22
عزيزتي الغالية، أسعدت أوقاتا
ألوذ إليك، مشتاقا لأحدثك عن بعض تلك الأفكار التي تضج في رأسي، متآزرة في وجعها مع وجع الأضراس، هذا الوجع المؤلم إلى حد فقدان القدرة على التركيز، وانهيار نشوة الفرح والسعادة بقراءة الكتب.
يعاودني الألم بين الفينة والأخرى، أستغل الوقت لأكتب لك، متناسيا هذا الألم الحاد الذي يضرب الفك الأسفل الأيمن كله، لا أدري ماذا أصابه؟ وأي جن يسكن تحت هذه العظمة الناتئة التي تبدو حقيرة كأنها ناب قط؟لقد أفسد هذا "الألم الملحد" الذي لا يرأف لتوسلاتي لأن يهدأ، أفسد متعتي بقراءة رواية الكاتبة السورية حميدة نعناع، أتعرفينها؟ أنا لم أكن سمعت باسمها، لولا صديقي الطليعي قد حدثني عنها في إحدى جلساتنا، وأعارني روايتها المذهلة: "الوطن في العينين". إنها الرواية الثانية التي يعيرني إياها هذا الطليعي المهووس بالكتب، بعد رواية "من يتذكر تاي" للكاتب السوري ياسين رفاعية، روايتان تشتركان في أنهما تبحثان في القضية الفلسطينية، لقد كانت حميدة نعناع صحفية وعضوا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكتبت تجربتها في العمل العسكري، وخصوصا موجة خطف الطائرات، لقد كانت قائدة عملية "جنيف"، هل سيصيبك الحنين هنا في هذه النقطة؟ لا أدري لكنها كتبت أوجاعا كثيرة عن المناضلين والثورة وأمراضها، والدكتاتورية داخل الفصائل المسلحة، ربما ليست ديكتاتورية، فلا يوجد شيء اسمه ديمقراطية في العمل المسلح، أظن المسألة لا بد لها من حسم وبصورة حازمة. هذا هو العمل العسكري مع أنني لم أجربه إطلاقا، فأنا لا أصلح لأي أعمال عسكرية. أتذكر ضابط المخابرات الإسرائليلي الذي قابلني في عام 1994 كنت في السنة الأخيرة من المرحلة الجامعية (البكالوريوس)، دخلت عليه كان طويلا وعريض المنكبين درزيا يتقن العربية. قال لي بعد حوار طويل وهو يمد رجليه في وجهي على طاولة مكتبه: "لو كنت صحيحا لخربت الدنيا". ضحكت قليلا، ولم أجبه، لم أعد أتذكر أنني رددت على كلامه.
على أية حال، هذه الرواية تفتح الجرح الفلسطيني من الداخل، لترى وجع الثائرين وصورتهم الحقيقية، وإنهم ليس قديسين، ولا أنبياء، أو أنهم "لا يأكلون ولا ينامون ولا يحبون النساء"، إن لهم أوجاعا كبيرة، كما أن لهم تفاصيل صغيرة يهتمون بها، إنهم بشر كبقية البشر، لهم حزنهم، وعاطفتهم تجاه الأشياء والأفعال والناس. ولكن لحساسية مهامهم تكون النتيجة كارثية ومؤلمة لو حصل أن أصبح ثائر وثائرة عشيقين، كما حدث في الرواية بين ناديا و(أبو مشهور). لعل أهم درس من رواية "الوطن في العينين" هو: أن للمثقف خيانات أخرى، كأنْ يتنازل عن أفكاره في حين يشقى بهذه الأفكار مؤمنون كثيرون. هذا يشبه نبيا دعا قوما إلى دينه ثم تخلى عنه! إنها رواية "نقد الأخطاء وانتقادها" فيما يخص الأعمال العسكرية، وخاصة تلك التي حدثت في أوروبا من مثل خطف الطائرات.
قرأت الرواية يا عزيزتي دفعة واحدة في جلسة واحدة، متذكرا قول الكاتب الإنجليزي جورج أورويل: "عندما أجلس لكتابة كتاب لا أقول لنفسي: سوف أنتج عملا فنيا. أكتبه لأن هناك كذبة أريد فضحها. حقيقة ما أريد إلقاء الضَّوْء عليها. لكن ليس بإمكاني القيام بمهمة تأليف أو حتى مقالة طويلة لمجلة ما لم تكن أيضا تجربة جماليّة". لقد اجتمع في هذه الرواية الأمران: فضح الكذب وإلقاء الضوء على الحقائق، مع مفارقة الرواية للبناء التقليدي للرواية، لذلك جاءت الرواية مختلفة في تقنياتها الفنية التي اعتمدت على أسلوب الرسالة الذي استهلك من البنية الروائية أكثر من تسعين بالمئة منها، وعندما وصلت إلى توقيع المرسلة/ ناديا، قلت في نفسي هنا يجب أن تنتهي الرواية، لكنها للأسف لم تنته، بل بقي منها ما يزيد عن ثلاثين صفحة تحدثت فيها عن صديق ناديا فرانك، هذا الثائر القديم، ليقرر الالتحاق بها في لبنان، لينضم إلى الثورة.
تذكري حديثنا قبل أيام، عن طبيعة عملك الأخير، وهل يصلح أن يكون رواية أو لا، لا تفكري بجنسه الأدبي، فكري أن يكون فقط عملا فنيا بارعا، ذا قالب غير تقليدي، فكلنا يعرف الأفكار، ولكن ليس كلنا يعرف الأساليب والأشكال، فابحثي عن قالب روائي قصصي سردي يخصك، ليكون العمل مميزا، ولا تستندي إلى موضوع العمل وما يثيره من عواطف، فالناس تتأثر بالأخبار التلفزيونية أيضا. عليك التفكير بالفن أكثر من الموضوع.
لقد نجحت الكاتبة، على ما أتوهم، في أنها خرجت من أسر القوالب الكلاسيكية للرواية، مع أنها كتبتها في أواخر السبعينيات من القرن المنصرم، وكانت الرواية الكلاسيكية في توهجها المحفوظي، ولم يكن المثقفون بعد قد اطلعوا على الرواية الأجنبية بشكل كاف، ولم تكن الترجمة رائجة رواج اليوم. ربما أكون مخطئا ولكنني هكذا أقدر من خلال متابعاتي الأدبية والثقافية.
حبذا لو تبحثين أكثر في الأساليب الروائية غير التقليدية، وعليك إن كنت معنية بأني تكوني روائية جيدة البحث عن قالب روائي جديد، فلا تكوني متقنة للعبة أتقنها قبلك الكثيرون، ولكن كوني مبدعة للعبتك الخاصة، هنا تقفين في منطقة وحدك، ليقول الأدب ها أنا ربحت كاتبة متميزة.
أتمنى لك التوفيق في قادم أعمالك، ولا تتعجلي الوجبة، فالوجبات السريعة في الأدب مضرة تماما كما هي الوجبات السريعة في المطاعم المنتشرة على جوانب الطرق السريعة.
سيكون مناسبا جدا أن أراك قريبا، بعد أن تنجزي المسودة، لعلني أكون أول من يطالعها ويراجعها، ولكن ربما هناك "وحوش سرد" أفضل مني سيقدمون آراءهم حولها. لا يهم. المهم أن تكون النتيجة في صالح العمل، وصالح قضيتك السردية ومجدك الأدبي، لتنضمي إلى كوكبة الروائيات المبدعات من أمثال مليكة مقدم ورضوى عاشور وبثينة العيسى وليلى العثمان. وأخريات كثيرات.
أوشك على النهاية، أشعر أن هذه الرسالة قد أفلحت في هزيمة ألم الأضراس الحاد المؤلم.
أشتاق إليك أكثر، حتى وأنا في معتزلي هذا أراقبك عن كثب. قبلاتي الحارة لشفتين من ناعم الورود.
فراس حج محمد
عزيزتي الغالية، أسعدت أوقاتا
ألوذ إليك، مشتاقا لأحدثك عن بعض تلك الأفكار التي تضج في رأسي، متآزرة في وجعها مع وجع الأضراس، هذا الوجع المؤلم إلى حد فقدان القدرة على التركيز، وانهيار نشوة الفرح والسعادة بقراءة الكتب.
يعاودني الألم بين الفينة والأخرى، أستغل الوقت لأكتب لك، متناسيا هذا الألم الحاد الذي يضرب الفك الأسفل الأيمن كله، لا أدري ماذا أصابه؟ وأي جن يسكن تحت هذه العظمة الناتئة التي تبدو حقيرة كأنها ناب قط؟لقد أفسد هذا "الألم الملحد" الذي لا يرأف لتوسلاتي لأن يهدأ، أفسد متعتي بقراءة رواية الكاتبة السورية حميدة نعناع، أتعرفينها؟ أنا لم أكن سمعت باسمها، لولا صديقي الطليعي قد حدثني عنها في إحدى جلساتنا، وأعارني روايتها المذهلة: "الوطن في العينين". إنها الرواية الثانية التي يعيرني إياها هذا الطليعي المهووس بالكتب، بعد رواية "من يتذكر تاي" للكاتب السوري ياسين رفاعية، روايتان تشتركان في أنهما تبحثان في القضية الفلسطينية، لقد كانت حميدة نعناع صحفية وعضوا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكتبت تجربتها في العمل العسكري، وخصوصا موجة خطف الطائرات، لقد كانت قائدة عملية "جنيف"، هل سيصيبك الحنين هنا في هذه النقطة؟ لا أدري لكنها كتبت أوجاعا كثيرة عن المناضلين والثورة وأمراضها، والدكتاتورية داخل الفصائل المسلحة، ربما ليست ديكتاتورية، فلا يوجد شيء اسمه ديمقراطية في العمل المسلح، أظن المسألة لا بد لها من حسم وبصورة حازمة. هذا هو العمل العسكري مع أنني لم أجربه إطلاقا، فأنا لا أصلح لأي أعمال عسكرية. أتذكر ضابط المخابرات الإسرائليلي الذي قابلني في عام 1994 كنت في السنة الأخيرة من المرحلة الجامعية (البكالوريوس)، دخلت عليه كان طويلا وعريض المنكبين درزيا يتقن العربية. قال لي بعد حوار طويل وهو يمد رجليه في وجهي على طاولة مكتبه: "لو كنت صحيحا لخربت الدنيا". ضحكت قليلا، ولم أجبه، لم أعد أتذكر أنني رددت على كلامه.
على أية حال، هذه الرواية تفتح الجرح الفلسطيني من الداخل، لترى وجع الثائرين وصورتهم الحقيقية، وإنهم ليس قديسين، ولا أنبياء، أو أنهم "لا يأكلون ولا ينامون ولا يحبون النساء"، إن لهم أوجاعا كبيرة، كما أن لهم تفاصيل صغيرة يهتمون بها، إنهم بشر كبقية البشر، لهم حزنهم، وعاطفتهم تجاه الأشياء والأفعال والناس. ولكن لحساسية مهامهم تكون النتيجة كارثية ومؤلمة لو حصل أن أصبح ثائر وثائرة عشيقين، كما حدث في الرواية بين ناديا و(أبو مشهور). لعل أهم درس من رواية "الوطن في العينين" هو: أن للمثقف خيانات أخرى، كأنْ يتنازل عن أفكاره في حين يشقى بهذه الأفكار مؤمنون كثيرون. هذا يشبه نبيا دعا قوما إلى دينه ثم تخلى عنه! إنها رواية "نقد الأخطاء وانتقادها" فيما يخص الأعمال العسكرية، وخاصة تلك التي حدثت في أوروبا من مثل خطف الطائرات.
قرأت الرواية يا عزيزتي دفعة واحدة في جلسة واحدة، متذكرا قول الكاتب الإنجليزي جورج أورويل: "عندما أجلس لكتابة كتاب لا أقول لنفسي: سوف أنتج عملا فنيا. أكتبه لأن هناك كذبة أريد فضحها. حقيقة ما أريد إلقاء الضَّوْء عليها. لكن ليس بإمكاني القيام بمهمة تأليف أو حتى مقالة طويلة لمجلة ما لم تكن أيضا تجربة جماليّة". لقد اجتمع في هذه الرواية الأمران: فضح الكذب وإلقاء الضوء على الحقائق، مع مفارقة الرواية للبناء التقليدي للرواية، لذلك جاءت الرواية مختلفة في تقنياتها الفنية التي اعتمدت على أسلوب الرسالة الذي استهلك من البنية الروائية أكثر من تسعين بالمئة منها، وعندما وصلت إلى توقيع المرسلة/ ناديا، قلت في نفسي هنا يجب أن تنتهي الرواية، لكنها للأسف لم تنته، بل بقي منها ما يزيد عن ثلاثين صفحة تحدثت فيها عن صديق ناديا فرانك، هذا الثائر القديم، ليقرر الالتحاق بها في لبنان، لينضم إلى الثورة.
تذكري حديثنا قبل أيام، عن طبيعة عملك الأخير، وهل يصلح أن يكون رواية أو لا، لا تفكري بجنسه الأدبي، فكري أن يكون فقط عملا فنيا بارعا، ذا قالب غير تقليدي، فكلنا يعرف الأفكار، ولكن ليس كلنا يعرف الأساليب والأشكال، فابحثي عن قالب روائي قصصي سردي يخصك، ليكون العمل مميزا، ولا تستندي إلى موضوع العمل وما يثيره من عواطف، فالناس تتأثر بالأخبار التلفزيونية أيضا. عليك التفكير بالفن أكثر من الموضوع.
لقد نجحت الكاتبة، على ما أتوهم، في أنها خرجت من أسر القوالب الكلاسيكية للرواية، مع أنها كتبتها في أواخر السبعينيات من القرن المنصرم، وكانت الرواية الكلاسيكية في توهجها المحفوظي، ولم يكن المثقفون بعد قد اطلعوا على الرواية الأجنبية بشكل كاف، ولم تكن الترجمة رائجة رواج اليوم. ربما أكون مخطئا ولكنني هكذا أقدر من خلال متابعاتي الأدبية والثقافية.
حبذا لو تبحثين أكثر في الأساليب الروائية غير التقليدية، وعليك إن كنت معنية بأني تكوني روائية جيدة البحث عن قالب روائي جديد، فلا تكوني متقنة للعبة أتقنها قبلك الكثيرون، ولكن كوني مبدعة للعبتك الخاصة، هنا تقفين في منطقة وحدك، ليقول الأدب ها أنا ربحت كاتبة متميزة.
أتمنى لك التوفيق في قادم أعمالك، ولا تتعجلي الوجبة، فالوجبات السريعة في الأدب مضرة تماما كما هي الوجبات السريعة في المطاعم المنتشرة على جوانب الطرق السريعة.
سيكون مناسبا جدا أن أراك قريبا، بعد أن تنجزي المسودة، لعلني أكون أول من يطالعها ويراجعها، ولكن ربما هناك "وحوش سرد" أفضل مني سيقدمون آراءهم حولها. لا يهم. المهم أن تكون النتيجة في صالح العمل، وصالح قضيتك السردية ومجدك الأدبي، لتنضمي إلى كوكبة الروائيات المبدعات من أمثال مليكة مقدم ورضوى عاشور وبثينة العيسى وليلى العثمان. وأخريات كثيرات.
أوشك على النهاية، أشعر أن هذه الرسالة قد أفلحت في هزيمة ألم الأضراس الحاد المؤلم.
أشتاق إليك أكثر، حتى وأنا في معتزلي هذا أراقبك عن كثب. قبلاتي الحارة لشفتين من ناعم الورود.
فراس حج محمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق