بحث عن عمل في كل مكان دون جدوى، فأشار إليه أصحابه بالعمل في إحدى مضخات المياه العذبة علي قناة السويس، وكان ذلك بعد حرب السادس من أكتوبر بأعوام وبالتحديد سنة 1979م، فأتجه للسويس حيث مقر شركة المياه، وتم تكليفه بحراسة مضخة مياه علي بعد 30كم من السويس، أخذ مستلزماته وذهب إلي حيث مكان المضخة، وجدها بالقرب من شاطئ قناة السويس الغربي بين أجمة ملتفة من الأشجار، والتي بدورها نبتت علي أنقاض كتيبة مدمرة من المياه المتسرب من المضخة منذ أيام الحرب، حيث كانت المضخة تغذي إحدى كتائب الجيش بالمياه العذبة، وتم تدميرها مع الكتيبة.
حجرة متواضعة بباب خشبي بسيط ومضخة مياه أُعيد إصلاحها وتشغيلها لتلبية حاجات الكتائب المجاورة والتي تبعد أقربها عدة كيلومترات ويتم نقل المياه بواسطة عربات صهريج ضخمة إلى هذه الكتائب.
استلم "شيبة" العمل، و"شيبة" رجل من إحدى محافظات الصعيد، متوسط القائمة، ضيق العينين كأنهما تم ثقبهما حديثاً، وحاجبان دقيقان، وشارب ضخم، ووجه مسحوب كأنه وجه أحد التماثيل المنتشرة في المعابد بربوع الصعيد، شارك في الحرب، ورجع إلى قريته بعد نهايتها، لم يحصل على عمل، ودب الخلاف في منزل العائلة فأضطر إلي ترك المنزل، وبناء منزل آخر أو بالأدق كوخ، وسافر لطلب الرزق للأنفاق علي أسرته الصغيرة، بحث كثيراً عن عمل حتى وصل إلى هذا المكان.
وصل إلى مكان العمل في الصباح الباكر، الجو ربيعي جميل، والطبيعة خلابة، الأشجار الضخمة وشاطئ القناة، وبجواره العربان يرعون حيواناتهم كأنها لوحة فنية رُسمت بإتقان.
أنت العامل الجديد؟
نعم.
تعالى أستلم العهدة، هذه مضخة مياه تعمل بالسولار، كل ما عليك القيام به أثناء النهار تقوم بتشغيلها؛ لمليء صهاريج المياه المحملة على عربات والتي تأتي إليك، يبدأ عملك من السادسة صباحاً وينتهي قبل غروب الشمس.
واحتياجاتي من الأكل وغيره من أين؟
عربات الصهاريج تجلب لك معها الوجبات الثلاث والشاي مجاناً، وإذا كنت مدخن؛ فلابد أن توصي أياً منها بأن تجلب لك ما تحتاج ولكن على حسابك.
شيء ممتاز، إن شاء الله خير.
اليوم سوف أظل معك طول النهار؛ حتى تتعلم وتتعود على العمل هنا.
أستمر العمل طول النهار حتى قبل مغيب الشمس، وبرحيل آخر عربة صهريج؛ أنهى العامل القديم عمله وسلم كل شيء لــ "شيبة":
هل تريد أي شيء؟
لا يوجد معي دخان، ولا نقود؟
تفضل هذه علبة دخان كاملة، وغداً في إمكانك طلب سلفه؛ تخصم من راتبك عند استلام المرتب.
شكراً
ولكن أنتبه من العربان.
لم يعير "شيبة" العبارة الأخيرة أي اهتمام؛ فهو معتاد على البدو والعربان الذين يقومون برعي حيواناتهم في الصعيد بعد حصاد المحصول.
أصلح مكان أمام الحجرة التي تربض بها المضخة، وصنع موقد من الطوب، وفي إناء قديم وضع به الماء والشاي والسكر، وتركه على النار، وسافر بخياله إلى حيث زوجته وأطفاله، الوقت يمر ببطيء شديد، شعر إنه بسجن انفرادي، ولكن أبتسم عندما تذكر الراتب وما يحمله إلى أسرته من هدايا وخاصة أن عيد الأضحى لم يبقي عليه سوى ما يزيد عن الشهر بأيام قلائل، صب الشاي المغلي وظل يرتشف منه، ويدخن السجائر حتي أنتصف الليل، وأحس بنوع من القشعريرة تسري في كل جسده، لا يوجد أي صوت إلا أصوات هواء الليل يداعب أطراف الأشجار الضخمة فتصدر أصوات كالعويل تارة، وكهمهمات صراع بين عملاقين وتحطيم العظام تارة أخرى.
دخل إلى حجرة المضحة، أغلق الباب الخشبي الهش والذي لا يمكن إحكام غلقه من الداخل، وأشعل لمبة من الكيروسين، كانت معروفة في هذا الوقت ولها ترس جانبي لرفع الإضاءة أو خفضها، أخفض إضاءتها وأستعد للنوم، وما هي إلا لحظات حتى كان النوم يداعب جفونه، وأصوات أحلامه تعلو على أصوات الخوف الذي بدأ يدب داخله.
ضوء اللمبة يرتفع فجأة، النوم جلس بجانبه، قام وأخفض الضوء والتحف النوم، دقائق وعاد المصباح كما كان، هنا تركه النوم بدون رجعه، جلس على الفراش الذي أعده للنوم دقائق، ثم قام وأخفض الضوء، وما إن عاد إلى جلسته، حتى امتدت يد ذات أصابع طويلة حمراء لترفع الضوء مرة أخرى، أبتسم، وتكلم بصوت عالي:
هو أنت، أنا لا أخاف منك، فقد تعودت عليك كثيراً في بلادنا، يا لك من عفريت مشاكس.
ثم قام مرة أخرى لخفض الضوء، وإذا بأصوات تأتي من صوب لقناة؛ وكأنها أصوات ارتطام الاسماك بالمياه، فكر قليلاً ثم عزم على اصطياد بعضٍ منها، خلع جلبابه، واتجه صوب القناة، وجد الأسماك بكميات كبيرة، نزل بضع أمتار، وكلما أراد الإمساك بها فلت من بين يديه، ثم تحول صوت ارتطام الأسماك بالمياه إلى صرخات وإستغاثات، كأنها في حرب، أبتسم مرة أخرى ورجع إلى غرفة المضخة.
طرقات على الباب خفيفة، ليست طرقات استئذان ولكن طرقات للتأكد من أنه نائم، لم يحرك ساكنًا وهو يرى مجموعة من العربان الملثمين يدخلون عليه ويطلبون منه عدم الكلام أو التلفظ وإلا مصيره الذبح:
يا فلاح – وهذه كنية عند العربان والبدو لكل سكان مصر من أهل القرى- لا تتحرك وإلا..
ماذا تريدون؟
نريد المضخة؟
ولكنها ملك للحكومة؛ وإن سلبتموها معناه ضياع مستقبلي وتشتت أسرتي ودخولي السجن، هل يوجد حل أخر؟
لا، ودخولك السجن يعطي لك أمل في الخروج، ولكن بمقتلك ينتهي أمرك للأبد.
لا خيار ثالث، أما الاستسلام وتسليم المضخة أو القتل.
قبل أن يتكلم كان اثنان منهما يقومان بتوثيقة، والباقي يقوم بفك المضخة وشحنها علي الجمال، وتركاه على هذا الحال، حاول فك وثاق نفسه للهرب والعودة إلى قريته، وفي نفس الوقت ظل يفكر في مصيره ومصير أسرته إذا دخل السجن، ولكن لا يوجد حل أخر، حتى إنهم لم يتركوا له مجال للاختيار، أنهكه التفكير في هذا الأمر وما يترتب عليه من كوارث له ولأسرته، ولكن لم يخطر بباله أبداً ذئاب الصحراء الجائعة، والتي وصلت مقدمتها إلى باب الحجرة لاستطلاع الأمر قبل وصول أول عربة صهريج بدقائق.
حجرة متواضعة بباب خشبي بسيط ومضخة مياه أُعيد إصلاحها وتشغيلها لتلبية حاجات الكتائب المجاورة والتي تبعد أقربها عدة كيلومترات ويتم نقل المياه بواسطة عربات صهريج ضخمة إلى هذه الكتائب.
استلم "شيبة" العمل، و"شيبة" رجل من إحدى محافظات الصعيد، متوسط القائمة، ضيق العينين كأنهما تم ثقبهما حديثاً، وحاجبان دقيقان، وشارب ضخم، ووجه مسحوب كأنه وجه أحد التماثيل المنتشرة في المعابد بربوع الصعيد، شارك في الحرب، ورجع إلى قريته بعد نهايتها، لم يحصل على عمل، ودب الخلاف في منزل العائلة فأضطر إلي ترك المنزل، وبناء منزل آخر أو بالأدق كوخ، وسافر لطلب الرزق للأنفاق علي أسرته الصغيرة، بحث كثيراً عن عمل حتى وصل إلى هذا المكان.
وصل إلى مكان العمل في الصباح الباكر، الجو ربيعي جميل، والطبيعة خلابة، الأشجار الضخمة وشاطئ القناة، وبجواره العربان يرعون حيواناتهم كأنها لوحة فنية رُسمت بإتقان.
أنت العامل الجديد؟
نعم.
تعالى أستلم العهدة، هذه مضخة مياه تعمل بالسولار، كل ما عليك القيام به أثناء النهار تقوم بتشغيلها؛ لمليء صهاريج المياه المحملة على عربات والتي تأتي إليك، يبدأ عملك من السادسة صباحاً وينتهي قبل غروب الشمس.
واحتياجاتي من الأكل وغيره من أين؟
عربات الصهاريج تجلب لك معها الوجبات الثلاث والشاي مجاناً، وإذا كنت مدخن؛ فلابد أن توصي أياً منها بأن تجلب لك ما تحتاج ولكن على حسابك.
شيء ممتاز، إن شاء الله خير.
اليوم سوف أظل معك طول النهار؛ حتى تتعلم وتتعود على العمل هنا.
أستمر العمل طول النهار حتى قبل مغيب الشمس، وبرحيل آخر عربة صهريج؛ أنهى العامل القديم عمله وسلم كل شيء لــ "شيبة":
هل تريد أي شيء؟
لا يوجد معي دخان، ولا نقود؟
تفضل هذه علبة دخان كاملة، وغداً في إمكانك طلب سلفه؛ تخصم من راتبك عند استلام المرتب.
شكراً
ولكن أنتبه من العربان.
لم يعير "شيبة" العبارة الأخيرة أي اهتمام؛ فهو معتاد على البدو والعربان الذين يقومون برعي حيواناتهم في الصعيد بعد حصاد المحصول.
أصلح مكان أمام الحجرة التي تربض بها المضخة، وصنع موقد من الطوب، وفي إناء قديم وضع به الماء والشاي والسكر، وتركه على النار، وسافر بخياله إلى حيث زوجته وأطفاله، الوقت يمر ببطيء شديد، شعر إنه بسجن انفرادي، ولكن أبتسم عندما تذكر الراتب وما يحمله إلى أسرته من هدايا وخاصة أن عيد الأضحى لم يبقي عليه سوى ما يزيد عن الشهر بأيام قلائل، صب الشاي المغلي وظل يرتشف منه، ويدخن السجائر حتي أنتصف الليل، وأحس بنوع من القشعريرة تسري في كل جسده، لا يوجد أي صوت إلا أصوات هواء الليل يداعب أطراف الأشجار الضخمة فتصدر أصوات كالعويل تارة، وكهمهمات صراع بين عملاقين وتحطيم العظام تارة أخرى.
دخل إلى حجرة المضحة، أغلق الباب الخشبي الهش والذي لا يمكن إحكام غلقه من الداخل، وأشعل لمبة من الكيروسين، كانت معروفة في هذا الوقت ولها ترس جانبي لرفع الإضاءة أو خفضها، أخفض إضاءتها وأستعد للنوم، وما هي إلا لحظات حتى كان النوم يداعب جفونه، وأصوات أحلامه تعلو على أصوات الخوف الذي بدأ يدب داخله.
ضوء اللمبة يرتفع فجأة، النوم جلس بجانبه، قام وأخفض الضوء والتحف النوم، دقائق وعاد المصباح كما كان، هنا تركه النوم بدون رجعه، جلس على الفراش الذي أعده للنوم دقائق، ثم قام وأخفض الضوء، وما إن عاد إلى جلسته، حتى امتدت يد ذات أصابع طويلة حمراء لترفع الضوء مرة أخرى، أبتسم، وتكلم بصوت عالي:
هو أنت، أنا لا أخاف منك، فقد تعودت عليك كثيراً في بلادنا، يا لك من عفريت مشاكس.
ثم قام مرة أخرى لخفض الضوء، وإذا بأصوات تأتي من صوب لقناة؛ وكأنها أصوات ارتطام الاسماك بالمياه، فكر قليلاً ثم عزم على اصطياد بعضٍ منها، خلع جلبابه، واتجه صوب القناة، وجد الأسماك بكميات كبيرة، نزل بضع أمتار، وكلما أراد الإمساك بها فلت من بين يديه، ثم تحول صوت ارتطام الأسماك بالمياه إلى صرخات وإستغاثات، كأنها في حرب، أبتسم مرة أخرى ورجع إلى غرفة المضخة.
طرقات على الباب خفيفة، ليست طرقات استئذان ولكن طرقات للتأكد من أنه نائم، لم يحرك ساكنًا وهو يرى مجموعة من العربان الملثمين يدخلون عليه ويطلبون منه عدم الكلام أو التلفظ وإلا مصيره الذبح:
يا فلاح – وهذه كنية عند العربان والبدو لكل سكان مصر من أهل القرى- لا تتحرك وإلا..
ماذا تريدون؟
نريد المضخة؟
ولكنها ملك للحكومة؛ وإن سلبتموها معناه ضياع مستقبلي وتشتت أسرتي ودخولي السجن، هل يوجد حل أخر؟
لا، ودخولك السجن يعطي لك أمل في الخروج، ولكن بمقتلك ينتهي أمرك للأبد.
لا خيار ثالث، أما الاستسلام وتسليم المضخة أو القتل.
قبل أن يتكلم كان اثنان منهما يقومان بتوثيقة، والباقي يقوم بفك المضخة وشحنها علي الجمال، وتركاه على هذا الحال، حاول فك وثاق نفسه للهرب والعودة إلى قريته، وفي نفس الوقت ظل يفكر في مصيره ومصير أسرته إذا دخل السجن، ولكن لا يوجد حل أخر، حتى إنهم لم يتركوا له مجال للاختيار، أنهكه التفكير في هذا الأمر وما يترتب عليه من كوارث له ولأسرته، ولكن لم يخطر بباله أبداً ذئاب الصحراء الجائعة، والتي وصلت مقدمتها إلى باب الحجرة لاستطلاع الأمر قبل وصول أول عربة صهريج بدقائق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق