اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

ثلاث قصص قصيرة ... شهربان معدي

⏪1
⏪ سر الخالة كاملة

على أطراف ثلاثة عقود من الزمن، قدمت الخالة “كاملة” لتُزفّ في عرس صغير متواضع في قريتنا، كاد العرس يومَها أن يكون شبيها بالجنازة..؟ فالعريس أرمل عجوز وقد بلغ نهاية السبعينات، والعروس سيدة في أواخر الأربعينات من جنوب لبنان، واسمها
كاملة.. الخالة كاملة.

وأذكرُ جيدًا كيف تهامست النساء، قبل وصولها إلى بيت الزوجية بوقت قصير، فبعضهن تَحَدّثن عن سمنتها ودمامتها بلا مواربة، وأخريات شهدن أنها فقدت إحدى عينيها ولا ترى إلا بعين واحدة، ومنهن من أكّد أنها مطلقة بعد أن اكتشف زوجها أنها عاقر لا تصلح للحفاظ على ذريته.

كلُّ العيوب التي تخطر في البال، والتي لا يتجرأ أحدهم إلصاقها علانية بالآخرين؟ أُلصقت بالمرأة المسكينة. حدث ذلك كله قبل وصولها إلى القرية ببعض الوقت، لا يتعدى في الزمن ساعة واحدة.

كانت الوافدة الجديدة من الطلاسم المختومة سبع مرات، قبل أن يذوب الشمع الأحمر، وتنكشف شخصيتها الحقيقية، أمام هؤلاء النساء الفضوليات، اللواتي يحتجن دائما إلى الإشاعات والأخبار الجديدة ترفد فضولهن كالحاجة إلى الماء والهواء.. فالقادمة إمرأة غريبة أتت من لبنان ولم يُعرف أصلها من فصلها ولا خيرها من شرها بعد؛ ما حمل تلك الزمرة الفضولية من النسوة، أن يفصلن أثوابا مختلفة المقاسات لتلك المسكينة، قبل قدومها لبيت الزوجية بوقت قليل.

وهكذا ساد السكون وصمت القبور على دار الجار الوقور وبيته الريفي المتواضع، وكأن الطير حطّت على كل من كان في العرس المتواضع المغمور، وحينما وصلت العروس أشرأبت الأعناق وحُبست الأنفاس، وكأنها كائن فضائي مختلف، هبط لأول مرة من السماء إلى هذي الديار.

دخلت برفقة إحدى قريباتها الآتية معها، عملا بالأعراف في المكوث مع العروس، لتؤنس وحدتها بضعة أيام فحسب. لكن المفاجأة..؟ حينما لم تكن العروس سمينة ولا قصيرة بل قدّها متناسقٌ ميّاس، وخطواتها رشيقة كأنها فراشة في العشرين. وهكذا همست كل واحدة لجارتها تقول: فلتنتظر بصبر لا ينفد أن تكشف العروس عن وجهها. لعلها كما أشيع بعين واحدة!؟ وفي وجهها ولون بشرتها ما حملها أن تقطع مسافة طويلة، من ديار إلى ديار لتزُف للأرمل العجوز.

وحينما كشفت إحدى قريبات العريس العجوز، عن وجه العروس إحترامًا لشيخوخته من الإحراج؟ فوجئ الحضور أن في هيئة المرأة سمات من الجمال لا بأس بها، فهي بيضاء كالحليب وليست بعين واحدة، ولا يوجد في وجهها المغطى ما يعيب، رغم نظرتها التي توحي بخشونة مكتسبة. لكن فمها كان دقيقا وأنفها مرتفعا يوحي بالكبرياء، وربما زاد اللغز من جمالها المقبول وحضورها المهيب تساؤل النسوة؟ كيف ترضى امرأة بشبابها الزواج من هذا الأرمل العجوز.

وحينما نتقت إحدى الحاضرات زيق ثوبها..؟ لترى سببا آخر حملها على الرضا بهذا الزواج! تصدَّع نظر الجميع عندما صافحت النساء الحاضرات، بيدها العاجية وكأنها قدَّت من لون الثلج ونعومة الحرير.

أمسكت أمي بيدي وقالت لي: تعالي يا عزيزتي نسلم على جارتنا الجديدة قبل المغادرة، فنحن اقرب الناس إليها ومن واجبنا أن نرحب بجيرتها، وفوجئنا كثيرًا عندما بادلتنا التحية بمحبة وود بَانَ في قسمات وجهها. لكن صوتها مع حنانه وحلاوته كان حازما ومنضبطا.

وهكذا مضت الأيام، وعبثا حاولت إحدى الجارات المتطفلات ممن يُجِدْنَ التقرب والتدليس لكي تعرف من الخالة كاملة من الأسرار ما يشفي فضولها، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل! حتى بعدما رمت لها الطعم في الصنارة، حينما كانت تتظاهر أنها تكشف لها أخطر أسرارها الشخصية ليطمئن بالها “وهي طريقة نسوية متداولة” لكي تمسك بطرف الخيط. لكن محاولاتها ضاعت سدى. فالخالة كاملة كانت حريصة ألا تكشف لأحد عن أسرارها..!!

هكذا مضت الأيام وتعاقبت الليالي، وتغير كل شيء في بيت العريس العجوز! وعاد ماء الشباب يجري في وجنتيه، وبدا طلقا مغردا كأنه عاد إلى العشرين! حينما عمدت الخالة كاملة لتطبخ لزوجها طعام بلادها مما تعودت متابعته على شاشة التلفاز. ثم قامت إلى ملابسه تغسلها وتكويها و كوفيته البيضاء تفوح منها رائحة أطيب معطّرات الغسيل.


والأرمل العريس كان يملك حاكورة صغيرة بجانب بيته مزروعة بالأشجار المثمرة، فطلبت منه العروس أن يزودها بفأس، لتغرق في تربة الحديقة وتروي أشجارها، التي سرعان ما اخضوضرت، ودبت فيها الحياة بعد أن قلمتها واعتنت بري تربتها، فزرعت فيها مساكب النعناع وإكليل الجبل والميرمية والريحان، ما عبق به مدخل الحاكورة وانتشر في كل الحارة والجوار.

ومن كان يعاني من وعكة صحية من أطفال الحي؟ كان يقصد الخالة كاملة فتحضِّر له الشاي، ومغلي الزهورات وترقيه رقيتها الشافية من صيبة العين، فيخرج من بيتها معافى كالغزال.

وفي إحدى الأمسيات الخريفية الباردة، شعرتُ بوعكة صحية فقصدت الخالة كاملة شأني شأن الآخرين، لألتمس الشفاء على يديها، فوجدتها تجلس تحت شجرة معمّرة في الحاكورة، وهي تنشج وتندب حالها على غفلة من وجودي وهي تغني وتقول: “لأبعث سلامي على ورقهن… يا قلبي الدّايب من يوم فراقهن، يا ريتني محرمة ومسح عرقهن، وظلني دوم في قلوب الحباب..”

ثم اجهشت غربتها بالبكاء، وقد اقتربت منها وأمسكت يدها وانحنيت نحوها متوسلة بأن تكف عن البكاء، وقلت لها ما خطبك يا خالتي كاملة، أشركيني بآلامك، هوّني عليك، تكلمي..! فأنا مثل ابنتك لعلي أخفف عنك بعض معاناتك..؟ فتطلعت إلي بعين حزينة وقالت بحسرة ملحوظة:

– فراق بلادي سحق قلبي! لكم اشتقت لوطني وتربة أهلي.. وهذه النسمات الشمالية الباردة..؟ تذكرني بلبنان موطني وموطن عشيرتي وبني قومي..! كل خلية من خلايا جسدي تشتاق للفحة من نسيم الشمالي، وكل صورة ترصدها عيناي؟ تبحث عن مشهد يذكرني بأصلي وفصلي.

تأملت في قسمات وجهها لا يخلو من رقة ووسامة، وربتّ على كتفها بلمسة حانية؛ وسألتها بحذرٍ شديد خوفًا أن أجرح مشاعرها: – إذًا لماذا تنازلت عن وطنك..؟ وما حملك أن توافقي على هذا الزواج يا خالتي..!؟ ليضنيك إليه الحنين..!؟وهل هناك من أكرهك على هذا الزواج..!؟

فرفعت إلي نظرة مترددة وقالت بحسرة مليئة بالمرارة: خرجت على إرادة أهلي وعصيتهم وأنا صبية طائشة غريرة، حينما أحببت جنديا مغمور النسب وتزوجته.. وأنا ابنة عائلة واسعة الثراء، ما جعلني أسدد ثمن قراري غاليًا، حينما تحديت الجميع وتزوجت بمن أحببته، بالرغم من مُعارضة أهلي وعائلتي، الذين أنكروا علي قراري المتهور وتنصلوا من مسؤوليتهم معي. وهكذا رضيت بالكفاف طوعًا وإخلاصًا لزوجي، الذي مات في الحرب الأهلية بعد عقدين من الزمن.

واسترسلت في حديثها بعيون دامعة وصوت حزين: بالرغم من أنه كان فقيرًا معدمًا، ولكنه كان شهمًا وجنديا مؤمنا، وكنت دائما في باله ورفيقة دربه في مهماته، فصرت أؤمن وأتطلع إلى كل ما يصبو إليه ويعجبه، وأنتهجُ أسلوبَه في الحياة معي. هكذا علمني التضحية ومحبة الأرض، وكنت سعيدة معه بالرغم من أننا لم نرزق بأطفال. لكنه كان بجانبي يعوضني عن كل ما يعوزني.

وعندما نشبت الحرب الأهلية، عرف القدر كيف يسخر من حبنا لأنني فقدته، وبفقدانه فقدت الأمل وطعم الدنيا، ولكم منيت نفسي أن أرزق بولد أو بنت تعوضني عن رحيل زوجي. لكن قدري حرمني نعمة الإنجاب! لأعود أدراجي إلى أهلي كسيرة ذليلة القلب، أجرر ورائي أذيال خيبتي.

وهكذا لم تسمح لي كرامتي وهوني على نفسي، أن أحيا بين ظهرانيهم بعد أن عصيتهم وخرجت عن طوعهم وإرادتهم! ولهذا رضيت بأول عرض زواج لكي أهرب من همومي وأحزاني التي كابدتها في وطني! وأشعر الآن أن شوقي للعودة يفوق تعبي وأحزاني وهمومي.

ثم راحت تنشج بحرقة كطفلة صغيرة تخلى عنها أهلها وتركوها على منعطفات خطيرة لا تدري ما تفعله.. فاحتضنتها برفق وقلت لها منذ اليوم وصاعدًا أنا ابنتك التي كنت تتمنين وأختك التي تركتِها في وطنك.. كلنا أهلك ومحبوك يا خالتي.. ومن ذلك الحين صفا الود بيننا وارتفعت الكلفة بالتعاطي بيننا، وأصبحت خالتي كاملة واحدة من البيت، بعد أن كانت غريبة الدار والأهل.

ومرت أعوام كثيرة ملأت خلالها الخالة كاملة حارتنا رفقًا وحبًا، لأنها كانت كريمة النفس والكف! رقواتها مباركة وحضورها مهيب! إمرأة لم نسمع من شفتيها إلا كلام المودة، وقد علمتنا كيف نحيا بالمحبة والخير وحده.. وكيف لا نبتغي أو نطلب لأنفسنا أكثر مما نستحقه.

بالأمس رحلت الخالة كاملة بعد سنوات عاشتها بيننا، وكانت مثال المرأة العصامية الشريفة التي تركت لوعة عالية في قلوب من عرفوها! وكانت تتمنى أن تحظى ولو لمرة واحدة برؤية بلدها، بجباله ووهاده وأوديته وغابات أرزه، وسهوله التي تتجمع فيها خيرات العالم بأسره. رحلت وبسمة حزينة تتردد على شفتيها، وتتمنى أن تتكئ ولو لحظة في الزمن على سياج بيت أهلها المطرز بأزهار الياسمين. لكن الخالة رحلت إلى الأبد وتركت في قلوبنا فراغا وحسرة، وفي عقولنا كثيرًا من التساؤل وفي عيوننا أصدق الدموع..
القصة مختارة من مجموعتي القصصية “لدموع لم تسقط”.

⏪2
في حارتنا العتيقة

في حارتنا العتيقة، حيث كانت تغّفو على صوت هدهدة الأمهات الرخيم، وتصحو على صوت هديل اليمام وسقسقة عروس التركمان! هناك كُنّا أطفالاً نلهو تحت كل سماء.. نتأرجح بالغيم المارق، ونفتح أيدينا الصغيرة على اتساعها ونُصلي لتمطرنا دمىً وكعكبان..

كنا نتوسد أركية الفرح الأخضر ونلعب “لعبة دور يا صحن السُكّر” نملؤه خيّرا وسكراً ونذريه حفنات حفنات على كل بيوت الحارة. هناك كانت حارتنا العتيقة غارقة من الرأس حتى أخمص القدميّن بلهو الأطفال، وحرير أحلام العذارى يمشطن أهّداب أحّلامهن بأنامل الطهر والنقاء ويطرّزن المناديل الشّامية، وجهاز العروس على نور قمر صار بدرا، وينّشُرن القمح المصوّل على سطوح البيوت الحجرية..

كُنّا هناك.. في حارتنا الغافية باكرا.. نسّتقبل في البواكير موكب الشّمس مع صياح الديكة ونهيق الحمير ونُباح الكلاب وولادة القطط! ونتلهف لمواسم الزيّتون كلهفة الأرض للمطر الأول، لكي نجني الغلة ونخزنها في خوابي الزيت قبل قدوم الشّتاء.

كنا أطفالا، كباراً وصغاراً، نجلس القرفصاء حول طبق القش وتتسابق أيدينا الصغيرة على ما يسّره الله لنا من قوتٍ راضين قانعين! ثمرات التين البياضي كانت التحلية؛ نخطفها من قرطلة جدتي أم حسين وبضع حبات توت نقطفّها من توتة عمي أبو صالح التي طالما نصبنا تحّتها الفخاخ، لنصيد طيوراً من الأوهام.

هناك في حارتنا المنّسية كان يعود عمي بو يوسف من حقلهِ، والشمس تشرق من كفّيه والمنكوش يبتسم على كتفه، هل ثمة أحدٍ أخبر عمي بو يوسف، “جار الرضا” بأنّه زرع في قلب كل من عرفه غابة أفراح؟ وجارتنا الخالة أم سعيد المرأة الصلبة كالرجال! كانت تزغّرد كالصبايا في الأعراس وتلوِّح بمحّرمتها المنّقوشة في المناحات وتّبكي كالأطفال! هل أدركت يوماً بأنها زرعت في قلب كل من عرفها “قصّفة حبق!”

نشتاق..! لنسيم الصّبا للدبكة الشمالية ونخوة الشباب السمر! نشّتاق لرائحة الحناء في عيد الأضحى المبارك، لطاسة الرعبة التي حُفِرت عليّها آية الكرسي، وفعلت ما لا يستطع أن يفّعلهُ أمهر الأطباء؟ عنّدما سقط أحد الصبية عن السطح! نشتاق للمّة نساء الحارة تحت عريشة الدالية يرتشفن القهوة “الوقت عنّدهن ليس من فضة ولا من ذهب!” كن يتركّن لنا نحن الصغار الحبلَ على الغارب، لنلعب لعبة الغُميضة ورجل الجمل المكسورة، نتعارك كديوك رومية ونتصالح خلال دقائق معّدودات، ثم نعود لنلعب كجراء صغيرة تكتشف الأشياء من حولها بأفّكارها الساذِجة كأفّكار العصافير وأحّلامها البريئة كأحلام الفراشات!

أين رحلتِ يا حارتنا العتيقة؟ من لطّخ ملامحك الجميلة بألوان الخريف..؟ وقصّ ضفائرك الطويلة وسرق وجّهك، الذي كان أجمل من وجّه السّماء..!؟ من أجتثّ شجرة التوت من جذورها وطرد عروس التركمان وقتل فراخ اليمام وكسر صحن السُكّر..؟ ولماذا أصبح الناس اليوم يعيشون في سيرك إسّتعراضي عام يشمل الكبير والصغير! يُصفّق الواحد للآخر دون أن يعرف الواحد الآخر أو يحب الواحد الآخر! أهذا ما أغّضبك يا حارتي العتيقة؟

ألأننا كُنا صغارًا، رفيقنا الصدق والطهر! ولم نرتدِ قط تلك الأقنعة الملوّنة التي يلبسها بنو البشر الآن! في كل مناسبة قناع وفي كل وقت قناع! نعم كُنّا صغارًا لنا وجه واحد بدون أي قناع! ولكننا اليوم..! وبعد أن كبرنا، أصبحنا نغيّر الأقنعة حسب متطلبات المكان والزمان، ننشد لكل واحد موّاله وعلى هواه لا كما يُمليه علينا الواجب!

لماذا أصبحنا صِغارًا وكبارًا؟ نكرّر كل ما نسمعه على ألسن العامة كببغاوات غبيّة دون شفافية أو موضوعية! ألهذا السبب رحلت حارتي العتيقة وتغيّرت ملامحها الأصيلة؟ أتُريدنا أن نعود صغارًا كعهدها بنا! ليّتنا نعود صغارًا.. وليّتها..؟ تعود يوّما ما حارتنا العتيقة، التي تجمّدت على مشارف الزمان.. هناك..

⏪3
شيء أسمه الشرفعندما عاد من عمله في ذلك المساء، انقض عليها كوحشٍ كاسر، دون أن يُميز كيف يبدأ بالتهام فريسته.. وكانت ترتجف بين يديه كفراشة ترفرف بأجنحتها طلبا الخلاص..

انهال عليها بكفه العريضة في كل موضع من جسدها! سحق ذراعها بلكمة وتبعتها ضربة اخرى على رأسها، سقط منديلها فشدّها من شعرها المسترسل الناعم، وجرّها حتى الباب متجاهلا صراخ وعويل أولادها الصغار..

– يا كلبة، كيف تجاسرت أن تتحدثي مع رجل غريب؟ أيتها الحقيرة الخائنة! كل النساء خائنات، هذا هو الشيء الوحيد الذي تأكدت من حقيقته الآن..!

تشبثت برجليه، وتوسلت: أرجوك، دعني أشرح لك..!؟ الأمر ليس كما تظن؟

ولكنه أقفل نوافذ أذنيه كما أقفل نوافذ الرحمة في قلبه! ووقف على عتبة الباب، متمنياً أن يسمعه كل سكان الحي، وراح يصرخ بأعلى صوته:

– أنت طالق، طالق، طالق، أنا برئ منك إلى يوم القيامة!

الآن سوف أتصل بأخوتك، ليضبّوك من الشارع! وفي المحكمة سوف أصفي حساباتي معك ومعهم!!

ودفعها فرماها خارج البيت ككيس قمامة، يريد أن يتخلص منه صاحبه بأسرع وقت!

تحسست غطاء رأسها، عندما أقبل أخوها الكبير الذي التقطها عن الرصيف، وأمرها أن تركب السيارة بسرعة البرق، قبل أن يتشفّى ويشمت الجيران بعاره الذي ذاع على الملأ..

تكورت كطفلة مسحوقة في المقعد الخلفي، دون أن تجرؤ أن تنطق ببنت شفة! كانت ترتجف كعصفور يرتجف تحت المطر.

نظر أخوها إليها في المرآة وقلب شفتيه، كطفل صغير يُريد ان يبكي وقال لها وهو يتوعدها:

– يا كلبة! سترين ماذا ينتظرك عندما نصل..؟

سحقا.. ماذا ينتظرها أسوأ من ذلك!؟

ألا يكفيها زوجها الظالم، الذي استغل ضعفها الجسدي، لينهال عليها بهذه الوحشية! هذا السيناريو الذي تكرر عشرات المرات أمام أولادها الصغار، الذين تعقدت نفسياتهم، لم يسأل عنه أهلها؟ والآن وعندما اتهمها بالخيانة..! هرول جميعم لينتقموا ويمسحوا الأرض بها!

عند وصولهما إلى بيت أهلها، دفعها اخوها إلى الداخل برفسة من رجله المُتمرسة، واغلق الباب خلفهما بسرعة خوفا من ان يرصدها أحد الجيران بهيئتها المُزرية!

كان والدها جالسًا ينتظرها وهو يقضم اظافره بعصبية ويبصقها في الهواء..

يا عيب الشوم عليك يا مها..! قالها بصوتٍ أجش اقرب للبُكاء، انت الفتاة المثقفة المتعلمةُ، بنت الأصل والإصول! “تُوطين راسي وراس إخوتك وراس العيلة كلها.. وتدسينها في التراب..؟”

“بنت صغيرة..؟ تنجرفين ورا قلبك، ويضحك عليك رجل وضيع؟ يا فاسدة! متضايقة من جوزك احكيلنا، احكي لاخوتك وهني بيعرفوا حسابهم معاه، اما انك تحكي من ورا ظهره مع رجل غريب! فهذا مش مقبول علينا؟ فهمتِ! أنا لم اعد اباك، أنا بريء منك إلى يوم القيامة! وهجم عليها ليوسعها ضربا ورفساً!

أزاحه عنها اخوها الكبير وزمجر: – والله سأشرب من دمك! لو تموتي أهوّن علينا؛ البلد كلها عم تحكي علينا، اللي بيّسوا وما بيّسوا، وإنقض عليها بلطمة قاسية، جعلت شفتها السفلى تنزف وتتضخم بسرعة..

أسرع أخوه الاصغر وأزاحه عنها، وقال له:

– أنا الذي سأُصفي حساباتي مع هذه الكلبة! أنت رجل حكومة وسيطردونك من وظيفتك اذا اشتكت عليك!

انخرطت مها في بُكاءٍ مرير، بكاء المقهور من المظالم! أهي تشتكيّ للبوليس، وعن من..؟ عن إخوتها..! نعم؟ إنهم إخوتها، تاج رأسها حتى ولو نسفوا جمجمتها، لن تشتكيهم لأحد! وهل العين ترتفع فوق الحاجب؟

لطالما أطلّت عليهم “كسانت كلوز” مُحملة بالهدايا والمُفاجئات، لطالما حملت همومهم وفرّجت ضائقتهم، والآن ينهالون عليها كشاة ذبيحة، يتناوب على تقطيعها، جزّارون مُحترفون!

مسكينة أنت يا مها! حتى أمك في هذه المحنة القاسية خانتك!

وبدأت تردد أسطوانتها المألوفة التي حفظتها مها عن ظهر قلب:

نامي زعلانة ولا تنامي ندمانة! كم مرة قلتلك إياها يا مها!

لم تفكري في ولادك؟ لم تفكري في سمعة عيلتنا الطيبة!

نسيتِ أنه سوق النساء البخس! والمرأة تطير على كلمة من بيتها..

وإنو ارجعي عَ ظهرك ولا ترجعي عند أهلك!

ومطلقة على شو..!؟ على سُمعة! مين هذا اللي يستاهل إنك تخسري ولادك عشانو؟

قوليلنا من إبن هالحرام، إللي لِعب في عقلك يا مُغفلة؟

– ولكنني.. تمتمت مها..

– أسكتي.. لا تدافعي عن نفسك! الناس لن يصدقوا شيئًا، ونحن لن نصدقك، لا دخان بدون نار! كيف سنواجه العالم!؟ ماذا سنقول للناس..!؟

مها المرأة الاستثنائية، ثمة احد لن يصدقها، حتى ولو أقسمت مليون يمين! صحيح أنها لم تُخلق من تُراب القمر! ولكنها امرأة من ذهب أربعة وعشرين قيراط، مُلتفة، وبيضاء، تحمل عذوبة النسيم، وحلاوة السكر..

وهي ليست مُغفّلة كما يقولون عنها! بل هي إمرأة مُتعلمة، مثقفة، مُتفانية في عملها، أغدقت عاطفتها الجياشة على كل من حولها، دون ان تدرك..؟ أن هذا المجتمع الفقير من العواطف والمشاعر الإنسانية، سيبصقها كمضغة عسيرة فقدت كل خواصها، لأنها فضفضت عن بعض همومها، لأحد زملائها في العمل، الذي أزاح عن صدرها كثيراً من جبال الهمّ، بعد ان لاحظ آثار صفعة زوجها، على رُخام خدّها الغض، ولكنها.. وضعت له حدًاً عندما بدأ يتمادى..

تبا لمعشر الرجال، لا يجيدون إلاّ الاصطياد في المياه العكرة!

وهي إمرأة شريفة عصامية، صدّته بكل قوتها..

وثمة أحد لم ينكر أنها عانت كثيراً من زوجها! وأنه كان يضربها حتى أمام أولادها، وأنه أرادها ان تكون آلة لطباعة المال، وأنها عانت من الحرمان المادي والعاطفي، وأنه كان يغار عليها كثيرًا.. وأنها أرادت الطلاق اكثر من مرة، ولكن أهلها هددوها بأنهم سيستقبلونها، لوحدها، بدون الأولاد!

مها صبرت على كل شيء من أجل أولادها. الذين كسروا ظهرها!


صحيح أنهما عاشا تحت سقف واحد، ولكنهما عاشا كالأغراب، وهي كانت تحترمه كثيرًا، غطت رأسها وكل سنمتر على جسدها الجميل، من أجله، تنازلت عن عطرها وزينتها.. من أجلهُ..

وأصبحت كما أرادها، إمرأة مشمعّة ومغلّفة بالنايلون!

وهو سامحه الله، نسي ان كل ما تحتاجه مشاعر أي امرأة هو الاحساس بالأمان وبعض التقدير!

ولطالما ردد امام أصدقائه: أنصحكم بان لا تتزوجوا إمرأة تفوقكم ثقافة! لكي لا تتفلسف عليكم!؟ وهي قطعًا لم تشعره بهذا.. ولكن اقترانه بإمرأة تفوقه علمًا وثقافة، جعله يُعاني من عقدة النقص في مجتمع ذكوري محض..

تبًا لزوجها ولهذا المجتمع المادي والرجعي؛ إذا ذهبت المرأة للتعليم، إتهموها بالتفتح! وإذا لم تتعلم يقولون عنها مُتخلفة! وإذا خرجت للعمل، اتهموها بأقبح الأقوال! وان لم تعمل؟ قالوا عنها عديمة المسؤولية، وعالة على زوجها وأهلها..

مر كثيرٌ من الوقت، ومها حبيسة غُرفتها تبكي..

كان دمعها ينساب على صفحات ذاكرتها من شدة القهر، عندما تذكرت كلمات زميلها المعسولة، التي كانت تمشط أهداب روحها، وهي التي لم تتعود على سماع كل هذا الكلام!

عندما تغيبت أحد الأيام عن العمل، همس لها:

– قلبي لم يعد يخفق بغيابك!

وهي حتمًا تجاهلته واستمرت بعملها، ولكنه فتح قاموس حبه حقولا من الخداع، وكلمات لم تسمعها قط من زوجها الغبي الظالم! كلمات..؟ أحيت فيها الأنثى التي ماتت..

وهي لم تنزع عن نفسها خمار الحياء، ولم تلعب على سبعين حبلاً كما اتهموها! ولكن هذا الرجل الوضيع، استغل وضعها العائلي وخلافاتها مع زوجها، ليدخِلَها في دوامة ثانية، دوامة قررت أنها ستخرج منها بأي ثمن!

وتذكرت نصيحة إحدى صديقاتها:

– أطلبي من زوجك الطلاق، واخرجي من بيتك بكرامة، أفضل ما تحكي مع رجل آخر من ورا ظهره!

ولكنها لم تجرؤ ان تخبر أحدًا، عن هذا الرجل الحقير.. الذي بدأ يلاحقها كخيالها..

وهي لم تستسلم إليه أبدا.. ولم تنس إنها امرأة متزوجة وأنها أم وعليها تقع مسؤولية أولادها، وأنها إبنة عائلة عريقة ومعروفة! وأن أية غلطة منها، ستجعل سمعتها كمئزر المطبخ، يتمسّح فيه الجميع..

وفي اليوم الذي قررت فيه، ان تنال إجازة مفتوحة، لأنها تنوي التنازل عن وظيفتها الحساسة، ذات المرتب المحترم، خوفا من وقوعها بالخطيئة والحرام.. وخوفا أن تتحول سمعتها إلى علكة يلوكها أناس لا يعرفون الرحمة، فوجئت بزوجها ينهال عليها، بالضرب المبرّح، ويرمي عليها يمين الطلاق دون ان يفكّر مرتين..

لم يُغضب مها قرار المحكمة السريع الذي أرسلها له زوجها بالتوقيع على الطلاق، فهي توقعت هذا منذ أمد طويل! ولم يغضبها أنها خسرت حضانة أولادها، ففي كلتا الحالتين كانت ستخسرهم، بسبب زواجها الفاشل! ولا أنها ستخرج من بيتها بزيق ثوبها، فهي تدرك جيدًا أنها لم تفكر قط بخيانته! ولم تُقصّر قط في حقّهُ، أو تشترِ شيئا ارهق جيبه أو تتفوه بكلمة استفزّت طبعه!

ولكن كل ما أغضبها وخيّب آمالها أن “فاعل الخير” الذي وشى لزوجها، كان زميلها الوضيع ، الذي وإن نجح في سلبها حياتها العائلية التي كانت تُقدسها، وثقة أهلها وإخوتها، وإحترام المجتمع، ولكنه لم ينجح في سلبها شيئًا تستحيل الحياة بدونه..؟ شيء أسمه الشرف..
-
*شهربان معدي

➤كاتبة فلسطينية من الجليل.
➤القصة مُختارة من مجموعة القصصية “دموع لم تسقط”

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...