لم تفتأ السيدة " ميرا إستفانوس", تتمتم بعينين زائغتين, و يدين باردتين رعبًا, و فزعًا مما رأت.. فدسَّت بجسدها النحيل, أسفل الغطاء السريري الثقيل..
تنبه زوجها العجوز " يوئيل جابي" من نومه؛ على إثر ارتعاشة جسدها, تلك التي أدت ــ بدون قصدٍ منها ــ إلى اهتزازاتٍ متتابعة بالفراش.. فجلس, يسألها:
ــ لماذا ترتعدي ؟! هل أنتِ بخيرٍ يا "ميرا " ؟!
لم تستطع الجدة ذات الشعر الأملس الأشيب, أن تنطق, و إنما امتلأت عيناها بالدموع..
ألحَ عليها زوجها:
ــ هل بكِ شيء ؟!
ثم لم يلبث أن قال حازمًا أمره:
ــ سأذهب لاستدعاء طبيب !
كشفت "ميرا" الغطاء عن وجهها المتغضن بالفزع, و هى تقول:
ــ لاحاجة لي بالطبيب.. أريد أن أنام وحسب !
ــ و لكنِّي لن أدعكِ و شأنكِ؛ حتى تخبريني ماذا بكِ !
قالها في إصرارٍ قاطع ..
تلعثمتْ المرأة, و هى تقول:
ــ لقد رأيتُ ........
ــ ها.. ماذا رأيتِ ؟!
ــ لقد رأيتُ السيدة, و الطفلة, ماثلتين بجوار الشاب الذي استأجرَ شقة الطابق السادس !
شحبَ وجه "يوئيل", فيما يغمغم:
ــ أرأيتِهما ثانيةً ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طال انتظار "مصطفى" على الطريق, ــ وهو يترقب قدوم سيارة تُقلَّهُ إلى حي الضاهر, للقاء "جابر" ــ غير آبهٍ بكافة العواقب الوخيمة التي قد تنجم عن زيارته لجاره المُسن في تلك الساعة.. فإن "فهيمة" و ابنتيها من هؤلاء اللواتي يمكنكَ أن تلقبهن بِــ "أهل الليل و آخره", و لا ينمن مبكرًا كمعظم السكان بالحي من حولهم ..
و لم يخبر "جابرٌ" الشابَ بأن "فهيمة", قد أقامت بشقته, و تستخدم أثاثه, و كل ماأرغمته على تركه خلفه من أغراضه, و أغراضِ أُمه الراحلة ..
لمن تكن مالكة البيت, ذات حاجة مادية؛ و إنما فعلت مافعلت؛ إمعانًا في إذلال الشاب الذي شغفها حُبًا, و آثَر الرحيل بلا شيء سوى كتبه, و ملابسه؛ عن إرضاء أنوثتها الشائخة, و جبروتها الذي لاعماد له سوى أموالها, و حُليها ..
ارتقى درجات الدَّرج العتيق, في هدوءٍ تام, حتى الطابق الثاني حيث شقة "جابر", و طرقَ الباب في غير ضجة.. و لكن طرَقاته لم تُوقظ "جابرًا" بعد..
فأخذ يطرق الباب في قوة, حتى جاءه صوت أنثوي تشوبه بعض الحشرجة التي تعقب شُرب الأرجيلة:
ــ مَنْ هُناك ؟!
لم تره "فهيمة", فمازال الصباح لم يٌسفر عن نوره بعد, و مازال سُلَّم البيت معتمًا, و إذ بـجابر, يشرع الباب, و يجذبه إلى داخل الشقة البائسة, و هو يُغالب اضطرابه, و يُثَبِّتَ سمَّاعة أُذنِه, قائلًا:
ــ إنه ابني يا "ست فهيمة".. ابني جاء ليطمئن على أمه !
عادت "فهيمة" أدراجها, وراحت تتوعد "جابرًا", قبل أن تدخل شقة "مصطفى" ثانيةً:
ــ اسمع يا من تُدعى "جابرا"؛ إذا لم تأتني بمصطفى؛ لألقيتُ بكَ, و بزوجتك المريضة, إلى الشارع.. هذا تنبيه أخير..
وعندها؛ فليَزُر ابنكَ أمه على قارعة الطريق !
قال الرجل في سُرعة؛ خشية أن تهبط عليهم من طابقها الثالث, "كالقضا المستعجل":
ــ سأبحث عن عنوان مسكنه الجديد و سأخبركِ.. تأمُريني سيدتي ..
ــ أسمعتَ يابُني ؟! لماذا أتيتَ, إني أتحمل من هذه المتعجرفة الكثير كل يومٍ, و ليلة؛ كي أدرأُ عنك أذاها.. أفتأتِي أنتَ برجلك إليها ؟!
قالها "جابر", في صوتٍ خفيض.. فيما يتلفتْ حوله فَزِعًا ..
ــ تحتَّمَ عليَّ المجيء يا عم "جابر", فاعذرني لقدومي في مثل تلك الساعة..
و الله ماجئتكَ إلا لأمر جسيم !
ثم سألَ جابرًا, مباشرةً:
ــ أين أبي ؟!
زاغتْ عينا "جابر", و نال منه بعض القلق.. و لكن "مصطفى" راح يواصل أسئلته بلاهوادة:
ــ لقد أخبرتني أمي قبل رحيلها بساعاتٍ؛ أنكَ تعرف إلى أين ذهب أبي..
حدَّقَ به الرجل, فلم يدع الشاب له مجالًا للحديث, و قال:
ــ أريد فقط أن أسأله لماذا فعل كل ذلك بي و بأمي ؟!
ممن كان ينتقم فينا ؟!
ربتَ الرجل على ظهر الشاب, في محاولة لتهدئته.. و لكن ثورة الشاب مازالت على أوْجِها, و راح يقول:
ــ لقد خِفتَ أن تلحق مالكة البيت الجديدة بي الأذى؛ فأبعدتني..
و لكنكَ ألقيتَ بي في مسكنٍ موحش, كل ما أراه و أجده به؛ مثير للريبة !
حارس العقار؛ لم أره سوى الليلة, و بعد منتصف الليل..
و طفلة الجيران, تهبط سُلمًا بالمنور, و تدخل شقتي, و تبعثر أغراضي..
و الأعجب, أنها تأتِي بأوقاتٍ غريبة.. و تتفوه بكلماتٍ كالأحاجي..
و أمها تصرخ في جوف الليل, تريد إطعامها !
و السيدة بالطابق الرابع؛ تحملق بي, ثم تذهب و هى تتعوذ !
و أنتَ يا عم "جابر", كلما وعدتني بالزيارة؛ أنتظركَ, و لاتجيء
ما الذي يمنعكَ من زيارتي يا عم "جابر"؟! !
امتقع وجه الرجُل, وقال متلعثمًا:
ــ كل مايؤرقك, وما قد يؤرقك بعد اليوم؛ لأهون عليك من جحيم "فهيمة", و ابنتيها ياوَلَدي !
صاح الشاب ــ دون شعورٍ ــ مستنكرا:
ــ إلى متى سأظل أسدد دين غيري ؟!
قطعَ حديثهما؛ نداء زوجة "جابر":
ــ مَنْ معكَ يا "جابر" ؟! ماذا يحدث ؟!
فقال الرجل في فزعٍ:
ــ اذهب يا بُني الآن.. وددتُ لو دعوتكَ للاستلقاء هنا حتى موعد العمل, ولكن ..
ــ "فهيمة".. أليس كذلك ! سأذهب يا عم "جابر".. و لكن لابُدَ أن تأتي لزيارتي الليلة, و أن تجيب كافة أسئلتي اليوم..
ــ أعدُك بذلك يا بُني.. و لكن اسرع أرجوكَ, فالنهار له عيون.. اذهب قبل أن .......
في لمح البصر, يمم الشاب وجهه صوب الطريق إلى مقر عمله الجديد.. حيث المكتبة الكبرى بميدان التحرير.. تلك التي ائتمنه صاحبها على مفاتيحها ــ وهو صحافي مثقف بالمعاش ــ لذلك كان على "مصطفى", أن يفتح المكتبة بتمام التاسعة صباحًا, و أن يغلقها بنفسه كذلك, بتمام الخامسة مساءً, مما أتاح له الوقت الكافي للمذاكرة, و التحصيل..
كما أن راتبه المُجزي؛ قد أهَّلَهُ لاقتناء بعض قطع الأثاث الجديدة, كمكتبٍ يستذكر عليه دروسه, و قام كذلك بتجديد طلاء الشقة, و شراء مذياع صغير, آنس بعضًا من وحشته, ووحدته بهذه الشقة التي لاصوت فيها سوى صوت أنفاسه ..
لم يُطِق البقاء تحت إمرة "الريس مدبولي"؛ بعد أن اختطف جميلته "هُدى", و أغرى والديها بحفنةٍ من المال, قد ضحَّتْ بها "فهيمة" طواعيةً في سبيل ذلك الهدف المنسوج بمغزل الأبالسة؛ حتى تسد عليه طريق الحب, و الزواج من الفتاة التي اختارها فؤاده, و لايتبق أمامه سواها..
فالحب, و قد فُقِدَ ..
و البيت, لم يعد بحوزته..
و كذلك العمل, الذي إذا لم يغادره بنفسه؛ غادرهُ مدحورًا ..
كان الميدان شِبه خاليًا, فمازال الشفق يتسلل في كسلٍ.. وبعض السائقين مازالوا يقفلون بسياراتِ الأجرة, عائدين إلى بيوتهم, بعد انقضاء نوباتجية الليل..
و عدد قليل من الأتوبيسات, و سيارات الميني باص, تجيء, و تروح من حوله..
فتَّشَ جيبيه, و سترته جيدًا, بحثًا عن مفاتيح المكتبة, ولكنه لم يعثر عليها..
فكان لِزامًا عليه أن يعود إلى مسكنه المُؤرق ليجلبها..
و كأنما تدور به الأرض.. و تدوِّخه.. و ترمي به إلى قاعٍ سحيق ..
عاد إلى البناية ــ حيث يقطن ــ فإذ بِالرجُل الذي رآه ليلة أمس, يركض حتى نهاية الشارع..
ــ نعم.. هو .. هو بعينه..
قالها في نفس, و قلبه يضرب بقوة..
كان الرجل بعقده الخامس تقريبًا, ذو بشرة مشربة بِسُمرةٍ, يحمل بعض أكياس الخضروات, و المُعلبات الغذائية, و يسلمها إلى السيدة بالطابق الرابع..
لم يتنبه ــ ليلة أمسٍ ــ إلى أنها عجوز يربو عمرها عن الستين عامًا..
فقد بدا وجهها تخططه خطوط الشيخوخة البارزة.. و بدا شعرها رمادي, تبرز غُرة بيضاء خالصة بمقدمة رأسها..
ما أن رأته المرأة؛ حتى انتابها بعض الخوف, و دسَّتْ بعض الأوراق النقدية بيدِ الرَّجل, في عُجالة.. و سرعان ما صفَقَت الباب خلفها..
و ما أن التقى الرجلَ وجهًا لِوجهٍ, حتى أطلقَ الرجُل ساقيه للرياح, و هبطَ مسرعًا, كأنما رأي شبحًا !
ـــــــــــــــــــــــ
تلاحقت الأيام, في سباقٍ متوالٍ, حتى كانت هذه الليلة التي لاتُنسى..
لم يكن روتينه اليومي بجديدٍ؛ إلا من أمرٍ مثيرٍ للعجب..
إذ استلقى, كعادته بعد أن كبس مفتاح الكهرباء, ليغط في نومٍ عميق, و قد تدثرت أرجاء غرفته بالظلام..
إذ استفاق على صوت جرس الشقة, فإذ به يكتشف مجددًا أن التيار الكهربائي منقطع كمعظم الليالي بهاكَ الوقت..
إنه "سُليمان" حارس العقار..
ــ لماذا يأتيني ذلك المختل بساعاتٍ متأخرة دائمًا هكذا ؟!
أسرَّها في نفسه.. و أنصتَ للرجل ليقول بلهجته الجنوبية الملحوظة:
ــ السيدة "نادية ", تدعوك غدَا لتناول العشاء, بشقتها بالطابق السابع, في تمام الثانية صباحًا..
* أسماء الصياد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق