⏪⏬
تجربة مثيرة ومحفوفة بالمخاطر يخوضها الشاعر أسعد الجبوري منذ سنوات في سلسلته «حوارات بريد السماء الافتراضي» التي صدر جزؤها الأول في دمشق عن وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب بعنوان «شعراء نائمون في غرف الغيب»، ووصلت
اليوم إلى ستة أجزاء طبع بعضها والآخر ينتظر، لتتكشف تلك العملية المستمرة حتى اللحظة عن استعادات لتجارب 152 شاعراً وآلاف الأسئلة التي تعيد تجاربهم إلى الواجهة بكثير من الجرأة والنبش الحثيث حول المسكوت عنه في تلك التجارب أو المخفي من الناحية الإبداعية والنفسية وأيضاً فيما يخص شخصيات الشعراء الذين ربما غافلهم الموت قبل أن يصرحوا بالكثير مما كانوا يعتقدون أو يشعرون به، فكانت مهمة الجبوري استعادة أرواحهم من الكون وتحويلهم إلى أشخاص حقيقيين يزورون الأماكن التي تركوها على الأرض أو التحليق باتجاههم لمعاينة طبيعة المكان الذي يركنون إليهم بعدما دهمهم الرحيل.. الجبوري يقتفي أثر جده أبي العلاء المعري في رسالة الغفران ويضيف إليها ما أنتجه الأدب الحديث في أسمائه الإشكالية العربية والعالمية، لنصبح أمام تجربة قلما مورست في الكتابة العربية على هذا النحو من السبر ومهارة العبور إلى داخل الشخصيات والتجارب، فنحن أمام قراءة نقدية تعيد تقويم النصوص والأسئلة الفلسفية المتعلقة بها مع إيقاظ جانب تخييلي يحتاج طاقة كبيرة بذلها الجبوري كي تتم الاستعادة بشكل صحيح، ومن ناحية أخرى فهي تذكر القارىء بتجارب ربما غفل عنها أو ركنها على الرف جانباً فلم يمتلك الوقت الكافي للغوص في مجاهيلها وانتشال لآلئها التي ستغذي من دون شك مخيلات الجيل الجديد من الكتاب..
ثمانية وثلاثون شاعراً وشاعرة ينتمون إلى ثقافات مختلفة توقظهم الأسئلة الواخزة التي أعدها الجبوري باستفزاز كبير كي يحرك قاع البحيرات الراكدة في كل تجربة حتى تفيض وتطفو كنوزها المستقرة في القاع نحو السطح، والتي كثيراً ما يكون الشاعر قد خبأها عمداً ثم غافله الموت قبل أن يسحبها باتجاه الأعلى في لحظات صفو نادرة يمكن أن تحدث في مثل مكاشفات كهذه.. إنه يستفز الشاعر المسحوب بخيط شفاف من العدم باتجاه الأرض كي يجلس على كرسي الاعتراف مرة، ومرات أخرى يستسلم لجلسة طالما انتظر حدوثها على الأرض لكنها لسبب ما لم تحدث، والجبوري في انتقائياته للأسماء لا يسير على غير هدى، بل يحرص على اختيار الشعراء «المقاومين للعدم»، لذلك فإن هذه الاستعادات تبدو مرةً نبشاً لأجسادهم من مدافن الأرض، ومرة أخرى استعادة لأرواحهم الهائمة في السماء.. في هذا الإطار يقول الجبوري عن تجربته الغرائبية الشائقة:
«لم يُعَدُّ التخيّل صمام أمان المؤلف وحده ،إنما لذّة الكتابة في عمليات السبر فيما وراء تربة اللغة بعد رفع الأسطح عن الكلمات ،ومعرفة المعاني الكامنة في الباطن العميق .. ربما هكذا يقيس العارفُ أولى خطوات المعرفة ،عندما يبتعدُ بجسم النصّ عن الهاوية، وهو يشكّلُ سلسلةً جبليةً من الانحرافات الجميلة في بنية الآداب والفنون مثلما حدث معنا في ((بريد السماء الافتراضي)) كقوة خماسية الدفع، بعدما تخطت حوارات البريد الأبعاد المتعارف عليها عند أهل الأرض.. لم أسجل سعادة في تاريخي الأدبي إلا مع شعراء الغيب المقاومين للعدم. الشعراء الذين أخرجناهم من مدافن الأرض، وأحضرناهم من فراديس السموات لتحديث هوياتهم القديمة بيننا، كيما يشاركوننا الحوار والتأمل وتنقيح طقوس عوالمهم في الكتابة والسرير والخمر والقلق والكآبة وفتح خزائن الأسرار».
العملية تبدو سريالية تتصل بتجربة الجبوري الشعرية وكيفية تواصله مع النص الإبداعي والنقدي، وقد تطلب توافر عدة مقومات على رأسها العودة إلى تراث الشاعر المستعاد كاملاً وإعادة تفكيكه والبحث عن المخابىء السرية فيه، وتلك عملية مضنية من الناحية البحثية والنفسية، لأن الأسئلة التي سنعثر عليها في هذه الحوارات تملك بعدها الفلسفي والأدبي والشخصي الحياتي المتصل بحياة الشاعر، أما المقوم الثاني فيتصل بإجابات الشاعر الذي لم يطرق بابه إلا نادراً في الغيب.. هل سيقبل الحوار بهذه السهولة وهل من الممكن أن يصرح بما حرص على كتمانه في بعض الأحيان، وباعتباره متمرداً ومقاوماً للنسيان، هل سيكرر فعلته على الأرض أم سيبدو ليّناً يكشف ما ظل مجهولاً على الأرض نظراً لتلاشي الأحداث وتقادم السنوات التي أخذت أسماء المحيطين به إلى غموض الموت أيضاً.. أما النقطة المحورية الثالثة لإنجاز هذه العملية فهي شخصية رئيس بعثة الاستكشاف والتنقيب أي الجبوري نفسه، الذي تطلب الأمر منه خبرة باللغات وفك الطلاسم وتشغيل الخيال إلى أقصى حد، لأن القضية -كما أسلفنا- ليست نقدية تتصل بتفكيك النصوص فحسب بل نفسية فلسفية تتعلق بشخصية الشاعر المستعاد وتفكيره والبحث خلف كواليس روحه وعقله، وهذا لا يمكن أن ينجز إلا بكثير من الحب والإصرار على نبش الخزائن وفرز المقتنيات وإعادة ترتيبها بشكل بهيّ في فاترينا هذا الكتاب..
يفتتح الجبوري حواراته باستقبال حافل للشاعر أنسي الحاج، وتطلب ذلك مشهداً مسرحياً ووصفاً مستفيضاً لطبيعة المكان إذ يستقر الشاعر المنفي في العدم المتخيل وهو في الحقيقة ليس إلا الفردوس.. كان أنسي ينتظر الشاعر الإنكليزي الأميركي «أودن» للذهاب إلى مشاهدة فيلم «النساء الحالمة بالدبابات» لكنه اعتذر كي يتفرغ للحوار.. على هذا النحو، تبدأ حوارات الجبوري مع جميع الشعراء، فلكل شخصية طقوسها واحتفاءاتها الخاصة المستندة إلى تجربته وطبيعة شعره.. والحوار مع أنسي بالطبع سيبدأ من ديوانه «لن» ويطول اللغة التي يقول عنها أنسي إنها لولا الشعر لأصبحت مدافن للشعوب!. ليكتشف القارىء علاقة أنسي مع شعراء مجلة شعر إذ يتفرغ في أثير الكون للقاء الشعراء الراديكاليين، لأنه على الأرض لم يكن إلا سائحاً بين الآلام من دون أن يحقق إصلاحاً حقيقياً بخصوص العدل والحرية والثورة.. شعراء كثر لهم بصمتهم في المشهد الشعري يحاورهم الجبوري بكثير من الأناة والانفعال والنبش في تراثهم الشعري كي يستنبط الأسئلة والمواقف منه، منهم رامبو وأمل دنقل ومحمد الماغوط وأكتافيو باث وعزرا باوند ونزار قباني ومحمود درويش.. كأن الجبوري مشغول دائماً بإحياء مجد الشعر الذي قال أنسي إن اللغة من دونه تتحول إلى مدافن للشعوب.. تجربة قيمة من حيث القيمة الإبداعية ومستوى الخيال والتأمل الفلسفي والتصوير يرتكبها الجبوري محرضاً الذائقة العربية ومضيفاً لوناً فريداً من الأعمال إلى المكتبة العربية..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق