الورقة * ٣ *
عقب كل انفجار كان يحدث في أطراف المخيم، يشهق الأهالي وجعا، وينتابهم حالة من الغضب والرعب،
فيصبح كل من بقي منهم على قيد الحياة مشروع موت قادم ،وتراهم من تلقاء أنفسهم، يتجمعون في الشوارع،بعضهم يحشر نفسه في الزوايا،كما لو أنه ينتظر يوم الحشر،تحل اللعنة ويصبح قصف الألسن أشد من قصف الحرب نفسها ،يشتمون ويلعنون كل من سولت له نفسه قتل الأبرياء .
في ذلك النهار الصيفي الحار،كنت لا أزال أهيئ نفسي للذهاب إلى المدرسة، وأتشاور مع ابنتي الصغرى
كيف نؤمن ربطة الخبز ،ففي حالة الحصار هذه، استولى المرتزقة على المخبز الوحيد في المنطقة، وتكيف
الأهالي مع بؤسهم، وغدت البقول ولاسيما "المجدرة" الغذاء الدائم لهم على مدى أشهر.
_أي حياة هانئة ستمضي ونحن على هذه الحال ؟؟!
قلت أحدث نفسي، وأنا أتسمر أمام الباب، تحاصرني وجوه العجزة والأطفال والنساء،خلف الجدران يكظمون جوعهم،ويتوسدون ليلهم الخاوي بالصبر والحرمان والتقشف،وقبل أن أتجه بمحاذاة الأفق الرمادي، هز انفجار عنيف منطقة شمال النهر، وكان أقوى الانفجارات ،تجاوز السهم الأحمر على مقياس
رختر طارت على إثره الشبابيك والأبواب ،وخزانات المياه،غطى الدخان المكان ،شممت رائحة شواء غريبة، وسمعت أصواتا تبعق في أذني مثل نوارس جريحة ،تصعد باتجاه السماء، أحد الجيران شتم بقلب مجروح الحرب والحياة التي لم تعد تطاق ،رأيته يركض حافيا يهذي بكلمات لم أعد أتذكرها، حاولت أن أخفف عنه وأساله أين حدث هذا الانفجار لأطمئن على ابنتي البكر وابنتها الحديثة الولادة ، لكنه لم يلتفت ، تمنيت لو ينبت لي جناحان لأطير بهما إلى هناك ،ولكنني تسمرت في مكاني تجلدني سياط الرعب ،ركضت أهرول خلفه، وعيناي تغوصان في حمى ألوان متناقضة من الخوف، سمعت صوت جارتي العجوز المقعدة (أم كرم ) تنادي علي وهي تجلس على كرسي عجزها:
_ عودي يا بنيتي ،المكان خطير. لكنني لم ألتفت إلى الوراء،قطعت شوارعا عدة، وحارات ،وكسر الزجاج المتناثرة مثل حبات القمح تنغرس في مشط قدمي،وخلفي سيل من الدماء لاينقطع ،يكاد يشبه النار التي تصلني بالجحيم،استسلمت للقدر ورحت أهدهد نفسي مثل حمامة تنوح على نوافذ البحر وقلت: _لاعليك يا امرأة! الله يعطي، والله يأخذ متى يشاء! .
فأنا أعرف أن الموت في الحروب عند الله في السماء يهب الحياة معنى الخلود .
أيقنت تماما بأن الصراخ ،والعويل، والعراء الذي يحاصرني من كل الجهات ليس سوى غروب الشمس
فوق البحر ،في يوم نحس ،وأنا المصابة بالفقدان يملؤني الحزن على مدى خط الأفق ، حاولت أن ألملم ما تشتت من حواسي وأن أصرخ لما آلت له ساحة شمال النهر من خراب ، ودمار،وبيوت في الهواء تشبه
هياكل عظمية،وجثث وأشلاء معلقة على أغصان أشجار الكينا الشاهقة، لكن فمي أصيب بالشلل ،
تحنطت شفاهي،والفم يبكي قبل العين أحيانا.
تغبشت الرؤيا أمامي ،فقد كان الموت وحشا أخذ كل ماحوله من أشياء جميلة،فركت عيني أدقق النظر إلى أديم الأرض التي تغيرت ملامحها،وغدت مسربلة بالدماء،أقف على رؤوس أصابعي ، أشرئب برأسي فوق أكتاف الخلق الذين هرعوا بحالة من الدهشة وجاؤوا لتفقد أحبابهم وأهلهم ، أستعجل الوصول إلى أي
وجه يخصني بين ركام الفوضى،فتكسرت أجنحتي ، وقلبي يهرب مني نحو وجه رأيته يزهر بين يدي رجال الإسعاف مثل مساكب حبق وأقحوان. صعقت وأنا أرى "وحيد" تلميذي الذي على يدي تعلم أبجدية الحروف في المرحلة الإبتدائية،قبل يومين اشتريت من دكانه زجاجة كولا،و قطع من البسكوت المغطس بالشوكولاه، وعلبة محارم ناعمة،يومها فرش أمامي بضع حبات من السكاكر المطعمة برائحة النعناع،وحب الهال،وقال وهو يدغدغ أذني بكلمات معبقة بالفرح :
_ هذا حلوان خطبتي يا آنسة .
حاولت أن أصل إليه وأطلق لساني من عقاله وأطفىء مكامن الحريق في أحشائي لكن روح "وحيد" غابت مثل القمر وغدا اسمه حكاية بلون الشفق يلون ليل المخيم.
البارحة مررت بالمكان "مسرح الموت" ، كل شيء عاد كما هو ،البيوت ،الناس ،الشرفات، الأطفال، ملؤوا الساحة بصراخهم يرقصون على هدير المولدات.
في هذا المكان الغارق بالذكريات مثل فحمة شجن ، لم يربكني أي شيء سوى فجيعتي بتلميذي "وحيد" ، فقد كانت أقسى من حجر الصوان .
عقب كل انفجار كان يحدث في أطراف المخيم، يشهق الأهالي وجعا، وينتابهم حالة من الغضب والرعب،
فيصبح كل من بقي منهم على قيد الحياة مشروع موت قادم ،وتراهم من تلقاء أنفسهم، يتجمعون في الشوارع،بعضهم يحشر نفسه في الزوايا،كما لو أنه ينتظر يوم الحشر،تحل اللعنة ويصبح قصف الألسن أشد من قصف الحرب نفسها ،يشتمون ويلعنون كل من سولت له نفسه قتل الأبرياء .
في ذلك النهار الصيفي الحار،كنت لا أزال أهيئ نفسي للذهاب إلى المدرسة، وأتشاور مع ابنتي الصغرى
كيف نؤمن ربطة الخبز ،ففي حالة الحصار هذه، استولى المرتزقة على المخبز الوحيد في المنطقة، وتكيف
الأهالي مع بؤسهم، وغدت البقول ولاسيما "المجدرة" الغذاء الدائم لهم على مدى أشهر.
_أي حياة هانئة ستمضي ونحن على هذه الحال ؟؟!
قلت أحدث نفسي، وأنا أتسمر أمام الباب، تحاصرني وجوه العجزة والأطفال والنساء،خلف الجدران يكظمون جوعهم،ويتوسدون ليلهم الخاوي بالصبر والحرمان والتقشف،وقبل أن أتجه بمحاذاة الأفق الرمادي، هز انفجار عنيف منطقة شمال النهر، وكان أقوى الانفجارات ،تجاوز السهم الأحمر على مقياس
رختر طارت على إثره الشبابيك والأبواب ،وخزانات المياه،غطى الدخان المكان ،شممت رائحة شواء غريبة، وسمعت أصواتا تبعق في أذني مثل نوارس جريحة ،تصعد باتجاه السماء، أحد الجيران شتم بقلب مجروح الحرب والحياة التي لم تعد تطاق ،رأيته يركض حافيا يهذي بكلمات لم أعد أتذكرها، حاولت أن أخفف عنه وأساله أين حدث هذا الانفجار لأطمئن على ابنتي البكر وابنتها الحديثة الولادة ، لكنه لم يلتفت ، تمنيت لو ينبت لي جناحان لأطير بهما إلى هناك ،ولكنني تسمرت في مكاني تجلدني سياط الرعب ،ركضت أهرول خلفه، وعيناي تغوصان في حمى ألوان متناقضة من الخوف، سمعت صوت جارتي العجوز المقعدة (أم كرم ) تنادي علي وهي تجلس على كرسي عجزها:
_ عودي يا بنيتي ،المكان خطير. لكنني لم ألتفت إلى الوراء،قطعت شوارعا عدة، وحارات ،وكسر الزجاج المتناثرة مثل حبات القمح تنغرس في مشط قدمي،وخلفي سيل من الدماء لاينقطع ،يكاد يشبه النار التي تصلني بالجحيم،استسلمت للقدر ورحت أهدهد نفسي مثل حمامة تنوح على نوافذ البحر وقلت: _لاعليك يا امرأة! الله يعطي، والله يأخذ متى يشاء! .
فأنا أعرف أن الموت في الحروب عند الله في السماء يهب الحياة معنى الخلود .
أيقنت تماما بأن الصراخ ،والعويل، والعراء الذي يحاصرني من كل الجهات ليس سوى غروب الشمس
فوق البحر ،في يوم نحس ،وأنا المصابة بالفقدان يملؤني الحزن على مدى خط الأفق ، حاولت أن ألملم ما تشتت من حواسي وأن أصرخ لما آلت له ساحة شمال النهر من خراب ، ودمار،وبيوت في الهواء تشبه
هياكل عظمية،وجثث وأشلاء معلقة على أغصان أشجار الكينا الشاهقة، لكن فمي أصيب بالشلل ،
تحنطت شفاهي،والفم يبكي قبل العين أحيانا.
تغبشت الرؤيا أمامي ،فقد كان الموت وحشا أخذ كل ماحوله من أشياء جميلة،فركت عيني أدقق النظر إلى أديم الأرض التي تغيرت ملامحها،وغدت مسربلة بالدماء،أقف على رؤوس أصابعي ، أشرئب برأسي فوق أكتاف الخلق الذين هرعوا بحالة من الدهشة وجاؤوا لتفقد أحبابهم وأهلهم ، أستعجل الوصول إلى أي
وجه يخصني بين ركام الفوضى،فتكسرت أجنحتي ، وقلبي يهرب مني نحو وجه رأيته يزهر بين يدي رجال الإسعاف مثل مساكب حبق وأقحوان. صعقت وأنا أرى "وحيد" تلميذي الذي على يدي تعلم أبجدية الحروف في المرحلة الإبتدائية،قبل يومين اشتريت من دكانه زجاجة كولا،و قطع من البسكوت المغطس بالشوكولاه، وعلبة محارم ناعمة،يومها فرش أمامي بضع حبات من السكاكر المطعمة برائحة النعناع،وحب الهال،وقال وهو يدغدغ أذني بكلمات معبقة بالفرح :
_ هذا حلوان خطبتي يا آنسة .
حاولت أن أصل إليه وأطلق لساني من عقاله وأطفىء مكامن الحريق في أحشائي لكن روح "وحيد" غابت مثل القمر وغدا اسمه حكاية بلون الشفق يلون ليل المخيم.
البارحة مررت بالمكان "مسرح الموت" ، كل شيء عاد كما هو ،البيوت ،الناس ،الشرفات، الأطفال، ملؤوا الساحة بصراخهم يرقصون على هدير المولدات.
في هذا المكان الغارق بالذكريات مثل فحمة شجن ، لم يربكني أي شيء سوى فجيعتي بتلميذي "وحيد" ، فقد كانت أقسى من حجر الصوان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق