لمَ نثق بالقصص في عالم تجاوز الحقائق؟
حين ألفت
روايتي الثانية، لم نكن نحيا في عالم من تجاوز الحقائق، أو هكذا ظننا. لقد
حدث ذلك في العام الذي تلا إلغاء الرقابة على السوق، وبداية نشاط الاقتصاد
الذي نجم عنه أعظم انهيار اقتصادي عرفه التاريخ بعد عشرين عامًا. لذا كان
كل ما يقال لنا وكل ما نعيشه يخلو من الحقيقة، إن كانت الحقيقة دائمة
ومستقلة وممكنٌ إثباتها.
أدركت
بعد ثلاثين سنة، وبتفكيري في القصص مقابل الكذب، كل الأمور الواضحة
المتعلقة بالابتكار بوصفه وسيلة لبلوغ حقيقة أعمق، وبالكذب بوصفه وسيلة
لتجنب قول الحقيقة مطلقًا، أو أسوأ من ذلك، بوصفه وسيلة لخلق عالم مخيف لا
شيء فيه كما يبدو، ولا يمكن فيه الاتكاء على شيء، ولكننا نعلم أن العقل
البشري لا يمكنه الانسجام مع ذلك، فيتشبث غريزيًا بـ”الإنسان القوي” الذي
يكون عادة أكبر الكذابين في الجماعة. وهذا كله شديد الوضوح، أما أن تكون
القصة نفسها وسيلة أكثر من كونها غاية، وخارطة أكثر من كونها وجهة، فهي
مسألة أقل وضوحًا. وهذا هو القاسم المشترك بين القصص والحب، فالحب وسيلة لا
غاية، والحب خارطة لا وجهة. ولهذا ليس هنالك شيء من قبيل “وعاشا في سعادة
أبدية”. وهذا هو ما يجعل المشهد الخامس من مسرحيات شكسبير الكوميدية كثيرًا
ما يكون شديد الإرباك. إذ نعلم مسبقًا أن ما يلي الجذل وحل العقدة هو
بداية مسرحية أخرى ورحلة أخرى، والحب ليس إلا الطرف الظاهر من الخارطة
المطوية.
لذا كان
ارتباطي في قَصّ الحكايات، مثل ارتباطي بالحب، إن هو إلا ارتباط بالقلق لا
الأمان. بالمغامرة لا القناعة، بالاحتمالات لا الإجابات، وبوسعكم رؤية ذلك
لأنه واضح جدًا للحد الذي يضطرني لقوله، إن الكذب كثيرًا ما يُقدم على أنه
إجابة. أما الحقيقة فهي مكان ملغز، ومكتظ بالأسئلة من قبيل ماذا لو؟ ما؟
من أكون أنا؟ من تكون أنت؟ بم أؤمن؟ لِمَ أؤمن به؟
نطرح هذه الأسئلة بطرق أخرى، فنحن نسألها بالطبع سياسيًا وفلسفيًا وروحانيًا، ونحددها مباشرة.
وهذا هو
الاختلاف، برأيي، لأن البشر لا يمكنهم دومًا، أو حتى على نحو مثالي، أن
يحددوا العظيم والمعتم والعسير والمخزي والمذنب والمجرم والمجنون مباشرة،
كما استنتج فرويد في مطلع القرن العشرين. بل علينا الذهاب إلى الطرق
الجانبية ونحو الأسفل والذهاب بعيدًا دون الهرب، فنستخدم الوسائط والأقنعة
وهذا ما يوجِد القصص.
كنت أتساءل دومًا عن حياة أميرات القصص الخرافية، وحين أدركت أنني كاتبة أدركت أن بمقدوري معرفة ذلك.
وقد
اقتحمت الكاتبات البريطانيات من أمثال أنجلا كارتر وميشيل روبرتس وسارا
متلاند الغرف المقفلة والمختومة للقصص الخرافية، وأعدن روايتها، دون أن
تكون تلك نسخًا نسوية بالضرورة، لادعائهن حقهن في إعادة كتابتها وهو جزء من
الأطروحة النسوية. وكان النص على الدوام، بدءًا بالكتاب المقدس، وسيلة
لادعاء المعرفة والتقاليد، وكان النص سلاحًا في حرب الطبقات لإبقاء الناس
في مواضعهم، وسلاحًا جندريًا أيضًا، من المسموح له بالقراءة؟ ومن المسموح
له بالكتابة؟ ما الناموس؟ ما الأدب؟ ومن يزعمهما؟
كنت
واعية لنفسي لكوني امرأة من الطبقة العاملة تكتب، وكنت سعيدة بأن أُغير مثل
قرصان وأستولي على صندوق الكنز المسمى بالماضي. على أية حال، تصبح القصص
راسخة حين تدون فحسب، فقد وجدت الأساطير والخرافات والقصص الخرافية، وما
زالت موجودة، بنسخ شفهية متعددة، لكن النسخة المكتوبة قائمة على الفرضية،
أليس كذلك؟
فلمَ لا نقترح إذًا شيئًا مختلفًا؟
إن
الكتابة محاولتي لخلق عالم، وكنت أحكي لنفسي قصة نفسي، لكن الكتابة أكبر من
محتواها، وأكبر من القصص التي نحكيها. فالأدب هو انهماك بذواتنا الأكثر
عمقًا، وصوغ لغة للحديث عن هوياتنا، بعيدًا عن العبارات المبتذلة
والمقاربات، بعيدًا عن التعميم وأنصاف الحقائق. والأدب وسيلة لئلا تضطر
للحديث عن أي شيء. فاللحظة التي تضع الكتاب فيها جانبًا، واللحظة التي
تحدق فيها في الفراغ، تعني معرفة تتجاوز المعرفة العادية، هل هي عزم؟ أم
سلام؟ أم استنارة؟ إنها العودة إلى الصمت عبر اللغة. نبدأ بالصمت وننتهي
إليه، لكننا لا نستطيع العودة دون لغة تهدينا إليه، لأن الكلمات ليست سوى
جزء من الصمت الذي يمكن نطقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة : بثينة الإبراهيم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق