالنسبة للفلاح شأن اعتيادي، إذ بعد أن صفت سماء المعبر تبين أن حسن الحاج، ظل على ما كان عليه يمناه على كابوسة العود، وفي يسيراه المسّاس الذي يستعين به على حسن أداء فدانه للحراثة، في إيمان راسخ، سمح له بأن يرد التحية على من حياه.
لم تعد المقاومة عمل أفراد، ولا هي عمل مجموعات، إنها شبكة من العلاقات متممة لما هو اجتماعي وديني وعملي.
الخاتمة:
إن الثلاثة: سويد وزراقط وحجازي، بدت بين قصصهم وملامح مشتركة وإن بنسب متفاوتة، من ذلك مثلاً:
1 ـ إن الفلاح هو المقاوم الأول على أرض الجنوب، فمعظم القصص هو محورها، سواء كان مزارعاً في الحقل أو مربياً في البيت أو محدثاً في جلسات القيلولة أو نازحاً مؤقتاً إلى الجوار.
2 ـ إن ينابيع الاتجاه المقاوم تتجلى في: الينبوع الروحي والينبوع التاريخي والينبوع الواقعي، وللينابيع الثلاثة صلاة وثيقة بالمواطنين من خلال الدين كجامع مشترك، وكحافز على الفعل، وكمروض للنفوس على الصبر على المكاره، ومن خلال التاريخ القريب الذي ما زال راسخاً في أذهان الناس على هيئة حكايات تحكى عن الأتراك والفرنسيين، ومن خلال التاريخ البعيد الممتزج بالبعد الديني والذي يرقى صعداً إلى معارك الإسلام الأولى، ثم من خلال الواقع الذي يقدم لنا صوراً ثلاثاً، إحداها للوطن والأخرى للمواطن والثالثة للعدو.
3 ـ إن دور المعلم واضح في تنمية الوعي السياسي والاجتماعي، وإنه قادر على تحمل تبعة هذا الدور، بما في ذلك السجن.
4 ـ إن فرزاً مجتمعياً واضحاً أكدته معظم القصص، فالمواطنون في خندق، والسلطة وممثلوها وعيونها في خندق آخر، هذا في مجتمع السلم، أما في مجتمع الحرب فلم يختلف الأمر، فالذين كانوا مع السلطة، أصبحوا إلى جانب العدو، أما الفلاح الذي كان يقاوم الجفاف معتمداً على نفسه في ظل إهمال السلطة، فهو نفسه الذي يقاوم العدو في الظروف نفسها.
5 ـ إن المقاومة سلسلة متصلة الحلقات داخل الأسرة الواحدة، الجد فالأب فالابن بحكم التاريخ الطويل للناس مع كل العابرين.
6 ـ إن هذه الأعمال القصصية، تشترك في ملمح التحدي، وضرورة تحقيق الهدف، متخطية كل أنواع العوائق والصعوبات، وفي هذا تجديد مستمر للثقة بالنفس، وإثبات بأن "الفن والثقافة سلاحان، إذا ما سارا على النهج الهادف رفعا مفاهيم أمة بكاملها"، وإن النص الأدبي نثراً كان أم شعراً "ليس معزولاً عن خارج هو مرجعه"، وإن باستطاعة الأدب أن يجمع بين "الفنية والرؤية الاجتماعية والوطنية، وبذلك يعطي قيمته كاملة حين يصل إلى جمهوره".
إن الهم الوطني والهم الاجتماعي، جزء من الاتجاه القصصي المقاوم، ومثلهما الهم التربوي، وقد عاش الأدباء الثلاثة، واقعهم، واستمدوا تجاربهم منه، فهم من الجنوب، وإليه عادوا، والعود أحمد.
أحمد سويد ـ عبد المجيد زراقط ـ علي حجازي
الدكتور يوسف الصميلي
المقدمة:
ـ يكاد الأدب العربي في كثير من نصوصه أن يكون أدب مقاومة، سواء في الشعر وفي النثر، وهو ما تجلى واضحاً في الأدب العربي الحديث على امتداد الوطن العربي كله، وليس على القارئ إلاّ أن يتصفح بعض الروايات أو الدواوين، ليكتشف أن المقاومة جزء من التكوين الذاتي في الشخصية العربية ولعل ما نحن بصدده اليوم أبلغ دليل على ذلك.
وفي لبنان كان الأدب العاملي وما زال رائداً في هذا الاتجاه، ربما لأن جبل عامل كان وما زال وهو يستمر، ثغراً لبنانياً عربياً، قدره أن يواجه وأن يصمد، وأن يجعل من أرواح بنية بيارق حرية في رحاب الفداء والشهادة.
ولعل في ظاهرة المقاومة النبيلة في هذه الحقبة القائمة، دليلاً على أن الثغر العاملي ظل على دوره التاريخي مقاوماً في لحظة الهزيمة والتخلي، مواجهاً في لحظة الاستسلام والتراخي، معانياً ومحروماً في لحظة يعيش فيها الكثيرون متخمين على أكثر من صعيد، فالعاملي مقاوم كمقاتل في خندقه، وكفلاح مع محراثه، وككاتب بقلمه، والعامليون كلهم شكلوا حالة خاصة، سوف يتطلع إليها التاريخ بعين الإجلال والإكبار، قائلاً لأمتنا ولأعدائها على حد سواء، هناك في الجنوب وعلى أرضه طويت صفحة من سفر الأساطير، لتحل محلها صفحات من تاريخ صحيح.
لذلك لا عجب أن يكون كتاب الجنوب مواكبين لهذا التاريخ الصحيح ولهذه الظاهرة النبيلة ظاهرة المقاومة، وليس هذا البحث إلاّ نموذجاً متمثلاً في القصة.
القصيرة عند كل من أحمد سويد وعبد المجيد زراقط وعلي حجازي.
*أولاً ـ أحمد سويد:
إن أحمد سويد في مجموعته "النوافذ المغلقة وعيون الأحباب" صور في قصة "الحوت والزيتون" الفلاح الجنوبي الطيب، مترقباً يومياً غارات العدو، تقصف أحراش الزيتون وبساتين البرتقال، وحقول القمح، دون أن يملك ما يقاوم به العدوان إلاّ التشبث بالأرض والعناية بها، والمزيد من غرس أشجار الزيتون فيها.
الفلاح الجنوبي الطيب، فهم المقصود من هذه الغارات، فالعدو "يستهدف كل ما يرمز إلى الحياة فوق أرضنا" ولذا كانت مقاومته بقدر فهمه، أي بمزيد من العلاقة بالأرض، والحرص على زيادة غرس الأشجار فيها، في وقت أصبح فيه الموت عادة يومية، وصارت الطمأنينينة تهرب من النفوس، مفتشة عن ملاذ آمن تجده، وإن كانت تجد العزاء أحياناً في تلك الدهاليز البدائية ـ جور التبغ ـ وهذه هي أزمة صابر في القصة الأخرى "الموت والقمر صابر".
أزمة صابر هي الوطن المهدد والسكان النازحون، وقد تجلى ذلك في صورتين تتزاحمان في ذهنه، الأولى: "صورة أهل قريتي يهبون لنجدة القمر حين كان يهم بهم الحوت، كانوا ينهدون إلى أواني النحاس وألواح التنك، يقرعونها بشدة، ويهرعون إلى بنادق الصيد يطلقون منها العيارات في الفضاء ويظلون يلاحقون الحوت اللعين بقرعهم المتواصل وطلقاتهم إلى أن يرغموه على الهرب وإطلاق القمر" والثانية "قوافل النازحين نحو المسرب الشمالي، حتى خلت القرية من ساكنيها، وبقيت وحدها فريسة للحرائق والرهبة والأشباح"، وبين هاتين الصورتين، صورة المقاومة وصورة النزوح، كان موقفه فاختار المقاومة "لن أتركها وحيدة، ولن أخرج منها كما خرجوا، فعزيز عليّ أن أخرج من ثيابي، من جلدي، من هويتي.
وإذا كانت هذه القصة غنية بالدلالات بحكم البعد الأسطوري الذي غلف حكايتها، فإن الحوت مثل رمز العدو، والقمر رمز الأرض، التي تستحق أن يضحى من أجلها، أما صابر الذي اختار البقاء في القرية، أي اختار المواجهة، فإنه في البداية تساءل حين رأى منزله مدمراً "يا اللَّه، ألا يستطيع هذان الساعدان أن يحميا منزلي؟"... إنها بداية التفكير بالفعل، والمقبرة في القصة، بقدر ما هي رمز
للانتهاء، فهي مجال للاستثارة، وربما كان اللواذ بها من الغارات، حافزاً على الفعل، لأنها تذكر بالمصير المحتوم، مهما امتد بالإنسان الأجل، ولجوء الأحياء إليها، تعبير عن موتهم الحقيقي، فالأولى تركها والعودة إلى القرية حتى ولو أصبحت يباباً" وكأن هذه العودة تعني استئناف الحياة الطبيعية في ظل الخطر، كما تعني الولادة من جديد، لكن المخاض عسير، فالشعور بالخطر، ما زال فردياً، وما زال صابر يعاني من كوابيس الرعب والجنون، وما زال يلقي بالمسؤولية على الوطن، متهماً إياه بالجبن مردداً "الجبان هو وطني... الجبان هو وطني".
هذه الحالة الإفرادية للشعور بالخطر والاستعداد للمواجهة، نمت في قصة أخرى من مجموعة "ليلة القبض على سر الأدهم" هي قصة "تداعيات جمجمة في زمان الغضب"، حيث الشاب المقاوم نضال، يتخذ من إحدى الصخرات، متراساً استعداداً لعملية فدائية، وأثناء انتظاره موعد البدء بالتنفيذ، تتداعى إلى ذهنه عمليات أخرى، قام بها رفاق له على الدرب الطويل فاسترجع ذكرى والده الشهيد، وجارته أم علي التي أتى العدو على كامل مؤونتها، وموسم الحصاد الذي أحرقه العدو لترويض الأهالي، واستشهاد صديقه محمد في عملية غلب عليها الانفعال على الفعل، وعملية باسل الرائعة التي أودت بالدورية وآلياتها، وتلك اللحظة التي اقتنص فيها جندي العدو الطفل علاء، إنها مشاهد من صرع طويل اختار الناس خلاله المقاومة واختار العدو تصعيد عدوانه محاولاً إهلاك الحرث والنسل، لكن صوت الجارة أم علي يظل الأقوى والأبقى، "مهما فعلتم لن نرحل، هذه أرضنا، نحن مغروسون فيها كغابات السنديان، ولن يقتلعنا منها حقدكم وإرهابكم، ارحلوا عنا يا برابرة، بالروح، بالدم نفديك يا جنوب".
أما قصة "ليلة القبض على سر الأدهم" من المجموعة التي تحمل العنوان نفسه، فتحكي حكاية المجتمع المقاوم، والصراع الخفي بين المقاومين والعملاء، في ظل تكيف واضح مع هذا الوضع، أي وضع استمرار العدوان، وتالياً استمرار المقاومة، وانجراف ذوي النفوس الضعيفة إلى جانب العدو، فأبو طراف الأدهم، واحد من أولئك الرجال العاديين، الذين يعيشون في القرية، إنه مواطن أصيل، وفلاح عريق، هانئ البال في بيته الأليف ومع بقرته الشهباء، وهره عنتر ودجاجته العديدة، لا يعكر صفو أيامه إلاّ ذلك الكابوس الذي اسمه الاحتلال.
والأدهم أبو طراف في الوقت نفسه من رجالات المقاومة، فبيته ملاذهم في السماء، حيث يعرض على مسامعهم تحركات العدو، كما سمع عنا أو شاهدها، ويضع نفسه، وخبرته بالمسالك الوعرة والطرق الخفية بين أيديهم، وبينه وبين نفسه، يظل حذراً من العبسي اعتماداً على سوء ظن المختار.
وبخبرته الطويلة، يعرف الأدهم أصحاب مواقع الأقدام في الليل البهيم، ويتوقع أن يأتي عليه الدور، بدفع ضريبة الصمود والمواجهة فتتداعى إلى ذهنه كل صور التعذيب بأسلوب الاستباق، وتراوده كإنسان لحظة ضعف، لا تلبث أن تنهزم، أمام إصراره على درب المقاومين بأنفة وكبرياء.
والقصة ناطقة الدلالة، بقوة المقاومة، وتحولها إلى موقف جمعي، وحالة حياة، وتوقع الأسوأ من العدو، لذلك لم تكن الصدفة هي التي منعت المقاومين من التواجد في منزل الأدهم ليلة القبض عليه بوشاية من العبسي، فهم عرفوا بأن عين العدو أصبحت تركز عليه من خلال عيونهم الخبيئة.
وأما قصة "حفلة حضارية" فتكاد تكون تتمة لقصة "ليلة القبض على سر الأدهم" فهي تحكي حكاية المقاوم في أقبية العدو وبين جلاديه، إنه محمود الذي يحاول التغلب على لحظات الوجع بالاسترجاع والاستذكار، مستذكراً العمليات الفدائية التي نفذها كجنوبي من جبشيت، اتسعت مساحة مقاومته باتساع الجنوب، فعملية البطيخ تمت في النبطية، حين تحولت أكوام هذه الثمرة إلى قنابل موقوتة، ألحقت بالعدو خسائر فادحة، وعملية الليطاني تمت على ضفتي النهر السليب مدمرة موقع العدو وآلياته. وعملية التابوت استهدفت الطرقات التي يستخدم عليها العدو آلياته، فتم زرعها بالألغام، وعملية بلال كانت مدينة صيدا مسرحاً له.
إنه مقاوم جسور صبور، لم يتمكن العدو منه إلاّ بوشاية من أحد العملاء، ولم يستكن أمام حلقات التعذيب المتعددة، رافضاً كل عروض الصداقة والتفاهم والحرية، تاركاً لعضلاته المتشنجة الاسترخاء أمام شعاع الضوء الذي ما زال معه.
*ثانياً ـ عبد المجيد زراقط:
إن عبد المجيد زراقط في مجموعته "ذات عصر" قد اصطحبنا إلى جبل عامل في رحلة عرفنا خلالها معالم الطبيعة وملامح الناس، وامتدت بنا المسافات زمناً
طويلاً، بين الطمأنينة التي كانت عنوان كيان الأسرة وبنيانها، والقلق الذي بدأت عليه النفوس، بسبب تداعيات الحياة التي فرضتها المقاومة.
العاملي في هذه المجموعة: مواطن كسائر المواطنين، يفترس العمل ويلتحف القناعة، فهو الفلاح في الحقل والمهاجر في دنيا الاغتراب، والمعلم في المدرسة، والشيخ في حلقة الوعظ والتوجيه، وهو أيضاً عين السلطة على الآخرين، على اختلاف نماذج ورموز هذه السلطة، وتعاقب سحنات وجوهها، لكن الحد واضح وفاصل بين المواطن الكادح في الوطن، وبين المواطن عين السلطة، وهو ما نلحظه على امتداد المجموعة كلها، فأبو حسن لا يستطيع أن يتملق المختار لتقدير الأضرار التي حلت بمنزله، وأودت بدابته، لأن مقتضى الحال خير شاهد على ما حل به وبأسرته، وهذا المقتضى، أبلغ من مر الشكوى وصغار التملق، وأم محمد لا تستطيع أن تتهاون مع عينه أخرى من هذه "العين" التي دبرت نقل عمل ابنها ثم جاءت في إحدى المرات لتساومها على ما قد يأتيها من مال بسبب الأضرار التي لحقت بشجيرات الزيتون التي تملكها بسبب القصف الإسرائيلي.
إن مجموعة "ذات عصر" تمسك بحلم المواطن العاملي، وتحاول: أن تجسده واقعاً ملموساً، فالقصص "سلة سمير" والصبي والوردة، وهموم أبي حسن، ومن يوميات الحاجة أم محمد. أحلام قيد التحقيق إذا ما سارت الحياة سيراً عادياً، ولا تخرج هذه الأحلام عن دائرة اهتمام المواطن الريفي، إذ كل واحد يريد أن تفتر البسمات على شفاه أهلية وبنيه، وكل إنسان يسعى لأن يكون له منزل يبنيه وبيت يؤويه، فإذا ما عاندته الحياة، لتحقيق هذا الحلم، قد يصبر ويحاول من جديد، وقد ييأس وينثني عن عزمه، وقد ينتقم ممن يرى فيه سبب الوضع الذي آل إليه، والحال التي أصبح عليها، وفي هذه الأحلام لا نستطيع أن نحدد اتجاهاً بعينه يحكمها ويسيرها، إلاّ اتجاه الحياة نفسها، وتقلب موازينها، وهذا التقلب لا يأخذ منحى عادياً، تفرضه المسافة الممكنة بين الحلم والواقع، وإنما تعصف به رياح عاتية تستهدف اقتلاع المواطن من جذوره، الأمر الذي يجعله يستمرئ الثبات، والتشبث بالأرض، فجمال الصبي الصغير في "الصبي والوردة" وجد نفسه بين حالين كلتاهما صعبة ومرة، إذ كيف يستطيع أن يطرد الخوف والقلق الذي جتاح المنزل بأسره، ولا يستجيب لرغبة والده بالرحيل؟! وفي الوقت نفسه لمن يترك هذه الأزهار التي غرس ورودها، واعتنى بنموها، فهي غرسه الجميل وحلمه المحقق، وبين هذين المتنازعين، كانت الغلبة للبقاء على الرحيل، وللأزهار على الرصاص، وللحياة على الموت، ومن المفارقات اللافتة في هذه القصة، أن فوارغ طلقات المدافع، هي الأواني المستخدمة في زرع الورود، وبالرغم من شفافية الواقع، إلاّ أن القصة ذات بعد إنساني لا يمكن تجاوزه، فهذا المواطن قادر من موقع التجذر على أن يستبدل البناء بالدمار وأن يزرع الحياة في أوعية الموت، وهذه الحقيقة تسطع مرة أخرى في قصة "من يوميات الحاجة أم محمد" حين تنشغل تلك الأم الصبور عن القلق على مصير ابنها، بلملمة ما يهتم به من بقايا القنابل المضيئة، يحتفظ بها الأطفال على سبيل التذكار، ويتخذون منها دمى وألعاباً، كما يحاول الكبار أن يزينوا بها صدور غرف الاستقبال متخذين منها وسائل للزينة أو أواني للأزهار.
إن مجموعة "ذات عصر" حاولت أن تبلور مفهوماً وطنياً لدى الإنسان العاملي، فالمقاومة ليست بندقية تحمل، ولا رصاصة تطلق، وإنما هي حياة يومية يتكيف المواطن مع أحوالها وظروفها. ويستعد لتحمل تبعاتها وأعبائها، وتتجسد فيها شخصية هذا المواطن تمام التجسيد، فالأسرة تبحث عن الاستقرار، وأحلام الأطفال والرجال معاً، تتوهج حباً للأرض إلى حد الذوبان فيها، وهذا الإنسان العادي العامل الحالم، لا يفلسف الأمور، ولا يتعب نفسه بتفسير الأحداث، وإنما يتابع الأخبار ليبحث عن نفسه في نتائجها، فالهرب قصد النجاة، أو البقاء حرصاً على المنزل، قضية محض خاصة. لكن عدوى التفاؤل سرعان ما تسري على لسان الطبيب حكاية مشوقة عن ذلك الصبي الودود في "الصبي والوردة" وأبو محمد في "راحة البال" نموذج الريفي الحكيم المحنك. مقابل أبي قاسم نموذج الريفي الساذج. وهذا النسيج الريفي، هو الذي يوجد المعادلة، لاستمرار الأحاديث عن التقاط طرائف السذج، التي يحسن الحديث عنها المحنكون، ثم تأتي شخصية المعلم كدائرة مستقلة عما حولها، لكنها متممة لها. فهو ليس كالفلاح في حقله ولا كالبقال في حانوته، فحركته تتجاوز دائرة اهتمامهم، وربما كانت كلمة أبي محمد عن الماء الراكد أبداً آسن، تفسيراً لحيوية المعلم من خلال سمته الساكن، لكنه مبادر، ومتعاون مع المقاومة، وهذه المقاومة، يدفع المواطنون أعباءها دماء وأرزاقاً، وأبو محمد الذي يعرف بلدته الخالصة، وكان يزورها دورياً قبل الشريط الشائك. يسبح بأحلامه بعيداً، ولا يعي ما حوله، بعدما أخذ بخبر اعتقال الأستاذ، ولم يستفق من شروده، إلاّ على قذائف القصف وتفرق الرجال من ساحة لقرية.
وأبو حسن في همومه كأبي محمد، فهو يعرف الأرض المحتلة، ويلعن الذين حرموه منها، وهو يتطلع إلى هؤلاء الشباب كبدايات للتحرير، لهذا عمل على مساعدتهم، علماً بأنه يكره السلاح، لأنه مرتبط في ذهنه بالاستعراض في الساحات العامة، على خواصر رجال الأمن، لكن الجريح الذي حملته دابته، إنسان آخر، فقد وثق به وأسعفه، ثم كانت المفارقة الحزينة، حين أصاب القصف تلك الدابة، الأمر الذي أدى أن تتداعى في ذهن أبي حسن مجموعة أسئلة عن قوة اختراق العدو، وكيفية معرفته بأن دابته هي التي حملت الفدائي الجريح. فأصيبت بالقصف وقضت، وتستمر المفارقة حزينة، حين يأتي المختار ومن معه من عيون السلطة لتخمين الأضرار، فلقد شككوا في إمكان انقضاء أجل الدابة بسبب القصف، لكنه تحامل على مصابه، وعاد إلى إطراقه السابق ينكت الأرض بقشة رفيعة، دون أن يعترض سبيل الدود.
إن الإنسان العاملي في مجموعة "ذات العصر" وبخاصة في قصتي "صناعة الزمن" و"عيد الحدودي مهجراً" أصبح معنياً بما يجري، ولم يعد مجرد شاهد عليه، وأصبح قادراً على الدفاع عن نفسه وأرضه، فهو يؤمن الماء لتبغه، وينصب الكمائن للعدو، والمقاوم يداعب ماسورة بندقيته كعاشق يتلمس شعر حبيبته في العتمة.
إن هذه المجموعة "ذات عصر" تفتح العيون على المقاومة، باعتبارها فعلاً عاماً لا عمل أفراد، ولهذا نفذت إلى مسارب النفوس، واستقرت مكينة ثابتة، فوجدناها في المجموعة القصصية الأخرى "مناديل" جزءاً لا يتجزأ من المسار اليومي للحياة، كما رأينا على لسان أم صابر حين أرادت أن تبث روح التحدي في ابنها، فكظمت غيظاً وعضت على جرحها وهدأت من غضبه قائلة: "إهدأ... أمنزلنا أول منزل يدمرونه أكرم الزيتون أول أرض يصادرونها؟ أأبو عبد اللَّه أو أب ... غصت أمي، مسحت دمعاتها". ومثل هذه الصورة عن الأم، يساعد في فهم الموقف على حقيقته، حين ترفض بوصفها نموذجاً إنسانياً، أن تغادر منزلها، مهما اشتدت عليها وطأة
الظروف، فيعرف الابن حقيقة شعورها، ويجد في هذه المعرفة حافزاً له على تفعيل المقاومة، "واللَّه أعرف سر بقائك... إلى أين تذهبين؟ أين تجدين بيتاً؟ الأبنية كثيرة، لكنها ليست بيتك، ليس فيها ماء وضوئك، وزاوية صلاتك... وجيب سبحتك... وأكياس مؤونتك... وأمكنة مر بها الحبايب وعاشوا فيها".
إنها حميمة المكان، الناطقة بدلالتها المعنوية، والتي لها في الوجدان العميق، محلها الراسخ، لذلك يصعب اقتلاعها ومسحها من الأفئدة، ولهذا يأتي عنا تلقائياً لأنه دفاع عن الذات، خاصة حين تقترن هذه الحميمية بتلقائية الذكريات والحكايات الهادفة "بقيت أمي تحدثني كل مساء، وكنت أردد رحمك اللَّه يا جدي، لم ترموا البنادق عندما أحاطوا بكم، بقيتم قرب الشيخ القسام".
إن المواطن المقاوم في قصص زراقط، تجلى صورة مشرقة في الأم والابن والجد والأب، لتتجسد فيه صورة الوطن، الذي ينمو حبه والتعلق به، بمقدار النمو الإنساني نفسه، فالعلاقة بالأرض تتدرج بتدرج الزمن وعمر الإنسان، من صبي يلهو، إلى فتى يعمل، إلى شاب يتأمل في ترابط محكم النسج. فجمال في "الصبي والوردة" من مجموعة "ذات عصر" الذي آثر كطفل البقاء على الرحيل والموت على الحياة، هو نفسه حمزة في قصة "رجال عرفوا الطريق" من مجموعة "مناديل" حين استرجع في خندق المقاومة شريط ذكرياته مع الأرض تعطي وفي كل الفصول. وحلمت كثيراً... ولكنهم أتوا... مثل هذه الغيوم، يمتطون حديداً وزرداً ويشهرون حديداً وحراباً، أتوا: سود شقر رماديون... فوهات حديدهم واسعة".
هذه الصورة للوطن بين أرض معطاء ومواطن منسي، هي التي جعلت المقاومة تستمد شرعيتها من هذا الواقع الأليم "قال السمين: غادر، هذه الأرض لنا، والماء الذي تصرفه نحن بحاجة إليه، لدينا مشاريع كثيرة... صرحت كيف تكون أرضك وأنت لم ترها إلاّ منذ أشهر؟ كيف تكون لك وحياتها تعرف لون عيني، وحصاها يعرف خطوط أصابعي... لم أكمل... ارتميت وحديدهم الأسود البارد في عنقي، ثم رحت اصرخ... هذه أرضنا وظلوا يطلقون النار، ويغرسون حرباتهم في جسدي".
إن الواقع المرير هو الذي حرك في النفوس شعوراً جماعياً بحتمية المقاومة، دفاعاً عن النفس، واستعادة للحق، وتحريراً للأرض، فالمقاومة ليست خطة ترسم، ولا برنامجاً يعد، ولكنها حالة عامة، يعيش الجميع هاجسها، لأنهم بنو تجربتها.
*ثالثاً ـ علي حجازي:
في قصص علي حجازي، وفي مجموعتيه "القبضة والأرض" و"العيون الغاربة" تتجلى لنا المقاومة كهدف وكوسيلة من وجه، وكحالة وكمناخ من وجه آخر، ففي قصة "القبضة والأرض" لم نعرف شيئاً عن أفراد المجموعة فهم يتحركون سراً في وسط يحضنهم، ومحيط يحنو عليهم، وقد حددوا لأنفسهم غاية محددة، هي مقاومة العدو، وكانت العملية الفدائية التي هي موضوع القصة قد ذهبت بقبضة موسى، وبترتها من المعصم، لكنه لم يأبه، وخاطب زميله جميلاً قائلاً: "نحن بحاجة إلا آلاف القبضات يا جميل... نحن بحاجة إلى قبضات قوية" وقصة "أبو منصور" تبين أن المقاومة ليست عملاً إفرادياً، فقد تعود عليها الناس، واستمدوا الشجاعة من بعضهم بعضاً، وتلاشت بين جموعهم الأدوار الرئيسة والأدوار الثانوية، ولم تعد هناك فوارق بين مقعد ومعافى، فكلهم قادر على الفعل، ولكل نصيب في أعمال المقاومة، فأم وجدي المقعدة، استنفزت جنود الاحتلال، وأبو جمال شارك بحمل الجرحى غير عابئ بعمليات التمشيط من حوله، والحاج حسين طعن إسرائيلياً بسكينة، وأم فارس رمت جندياً بصفيحة فأردته، والأطفال يرشقون دوريات العدو بالحجارة، والبنات يساعدن بتضميد الجروح، وكل هذه الأعمال، كانت تستحث "أبو منصور" لأن يقوم بعمل ما، وأن يكون له دور، فتحامل على خوفه، واستفزته النخوة، واستذكر ولديه "منصور ومالك" فهما برعاية اللَّه بين شباب المقاومة ومن رجالاتها وخطرت بباله أم وجدي، التي قضت شهيدة على يدي أحد العملاء، فدعا على العميل بدخول النار، ودعا لأم وجدي بدخول الجنة، وهب من رقدته على دوي الانفجار، وشاهده الناس يحمل مقاومين مجروحين على ظهر حماره مردداً: اللَّه أكبر اللَّه أكبر. واللَّه قتلته، وهو يعني أنه قتل الخوف. فأصبح موقفه حكاية تحكى، ولم يعد بين أهل القرية خائفون.
وقصة "لعبة أيمن" تأكيد على أن المقاومة أصبحت حالة ومناخاً، فالجميع هنا بمن في ذلك النسوة والأطفال يشاركون في المقاومة، والمترددات من النسوة، أمثال أم جميل يجدن التشجيع على المشاركة من الفتيات أمثال سلوى وسناء، والجميع درع ضد العدو، الذي يعتمد على العملاء المقنعين، الذي يرشدونه، إلى أماكن المقاومين، ودور الأطفال في هذه القصة مميز، إذ أن وعيهم تجاوز الزمن الذي هم فيه، كمؤشر على تجذر الحالة، واشتداد ساعد المقاومة، وهو ما شعر به الأهلون، فأولوا أبناءهم الثقة. وبينما أيمن ابن الثانية عشرة يتنظر "كانت البندقية تلمع في يد والده وهو يقول له: أيمن... خذ يا أيمن... هذه بندقيتك يا حبيب".
وقصة "هكذا تكلم بلال" ربما كانت مستوحاة من العملية الاستشهادية التي نفذها الشهيد "بلال فحص" ضد العدو الإسرائيلي في الجنوب، مكتشفة أهمية الفعل الناتج عن المعاناة، والذي يتخذ من استعادة الذكريات، التاريخية مادة للعمل الإيجابي، مشيحاً بفكره عن قواعد التسليم بالأمر الواقع، التي يمتلئ بها قاموسنا الشعبي، فالمقاومة لم تعد مبادرة فردية، بل هي حالة عامة، إنها مجتمع مقاوم، فالوالد شهيد، والشقيق في المعتقل، وبلال على الطريق نفسها، لأنه من الجذور نفسها، وربما كانت قصة "الجذور" هي التتمة الطبيعية لقصة "هكذا تكلم بلال" فهي تحكي حكاية بيت عادي، دفع ضريبة المقاومة، دماً ومالاً وبناء، وهذه قصة كل بيت جنوبي، ففي كل أسرة شهيد، وكل أسرة عرضة لأن يتم نسف منزلها، انتقاماً من إصرارها على المقاومة، وليس رب الأسرة... سالم ـ إلا واحداً من آباء كثر، فهو قلق على بنيه، فخور بهم، حزين إذا استشهد واحد منهم، لكنه موقن بأنها فدية الأرض، التي حين نحفر الأساس للبناء عليها، فإنما نحفر في رحمها، وحين نبدأ البناء، يتساعد الجميع لإنهائه، إنها المقاومة مقرونة بطيب معدن الريف في الجنوب، والمقاربة واضحة بين رحم الأرض ورحم المرأة، فكلاهما جذر الحياة الحقيقي والأصيل.
ولا يكتمل هذا الجانب المقاوم في قصص علي حجازي، إلا إذا شهدنا مصير الخونة والعملاء في قصة "أبو محمد" التي تحكي حكاية "سمير" الخائن العميل، الذي وشى بالمقاوم محمد، وأرشد العدو إلى مخبأه، حيث وجد الوالد عجوزاً صلباً أنوفاً لا يخشى العدو، ولا يعبأ بنزف الدم من أذنه وأنفه بعد ضربه ضرباً مبرحاً، بل أن هذا العجوز المقاوم حدَّق بالعميل صارخاً "لم تتخفى بلثمتك يا سمير؟ أتخجل من مواجهتي؟ ماذا فعل لك أهل ضيعتك حتى خنتهم...؟ والأرض... نعم. الأرض، التي كنت ترعى فيها غنمك ومواشيك، هل بخلت عليك بعيشها يوماً؟... أخبرني هل اصطاد منكم محمد خنزيراً الليلة؟ أخبرني؟... وأنا لا أعلم شيئاً عنه، وليتني أعلم، وليته يسمح لي بالعمل معه..."... ولا تنتهي هذه القصة إلا بعد أن ينال المقاومون من دورية العدو، ويتخلف سمير عن فلول الهاربين ليقع بين يدي زوجته، التي كثيراً ما كانت تبصق في وجهه معنفة إياه: "عد عن غيك يا... وهذه المرة وصلت مع النسوة، ولما رأت "سمير" هجمت عليه، فظن أنها ستساعده ولو مرة واحدة، إلا أنها غرزت أصابعها في عنقه جيداً.
والجنوب في مجموعة "القبضة والأرض" تاريخ طويل من المقاومة، ففي قصة "خديجة" استرجاع للتاريخ واستذكار لأحداثه، حين كان الأتراك يسوقون الشباب جماعات جماعات، فتنقطع أخبارهم عن ذويهم، كزوج خديجة الذي اقتيد أثناء الحرب العالمية الأولى ولم تعد تعرف عنه شيئاً، وظلت تفتات على الانتظار إلى أن جنت لكنها لم تفقد الإحساس بخطر العدو، فكانت ترى في الجنود الإسرائيليين صورة الجنود الأتراك، فتعاود الصراخ القديم الذي ينبئ الآخرين بالخطر، "خراواوي" وقد ظن الناس عندما سمعوها أول مرة، بأن الأتراك قد عادوا بالفعل.
وخديجة هذه، تمثل الأم الصبور، التي تحرص على رعاية ابنها، ممنية النفس بأن ترى فيه الجد العطوف الذي مات جوعاً أثناء الحرب العالمية الأولى، والأب الذي لم يعد من سفر طويل، والخال الذي استشهد مقاوماً ضد الفرنسيين... إنها قصة كل بيت جنوبي، فهل وقد ذهب كل الغزاة، سيكون للعدو الصهيوني مستقر على هذه الأرض الولود؟ والجواب بالتأكيد لا.
في مجموعة "العيون الغاربة" يتحول حل الأرض إلى شيء داخلي "لا يمكن تلقينه أو تعليمه إنه يوجد مع رسيس الروح وخفق الدم في العروق، كما في قصة "عود مزهر من المرج" التي تحكي قصة الأسرة الجنوبية المهجرة، التي لم يتسن لربها أن ينشئ أبناءه على الامتثال لواجب الوطن، فإذا به يفاجأ بتنازع الابنين على عود أخضر، كاد عبد اللَّه أن يكسره لدى محاولته مصادرته من أخيه فراس، لأنه من الضيعة التي يخشى أن لا يعود إليها، خاصة تلك البقعة المسماة "المرج" التي وعدهم الأب بأن يبني عليها بيتهم وإنه من أرضنا... أمسكته، حدقت به جيداً، همت دموعي، كرجت، قل تحفزت للقفز ثم ضممته مع شقيقه إلى صدري وكان عناق طويل... أنا الذي ظننت نفسي مهزوماً في زرع جب الأرض في أفئدة هؤلاء الفتية، الذين منحوني اليوم درساً في حب الأرض وعيدانها".
وفي قصة "عزف على مزع الجسد" معاناة ومكابدة، لاقتناص لحظة فرح، فالأمن والعدو، ضدان لا يلتقيان، ولحظة الفرح الوحيدة هي لحظة مقاومة، في كل خطوة يتم خطوها على درب الحياة الطويل فمن يستظل بشجرة الزيتون ليعزف لحن السعادة، كمن يرتاض سيراً على قدميه طلباً لصيد عصفور، كمن يملأ السهل بألحان الغناء على أوتار التعب، كلهم فقدوا لحظة الفرح الرتيبة، لكنهم لم يفقدوا الأمل، فكان البقاء في الأرض، والاستمرار في الحياة الطبيعية، نوعاً من المقاومة، مهما كانت الأعباء والتضحيات، وهو ما يتضح في قصة "القطار" التي تحكي حكايات الصمود، فالحياة تستأنف بعد كل غارة مدمرة، مخلفة وراءها، أما ثكلى، أو صبياً يتيماً، أو زوجة أرملة، تظهر آثار ذلك في المجتمع الذي سرعان ما تجعل منه فطرته، متكاملاً اجتماعياً، فسامر واحد من آخرين ابتلوا بفقدان الأهل، ولم يجدوا في غير العنفوان والكبرياء وسيلة للاستمرار والبقاء.
وفي قصة "بعد الفجر" نشهد مواقف متعددة عند حاجز العبور بين أرضين، حرة ومحتلة والفلاح وحده سيد الموقف. إذ يقوم بدور مزدوج، فهو يحرث الأرض ويتعاون مع المقاومة بعض القنابل على جنبات الطريق كمن يزرع القثاء.
عند المعبر، ليس كل العابرين متشابهين، فذلك الإنسان القلق التي يتابع بصمت كل ما يجري على جانبي الحاجز، قد خبر كل أساليب العدو، وعرف مكامن ضعفه وأدرك أن توتر جنده الدائم ناتج عن حالة الرعب التي يعيشها، والتي تعبر عن نفسها بزخات الرصاص فوق رؤوس العابرين وعلى جنبات الأرض التي يقفون عليها، مثيرة زوبعة من الغبار والدخان، وإذا كانت مثل هذه الأمور تقلق العابرين، فهي بالنسبة للفلاح شأن اعتيادي، إذ بعد أن صفت سماء المعبر تبين أن حسن الحاج، ظل على ما كان عليه يمناه على كابوسة العود، وفي يسيراه المسّاس الذي يستعين به على حسن أداء فدانه للحراثة، في إيمان راسخ، سمح له بأن يرد التحية على من حياه.
لم تعد المقاومة عمل أفراد، ولا هي عمل مجموعات، إنها شبكة من العلاقات متممة لما هو اجتماعي وديني وعملي.
الخاتمة:
إن الثلاثة: سويد وزراقط وحجازي، بدت بين قصصهم وملامح مشتركة وإن بنسب متفاوتة، من ذلك مثلاً:
1 ـ إن الفلاح هو المقاوم الأول على أرض الجنوب، فمعظم القصص هو محورها، سواء كان مزارعاً في الحقل أو مربياً في البيت أو محدثاً في جلسات القيلولة أو نازحاً مؤقتاً إلى الجوار.
2 ـ إن ينابيع الاتجاه المقاوم تتجلى في: الينبوع الروحي والينبوع التاريخي والينبوع الواقعي، وللينابيع الثلاثة صلاة وثيقة بالمواطنين من خلال الدين كجامع مشترك، وكحافز على الفعل، وكمروض للنفوس على الصبر على المكاره، ومن خلال التاريخ القريب الذي ما زال راسخاً في أذهان الناس على هيئة حكايات تحكى عن الأتراك والفرنسيين، ومن خلال التاريخ البعيد الممتزج بالبعد الديني والذي يرقى صعداً إلى معارك الإسلام الأولى، ثم من خلال الواقع الذي يقدم لنا صوراً ثلاثاً، إحداها للوطن والأخرى للمواطن والثالثة للعدو.
3 ـ إن دور المعلم واضح في تنمية الوعي السياسي والاجتماعي، وإنه قادر على تحمل تبعة هذا الدور، بما في ذلك السجن.
4 ـ إن فرزاً مجتمعياً واضحاً أكدته معظم القصص، فالمواطنون في خندق، والسلطة وممثلوها وعيونها في خندق آخر، هذا في مجتمع السلم، أما في مجتمع الحرب فلم يختلف الأمر، فالذين كانوا مع السلطة، أصبحوا إلى جانب العدو، أما الفلاح الذي كان يقاوم الجفاف معتمداً على نفسه في ظل إهمال السلطة، فهو نفسه الذي يقاوم العدو في الظروف نفسها.
5 ـ إن المقاومة سلسلة متصلة الحلقات داخل الأسرة الواحدة، الجد فالأب فالابن بحكم التاريخ الطويل للناس مع كل العابرين.
6 ـ إن هذه الأعمال القصصية، تشترك في ملمح التحدي، وضرورة تحقيق الهدف، متخطية كل أنواع العوائق والصعوبات، وفي هذا تجديد مستمر للثقة بالنفس، وإثبات بأن "الفن والثقافة سلاحان، إذا ما سارا على النهج الهادف رفعا مفاهيم أمة بكاملها"، وإن النص الأدبي نثراً كان أم شعراً "ليس معزولاً عن خارج هو مرجعه"، وإن باستطاعة الأدب أن يجمع بين "الفنية والرؤية الاجتماعية والوطنية، وبذلك يعطي قيمته كاملة حين يصل إلى جمهوره".
إن الهم الوطني والهم الاجتماعي، جزء من الاتجاه القصصي المقاوم، ومثلهما الهم التربوي، وقد عاش الأدباء الثلاثة، واقعهم، واستمدوا تجاربهم منه، فهم من الجنوب، وإليه عادوا، والعود أحمد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق