![]() |
الروائية السنغالية أميناتا ساو فال |
ظل الأدب الإفريقي، على كبير أهميته، مجهولا لدى كثير من قراء العربية رغم تنوعه وثرائه فنا ومواضيعَ، وتعتبر السنغال من أهم البلدان الإفريقية التي قدمت للعالم تجارب أدبية راقية، من بينها شعر سيدار سنغور، وروايات أميناتا ساو فال، التي أُعيدَ نشرُ روايتها
الثامنة الموسومة بـ«مملكة الكذب» (2018)، وسنحاول عرضَ آراء النقاد في كتاباتها، وبعضًا من مواقفها من لغتها الأم ومن الثروة الثقافية والبشرية المهمَلة في دول إفريقيا، بسبب سيطرة الفرانكوفونية، ناهيك من دعوتها إلى تجاوز مرحلة إعادة تأهيل الإنسان ذي البشرة السوداء وخلق أدب يعكس أسلوبه في الحياة ويكون مرآة لوجدانه وثقافته.
نَبْعُ المُواطَنة

إن «مملكة الكذب» عنوان دال، لأنه يشي بشجب الرواية لظاهرة النفاق السائدة في المجتمع السنغالي، والمتمثلة في تمجيد شخصيات غير شريفة وتعمد إخفاء احتيالها، بل غالبا ما يتم تبرير فسادها. كما أن الإطار العام للسرد، الذي هو من الأطر المفضلة لدى أميناتا ساو فال، ويتوافق كثيرا مع جزء مهم من تربيتها الأولى ضمن أسرتها، هو فضاء لقاء ودي وعائلي، تترأس، خلاله، امرأة تدعى «ياسين» مأدبة هي أعدتها لأفراد عائلتها ولأصدقائها بمناسبة اجتماع يوم الأحد، أي خلال طقس لم الشمل والاحتفال، الذي يحيلنا إلى صورة «الأفنية» بالغة التكرار في روايات أميناتا ساو فال الأخرى، والذي تقول عنه: «ألِفت الفِناء، منبهرة بشجرة التمر الهندي العظيمة تلك، التي لم أر مثيلا لها أبدا في حياتي، وتلك الضجة والحكايات والخرافات.. وذاك الرجل المسن بطريقته الفريدة في شرح الأمثال وصوته المسكر والسحري بالغ الجمال، حتى أنه يستحيل تخيل قدرته، في سنه تلك، على خلب الألباب عندما كان يشرع في إلقاء شعر الباك والمصارعين راقصا بخطى رشيقة رغم عاهته». وينتهي الغداء، في ذلك اليوم، بتبادل للآراء صريح وحاد اللهجة بين الابن «دييري» الذي يعاتب أباه «سادا» على قيامه بمدح علني لوزير غير جدير بالتقدير.
وهذا ما مثّل سببا للرواية لتستدعي تاريخ حياة الأب «سادا»، الذي كان والده تاجر خردوات، ثم ارتقى في السلم الاجتماعي بفضل مزاياه وفضائله وإصراره. تُركز أميناتا في هذه الرواية، أكثر مما فعلت في نصوصها الأخرى، على ما دافعت عنه دوما وهو، ضرورة إخراج البلاد من الأوحال التي أغرقها فيها كل من الفساد والاحتيال. ولتحقيق ذلك، منحت للساردة فرصة التركيز على قوى السنغال الكامنة، التي يجب أن تتسيد الموقف مُمكنة كل فرد من أن: «يرتوي من نبع المواطنة المخفي منذ الأزل في أعماق الأرض». وتَختَتم روايتها بفقرة طويلة مخصصة لتمجيد عدة بطلات سنغاليات. وهو أمر يؤكده ما كُتِب على ظهر الغلاف: «عبر هذه الرواية تبرز الكاتبة السنغالية الكبيرة للشباب السبيل الذي عليهم اتباعه، والقيم التي عليهم الدفاع عنها لرسم أمل إفريقي جديد».
العودة إلى الجذور
في حوار مطول أجراه معها جيمس غاش، ونشر في كتاب بعنوان «السنغالية الجديدة: نص وخلفية» تقول أميناتا: «ولدتُ وترعرعت في سانت لويس في الجزء الجنوبي من الجزيرة، على ضفاف نهر السنغال بين حوضيْه الكبير والصغير. كل صباح، عندما كنت أغادر غرفتي كان نظري يعانق النهر وكنت أرى البحر وراء حافته الجنوبية، وكان ذلك المدى الفسيح ينفتح أمامي، وذلك المشهد يسحرني، كل يوم، حد الافتتان.
كان يسود منزلنا جو رائع، فوَالِدايَ كانا كريميْن وكان الكثير من الناس يترددون علينا من كل مكان. يمكنني القول إن منزلنا كان بمثابة قبلة ثقافية، يأتيه أناس من أصول وجنسيات مختلفة من بينهم قرويون كانوا يأتون للعمل فيه ومنشدون وقصاصون وتلاميذ يرتادون معهد فيدهارب، والذين كانوا يجدون فيه، غالبا، مسكنا وطعاما لأنهم كانوا أصدقاء لإخوتي، بالإضافة إلى أقاربنا من عائلتنا الكبيرة. تعلمت الكثير من بعض الذين كانوا يترددون على منزلنا، خاصة حول الحياة في القرية والتاريخ والحكايات التقليدية والأغاني وبعض العادات التي كان يتخلى عنها سكان المدن.
كل ذلك كان يجعلني حالمة. وما كان رائعا في تلك الأسرة هو أن الفتاة لا تتربى ضمن شروط العقلية السائدة التي كانت تُعدها لدور زوجة مستقبلية وتجعلها تنتظر زوجا قويا وكريما. على سبيل المثال، جعلنا أبوانا، بدون ضغوط أيديولوجية، يدرك الواحد منا معنى مسؤولياته كإنسان كامل الأهلية. وعلمانا، نحن الفتيات، ألا نكتفي بالمرتبة الأخيرة في الفصل في انتظار الزواج، بل علينا تحقيق الإنجازات نفسها التي يحققها الذكور في المدرسة، حفاظا على الشرف والكرامة.
كنت أحتك باللغة الفرنسية قبل الالتحاق بالمدرسة الفرنسية، بفترة طويلة، لأن إخوتي وأخواتي وأقاربنا الذين يأتون إلى منزلنا كانوا يقرؤون بصوت عال ويتبادلون بعض الكلمات بها. رغم ذلك كانت اللغة اليومية في المنزل هي الوولوف. أسعدني جدا التحاقي بالمدرسة الفرنسية (بعد عام من بداية دراستي في المدرسة القرآنية) لأنه مكننِي من اتباع خطوات إخوتي الأكبر سنا مني. وفي وقت لاحق، فَتحَت لي المطالعة أفاقا أوسع. كان لدى أبي خزانة مليئة بالكتب وكان إخوتي وأقاربي يجلبون معهم في آخر السنة الدراسية الكثير من الجوائز، التي كانت ثمارا مستحقة لما بذلوه من جهود، وكان مرأى أذرعهم مثقلة بالكتب يجعلني فخورة جدا بهم، ورغم انبهاري بألوان الأشرطة، كان نهمي لمعرفة محتوى تلك الكتب الوفيرة يسعدني أكثر».
ولا تني الروائية أميناتا ساو فال تدعو في كل حواراتها إلى ضرورة عودة المبدعين الأفارقة إلى الكتابة بلغاتهم المحلية، لإيمانها بأن هيمنة الفرانكوفونية قد دخلت في طور الاحتضار. وأن الإنتاج الأدبي الإفريقي الناطق بالفرنسية كان دوما وبصورة قاطعة أدبا انتقاليا، غير ثابت، وأن المستقبل سيكون للكتابة باللغات المحلية الإفريقية.
*عبدالدائم السلامي
القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق