
تقديم :
قفز مشروع الحداثة من إطاره الأدبي الذي ولج به إلى المشهد العربي نهايات القرن التاسع عشر ، إذ تزامن مع نهوض الإيديولوجيا القومية ليطرح رؤية أعلى تتناول مجمل نواحي الحياة العربية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وإن تأسس بداية على الخطاب الثقافي .
وبين مراوحة النقد عتبات الدرس النظري والحقل التطبيقي مع بداية الستينيات ، تفرز ظاهرة المثاقفة
والترجمة والاطلاع على المناهج الغربية مجموعة من المناهج النقدية الحديثة والمعاصرة ،كالبنيوية اللسانية مع حسين الواد وعبد السلام المسدي وصلاح فضل وسعيد يقطين وكمال أبو ديب وغيرهم ،
والسيميائية مع محمد مفتاح وحسين خمري وسعيد بوطاجين وعبد الحميد بورايو وغيرهم ، والتفكيكية مع علي حرب وعبد الله الغذامي وعبد العزيز حمودة ...
وقد يساهم هذا الحوار الثقافي على مستوى الممارسة النقدية في ظهور إشكالية الأصالة والمعاصر أو ثنائية التجريب والتأصيل في النقد العربي ...
وعليه فقد ظهر اتجاه يدافع عن الحداثة النقدية ، وذلك بالدعوة إلى ضرورة الاستفادة من كل ما هو مستجد في الساحة النقدية الغربية ، كما نجد ذلك عند محمد مفتاح ومحمد بنيس وحسين الواد ...
واتجاه يدعو إلى تأصيل النقد العربي وعدم التسرع في الحكم سلبا على تراثنا العربي القديم ، ومن هؤلاء : عبد العزيز حمودة ، لكن هناك من كان موقفه وسطا يدافع عن التراث ويوفق بين أدواته وآليات النقد الغربي كمصطفى ناصف وعبد الله الغذامي وعبد الفتاح كيليطو ...
ويبرز اسم الناقد السوري كمال أبو ديب على رأس مشروع نقدي يشتغل عليه بالنظر والتطبيق هو النقد البنيوي ليأخذ أعلى تجلياته في مجالات النقد الأدبي .
وبذلك يعد من النقاد العرب المعاصرين الذين حاولوا ربط الحداثة بالنقد سواء على المستوى المعرفي أم الجمالي ، ويظهر ذلك في كتبه النقدية التي أصدرها في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي ، والتي شهدت الاحتكاك المنهجي بالغرب ، والثورة المفاهيمية والاصطلاحية في إجراءات النقد كعملية إبداعية حضارية تزامنا مع انتشار الحداثة الشعرية .
إن جهد أبو ديب لا يتوقف عند محاورة المنهج الغربي ، بل التفاعل معه والعيش في قلب الحركة الحداثية بتفاصيلها وموجاتها المتلاحقة . وتتمثل حداثة أبو ديب النقدية ؛ في عودته كذلك لاستيعاب التراث وتمثله والإشارات المبكرة لنقاط الإضاءة والحداثة فيه ،كدراسته الرائدة عن عبد القاهر الجرجاني مثلا .
وبذلك صارت له خصوصية في المحصول النقدي العربي ، وتجسد ذلك في دعوته إلى إقامة خطاب نقدي متطور ذي ملامح وسمات فنية وفكرية خاصة.
لقد قرأ أبو ديب لعبد القاهر الجرجاني من زوايا متعددة ، لكن ما يجمع بين زوايا النظر تلك الطريقة التي تقوم على وضع التراث النقدي في سياق الوعي النقدي المعاصر ، فرصد عناصر لمقاربة البنيوية ، بإعادة بناء نظريته وفق المقولات اللسانية انطلاقا مما استجد من مناهج في الدراسات النقدية في المراحل اللاحقة ، وهذا ما جعل قراءته لعبد القاهر تتطور بشكل سمح لها بالتنوع الذي أضفى عليها في نهاية الأمر طابعا تجريبيا .
وقد كان أبو ديب من أوائل النقاد العرب المتبنين للبنيوية ، والمعلنين صراحة عنها منهجا نقديا ، بل هو أول ناقد في المشرق يعلن صنف دمه النقدي ، ويسمى كتابه – جدلية الخفاء والتجلي - دراسات بنيوية في الشعر ، كما ينص عنوانه الجانبي .
وفي مقدمة كتابه ينفي أبو ديب أن تكون البنيوية فلسفة ، بل طريقة في الرؤية ، ولذلك فهي ثورة جذرية للفكر والشعر معا ، تعمل على التغيير ، ويعرفها بأنها :" إصرار على الاكتناه المتعمق والإدراك متعدد الأبعاد والغوص على المكونات الفعلية ".
ومن خلال هذا التعريف للبنيوية يتكشف لنا مفهوم النقد من منظوره باعتباره نشاط نصي إبداعي ذاتي حر يوجه مرتكزاته الفكرية التي تقوم على جماليات التجاوز كأطروحة أخيرة .
وقد أفصح أبا ديب عن لوازم النقد في غير موضع من دراساته النقدية ، ويمكن إبرازها فيما يلي:
الإفصاح عن الذات الناطقة في النص النقدي وحضورها الفاعل والقضاء على الصوت الجماعي ، ومحاولة بعث الصورة الفردية ، مع ملاحظة أن هذه الذات العائدة ليست الذات الرومانسية ،بل الذات حادة الوعي والذات المتخلصة من سلطة النموذج ، وبذلك فهو يحاول إعادة الاعتبار للذات القارئة آخر الكتابة في حالة النقد .
الهدف من الدراسات النقدية ، هو تأسيس فكر وشعر جديدين يظلان في حالة من التحول يتشابك فيه النص الإبداعي النقدي مع إبداعات نصية أخرى يتاح لها أن تظهر.
هدم المراكز- السياسية والفكرية والصورية - بشتى صورها ، وإعلان انهيارها بشتى الطرق .
انهيار جمالية الوحدة والدعوة لجماليات التعدد ، والجزء يعد قابلا للانصهار في الكل والنص صار كتلا من النصوص المتجاورة وشظايا من نصوص لا تكتمل .
اكتناه الوشائج بين الفنون ، مما يجعل النص النقدي نصا مفتوحا لتقنيات وخبرات مفترضة من الفنون المجاورة كالعلاقة بين الشعر والتشكيل ، وبين الموسيقى والنحت ، مما يؤدي إلى تشابك الفضاءات الإبداعية ، فالنص النقدي كما يرى أبو ديب يعد ملتقى لفنون عديدة منها السمعي والبصري والمحسوس .
العمق المطلوب : في أية قراءة في تحديده للشيء ، فالقراءة وظيفة من وظائف العلاقة بن البنية العميقة والسطحية ، وقد استقى أبو ديب هذا الشرط من القراءة النقدية التي أرساها عبد القاهر الجرجاني في نظريته معنى المعاني ، فإذا كان العرب يرون في الشعر حسبها هو اللفظ وروحه هي المعنى ، فإن الجرجاني يرى أن الجسم لفظ والمعنى حلية ، ومعنى المعنى هو الروح .
وهذا الفهم للعمق في التحليل النقدي ، يوازي ما يتراءى لأبي ديب في شعر الحداثة كقصيدة " أعماق" ، فيرى بالممارسة أن الثراء الحقيقي يكمن في حنايا الباطن ، لا في سطوح الظاهر ، وفي تلك الحنايا يتجلى المعنى .
والباطن هو الذي عجزنا عن النفاذ إلى الأغوار الخفية .
الثورة على طرق المعاينة لا على النتاج الروحي : فثورة أبو ديب مثلا للتراث ليست على محتواه ، بل على طرق معاينته ، وبذلك نجده قد قدم جهودا معروفة في جلاء عبقرية التراث وإبداعه من خلال إعلائه شأن المناطق المضيئة في تراثنا النقدي .
إن وضع عمل كمال أبو ديب على مقاييس النقد القديم يتنزل في دائرة أوسع من دائرة النقد بمفهومه التقليدي ليصير نقدا للنقد.
فإذا كانت فكرة النقد هي : " الكلام عن الكلام " كما يقول أبو حيان التوحيدي :" هي تعبير عن الوعي العميق الذي كان يتمتع به النقد والبلاغة عند العرب وتمييزهم لمستويين من الكلام .
- الكلام الذي موضوعه العالم .
- الكلام الذي موضوعه الكلام الذي أنشئ حول هذا العالم .
وعلى هذا فالدائرة التي يتنزل فيها عمل أبو ديب هي الكلام عن الكلام ، هكذا يصير معادلة ذات ثلاثة أطراف لكن هذا العمل يتم في أغلبه في الطرف الثالث الذي يعيد تشكيل الطرفين الأوليين لدمجهما في المستوى الثالث ويمكن إبرازها فيم يلي :
المستوى الأول : هو النصوص الإبداعية الشعرية أو النثرية التي جاءت مبثوثة في كتب الجرجاني ، والتي استعملها كشواهد لتطبيق الأدوات النقدية التي اقترحها ، وتشكل هذه النصوص أو الأجزاء نظاما خطابيا خاصا .
المستوى الثاني : هو النصوص النقدية التي كتبها الجرجاني حول نصوص المستوى الأول وإعادة تشكيله من جديد وذلك قصد إنتاج دلالة جديدة عن طريق التحليل والاستنتاج .
المستوى الثالث : هو الخطاب النقدي الذي كتبه كمال أبو ديب حول نظرية الجرجاني معللا ومستنتجا . وبالتالي نجد المستويات الأولى تتحاور ويؤكد بعضها البعض ، وذلك لإعطاء بناء جديد للنصوص التي تحركت في المجالين الأوليين .
وهكذا نجد المستويات الثلاثة تتداخل لتشكل نصا جديدا ، وهو النص الذي يحاول القارئ أن يكتبه ابتداء من هذه المستويات مجتمعة .
ومن خلال هذه الشبكة من العلاقات تتجلى الأسس النظرية التي يقوم عليها مجهود أبو ديب ،في محاولة منه للقبض على المفاصل الأساسية لنظرية الجرجاني . وعمله يتمحور في ستة زوايا هي : اللغة - النحو - العلاقة بالجرجاني وريتشاردز- السياق - الصورة .
ويرى أبو ديب أن نظرية الجرجاني في مجملها قد ركزت على اللغة باعتبارها نظاما من العلاقات . والنظم يعني بداهة عند كمال أبو ديب : إقامة لنوع من العلاقات بين الكلمات ، وتكون الغاية النهائية لإنتاج الخطاب الأدبي هي نظم العناصر اللغوية في بنية لغوية منسجمة مع القواعد التي تحكم نظام وانسجام كل من التجربة الشعرية واللغة .
وقد رأى أن النسق اللغوي هو نسق دال بالدرجة الأولى ، وكل تدمير لهذا النسق يعني تعطيل لآليات الدلالة الأدبية .
وعرض اللغة كنظام أو بنية ؛ يعبر عن مجهود معرفي في محاولة لبعث تراثنا النقدي والبلاغي وجعله حيا وفاعلا في حياتنا النقدية والثقافة على وجه العموم ، وهذه الفكرة أصبحت من أهم انشغالات النقد العربي الحديث.
*د. لامية مراكشي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق