اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

الفيلم ــ قصة قصيرة ...** محمد أبو الدهب ــ مصر

قلتُ، أفتتح الليلة: (عاهدتُ نفسي اليوم ألا أذكر الموت حتى أموت). ابتسم ابتسامة مَنْ سيقول: (يا قلبك يا أخي!). قال: (ليلة غريبة!). لم تكن غريبة بالنسبة لي. الشيطان نفسه لم يعد غريباً. بادر بدفع بقشيش سخىّ مع الحساب. رمقته باندهاش، ولم أكن مهيّئاً لأسخر (ما هذا الكرم المفاجىء؟). هبّ واقفاً كالذي تذكّر اعتصاماً أو مظاهرة للعمال. تجشّأ باستمتاع واستعراض، من أثر (ثلاثة حواوشي). قال: (سلام)، والسيجارة المارلبورو تتأرجح بين شفتيه. تربكني (هل هناك ما لا يربكنى؟) مداومته على شرائها -علبتان كل يوم- بعدما تضاعف سعرها فى أقلّ من عامين، هو
المناضل الثوري، نصير الغلابة، العُمّال منهم على الأخصّ، الذى لا أعرف له عملاً غير النضال والنُّصرة!، أعلم -ويعلم- أن نشر أربع قصائد غامضة كل عام، بمجلة أدبية حكومية، لا يكفي لاستعمال دورة مياه عمومية بضعة شهور. يريد، مع باقي الشِّلّة، أن يبتعث الموّال السقيم!

لم يبدُ عليه أيّ إحباط لما رفضتُ -بحسمٍ ليس من طبعي معه- إكمال السهرة في البار. رحتُ أراقبه، ناهضاً في مشيته، بعزم متجدّد ونشاط وافر وتفاؤل نهائي، كما لو أنه سينسف الكون فى لحظة، ليعيد بناءه على هوي نضاله فى لحظة -النضال النائم نهاراً، المخمور ليلاً- وكما لو أنه لن يموت أبداً (نقضتُ عهدى للتوّ!)، وأتعجّب من نحوله اللافت من الخلف، برغم كِرشه الظاهر من الأمام... لأيّة عِلّةٍ يتلصص الواحد على جسد صاحبه، فجأةً، بعد عشر سنوات؟ إلا علّة اليأس.

فكرتُ بأني يجب أن أضع نهاية. لِتكنْ دراماتيكيّة، أو قُلْ: مبتورة، أو حتى مفتوحة. كل النهايات متشابهة مهما اختلفت نعوتها، لأنها، فقط، تنحر بدربة ورتابة. لا وجود لخرافة النهاية السعيدة. خفتُ من نفسي: أُعرِّض بالموت على أسوأ الظنون (كيف -يعني- لن أذكر الموت حتى أموت؟ وما علاقة نضاله وحشو هدومه بهذا الاختراع الفاشل؟) لعلّي جبانٌ رجّاعٌ، بشجاعة. الوقت لم يعد وقتي. الأحاييل استُهلكت جميعاً، تماماً. إنه يصغرني بعشر سنوات. كنتُ قبل أن يكون. مع ذلك، قد يموت -مناضلاً أو منضولاً عليه- قبلي بعشر سنوات. ليس هذا ما أعني بأيّ حال. سئمتُ الجدال الذى ينتهي دوماً بجملة الختام الكهينة: (أنت رجل ينتمي إلى حقبة تاريخية سُفلي، يصعب على المؤرخ المتمرس تحديدها، كأنها لم تنوجد أصلاً) أَصمتُ، مضمراً أنه -كالعادة- يحوّر الحقيقة، مثلما كنت أحوِّرها، ببراعة، له، وللمشتاقين!. الحقيقة التى نتقاتل لحيازتها، دون حتي أن نعلم ماهيّتها، كما لو أنها امرأة جميلة -فقط جميلة- ضلّتْ طريقها فدخلت علينا البار فجأة.

استدار، خطفاً، بنفس النشاط الوافر -حركة مباغتة تناسب مناضلاً مرصوداً، يتقن فنون الحِيطة- ليلاقي مراقبتي له من الخلف، أو رقابتي عليه منذ الليلة التى يسمّيها غريبة. لم أخذلْه (وهل أخذل، فى العادة، إلا نفسي!) كنت لاأزال شارداً. أَدرَك الآن أني أتلصّص، مثلما أدرك منذ قليل أني أتملّص. صار فى مواجهتي، من جديد. قدّم لي تليفونه المحمول، بعد أن فرغ من عبثٍ سريعٍ به. قال: (شاهِدْ هذا الفيديو).
*
شاهدتُني نحيلاً، من الأمام والخلف، علي خلاف ما أشوفني فى المرآة، وعلي خلافه. العين أيضاً تنام وتسْكَر، والجسد لا يمانع. أخيراً، استأثرتُ بالبطولة المطلقة: أغادر مقعدي، ثقيلاً ومُصرّاً، مع بداية الفيلم، أتّخذه قنطرةً إلي المنضدة. ارتقيتُها برشاقة وثقة مثلما يرتقي هو منصة الأمسية الشعرية الخاوية علي عروشها، أو منصة المظاهرة التي يحرسها رجال الأمن، مشكورين. كنت فرِحاً، مستثاراً، لأني ألاحظ حركات جسدى -التي هي، لابد، صدي لحركات روحي- دون أن أتنبّأ، وقت أدائها، أني سألاحظ.

شاهدتُني شارداً، ناظراً إلي ما لا يُنظَر إليه. هل فكّرتُ -لحظة الشرود تلك- أن الموجود كالمعدوم، يستويان؟ ولابد أني ركلت زجاجتين أو ثلاثاً كما يليق بسكران غافل عن وقوعه فى الفخّ، إذ سمعت فرقعة الاصطدام بالسيراميك، وتصفيقهم الحماسيّ للبداية المبشِّرة. قال مَنْ حبّذ السيناريو التفريق بين صوته وصورته:(لقد بدأ أسرع مما توقعنا. ماذا وضعتم له فى الزجاجة؟).

وشاهدتُني جادّاً، مثل ناضورجى العصابة وهو يكشف، فى نهاية الفيلم الذي اندثرت نسخته الأصلية، بعد أن عرف كل واحد حدوده، أنه خدع الجميع -ممثّلين ومتفرّجين- وأنه (اليوزباشي روؤف حلمي) وليس (الواد كُفتة الأعور) كما كانوا يظنّون. مددتُ ذراعيّ على طولهما، أشكو: (ما هذا الفراغ؟). لم يبدُ على الذين ظهروا، معي، فى اللقطة أنهم يرون الفراغ الذي أري. كانوا يتلفّتون فى الأرجاء مندهشين، ومعجبين -ربما- بأدائي. وبدا أنه كان يقوم بدور مدير التصوير، لأنه لم يدخل الشاشة ولو بشحمة أذن، ولأني وجّهتُ سبابتي مباشرة إلى الكاميرا، وزعقتُ من أجلهم: (سأشغل لكم الفراغ بيوم خالدٍ في حياة هذا المناضل، وكلّ أيامه المعدودة -شهادةً للتاريخ- خالدة: الاستيقاظ مع عودة العمال من المصانع.. انتفاخ العينين سببه القلق الوجودي.. الدماغ متصدّع تبعاً لنوع خمر الليلة الفائتة، الذي هو تبعٌ لمباديء الليلة الفائتة.. تثاؤب، تمطُّع، تدلُّل على اللغز السرمدىّ للحياة، الذي يظل دوماً رهن الحَلّ، دون حلّ أبداً.. السيجارة علي الريق رمزية، وقد يكون فيها إسقاط.. الفول أوالكشري أوالحواوشى، والشاي بعد الصنف المختار، لوازم لتفجير العالم بغرض فكّ أسْره.. البدء بمقهي (الحرية) لإعادة التذكير بالأزمة.. مقهي (شلبي) لتبادل السباب، وسماع: (كيف تتكلم عن حقوق العمال الغلابة وأنت لا عامل ولا غلبان؟!).. مقهي (الندوة) للتصفيق وترديد أغاني ثورية -كتعويض نهائي عن القيام بالثورة ذاتها- مع المتحلّقين حول واحد كفيف، يعزف على العود، ويضع طربوشاً أحمر علي رأسه دون أن يستفزّ ذلك أحداً، ومن ثمّ سماع: (ألم تموتوا مرّة يا أخي! ماالداعي؟ الرحمة حلوة) من شخص يتغيّر كل يوم، ويقول -كل يوم للمصادفة!- إنه لا يعرف اسم المقهى، حتى لا يدّعي أحدٌ أنه مدسوس!.. نادِي (الشجرة) الهاديء بصحبة فتاة مبهورة، للحصول علي دفقة رومانسية، تحقق قدراً من التوازن العاطفي، يساعد علي تكرار النضال -دون ملل- في الغد، الأكثر خلوداً.. بار الختام لإنكار ما كان وما سيكون، ثم إنكار مَنْ كان ومَنْ سيكون، ثم إثبات كل ما سبق.. لا بأس، وسط هذا الانشغال، أن تُكتب قصيدة جديدة في مقهي مجهول لتُنشَر بعد ثلاثة شهور في المجلة الحكومية.. العودة -تضيع تفاصيلها دائما- إلي فيزيقا النوم وقت خروج العمال إلي المصانع)
وشاهدتُني أضحك للكاميرا، وأميل علي المنضدة، أخطف الزجاجة، أحشر فوّهتها في فمي، وأعبّها دفعة واحدة. تخيّلتني -خارج الفيلم- أحد جنود الفايكنج يتأهّب للمعركة الفاصلة مع أكَلة الموتي. هل تخيّلتُني نفس الجندى عندما كنت في الفيديو؟. هممتُ بالسقوط المتصلّب، مثل صنمٍ مكفورٍ به أخيراً بعد طول عبادة، والزجاجة فارغة في قبضتي، لولا أن قاموا، مناضلين، ليلتقفوني.
*
ضحك ضحكة عدائيّة أفزعتني. نظر مباشرة فى عيني، نظرةَ قاتل موشك علي مصارحة قتيله بأنه لا يستحق القتل، لكنه ما عاد قادراً علي التراجع. تخدّر فزعي لما انتبهتُ إلي أن الليلة ماضيةٌ مثلما قدّر لها الفيلم، وأنه تخطّي مرحلة الإنكار، ومنتقلٌ سريعاً إلي فقرة الإثبات. فرَد ذراعيه أمامه، وباعد بينهما جداً كأنه سيصف شيئاً ضخماً. قال: (كنت أنا مدير التصوير. أعرف أنك توقّعت. ليتني لم أقفل الكاميرا بعد سقوطك الرائع. كلامك لن يستعاد. كنا لم نزل نشيّع جنازتك. أنت نفسك لن تقوله مرة أخري. لا أحد يصعد الجبل جرياً مرتين. لا أحد منّا يتذكر. كان كلاماً من النوع الذى لا يقال إلا مرة واحدة فى تاريخك السفلي الضائع. ما يدعو للتفاؤل أنك لم تذكر الموت. هل تصدّق أن هذا كله لم يفسد ليلتنا؟)

أعدتُ إليه تليفونه المحمول، كما يعيد المسحوب إلي المشنقة الحقوق إلي أصحابها، لتُعتصَر رقبته علي نظافة. احتفظتُ، فقط، بنفورٍ هائل من ملاحظته الأخيرة الوقحة عن الموت. كيف لا أذكر الموت وقت تشييع جنازتي؟ وكيف يتصوّر أني سأخرج سكرانَ، مقتنعاً. وكنتُ حسبتُني رفضت -بحسم ليس من طبعي معه- إكمال السهرة في البار!   
  

 

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...