يدرك تمامًا أنه ليس وحده, لا بد أن كثيرين يشاركونه المكان, تلك الحمامة الراقدة على بيضها في مدخل المغارة, يراها ويسمع هديلها الخافت, وهناك آخرون, لا يراهم عيانًا, يشعر بوجودهم, ربما يرونه من حيث لا يراهم فليس كل من يراك تراه, لكن ذلك لا يرهبه بأي حال ولا يجعل قلبه يغور في جوفه كما اعتاد أن يفعل عندما كان الكبار يروون حكايات المغارة وساكنيها وأصوات الليل التي تنبعث منها وما يحدث لمن تسوّل له نفسه المرور من قربها أو النظر إلى بابها المعتم, كان يشيح بنظره بعيدًا عندما يقوده الطريق
إلى جهتها ويغمض عينيه خوفًا من أشباحها في حال دنوّه منها ,ولكن ها هو الآن يقبع في حضنها, بين جدرانها الرطبة وسقفها الذي تتدلى منه عشرات الأثداء الحجرية يقطر منها الماء نقاطًا تهوي إلى الأرض على مهل عازفة لحناً خافتًا بإيقاع مخيف.
نعم إنها مغارة "مقديس" الموغلة في جوف الجبل, لطالما كانت مأوى للفراريّة وقطاع الطرق يحتمون بها من أعين الدَرَك, الآن لم يعد يقربها أحد, لا حاجة لأحد بالاختباء بعد أن أصبح الوطن كله مغارة كبيرة يأوي إليه كل من هبّ ودبّ, الآن هو وأمثاله من يلجؤون إلى المغارات, عندما كفر قومه بالإنسان اعتزلهم وأوى إلى الكهف علّه يجد من أمره رشدًا .
يريدونه وقودًا لحربهم, قطعة حطب أخرى يلقونها في المحرقة حتى لا تخبو نيرانهم المتأججة على الدوام. لكنه لا يريد أن يَقتل, لا يريد أن يزهق أرواحًا لا يعرفها ولا تعرفه, ليس خائفًا من الموت, يعرف أن لكل أجل كتاب, ولكن ما الذي يستحق أن يريق دماءه لأجله في هذه الزوبعة التي لا يبين منها أرض ولا سماء .
قبل أسابيع أرسلوه إلى قريته في إجازة مرضية, عاد حاملًا جراحًا نازفة وساقًا مكسورة ينتظر شفاءها ليعاود الالتحاق بقطعته, لا يملك من أمره شيئًا, هم يريدون ويقررون له أين يكون وماذا يفعل. هاتفه رفيقه قبل أيام, قال له أن كل من كان في قطعته رحلوا إلى العالم الآخر على متن قذيفة حارقة قدمت للطيور وليمة دسمة أشبعتهم لأيام لكنها لم تشبع الغول النهم إلى مزيد من الدماء .
قال له صديقه: " لا تعد, لن يعرف أحد إن كنت بين الأموات أم الأحياء ". لم يعد, و ها هو الآن بلا هويّة ولا شيء يثبت كينونته. ولكن ما حاجته إلى هويّة هنا ؟ الجميع يعرفونه, يعرفون أباه وجده وجد جده, يعرفون يوم ميلاده والوحمة السوداء في بطة ساقه, والجرح الغائر في كتفه يوم قفز عن السنديانة الكبيرة إلى النهر وجرحه أحد أغصانها الحادة, لمَ يريد هوية في قريته, يمكنه أن يتنقل من حاكورة إلى أخرى وينزل إلى العين يملأ كفيه ماء زلالًا ويعبّ حتى الارتواء .
العيون الخائنة ألجأته إلى هنا, البارحة جاءت دوريّة على أثر وشاية, باغتوا القرية عند المساء, عندما كان الجميع مطمئنين في مجالسهم, فتشوا الدور والبساتين بحثًا عن الشباب الفارين, أمسكوا بالبعض وتمكن الأخرون من الفرار, لم يجد وقتًا لحمل زاد كافٍ, وحتى الآن لم يأت أحد ليبلغه بإمكان عودته .
تحسس في جيبه بعض حبات الجوز وبعض من تين مجفف, تناول شيئًا منها البارحة, لم يتبق الكثير, إلى متى ستسد هذه الحبات رمقه ؟ .
خفقُ أجنحةٍ يقطع عليه تداعياته, الحمامة في مدخل الغار تطير فوق العش تعلو وتهبط, تهدل بهلع, وكأنّما أصابها مسٌّ .
من شق في إحدى الصخور يلمح ظلًا أسود يزحف على مهل, تجلّت أمامه أفعى, ها هي تمدّ رأسها تتقدّم قليلا ثم تنكص راجعة عندما تهيج الحمامة وتضطرب, شغله المشهد عن هواجسه, ها هي ساحة معركة أخرى تقوم أمامه, لا مناص من القتال !!
تأهب مستشرفًا الحدث, البارحة قذف الأفعى بحجر فاختفت, لكنها اليوم تعود, لعل الجوع شغلها عن الحذر, تحسس في جيب سرواله الخلفي الموس الكبّاس, تناوله بأصابع مترددة وأخذ يقلبه في كفه, هل يرشقها بضربة عاجلة, حدّث نفسه وهو يتأمّل الأفعى تزحف على مهل .
لكنها لا تبغي سوءًا ! لا تريد سوى الطعام, ما ذنبها إن كانت هذه الحمامة قوتَها ؟ ربما تفرّ الحمامة وتترك للأفعى بيضها لتنجو بحياتها, هل غريزة البقاء أقوى أم غريزة الأمومة ؟ لا يعرف كيف تفكر هذه البهائم, ولا يعرف أيضًا إن كان عليه أن يدع الحياة تسير في مسارها أم يعترض طريقها بفعلٍ!
اشتعل رأسه رهباً, انبسطت ذراعه ونترت إصبعه قبضة الموس, قذفت كفه المديّة فاستقرت في عنق الأفعى وثبتتها في مكانها قبل بلوغها العشّ بقدر عقلة, هوى السواد إلى الأرض ينفض ما تبقى فيه من رمق, مازالت الحمامة ترفرف غير بعيد عن عشها, لم تأمن عدوها بعد, لم تدرك أن هذا الشيء الذي يتلوى وينتفض أمامها على الأرض يلفظ أنفاسه الأخيرة, لم تدرك أن من كان على وشك أن يسلبها حياتها قد فقد حياته, مازالت تحوم بوجل, تنتظر أن تهمد وتخمد حتى تعود إلى عشها, يبدو أن غريزة البقاء أقوى .
مرّر رأس الموس على الصخرة وحفر خطًا ملتويًا, ضحك من نفسه, لعله يريد أن يسجل هذه المعركة على جدار الكهف كما كان يفعل أجداده قبل آلاف السنين, ما الذي تراه كان في بالهم عندما كانوا يحفرون رسم حرابهم وصيدهم ونيرانهم, لِمَ يصرّ الانسان دومًا على أن يلفظ دواخله كما يزفر الهواء ؟ هل تراها تقتلنا المشاعر والأفكار لو أنها بقيت حبيسة النفس والخاطر؟
ليس في ما جرى أمامه الآن ما يستحق التسجيل, تختبئ في تلافيف ذاكرته صور أكثر جدوى, صور لم تنقلها عدسات المصورين ولم تسجلها تلك الأقمار العائمة في الفضاء ترصد وتترصد, هناك الكثير الكثير. هل يحفر على الصخر رسم أذرع تتطاير في الهواء ورؤوس تتدحرج بعيدًا عن أجسادها, صرخات ودخان ودمار ,وسيول حمراء تلوّن الطرقات, ربما لن تتسع جدران هذا الكهف لكل ما يحمله رأسه من عذاب وألم .
ولِمَ عساه يخبر أولئك القادمين عما جرى في هذا الزمن الغريب, لعلّه يترك لهم شيئًا أبهى, شيء لا يجعل قلوبهم تتلظى حسرة على إنسان هذا العصر, شيء يخبرهم أن الحياة تستحق أن تعاش, ربما يرسم قطاف الزيتون أو عناكيش السمّاق المتناثرة على طول الطريق تنتظره ليجنيها في صباحات آب ويأتي بها إلى زوجته لتدقّها في الجرن الحجري وتخبئها لأيام الشتاء, هل يرسم قطع الحطب التي تطقطق في نار المدفأة بينما ينهمر المطر في الخارج وتسيل البركات سيولًا وأنهار , سنابل الذهب أم تفاحات لوحتها شمس أيار ؟ برتقالات امتلأت بشهد العسل أم خضرة المروج في نيسان؟ ربما لا تتسع الجدران أيضًا لكل الهناء المخبوء في ذاكرته .
يمّم وجهه شطر الحمامة, إنها ترفرف فوق جثة الأفعى الهامدة بعد أن تيقنت موتها, لعلها تريد أن تنقرها لتقتات على لحمها , صوت زقزقة خافتة في العش, ها هي البيوض تفقس وتمد الفراخ رؤوسها الحمراء الرطبة, الحمامة الأم تعود إلى الأفعى, "إما أن تأكلَ أو تؤكل" , امتلأ صدره بضحكة مجلجلة, ليس هناك خيار ثالث, قلب الموس في كفه, أغلقه على مهل ثم أعاد فتحه, من أين ترد الخواطر على مرآة النفس ؟ مرّر يده عل معدته يُسكت خواءها.
قلب الجمرات برأس الموس, أغمد النصل الحاد في اللحم الطري ووضعه فوق اللهب. لم يستسغ يومًا لحم الحمام, ولكن طعام سيئ خير من جوع قاتل على أي حال, اقتطع مزقة من لحم وألقمها للفراخ الفاغرة أفواهها للطعام وتابع تقليب اللحم فوق الجمر المتقد, ركز شواءه على طرف الحجر وأخذ عن الأرض عودًا غمسه بهباب الجمر المتفحم, رسم على جدار الكهف صورة أفعى زاحفة وحمامة مرفرفة, سجّل حروف اسمه الأولى تحتها وكتب بخط أسود
" قصة الحياة " .
تناول قبضة الموس وبدأ ينهش اللحم الساخن على مضض.
أفعى وحمامة
يدرك تمامًا أنه ليس وحده, لا بد أن كثيرين يشاركونه المكان, تلك الحمامة الراقدة على بيضها في مدخل المغارة, يراها ويسمع هديلها الخافت, وهناك آخرون, لا يراهم عيانًا, يشعر بوجودهم, ربما يرونه من حيث لا يراهم فليس كل من يراك تراه, لكن ذلك لا يرهبه بأي حال ولا يجعل قلبه يغور في جوفه كما اعتاد أن يفعل عندما كان الكبار يروون حكايات المغارة وساكنيها وأصوات الليل التي تنبعث منها وما يحدث لمن تسوّل له نفسه المرور من قربها أو النظر إلى بابها المعتم, كان يشيح بنظره بعيدًا عندما يقوده الطريق إلى جهتها ويغمض عينيه خوفًا من أشباحها في حال دنوّه منها ,ولكن ها هو الآن يقبع في حضنها, بين جدرانها الرطبة وسقفها الذي تتدلى منه عشرات الأثداء الحجرية يقطر منها الماء نقاطًا تهوي إلى الأرض على مهل عازفة لحناً خافتًا بإيقاع مخيف.
نعم إنها مغارة "مقديس" الموغلة في جوف الجبل, لطالما كانت مأوى للفراريّة وقطاع الطرق يحتمون بها من أعين الدَرَك, الآن لم يعد يقربها أحد, لا حاجة لأحد بالاختباء بعد أن أصبح الوطن كله مغارة كبيرة يأوي إليه كل من هبّ ودبّ, الآن هو وأمثاله من يلجؤون إلى المغارات, عندما كفر قومه بالإنسان اعتزلهم وأوى إلى الكهف علّه يجد من أمره رشدًا .
يريدونه وقودًا لحربهم, قطعة حطب أخرى يلقونها في المحرقة حتى لا تخبو نيرانهم المتأججة على الدوام. لكنه لا يريد أن يَقتل, لا يريد أن يزهق أرواحًا لا يعرفها ولا تعرفه, ليس خائفًا من الموت, يعرف أن لكل أجل كتاب, ولكن ما الذي يستحق أن يريق دماءه لأجله في هذه الزوبعة التي لا يبين منها أرض ولا سماء .
قبل أسابيع أرسلوه إلى قريته في إجازة مرضية, عاد حاملًا جراحًا نازفة وساقًا مكسورة ينتظر شفاءها ليعاود الالتحاق بقطعته, لا يملك من أمره شيئًا, هم يريدون ويقررون له أين يكون وماذا يفعل. هاتفه رفيقه قبل أيام, قال له أن كل من كان في قطعته رحلوا إلى العالم الآخر على متن قذيفة حارقة قدمت للطيور وليمة دسمة أشبعتهم لأيام لكنها لم تشبع الغول النهم إلى مزيد من الدماء .
قال له صديقه: " لا تعد, لن يعرف أحد إن كنت بين الأموات أم الأحياء ". لم يعد, و ها هو الآن بلا هويّة ولا شيء يثبت كينونته. ولكن ما حاجته إلى هويّة هنا ؟ الجميع يعرفونه, يعرفون أباه وجده وجد جده, يعرفون يوم ميلاده والوحمة السوداء في بطة ساقه, والجرح الغائر في كتفه يوم قفز عن السنديانة الكبيرة إلى النهر وجرحه أحد أغصانها الحادة, لمَ يريد هوية في قريته, يمكنه أن يتنقل من حاكورة إلى أخرى وينزل إلى العين يملأ كفيه ماء زلالًا ويعبّ حتى الارتواء .
العيون الخائنة ألجأته إلى هنا, البارحة جاءت دوريّة على أثر وشاية, باغتوا القرية عند المساء, عندما كان الجميع مطمئنين في مجالسهم, فتشوا الدور والبساتين بحثًا عن الشباب الفارين, أمسكوا بالبعض وتمكن الأخرون من الفرار, لم يجد وقتًا لحمل زاد كافٍ, وحتى الآن لم يأت أحد ليبلغه بإمكان عودته .
تحسس في جيبه بعض حبات الجوز وبعض من تين مجفف, تناول شيئًا منها البارحة, لم يتبق الكثير, إلى متى ستسد هذه الحبات رمقه ؟ .
خفقُ أجنحةٍ يقطع عليه تداعياته, الحمامة في مدخل الغار تطير فوق العش تعلو وتهبط, تهدل بهلع, وكأنّما أصابها مسٌّ .
من شق في إحدى الصخور يلمح ظلًا أسود يزحف على مهل, تجلّت أمامه أفعى, ها هي تمدّ رأسها تتقدّم قليلا ثم تنكص راجعة عندما تهيج الحمامة وتضطرب, شغله المشهد عن هواجسه, ها هي ساحة معركة أخرى تقوم أمامه, لا مناص من القتال !!
تأهب مستشرفًا الحدث, البارحة قذف الأفعى بحجر فاختفت, لكنها اليوم تعود, لعل الجوع شغلها عن الحذر, تحسس في جيب سرواله الخلفي الموس الكبّاس, تناوله بأصابع مترددة وأخذ يقلبه في كفه, هل يرشقها بضربة عاجلة, حدّث نفسه وهو يتأمّل الأفعى تزحف على مهل .
لكنها لا تبغي سوءًا ! لا تريد سوى الطعام, ما ذنبها إن كانت هذه الحمامة قوتَها ؟ ربما تفرّ الحمامة وتترك للأفعى بيضها لتنجو بحياتها, هل غريزة البقاء أقوى أم غريزة الأمومة ؟ لا يعرف كيف تفكر هذه البهائم, ولا يعرف أيضًا إن كان عليه أن يدع الحياة تسير في مسارها أم يعترض طريقها بفعلٍ!
اشتعل رأسه رهباً, انبسطت ذراعه ونترت إصبعه قبضة الموس, قذفت كفه المديّة فاستقرت في عنق الأفعى وثبتتها في مكانها قبل بلوغها العشّ بقدر عقلة, هوى السواد إلى الأرض ينفض ما تبقى فيه من رمق, مازالت الحمامة ترفرف غير بعيد عن عشها, لم تأمن عدوها بعد, لم تدرك أن هذا الشيء الذي يتلوى وينتفض أمامها على الأرض يلفظ أنفاسه الأخيرة, لم تدرك أن من كان على وشك أن يسلبها حياتها قد فقد حياته, مازالت تحوم بوجل, تنتظر أن تهمد وتخمد حتى تعود إلى عشها, يبدو أن غريزة البقاء أقوى .
مرّر رأس الموس على الصخرة وحفر خطًا ملتويًا, ضحك من نفسه, لعله يريد أن يسجل هذه المعركة على جدار الكهف كما كان يفعل أجداده قبل آلاف السنين, ما الذي تراه كان في بالهم عندما كانوا يحفرون رسم حرابهم وصيدهم ونيرانهم, لِمَ يصرّ الانسان دومًا على أن يلفظ دواخله كما يزفر الهواء ؟ هل تراها تقتلنا المشاعر والأفكار لو أنها بقيت حبيسة النفس والخاطر؟
ليس في ما جرى أمامه الآن ما يستحق التسجيل, تختبئ في تلافيف ذاكرته صور أكثر جدوى, صور لم تنقلها عدسات المصورين ولم تسجلها تلك الأقمار العائمة في الفضاء ترصد وتترصد, هناك الكثير الكثير. هل يحفر على الصخر رسم أذرع تتطاير في الهواء ورؤوس تتدحرج بعيدًا عن أجسادها, صرخات ودخان ودمار ,وسيول حمراء تلوّن الطرقات, ربما لن تتسع جدران هذا الكهف لكل ما يحمله رأسه من عذاب وألم .
ولِمَ عساه يخبر أولئك القادمين عما جرى في هذا الزمن الغريب, لعلّه يترك لهم شيئًا أبهى, شيء لا يجعل قلوبهم تتلظى حسرة على إنسان هذا العصر, شيء يخبرهم أن الحياة تستحق أن تعاش, ربما يرسم قطاف الزيتون أو عناكيش السمّاق المتناثرة على طول الطريق تنتظره ليجنيها في صباحات آب ويأتي بها إلى زوجته لتدقّها في الجرن الحجري وتخبئها لأيام الشتاء, هل يرسم قطع الحطب التي تطقطق في نار المدفأة بينما ينهمر المطر في الخارج وتسيل البركات سيولًا وأنهار , سنابل الذهب أم تفاحات لوحتها شمس أيار ؟ برتقالات امتلأت بشهد العسل أم خضرة المروج في نيسان؟ ربما لا تتسع الجدران أيضًا لكل الهناء المخبوء في ذاكرته .
يمّم وجهه شطر الحمامة, إنها ترفرف فوق جثة الأفعى الهامدة بعد أن تيقنت موتها, لعلها تريد أن تنقرها لتقتات على لحمها , صوت زقزقة خافتة في العش, ها هي البيوض تفقس وتمد الفراخ رؤوسها الحمراء الرطبة, الحمامة الأم تعود إلى الأفعى, "إما أن تأكلَ أو تؤكل" , امتلأ صدره بضحكة مجلجلة, ليس هناك خيار ثالث, قلب الموس في كفه, أغلقه على مهل ثم أعاد فتحه, من أين ترد الخواطر على مرآة النفس ؟ مرّر يده عل معدته يُسكت خواءها.
قلب الجمرات برأس الموس, أغمد النصل الحاد في اللحم الطري ووضعه فوق اللهب. لم يستسغ يومًا لحم الحمام, ولكن طعام سيئ خير من جوع قاتل على أي حال, اقتطع مزقة من لحم وألقمها للفراخ الفاغرة أفواهها للطعام وتابع تقليب اللحم فوق الجمر المتقد, ركز شواءه على طرف الحجر وأخذ عن الأرض عودًا غمسه بهباب الجمر المتفحم, رسم على جدار الكهف صورة أفعى زاحفة وحمامة مرفرفة, سجّل حروف اسمه الأولى تحتها وكتب بخط أسود
" قصة الحياة " .
تناول قبضة الموس وبدأ ينهش اللحم الساخن على مضض.
فيحاء نابلسي
إلى جهتها ويغمض عينيه خوفًا من أشباحها في حال دنوّه منها ,ولكن ها هو الآن يقبع في حضنها, بين جدرانها الرطبة وسقفها الذي تتدلى منه عشرات الأثداء الحجرية يقطر منها الماء نقاطًا تهوي إلى الأرض على مهل عازفة لحناً خافتًا بإيقاع مخيف.
نعم إنها مغارة "مقديس" الموغلة في جوف الجبل, لطالما كانت مأوى للفراريّة وقطاع الطرق يحتمون بها من أعين الدَرَك, الآن لم يعد يقربها أحد, لا حاجة لأحد بالاختباء بعد أن أصبح الوطن كله مغارة كبيرة يأوي إليه كل من هبّ ودبّ, الآن هو وأمثاله من يلجؤون إلى المغارات, عندما كفر قومه بالإنسان اعتزلهم وأوى إلى الكهف علّه يجد من أمره رشدًا .
يريدونه وقودًا لحربهم, قطعة حطب أخرى يلقونها في المحرقة حتى لا تخبو نيرانهم المتأججة على الدوام. لكنه لا يريد أن يَقتل, لا يريد أن يزهق أرواحًا لا يعرفها ولا تعرفه, ليس خائفًا من الموت, يعرف أن لكل أجل كتاب, ولكن ما الذي يستحق أن يريق دماءه لأجله في هذه الزوبعة التي لا يبين منها أرض ولا سماء .
قبل أسابيع أرسلوه إلى قريته في إجازة مرضية, عاد حاملًا جراحًا نازفة وساقًا مكسورة ينتظر شفاءها ليعاود الالتحاق بقطعته, لا يملك من أمره شيئًا, هم يريدون ويقررون له أين يكون وماذا يفعل. هاتفه رفيقه قبل أيام, قال له أن كل من كان في قطعته رحلوا إلى العالم الآخر على متن قذيفة حارقة قدمت للطيور وليمة دسمة أشبعتهم لأيام لكنها لم تشبع الغول النهم إلى مزيد من الدماء .
قال له صديقه: " لا تعد, لن يعرف أحد إن كنت بين الأموات أم الأحياء ". لم يعد, و ها هو الآن بلا هويّة ولا شيء يثبت كينونته. ولكن ما حاجته إلى هويّة هنا ؟ الجميع يعرفونه, يعرفون أباه وجده وجد جده, يعرفون يوم ميلاده والوحمة السوداء في بطة ساقه, والجرح الغائر في كتفه يوم قفز عن السنديانة الكبيرة إلى النهر وجرحه أحد أغصانها الحادة, لمَ يريد هوية في قريته, يمكنه أن يتنقل من حاكورة إلى أخرى وينزل إلى العين يملأ كفيه ماء زلالًا ويعبّ حتى الارتواء .
العيون الخائنة ألجأته إلى هنا, البارحة جاءت دوريّة على أثر وشاية, باغتوا القرية عند المساء, عندما كان الجميع مطمئنين في مجالسهم, فتشوا الدور والبساتين بحثًا عن الشباب الفارين, أمسكوا بالبعض وتمكن الأخرون من الفرار, لم يجد وقتًا لحمل زاد كافٍ, وحتى الآن لم يأت أحد ليبلغه بإمكان عودته .
تحسس في جيبه بعض حبات الجوز وبعض من تين مجفف, تناول شيئًا منها البارحة, لم يتبق الكثير, إلى متى ستسد هذه الحبات رمقه ؟ .
خفقُ أجنحةٍ يقطع عليه تداعياته, الحمامة في مدخل الغار تطير فوق العش تعلو وتهبط, تهدل بهلع, وكأنّما أصابها مسٌّ .
من شق في إحدى الصخور يلمح ظلًا أسود يزحف على مهل, تجلّت أمامه أفعى, ها هي تمدّ رأسها تتقدّم قليلا ثم تنكص راجعة عندما تهيج الحمامة وتضطرب, شغله المشهد عن هواجسه, ها هي ساحة معركة أخرى تقوم أمامه, لا مناص من القتال !!
تأهب مستشرفًا الحدث, البارحة قذف الأفعى بحجر فاختفت, لكنها اليوم تعود, لعل الجوع شغلها عن الحذر, تحسس في جيب سرواله الخلفي الموس الكبّاس, تناوله بأصابع مترددة وأخذ يقلبه في كفه, هل يرشقها بضربة عاجلة, حدّث نفسه وهو يتأمّل الأفعى تزحف على مهل .
لكنها لا تبغي سوءًا ! لا تريد سوى الطعام, ما ذنبها إن كانت هذه الحمامة قوتَها ؟ ربما تفرّ الحمامة وتترك للأفعى بيضها لتنجو بحياتها, هل غريزة البقاء أقوى أم غريزة الأمومة ؟ لا يعرف كيف تفكر هذه البهائم, ولا يعرف أيضًا إن كان عليه أن يدع الحياة تسير في مسارها أم يعترض طريقها بفعلٍ!
اشتعل رأسه رهباً, انبسطت ذراعه ونترت إصبعه قبضة الموس, قذفت كفه المديّة فاستقرت في عنق الأفعى وثبتتها في مكانها قبل بلوغها العشّ بقدر عقلة, هوى السواد إلى الأرض ينفض ما تبقى فيه من رمق, مازالت الحمامة ترفرف غير بعيد عن عشها, لم تأمن عدوها بعد, لم تدرك أن هذا الشيء الذي يتلوى وينتفض أمامها على الأرض يلفظ أنفاسه الأخيرة, لم تدرك أن من كان على وشك أن يسلبها حياتها قد فقد حياته, مازالت تحوم بوجل, تنتظر أن تهمد وتخمد حتى تعود إلى عشها, يبدو أن غريزة البقاء أقوى .
مرّر رأس الموس على الصخرة وحفر خطًا ملتويًا, ضحك من نفسه, لعله يريد أن يسجل هذه المعركة على جدار الكهف كما كان يفعل أجداده قبل آلاف السنين, ما الذي تراه كان في بالهم عندما كانوا يحفرون رسم حرابهم وصيدهم ونيرانهم, لِمَ يصرّ الانسان دومًا على أن يلفظ دواخله كما يزفر الهواء ؟ هل تراها تقتلنا المشاعر والأفكار لو أنها بقيت حبيسة النفس والخاطر؟
ليس في ما جرى أمامه الآن ما يستحق التسجيل, تختبئ في تلافيف ذاكرته صور أكثر جدوى, صور لم تنقلها عدسات المصورين ولم تسجلها تلك الأقمار العائمة في الفضاء ترصد وتترصد, هناك الكثير الكثير. هل يحفر على الصخر رسم أذرع تتطاير في الهواء ورؤوس تتدحرج بعيدًا عن أجسادها, صرخات ودخان ودمار ,وسيول حمراء تلوّن الطرقات, ربما لن تتسع جدران هذا الكهف لكل ما يحمله رأسه من عذاب وألم .
ولِمَ عساه يخبر أولئك القادمين عما جرى في هذا الزمن الغريب, لعلّه يترك لهم شيئًا أبهى, شيء لا يجعل قلوبهم تتلظى حسرة على إنسان هذا العصر, شيء يخبرهم أن الحياة تستحق أن تعاش, ربما يرسم قطاف الزيتون أو عناكيش السمّاق المتناثرة على طول الطريق تنتظره ليجنيها في صباحات آب ويأتي بها إلى زوجته لتدقّها في الجرن الحجري وتخبئها لأيام الشتاء, هل يرسم قطع الحطب التي تطقطق في نار المدفأة بينما ينهمر المطر في الخارج وتسيل البركات سيولًا وأنهار , سنابل الذهب أم تفاحات لوحتها شمس أيار ؟ برتقالات امتلأت بشهد العسل أم خضرة المروج في نيسان؟ ربما لا تتسع الجدران أيضًا لكل الهناء المخبوء في ذاكرته .
يمّم وجهه شطر الحمامة, إنها ترفرف فوق جثة الأفعى الهامدة بعد أن تيقنت موتها, لعلها تريد أن تنقرها لتقتات على لحمها , صوت زقزقة خافتة في العش, ها هي البيوض تفقس وتمد الفراخ رؤوسها الحمراء الرطبة, الحمامة الأم تعود إلى الأفعى, "إما أن تأكلَ أو تؤكل" , امتلأ صدره بضحكة مجلجلة, ليس هناك خيار ثالث, قلب الموس في كفه, أغلقه على مهل ثم أعاد فتحه, من أين ترد الخواطر على مرآة النفس ؟ مرّر يده عل معدته يُسكت خواءها.
قلب الجمرات برأس الموس, أغمد النصل الحاد في اللحم الطري ووضعه فوق اللهب. لم يستسغ يومًا لحم الحمام, ولكن طعام سيئ خير من جوع قاتل على أي حال, اقتطع مزقة من لحم وألقمها للفراخ الفاغرة أفواهها للطعام وتابع تقليب اللحم فوق الجمر المتقد, ركز شواءه على طرف الحجر وأخذ عن الأرض عودًا غمسه بهباب الجمر المتفحم, رسم على جدار الكهف صورة أفعى زاحفة وحمامة مرفرفة, سجّل حروف اسمه الأولى تحتها وكتب بخط أسود
" قصة الحياة " .
تناول قبضة الموس وبدأ ينهش اللحم الساخن على مضض.
أفعى وحمامة
يدرك تمامًا أنه ليس وحده, لا بد أن كثيرين يشاركونه المكان, تلك الحمامة الراقدة على بيضها في مدخل المغارة, يراها ويسمع هديلها الخافت, وهناك آخرون, لا يراهم عيانًا, يشعر بوجودهم, ربما يرونه من حيث لا يراهم فليس كل من يراك تراه, لكن ذلك لا يرهبه بأي حال ولا يجعل قلبه يغور في جوفه كما اعتاد أن يفعل عندما كان الكبار يروون حكايات المغارة وساكنيها وأصوات الليل التي تنبعث منها وما يحدث لمن تسوّل له نفسه المرور من قربها أو النظر إلى بابها المعتم, كان يشيح بنظره بعيدًا عندما يقوده الطريق إلى جهتها ويغمض عينيه خوفًا من أشباحها في حال دنوّه منها ,ولكن ها هو الآن يقبع في حضنها, بين جدرانها الرطبة وسقفها الذي تتدلى منه عشرات الأثداء الحجرية يقطر منها الماء نقاطًا تهوي إلى الأرض على مهل عازفة لحناً خافتًا بإيقاع مخيف.
نعم إنها مغارة "مقديس" الموغلة في جوف الجبل, لطالما كانت مأوى للفراريّة وقطاع الطرق يحتمون بها من أعين الدَرَك, الآن لم يعد يقربها أحد, لا حاجة لأحد بالاختباء بعد أن أصبح الوطن كله مغارة كبيرة يأوي إليه كل من هبّ ودبّ, الآن هو وأمثاله من يلجؤون إلى المغارات, عندما كفر قومه بالإنسان اعتزلهم وأوى إلى الكهف علّه يجد من أمره رشدًا .
يريدونه وقودًا لحربهم, قطعة حطب أخرى يلقونها في المحرقة حتى لا تخبو نيرانهم المتأججة على الدوام. لكنه لا يريد أن يَقتل, لا يريد أن يزهق أرواحًا لا يعرفها ولا تعرفه, ليس خائفًا من الموت, يعرف أن لكل أجل كتاب, ولكن ما الذي يستحق أن يريق دماءه لأجله في هذه الزوبعة التي لا يبين منها أرض ولا سماء .
قبل أسابيع أرسلوه إلى قريته في إجازة مرضية, عاد حاملًا جراحًا نازفة وساقًا مكسورة ينتظر شفاءها ليعاود الالتحاق بقطعته, لا يملك من أمره شيئًا, هم يريدون ويقررون له أين يكون وماذا يفعل. هاتفه رفيقه قبل أيام, قال له أن كل من كان في قطعته رحلوا إلى العالم الآخر على متن قذيفة حارقة قدمت للطيور وليمة دسمة أشبعتهم لأيام لكنها لم تشبع الغول النهم إلى مزيد من الدماء .
قال له صديقه: " لا تعد, لن يعرف أحد إن كنت بين الأموات أم الأحياء ". لم يعد, و ها هو الآن بلا هويّة ولا شيء يثبت كينونته. ولكن ما حاجته إلى هويّة هنا ؟ الجميع يعرفونه, يعرفون أباه وجده وجد جده, يعرفون يوم ميلاده والوحمة السوداء في بطة ساقه, والجرح الغائر في كتفه يوم قفز عن السنديانة الكبيرة إلى النهر وجرحه أحد أغصانها الحادة, لمَ يريد هوية في قريته, يمكنه أن يتنقل من حاكورة إلى أخرى وينزل إلى العين يملأ كفيه ماء زلالًا ويعبّ حتى الارتواء .
العيون الخائنة ألجأته إلى هنا, البارحة جاءت دوريّة على أثر وشاية, باغتوا القرية عند المساء, عندما كان الجميع مطمئنين في مجالسهم, فتشوا الدور والبساتين بحثًا عن الشباب الفارين, أمسكوا بالبعض وتمكن الأخرون من الفرار, لم يجد وقتًا لحمل زاد كافٍ, وحتى الآن لم يأت أحد ليبلغه بإمكان عودته .
تحسس في جيبه بعض حبات الجوز وبعض من تين مجفف, تناول شيئًا منها البارحة, لم يتبق الكثير, إلى متى ستسد هذه الحبات رمقه ؟ .
خفقُ أجنحةٍ يقطع عليه تداعياته, الحمامة في مدخل الغار تطير فوق العش تعلو وتهبط, تهدل بهلع, وكأنّما أصابها مسٌّ .
من شق في إحدى الصخور يلمح ظلًا أسود يزحف على مهل, تجلّت أمامه أفعى, ها هي تمدّ رأسها تتقدّم قليلا ثم تنكص راجعة عندما تهيج الحمامة وتضطرب, شغله المشهد عن هواجسه, ها هي ساحة معركة أخرى تقوم أمامه, لا مناص من القتال !!
تأهب مستشرفًا الحدث, البارحة قذف الأفعى بحجر فاختفت, لكنها اليوم تعود, لعل الجوع شغلها عن الحذر, تحسس في جيب سرواله الخلفي الموس الكبّاس, تناوله بأصابع مترددة وأخذ يقلبه في كفه, هل يرشقها بضربة عاجلة, حدّث نفسه وهو يتأمّل الأفعى تزحف على مهل .
لكنها لا تبغي سوءًا ! لا تريد سوى الطعام, ما ذنبها إن كانت هذه الحمامة قوتَها ؟ ربما تفرّ الحمامة وتترك للأفعى بيضها لتنجو بحياتها, هل غريزة البقاء أقوى أم غريزة الأمومة ؟ لا يعرف كيف تفكر هذه البهائم, ولا يعرف أيضًا إن كان عليه أن يدع الحياة تسير في مسارها أم يعترض طريقها بفعلٍ!
اشتعل رأسه رهباً, انبسطت ذراعه ونترت إصبعه قبضة الموس, قذفت كفه المديّة فاستقرت في عنق الأفعى وثبتتها في مكانها قبل بلوغها العشّ بقدر عقلة, هوى السواد إلى الأرض ينفض ما تبقى فيه من رمق, مازالت الحمامة ترفرف غير بعيد عن عشها, لم تأمن عدوها بعد, لم تدرك أن هذا الشيء الذي يتلوى وينتفض أمامها على الأرض يلفظ أنفاسه الأخيرة, لم تدرك أن من كان على وشك أن يسلبها حياتها قد فقد حياته, مازالت تحوم بوجل, تنتظر أن تهمد وتخمد حتى تعود إلى عشها, يبدو أن غريزة البقاء أقوى .
مرّر رأس الموس على الصخرة وحفر خطًا ملتويًا, ضحك من نفسه, لعله يريد أن يسجل هذه المعركة على جدار الكهف كما كان يفعل أجداده قبل آلاف السنين, ما الذي تراه كان في بالهم عندما كانوا يحفرون رسم حرابهم وصيدهم ونيرانهم, لِمَ يصرّ الانسان دومًا على أن يلفظ دواخله كما يزفر الهواء ؟ هل تراها تقتلنا المشاعر والأفكار لو أنها بقيت حبيسة النفس والخاطر؟
ليس في ما جرى أمامه الآن ما يستحق التسجيل, تختبئ في تلافيف ذاكرته صور أكثر جدوى, صور لم تنقلها عدسات المصورين ولم تسجلها تلك الأقمار العائمة في الفضاء ترصد وتترصد, هناك الكثير الكثير. هل يحفر على الصخر رسم أذرع تتطاير في الهواء ورؤوس تتدحرج بعيدًا عن أجسادها, صرخات ودخان ودمار ,وسيول حمراء تلوّن الطرقات, ربما لن تتسع جدران هذا الكهف لكل ما يحمله رأسه من عذاب وألم .
ولِمَ عساه يخبر أولئك القادمين عما جرى في هذا الزمن الغريب, لعلّه يترك لهم شيئًا أبهى, شيء لا يجعل قلوبهم تتلظى حسرة على إنسان هذا العصر, شيء يخبرهم أن الحياة تستحق أن تعاش, ربما يرسم قطاف الزيتون أو عناكيش السمّاق المتناثرة على طول الطريق تنتظره ليجنيها في صباحات آب ويأتي بها إلى زوجته لتدقّها في الجرن الحجري وتخبئها لأيام الشتاء, هل يرسم قطع الحطب التي تطقطق في نار المدفأة بينما ينهمر المطر في الخارج وتسيل البركات سيولًا وأنهار , سنابل الذهب أم تفاحات لوحتها شمس أيار ؟ برتقالات امتلأت بشهد العسل أم خضرة المروج في نيسان؟ ربما لا تتسع الجدران أيضًا لكل الهناء المخبوء في ذاكرته .
يمّم وجهه شطر الحمامة, إنها ترفرف فوق جثة الأفعى الهامدة بعد أن تيقنت موتها, لعلها تريد أن تنقرها لتقتات على لحمها , صوت زقزقة خافتة في العش, ها هي البيوض تفقس وتمد الفراخ رؤوسها الحمراء الرطبة, الحمامة الأم تعود إلى الأفعى, "إما أن تأكلَ أو تؤكل" , امتلأ صدره بضحكة مجلجلة, ليس هناك خيار ثالث, قلب الموس في كفه, أغلقه على مهل ثم أعاد فتحه, من أين ترد الخواطر على مرآة النفس ؟ مرّر يده عل معدته يُسكت خواءها.
قلب الجمرات برأس الموس, أغمد النصل الحاد في اللحم الطري ووضعه فوق اللهب. لم يستسغ يومًا لحم الحمام, ولكن طعام سيئ خير من جوع قاتل على أي حال, اقتطع مزقة من لحم وألقمها للفراخ الفاغرة أفواهها للطعام وتابع تقليب اللحم فوق الجمر المتقد, ركز شواءه على طرف الحجر وأخذ عن الأرض عودًا غمسه بهباب الجمر المتفحم, رسم على جدار الكهف صورة أفعى زاحفة وحمامة مرفرفة, سجّل حروف اسمه الأولى تحتها وكتب بخط أسود
" قصة الحياة " .
تناول قبضة الموس وبدأ ينهش اللحم الساخن على مضض.
فيحاء نابلسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق