اليــــوم عــــــاد…
نزل عن راحلته بعد أن شعر بدوارٍ رهيب؛ يُغلّفُ رأسه. تحسّسَ ضباباً يغزو عينيْهِ، استشعر رعشة في مفاصله، حاول الحركة؛ لكن ترَصّدهُ عجز كبير….خمّنَ: ” أ..أ.. أصرخ … لعلّ صوتي يصل إلى كائن ما…؟”
تنحْنح ببطء؛ وكأنه يتفقّدُ حِباله الصوتية…. تنحنح ثانية، ثمّ صرخ… أو تهيّأ له أنه صرخ!
لحظات… تساقطتْ من شلّال العمر، صحِبتها رياح شديدة هبّتْ؛ فكستْ وجهه حبُيْباتٍ
من التراب. رفع إحدى يديه، يحاول إزاحة الحبُيْبات مِنْ على وجهه، تضاعف عددها أمام إصرار الرياح… حُبيبات أخرى تتجمّعُ على صدره… يشعر وكأنّ نمْلاً؛ يُمارسُ – على جسده العاجز- طقوس الاِجتهاد في اذّخار المؤونة….!
مِنْ رُكبتيْه إلى مُنْتهى ساقيْه؛ تتكلّسُ عروقه، يُحاول أن يتزحزح… المحاولة؛ تُصادف هبوب عاصفة جديدة؛ تقتلعه من المكان… يتدحْرج….ويتدحْرج إلى ما لا نهاية…!
لا يعي؛ كم مرّ عليْهِ من الوقت؛ إلى حدِّ هذه اللحظة التي صحا فيها… لم يعد يشعر بالدوار، غادر الضباب عيْنيْه، اِنتعشتْ عروقه، أحسّ بخفّةٍ في جسمه؛ تُحفّزُهُ ليقوم، ليمشي، ليجري، ليصعد عتبة الحياة عند أوّل محطة ترتسم على جُدران ذاكرته…!
أزْمنة بِعيْنِها… تستدرجه… أسرابٌ من الطيور تتجمهر فوق المكان، يُرْهِف السّمع لرفرفاتها… يتصورُها تراتيلَ حالمة تخْترِقُ سمفونية الأساطير، لتنسج من ذرّات الهواء دفاتر اليقين على حوافّ سنوات العمر المتهالكة…! وبين أزمنة راكضة، وأخرى اغتالتها الرياح؛ تتراءى له آثار بلدته الجميلة، يرنو إليها وجمر الشوق يُلْهِبُ جوارحه…
رحلة… البارحة….
خرج “يوسف” إلى الغابة؛ بِنية الِاحْتطاب مثل العادة… فجمْعُ الحطب هي الحِرْفة التي ورثها عن أجداده…ظلّ قرابة صباحٍ كامل مع القليل من فترة الزوال؛ ينتقي الأجْوَد مما تزخر به هذه الغابة الكبيرة… مِنْحة طبيعية؛ ضمنت له ولأجداده من قبلُ؛ العيش المستور حيث اشتهرت الأسرة بالتسويق للحطب وبيْعِه خاماً لِدكاكينَ صغيرة في قريته وفي القرى المجاورة، بينما تتكلف هذه الدكاكين بالاِتّصال بتُجّار المدينة…
على فرس؛ بعربةٍ خشبيةٍ عتيقة، كان يحمل حزم الحطب، ويتفنن في ترتيبها وكأنه يرتّبُ أحلامه على خارطة الغيب؛ المنفلت من رزنامة القادمات من الأزمنة…!
قضى الساعات الأولى من الصباح في انتقاء الأجود… بعين فاحصة، وذراع قوية، وهمة عالية، كان يخوض مغامراته داخل فضاء حرّ… فضاء رسمته الجذوع والأعشاب والأوراق المتساقطة من الأشجار الباسقات…وكأنها إنما تسقط؛ لتُعانِق الأرض في حميميةٍ أخيرة على ناقوس خريفٍ أصْفر، امتصَّهُ الشّحوب، وقضمَتْ عودَهُ العِلل….!
لحظات للراحة… يتناول “يوسف” خلالها بعض الخبز والتمر والتين المجفّف… وجْبةٌ يسدُّ بها رمقه ريثما يعود إلى البيت؛ وقليلاً ما كان يستبدلُ هذه الوجبة بحبّاتِ بيضٍ مسلوقة وحفنة زيتون أسود، يرتشف بعدها كأس الشاي الذي تعوّد عليه إلى حدّ الإدمان…إنه شايُ والدته؛ المُعَتّق داخل إبريق حافظ للسخونة طيلة اليوم…. كان يرتشف كأس الشاي بُمتعة كبيرة؛ تتخللها تأمّلات عميقة لهذا السكون العجيب الذي يلُفُّ الغابة… وهذا الهواء العليل الذي يغسل أطرافها وكأنه يُنَقّيها من إثمٍ آدمي؛ سيُطاردُها حتّى أجلٍ معلوم….!
عندما تتكسر الإغفاءة…!
كثيراً ما كان يُغمض عينيْه في إغفاءة لذيذة؛ تمحو مَشقّة يوْمه…. وتسمح له بأن يحلم بغدٍ أفضل… غد… يكون فيه هو “التّاجر الكبير”… هو الآمِر…. هو المُهاب.. الذي يُحسَبُ له ألف حساب… كان يحلم بنقلة كبيرة في حياته.. لكن سرعان ما تتحوّلُ هذه الإغفاءة اللذيذة إلى مُحادَثة نفْسِية؛ غارقة في الشّجن… سئم من قلق الأيام… من الدّرس الذي تُكرِّرُه عليْه نفسه في كلّ حين: “يليق بك أن تختار مسلكاً جديداً في حياتك… الأجْدرُ لك؛ أن تبحث عن عملٍ آخر، يضْمن مُستقبلك… يرْتقي بكَ إلى حيْث الرّفاهية؛ التي ستسمح لك بتحقيق أمْنيتك… تريدُ أن يكون لك إسمٌ؛ يخشاه ذلك الذي ردّكَ مقهوراً يوم خطبْتَ ابْنته…! لمْ يكتفِ بِردّك، وإنما راح يُنكّثُ عليك أثناء جلساته مع مَنْ يُشبِهونَه في المقهى… ! الصبي “حمادة” الذي يشتغل في مقهى “جلولي” هو مَنْ أخبرك… كنتَ تعطف على هذا اليتيم، وتسأل أمّك أن تمنحه عطفها أيْضاً… فتطعِمه الوجْبة السّاخنة، وتخيط ما تمزق من ثيابه، تعالجها بالترقيع الدقيق، حتى تبدو الرُّقع وكأنها رُسومات للزينة…! فأمُّك في شبابها كانت خيّاطة ماهرة، تقصدها نساء القرية بالطوابير….” هذه المحادثة النفسية لازَمَتْه لِوقتٍ طويل، ولم يعد بالإمكان تجاهلها….
“حمادة”… الشاهد المحجوب…
“حمادة”؛ الصبي الذي اختفى والده في ظروفٍ غامضة…. وماتت والدته بصعقة كهرباء في إحدى الليالي البارِدات من ليالي فصْلٍ مُمْطر، وطبيعة غاضبة، حانقة، هزّتْها بَشاعة الآدَمييّن يومَ تبرأوا من الآدمية….! تناوب الجيران على إيواء حمادة الصغير، طيلة السنوات الأولى مِن فقدهِ للوالديْن… وعندما اشتدّ عوده؛ توسّط له بعض الجيران لدى صاحب مقهى البلدة؛ حتّى يُشغِّله عنده…. ها هو يُنظّف الطاولات… يكنس الأرض… يغسل الكؤوس… يُنضّدُ الكراسي بعْدَ مُغادرة المُرْتادين… بين الفينة والأخرى؛ يمسح زجاج الباب بعد أن يصعد على كرسي خشبي قديم؛ فيتمكن من تنظيف الجهات العليا من الباب، ثمّ ينزل ويجرّ الكرسي إلى الجهة الأخرى؛ حيث توجد بعض الصور المُعلّقة على الجدار؛ فيمسح الغبار عنها، وهي التي تآكلتْ أطرافها، وقد يتأملها للحظات… يسهو في تفاصيلها.. صورٌ بالأبيض والأسود لِوُجوه أشخاص، لِأماكن، لِجثامين، تحْتها كتابةٌ رثّتْ سطورها، ولم يبق منها سوى أحرفٍ متفرقة. ولأنه لم يكن يعرف القراءة والكتابة، لم تكن تهمّه الحروف المتناثرة، بقدر ما كانت تهمُّه الوُجوه المصوَّرَة… كان يتساءل في كل مرة: “لِمنْ هذه الصّور…؟ هل هي لِأسْرة “جلّولي” صاحب المقهى…؟ أمْ أنّها لِلناس الذين تعاقبوا على تشغيل هذا المقهى…؟ تتوقف تساؤلاته؛ يوم استمع لأحد الجالسين وهو يحكي لرفاقه عن تلك المآسي التي أغرقتْ هذا المكان أيام الاستعمار… كان الرجل يشير بإحدى يديه إلى الصور المعلّقة، يروي بُطولاتِ أصحابها ويترحّمُ عليهم بين الرِّواية والأخرى.. يُعقّبُ بعض الجُلّاس بحماسٍ كبير: “شموع الحرية لا تخبو… فرسان الشهادة لا يموتون…” يفهم الصبي “حمادة ” قيمة تلك الصور، ويحرص على مسح الغبار عنها في كل آن… تساوِرُه أمْنية: “ليت صورة أبي كانت مع هذه الصور…!” أمْنية البراءة لِطفلٍ؛ لا يعي أنّ والدَه قدْ وُلِد بعْد الاِسْتقلال ِبسنواتٍ عِدّة….!
كان “حمادة” لا يغادر المقهى إلّا عندما يكلّفه “جلولي” ببعض الأمور الصغيرة؛ أو إذا ذهب لزيارة والدة “يوسف” بعد أخذ الإذن من العمّ “جلولي” . في الليل؛ ينام في زاوية منعزلة حيث يوجد فراشٌ وغطاء؛ تكرّم به صاحب المقهى على الصبي… هذه الملازمة للمقهى ستجعله فيما بعدُ؛ عالِماً بعقلياتِ المُرْتادين وأنواعِهم… طباعهم…. حكاياهم…. أمْزجتهم…. أخْلاقهم…. وحتى بعْضاً مِنْ أسْرارِهم؛ حين يرْوُونها أمامه؛ بهمْسٍ فيما بيْنهم، ظنّاً منهم أن النّادل الصّغير غير آبهٍ بكلامِهم….كان حين يقوم بتقديم الخدمات؛ يشتغل بيديْه وأذنيْه…! وقد يُبحْلقُ في هذا المُتحدّث أوْ ذاك، فتشْخَصُ عيْناهُ لِغرابةِ ما يسْمع… ويودُّ أن يتقاسم هذه الغرابة مع “يوسف” فيروي له حكايات المُرتادين؛ بينما تكون أمُّ يوسف بصدد إعداد أُكلة تقليدية للصبيّ، أو تكون منشغلة بغسل ثيابه ومحاولة تجفيفها أمام الموقد….
في إحدى الأمسيات؛ دخلتْ وجوهٌ جديدة إلى المقهى، كانت في حدود ثمانية رجال… رحّب بهم العمّ “جلولي” وأمر الصّبي بالإسراع في خدمتهم وتلبية طلباتهم.. إجتمعوا حول فناجين القهوة، وراحوا يثرثرون؛ بينما “حمادة” يشتغل بِيَديْه وأذنيْه….! لم يفهم الصبي معظم الكلام، فمُرورُه بيْن الطاوِلات؛ لتقديم الخدمات لِبقية المُرْتادين؛ كان يُنَغِّص عليْه دقّة الإلتقاط لِما يسمع…! بعد مضي بعض الوقت؛ قام اثنان منهم، قصدا العمّ “جلولي” وطلبا منه أن يخرج معهما في هدوء إلى حيث الباب الخلفي للمحلّ…. أراد أن يسأل عن السبب؛ لكن جمَد َالسُّؤال في حلقه؛ حين نبّهَهُ أحد الإثنين إلى خنجر تحت معطفه….! يلتفت الصبي؛ يُلقي نظرة على السِّتةِ الباقين حول الطاولة، يتظاهر بِجمْع كراطين السّكر الفارِغة، وعُلب القهْوة المُسْتهلكَة؛ يحْمِلُ ما استطاع، ويخرج لِرمْيها في المَفرَغة؛ حيث الباب الخلفي…وحيث أصوات الرجال تعلو وتنخفض….! سمع “حمادة ” ما فيه الكفاية….! أدرك أنّ هؤلاء يطلبون من العمّ “جلولي” أشياء تتعلق بأعيان البلدة: تنقلاتهم، أصْهارُهم، معارفهم، ممتلكاتهم، مواعيد تواجدهم بالمقهى، وأشياء أخرى لم يفهمها الصبي بسبب انخفاض الأصوات بين الفينة والأخرى…. لم يكن العم “جلولي” يردد سوى عبارتيْن اثنتيْن: ” لا علاقة لي بالأعْيان، ولا يهمُّني أمْرُهم….” وعندما سألوه عن أسماء الموظفين من أبناء البلدة، علق ساخراً: ” أنا صاحب مقهى، لا صاحب مكتب حكومي…!” رفع أحدهما إحدى يديْه ليصفعه، غير أن الآخرَ تدخّلَ وجرَّ صاحبَه؛ مُتمْتِماً بكلام؛ لم يستوعبه لا العم “جلولي” ولا الصّبي “حمادة” الملتصق بالجدار والذي أغرقته الدّهشة فتسمَّرَ في مكانه ونَسِيَ عمله داخل المقهى…. بعد لحظات؛ عاد الرجلان إلى الداخل، يتوسّطهما العمّ “جلولي” بعد أن أمَرَاهُ بالهدوء ووَعَدُوه ُبعَدمِ أذِيته، طالما حفظ لسانه…..!
غادر ثمانيتهم المقهى؛ بينما جلس العمّ “جلولي” على كرْسيّه المعتاد، العرَقُ يُبلّلُ معظم جسده والدهشة تأكل فؤاده… أما “حمادة” فدخل بين الطاولات؛ يخدم أصحاب الطّلبات، ولا يستوعب الذي حدث، غير أنه يودُّ اقتسامه مع “يوسف” عند أول فرصة تسمح له بالخروج من المقهى..
بين توْقيتيْ المغرب والعشاء؛ إستأذن الصبي وخرج قاصداً بيْت “يوسف”، ليسترجع ملابسه المغسولة من عند الحاجة “رَحْمَة”، وفي طريقه؛ مرّ ببيْت العمّ “جلولي” لِيُسلّمَ بعض الأغراض التي كلّفه صاحب المقهى بتوصيلها إلى أهله…
في عجالة، لخّص “حمادة” أحداث المقهى لذلك اليوم… “يوسف” يستمع… والحاجة “رحْمَة” تجمع الثياب المغسولة بعناية؛ داخل كيس بلاستيكي وتسلّمها للصبيّ؛ مع صحنٍ من الكسكس الذي عطّر الأجواء بِعَديدِ توَابِله…. يُقبّل “حمادة” يد العجوز وينطلق سعيدا كعادته إلى مأواه… المقهى….! أمّا “يوسف” فجفاه النوم تلك الليلة؛ رغم التعب الذي نخره طوال اليوم وهو بين جمع الحطب وإغفاءة الغضب….!
الفـتـيــــل….
لم تكن أحاديث النفس؛ لتفارق “يوسف” عند كل إغفاءة…. أو عند لحظات التّأمل التي تبحر به في عوالم بعيدة… لم يكن يستطيع الخلاص من هاجسه الشديد: ” إلى متى وهو حطاب ابن حطاب… السلالة كلها اشتهرت بهذا اللقب… متى يتغير الوضع…؟ ” إنه يشعر بضيق يكتم أنفاسه، ويخلخل توازنه، يحاول إخفاء حاله عن والدته الحاجة رحْمة؛ حتى لا تصاب بالخيبة….! فهي تُقدّس هذه الحرفة، وترى فيها كل الخير والبركة، تستيقظ مع أذان الفجر، تصلي وتدعو لِابْنها… ثمّ تُعدّ فطور الصباح وتذهب لتوقظ “يوسف”؛ ظنّاً منْها أنّه يغط في نومٍ عميق… ولكنه في الحقيقة، كان يسمع خطواتها ويحْسِبُ كلّ حركاتها وهي تتنقل بين أرْجاء البيت الصّغير، لتستقرّ – أخيراً – في المطبخ، حيث سيدخل يوسف ويُقبل يدها ويجْلسان لتناول فطور الصباح… ثمّ تُودّعه وتُسلّمه زاده المعتاد….يمرّ يوسف بالإسطبل ليأخذ الفرس ويتجه صوب الغابة…. روتين يومي؛ يُضاعف امتعاضه، يخنق أحلامه… يبصق كذا مرة على الأرض؛ وكأن في حلقه ما يودّ التخلّص منه…يدخل الغابة بعد وقتٍ قصير، يركن دابته إلى جذع شجرة بعد أن أحكم عقالها، ويمشي متأنياً، يمسح بعينيْه جمال المكان، رغم ما ينفثه صدره من الآهات الحارقة..!
قضى صَباحَهُ بين الجمْع والاِنْتقاء… حتى إذا حلت فترة الراحة، استلقى على ظهره؛ متأمّلاً عرض السماء… كان يتتبّع بعيْنيْه الواسعتيْن؛ طولَ الأشجار، ويتخيل لو أنه كان بالإمكان؛ في يومٍ ما؛ أن يصل إلى أعلاها ويطلّ من فوقها على الأرض… على الناس… على الحياة… سخر من نفسه عندما خطر بباله أن أغلب تُجّار بلدته؛ يقضون مُجْمل أيّامهم في السّماء؛ مثل الطيور… ينتقلون من دولة إلى أخرى، وعندما يعودون؛ يتباهون في مقهى العمّ “جلولي” بما رأوه… بما سمعوه… بما اشتروه…. بما عاشوه… يتغامزون… يتندّرون و”حمادة” مثل آلةِ التّسجيل؛ لا يفوته شيء….! سحب “يوسف” نفساً عميقاً، اعتدل في جلسته، أخرج زاده المعتاد؛ وبدأ يتناول ما وقعتْ عليه يده؛ بينما العينان في تيهٍ بعيد والذهن في شرود شديد، لم يستفق منه إلا على وقعِ أقدامٍ؛ تقترِبُ من وراء ظهره…. استدار واللقمة بين أصابعه…. أراد أن يقف… لكنهم أشاروا عليه بالبقاء جالساً. تحلقوا من حوله؛ بعد أن تخلصوا من الأجْرِبة الثقيلة التي كان بعضهم يحملها على كتفيْه… واحد منهم؛ لم يشأ إلقاء جرابه، ظلّ محتفظاً به، وظهره مسنود بأكوام الحطب التي جمعها “يوسف” منذ الصباح.
بين الذهول والفزع… تتقطع الكلمات….يحاول “يوسف” أن يتلفظ بما تبادر إلى ذهنه؛ غير أن العجز يشلُّ لسانه… يُبحْلق في هؤلاء… إنّهم ثمانية….! يتذكر حكاية الصبيّ… ينتظر ما المطلوب منه… أو قلْ ينتظر مصيره….!
كانت تعاليمُ كبيرِهِم واضحة… وجّهَها إلى يوسف في عنْجَهية مقيتة… لم يكن من العسير إقناع الحطاب ! سيفعل ما يريدون، فهو ابن البلدة؛ العالِم بتفاصيلها، وهو ذاك البعيد عن الشكوك، سيحمل “الأجربة الثقيلة” تحت حُزم الحطب الكثيرة، ستبدو الحمولة عادية… يدخلها إلى الإسطبل؛ يرْكنها في إحدى الزّوايا المُظلمة، ويغطيها ببعض الحطب، ويسلّمهم نسخة من مفتاح الإسطبل، حيث يتسللون ليلاً لمباغتة العباد وتعليق الرّقاب….! سيكون له نصيب من الأموال المنهوبة، سيرتقي في سُلّمهم وفي منْطِقهم؛ إلى الدرجات العليا… سيندم ذاك الذي رفضه عندما تقدم لخطبة ابنته… سيثأر من أيام الغبن والقلق والتفكير المضني الذي سيسلمه إلى مقصلة الجنون….! تعاونَ “يوسف” معهم إلى أقصى حدّ.. وجدوا فيه الخادم الأمين، “التابع” الذي قدّم الولاء، عندما زاغت عيناه وهي ترصد المنهوب من الأموال والحِلية … بل وتتسع العمليات لتشمل المناطق المتاخمة للبلدة، يشارك فيها “يوسف” بنفسه… يقتل دون أن يرفّ له جفن… يصبح واحداً منهم… في النهار قِناع.. وفي الليل قِناع…! يرتزق مع المُرْتزِقة، همُّه الوحيد أن يحقق الرّبْح الكثير في الظرف الوجيز…! شهوة القتل تتسع… يلاحظ “يوسف” أن الإغارات لم تعد خاصة بجلب الأموال…. يستعصي عليه الفهم ! يستغل تواجده إحدى الأمسيات؛ بالقرب مِنْ “كبيرِهِمْ” وحين يلمس رِضاهُ ونشوَتهُ بعملية الليلة الماضية… يُبادرُ إلى السّؤال: “لماذا نُهاجِمُ مَنْ لا منفعة لنا من مهاجمته…!؟ ” يتظاهر “كبيرُهُم” بِعَدَم الِاهْتمام… يتحسّسُ خنجره، يُمرّرُ عليه أصابعه الخشنة، يمد يده إلى كأس الشاي ويرتشف رشفة كبيرة؛ ثم ينهض… قبل أن يخطو خطوته؛ يلتفت إلى يوسف؛ يحدجه بنظرة لها ألف معنى….
هجوم الليلة الموالية، سيُعَزّزُ ارتيابَ “يوسف”…! هاجموا مُنشآتٍ إدارية، فجّروا مكاتب عامة، جمعوا سكان البلدة، تناوبوا على تعذيبهم قبل تقتيلهم، اختلط صراخ النساء ببكاء الأطفال، أحرقوا الرطب واليابس، توعّدوا من بقي على قيد الحياة؛ أن دوره آتٍ لا محالة….! دم ونار ودخان…. عويلٌ وشهيق… جسدٌ صغير يتململ تحت الرّكام، ينتفض بين الكراسي المحترقة والطاولات المُهَشّمة، يرفع إحدى يديْه في الهواء الملغوم…. يُلوِّحُ مُحاوِلاً لفتَ انتباهِ ذاك الشبح الذي يُطلُّ من وراء النافذة المكسورة….! يتقدم الشبح الملثّم، يرفع الصبيَّ إلى أعلى، ينظر إليه بإمعان… يهمُّ بالكلام…. غير أنّه يترَاجع، ويكتفي بإخراجه من الركام، من الدخان، يُجلسُهُ وراء الحائط الخلفي؛ يربت على كتفيْه… ويرْكض في الاتّجاه الآخر… يُفاجَأ بِكبيرِهم؛ ينْتصبُ أمامه؛ ويأمرُهُ أنْ يلتحق بالبقية….!
لا يدري “يوسف” كيف صدرت عنه تلك الصرخة المدوية في وجْه الآمِر.. كيف انتفض انتفاضته هذه…؟ لا يدري كيف انقضّ عليه؛ ولفّ أصابعه على رَقبته؛ مُحاوِلاً خنْقه… مِنْ أيْنَ استشعر شجاعة كهذه…! مازال يضغظ ويضغط على الرّقبة… وقبْل أن يسقط الوحش؛ إذا بأحدهم يتسلّلُ وفي يده ساطورٌ؛ يرْفعُها إلى الأعْلى؛ ويَهْوِي بها على رأس “يوسف”…. ثم يرْمي بالسّاطور؛ ويُسارع إلى جسّ نبْض “عرّاب الموت”….!
خلال إغماءته؛ والدّمُ يتدفّقُ منْ وَراءِ إحْدى أذنيْه، تتراءى له صورةُ وَالدتِه وقد عُلّقتْ على جذع شجرة، والساطور يُقطع أطرافها ويرمي بها فوق أعشابٍ حانقة؛ تستنكر فظاعة المشهد….!
يصرخ يوسف صرخته الأخيرة… تستيقظ “الحاجة رحْمة” من نومها؛ في حال ذعْرٍ شديدة….تهرول نحو غرفة ابنها، يمتقع لونها وهي تضع يدها على جبين “يوسف”؛ العَرَق يُبلّلُ كل الجسد، تُبَسْمل، تُحوْقل، تحاول أن تقرأ المُعوّذتيْن؛ تناجي الأولياء الصالحين وتستنجد ببركاتهم، تُمرِّرُ يدَها على رأسه المُشتعلة بالحُمّى…تهزُّهُ هزّاً مُتتابِعاً.. تهْرعُ إلى خزانة خشبية صغيرة، تستخرج منها قارورة قطران صغيرة، تُمرّرُها تحت أنْف “يوسف”…. الرّائحة الحادّة؛ تتوغل في تجاويف الأنف، يسعل يوسف، يفتح عينيْه ببطء شديد؛ تقع عينُه على والدته بقامتها الطويلة… يتنفس الصعداء….!
تبتهج الحاجة رحْمة؛ وهي ترى بوادر الِانْتعاش على مُحيّا الشاب…. لحظات، يتحامل بعدها “يوسف” على نفسه؛ يعتدل في فراشه؛ بينما تتلهى والدته؛ بترتيب وسادتيْن وراء ظهره ليستند عليْهما… يشعر بالتهابٍ على مُستوى الأنْف؛ يتحرك ليُغادر الفراش؛ فتتدفّقُ قطرات الدم من أنفه… يدعو والدته أن تأتيه بقطعة قطن…. تسارع إلى خزانتها وهي تدعو الله أن يعود هذا الشاب إلى سابق عافيته. تتأمل وجهه وهو يحشو أنفه بالقطن؛ تحْضُرُها صورَة والدِه حين كان يتعرّض للرُّعاف… كانت تُسعفه بماء الخلّ، يغمسه في القطن؛ ثم يحشو به أنفه، وعندما تدعوه لمراجعة الطبيب، يبتسم ويكرر عبارة واحدة: “الرُّعافُ لا يقتل !”
يقطع يوسف تأملاتها؛ يُقبّلُ رأسها، ويُكرّرُ عبارة وَالده: ” الرُّعافُ لا يقتل !” تمسح على رأسه، وتدعوه لاِحْتِساءِ فِنْجان قهْوة…. يُلبي الدّعْوة؛ وكُله أمل في التّخلص من هذه الكوابيس التي دفنتْه في الغيم، واستكثرت عليه ضوء الشمس..! بين الرّشفة والأخرى، يتخيل عودته إلى غابته الجميلة، بطقوسها المهيبة، بخيراتها الكثيرة، بِعُشبها البهيج وهو يستعدّ لمعانقة قطرات المطر بروحانية لا تفهمها سوى السماء..
*أديبة وأكاديمية جزائرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق