لمّا كانَ الشّعر نوعاً مِنْ أنواع الوحي في أحد تجليّاتهِ , وصُورةً مُثلى عَنْ صُورَتِهِ الأصْل في وَادِيهِ المُقدّس " عَبْقَر " أو هَيكَلِهِ أو مَعْبَدهِ سَمّهِ مَا شِئتْ , كانَ مِنَ الضّرورِيّ وَاللّازِمِ أنْ يُشرِقَ هَذَا الوَحْيُ عَلَى فِئةٍ تَمتَلِكُ كُلّ المُواصَفاتِ والمَقَاييسِ " الشّعَرَاء " لِتَرجَمَتهِ وَغَزلِهِ وَالتّفَنّنِ في صِيَاغتِهِ قَصَائِدَ ومَلاحِمَ خَلدَتْ بِخُلودِ ذَاكَ الوحي نَفسِهِ .., وسَتَبقى مَادَامَ هُنَاكَ شَهقةٌ وَاحِدَةٌ في صَدْر شَاعِر .., وَمَادَامَتْ أُذُنٌ وَاحِدَةٌ أيضَاً ذوّاقَةٌ عَاشِقَةٌ لِهَذَا النّغَمِ الإلَهِيّ المُقدّسِ الذي كَتَبَ نُوتَتَهُ الأُولى إلَهُ الشّعرِ وبَلّغَ " عَبْقَرُهُ " رِسَالَتَهُ عَلَى أكمَلِ وَجه ..
وَلَكِنَ السّؤَالَ الأزَلِيّ الذي طَرَحَ وَمَا زَالَ وسَيَبقى يَطْرحُ نفسَهُ وَبِقُوّةٍ هُوَ: هَلْ كُلّ مَنْ نَظَمَ أو كَتَبَ شِعْرَاً يُمكِن أنْ يُقالَ لهُ شَاعِر ..؟ وهَلْ يُمكِن أنْ يُقالَ لِكِتَابتِهِ أوْ نظمِهِ شِعْراً .؟ الجوابُ عَلَى ذلِكَ لَيسَ بِالأَمرِ السّهلِ , أَوِ اليَسِيرِ , والجَوَابُ يَجِبُ ألّا يَكُونَ عَشْوَائِيّاً أو سَطحِيّاً أو مُختَزَلَاً أيضَاً لِأنّ هُنَاكَ كَائِنَاً جَمِيلَاً رَصِينَاً مُتّزِنَاً مَنْطِقِيّاً فِي تَعَاطِيِهِ مَعَ القَضِيّة , مِنْ جِهَة , وحِيَادِيّاً لَهُ أدَوَاتُهُ اللّغَوِيّة ومَكانَتَهُ الثّقَافِيّة والمَعرِفِيّةُ الَتي تُمَكّنُهُ مِنَ الإدْلَاءِ بِدَلوِهِ , ذاكَ الكَائِن هُوَ " النّاقِد " الذي مِنَ البَدَهِيّ والمَنطِقِيّ يَجِبْ أنْ يَكُونَ " شَاعِرَاً ونَاقِدَاَ بِآنٍ مَعَاً وإلّا سَيَبقَى حُكْمُهُ نَاقِصَاً قَاصِرَاً مَهمَا اجتَرَحَ لَهُ مِنَ المَسوّغَاتِ والمُبَرِرَاتْ .
كَمَا أنّ هُنَاكَ أيضَاً مَنْ لا يَجِب تَجُاهُلُهُ بِأيّ شَكلٍ مِنَ الأشكَالِ ألَا وَهُوَ القَارِئُ الجيّدُ المُتَمَكّنُ مِنَ الغَوصِ في بَحرِ النّصِ , والقَادِرُ أيضَاً مِنْ اختِراقِ أسوارِ المَجَازِ والاستِعَارَاتِ والتّحلِيقِ مَعَ المُفرَدةِ فِي فضَائِهَا الذي أطلَقَهَا فِيهِ شَاعِرُها .., والذّوّاقُ أيضَاً لِلنّكْهَةِ الشّعرِيّةِ في هَذَا النّصّ أو غَيرِه ., إذَاً وُفقَ هَذينِ المِعيَارَينِ يُسْتَطَاعُ الحُكمُ عَلى نِتَاجِ شَاعِرٍ بِاَنّهُ شِعرٌ أو لَا , وبِغيرِ ذَلِكْ لَا أعتَقِدْ أنّهُ بِإمكَانِنَا إضفَاء صِفةِ شِعر وشَاعِرِيّة عَلَى أيّ نَصّ بِغَضّ النّظَرِ عَمّنْ كَانَ قائِلُهُ أو نَاظِمُهُ .
مِنْ جَانِبٍ آخرٍ وهُو الأسَاسُ بِرَأيي ولَا يَقِلّ أهَمّيةً عَمّا سبَق إذْ لَم يَكُن الأهَمّ وهو : الشّعرُ ذَاكَ الوحيُ الّذي لَا يَتَأتّى لِأيّ كَان , والّذي لا يَتَكَرّرُ بِاعتِبَارِهِ وَمْضة أو حالَة تَمرّ مَرّ السّحَاب ولَا تَعود ما هُو السّرّ الذي يَحمِلَهُ ويُودِعَهُ لَدَى الشّاعِر .؟ ومَا هُوَ النّبَأ العَظيمُ الذي يُلَقّنَهُ لِلشّاعِر .؟ وهَل الحَقِيقَةُ بِكامِلِهَا في ذَاكَ الوحي .؟ وهَل بِمقدُورِ الشّاعِر القِيَام بِهَذَا الحِمل .؟ وهَل هُو عَلى قدرِ المَسؤولِيّة المُلقَاةِ عَلى عَاتِقِهِ .؟ وهَلْ لَدَيهِ مِنَ العِدّةِ والعَتَادِ مَا يُمكّنُهُ مِنْ إيصَالِ رِسَالَتهِ بِامَانةٍ تَامّة .؟ ومِنْ ثمّ هل تُسْعِفُهُ ذخيرتُهُ اللغَويّة وخَيَالُهُ عَلى إعَادَةِ خَلِقِ قصيدَةٍ تَليقُ بِذَاكَ الوحي ..؟
أسْئِلَةٌ أترُكُ الإجَابَةَ عَلَيهَا لِمَنْ يَعتَقِدُ واثِقَاً أنّهُ " شَاعِر" .., ولِمَنْ يُنصِفُ نَفسَهُ أوّلاً واللغَةَ والشّعرَ ثَانِيَاَ و الآخرِينَ ثالِثَاً ..!! أعني " النّاقِدَ الحُرّ "
" مَعَ وضِدّ"
أنَا مَعَ السّريَالِيين بِأنّ الشّعرَ هُوَ غَيرُ الواقِع , وأنّهُ يجِب أنْ يُكتَبَ بِغِيابِ العَقلِ .., ولَكِنّني لَستُ مَعَهُم وأرفُضُ بِالمُطلَقِ تَحطيمَ الواقِعِ وتشويهَهُ وتَزييفُهُ والصّراخِ عَليهِ وكَأنّهُ العَدوّ الأوحَد .., بَل بِالعَطفِ عليهِ , ومُدَارَاتِهِ , والالتِفَافِ عَليهِ , ثُمّ الاندِمَاجِ فيهِ , لِتَعمِيرِهِ مِنْ جَديد , وفِي مَكَانٍ جَديد لِأنّ الاستِعلَاءِ عَلَى الواقِعِ الذي اشتَقّ " السّريَالِيونَ " اسمُهُم مِنهُ لَا يكونُ بِتَفجيرهِ , بَلْ بِتَعمِيرهِ . هَذِهِ المُلَامسة المُسْتَمِرّةِ لِلحَيَاةِ هِيَ التي تُميّز الشّاعِر ..., هَذِهِ المُلَامَسة المُستَمِرّةِ لِلواقِعِ هِي التي تُقيّمُ الشّعر ..
" الشّاعِر"
الشّاعِرُ ذاكَ الكَائِنُ / الرّسولُ الذي لَمْ ولَنْ تَنتَهي رِسَالَتُهُ .., الهَارِبُ مِنَ الشّعرِ إلى الشّعرِ .., الطّاعِنُ ذَاتَهُ مرّاتٍ ومَرّات ليَنزِفَ بَيتَاً مِنَ الشّعرِ يُخلّدُهُ في دِيوانِ " عَبقَر " هُو نَفسُهُ الشّاعِرُ الذي لم يَقُلْ يَومَاً وجدتُها أي " الحَقِيقَةَ ".., هو البَاحِثُ دَائِمَاً عَنهَا في بَواطِنِ الكَلِمةِ التّائِهَة .., وفي تَجاعِيدِ الوجُوهِ السّاهِرةِ فِي مآتِمِ الحُروفِ الثّكلى .., البَاحِثُ عَنهَا بينَ ضَفَائرِ الشّمسِ .., وفي صَرَخَاتِ حُرّةٍ ثَكلَى .., وفي أكُفّ مُشَقّقَةٍ لِفلَاحٍ يَنثُرُ بِذَارَهُ .., وفي قَسَمَاتِ جندِيّ يَكتُبُ وصِيّتَهُ الأخِيرَةِ في خَندَقٍ يَتَوحّدُ فيهِ البَارُودُ والدّخّانُ .. إذ " الحَقِيقَةُ في الشّعرِ غيرُ ثَابِتَةٍ .., وغَيرُ واضِحَةٍ .., وغَيرُ نِهَائِيّةٍ .., ولَا شيءَ في الحَقيقةِ الشّعرِيّةِ يَبقَى كَمَا كان .., بِمَعنَى أنّ زَمَنَ الشّعرِ هُو زَمَنُ التّغييرِ والصّيرُورَةِ " هَكَذا يَقُولُ أدونِيس ...
الشّاعِرُ هُو ذَاكَ الفِينِيقُ العَابِرُ لِلّغةِ الذي لم تَكفِهِ أبجَدِيّتهُ لِكِتَابَةِ جُرحِ وطَن .., هُوَ ذاكَ الحَائِمُ حَولَ دَائِرةِ الوجُودِ المُبهَمَةِ .., هُو ذَاكَ المُتَأبِطُ نَبضَ قَلبِهِ .., وهَسيسَ روحِهِ فِي رِحْلَةٍ مَجهولَةِ الجِهَاتِ .., وعرَةِ المَسَالِكِ .., هُوَ الرّاكِبُ بِساطَ المَجَازِ عَارِجاً طَبَقَاتِ الأسئلةِ والأحَاجي علّهُ يَلْمَحُ بَرِيقَاً لِمَحَارَتِهِ المَفقُودَةِ .., هُوَ ذاكَ المُمتَدّ فرَاسِخَاً وفَرَاسِخ في وادِي الحَيرَةِ الأزَلِيّ عَلّهُ يُمسِكُ طَرَفَ خيطِ وجُودِهِ الرّفِيع ... هُوَ ذَاكَ السّائلُ دومَاً " مَاذَا , كيْفَ , عَنْ , لِمَاذَا , هَلْ " لِأنّ الشّعرَ سُوالٌ مَفتوحٌ وبالتّالِي اللّغَةُ الشّعرِيّةُ هِيَ حِوارٌ بَينَ مَا يُرَى ومَا لَا يُرى .., وعَليهِ فاللامَرئيّ الغَيبيّ موضُوعُ تَسَاؤلٍ وشَكّ وهَذا سِرّ ظُهورِ الحَقِيقَةِ الشّعريّةِ في المَجهولِ والّلا معقُولِ ..
الشّاعِرُ هُوَ ذَاكَ المُتهِمُ / المُنجِدُ بَحثَاً عَنْ " أناهُ " الضّائِعَةِ .., هُوَ ذَاكَ الطّحّانُ المُشَمّرُ عَنْ سَاعِديهِ مُمسِكَاَ غِربَالَ الّلغةِ مُنَقّيَاً جيّدِهَا مِنْ ردِيئِهَا وفقَ مًوسِيقَاهُ الوَادِعةِ .., هُوَ مَنْ يَجعَلُ " يُوسُفاً " أجمَلَ وأهيَبَ عَبرَ بَوحِهِ .., وهو مَنْ يَجعَلَ " الجُبّ " أوسَعَ مَدخَلَاً عَبرَ عزفِه .. هُو مَنْ يَدّثرُ عَبَاءةَ " زُليخا" في رِحلةِ عِشقِهِ ووجدِهِ مُنتَبِذَاً مِنْ قومِهِ مَكَاناً قصيّا
الشّاعِرُ هُو ذَاكَ الخَالِقُ حَرفَاً نَبيّاً يُعِيدُ للقُلوبِ نبضَها .., وللرّوحِ أمَانَهَا .., حَرفَاً نَبِيّاً يَحفَظُ للكَلِمةِ عِرضَهَا .., وللِعِبَارَةِ كَرَامَتَها .., ولِلصّورَةِ ألَقَهَا ودَهْشَتَهَا .., هُو الذي لَا يَخونُ حَبِيبَتَهُ القَصِيدَة ولَو أُعْطِيَ مِلءَ الكَونِ ذَهَبَا .., هُوَ الذي لا يُطَأطِئُ رَأسَهُ إلّا لمولَاتِهِ القَصِيدَة .. ,
الشّاعِرُ هُو ذاكَ الذي يَقولُ مَا يعجَزُ الغيرُ عَنْ قولِهِ .. بمَعنَى أنّهُ يقولُ مَا لَا يُقَالُ .., ويخلُقُ عَلَى غَيرِ مِثَال .., أيْ هُو ذَاكَ الإلَهُ / بالمَعنَى المَجَازِيّ للكَلِمةِ / الذي يُعيدُ خَلقَ الأشيَاءِ وصِيَاغَةَ الموجُودَاتِ عَبَرَ عَمَلِيَةِ عَجنٍ للغَتِهِ الشّعريّةِ الهَادِرةِ بِمَاءِ البَقَاءِ والشّدوِ حيْثُ بَرَاكينُ الإبدَاعِ والإعجَازِ تقذِفُ حِمَمهَا قصَائِد لَا أشْهَى ولَا أعذّبْ .. هُوَ هّذا الشّاعِرُ لَا ذَاكَ الذي يَنعِي قصَائِدَهُ قبلَ أنْ تَرَى الشّمس ..
الشّاعِرُ هُوَ ذَاكَ الرّامي الذي يَنحَني كقوسٍ عَلى سَهمٍ , مُشغِلاً التّوتّرِ حتّى شَفَا التّمزّقِ , وَمِنْ ثُمّ يَرمي بِالمَجمُوعَة : الزّندِ والقَوسِ والسّهمِ , عَلَى كُلّ مَا هُو مُستَحِيلٍ فإذَا هُوَ في قلبِ المُمكِنِ , وإذَا غَنَائِمُهُ لَاهِباتُ القَصَائِدِ ومُحكَمَاتُ الشّعرِ .
الشّاعِرُ هُوَ ذَاكَ الكَائِنُ المُدنَفُ الذي تُواعِدُهُ حَبيبَاتُهُ الكَلِماتُ في حَدَائِقِ الجَمالِ كي يُدَاعِبَ خُصورَهُنّ ..., ويُمشّطَ شَعرَهُنّ بأمشَاطٍ سِحريّةٍ .., ومِنْ ثُمّ لِيَفُزنَ مِنهُ بالرّقصَةِ الأخِيرَةِ ولِيسرِقنَ مِنهُ قُبْلَةَ العُمرِ الولِيد .., عَلَى أنغَامِ موسِيقَاهُ العَذبَة ..,
الشّاعِرُ هُوَ مَنْ يَثِبُ مِنْ عصرِهِ /عبرَ شِعرهِ / فوقَ العُصُورِ ليَسكُنَ المُستَقبَل حيثُ الشّعرُ مجدٌ دُونهُ كلّ مجد ... وخُلْدٌ دونَهُ أيّ خُلدْ
وبَعدَ هَذّا أجِدُنِي مُلْزَمَاً بِسرْدِ هَذهِ الحِكَاية :
يُقَالُ أنّ اللهَ سُبحَانَهُ عِنْدَمَا خلَقَ الشّاعِرَ خلَقَهُ بِعَمَلِيّةٍ . وانتَبَهَ – جلّ سُبحَانَهُ عَنِ النّسيان – انتَبَهَ بَعدَ فَواتِ الأوَانِ , أنّهُ نَسيَ كُلّ الأدَواتِ في الدّاخِلِ , لَكِنّ الشّاعِرَ كانَ قدِ استَفَاقَ فَمَا عَادَ يقبَلُ بِأيّ شَكلٍ أنْ يُمَسّ مِنْ جَديد . إذَنْ هُنَاكَ اتّفَاقٌ عَلَى أنّ الشّاعِرَ يملُكُ أشيَاءَ البَدْعِ , بِمَعنى أنّهُ يُوجَدُ في دَاخِلِهِ أشيَاء إلَه , وبِشيءٍ مِنَ التّجَاوزِ مُصغّرٌ عَنْ إلَه .
ولَكِنّ الذي حَدَثَ ولَا زالَ هُو أنّ أحداً مِنّا لم يُوقِظ هَذا النّائِم في أعمَاقِهِ , وذَلِكَ بِسَبَبِ مَرَضِ الاستسهَالِ , وبِسَبَبِ مَرضٍ آخَرٍ اسمُهُ الاتّكَال : الاتّكَالُ عَلَى مَا كَتَبَ الآخَرون , أو الاتّكال عَلَى أنّ الأميّةَ والعَمَى سيبقَيَانِ فِي العُيونِ , وخُصوصَاً الاتّكَال علَى الله .
وأخيرَاً ولِكَي أترُكَ القَلَمَ لِيُريحَ ويَستَرِيح لَم أجِدْ خَيرَاَ مِنْ نَصِيحَةٍ لِي ولَكُم .., نَصِيحةٍ قَالَهَا ذَاتَ يَومٍ " مَالَرمِيه " لـ " فَاليرِي " عِندَمَا طَلَبَ إليهِ النّصِيحَة .., قَالَ لهُ " كًنْ وحِيدَاً .., أي كْنْ مَتَفرّدَاً بالتّمَامِ والكَمَالِ .., كُنْ مَتَفَرّدَاً لِتَلتَقي بِحَقيقَتكَ مَعَ الحُريّة أو بِحُرّيتِكَ مَعَ الحَقيقَة .., كُنْ مَتَفَرّدَاً لِتَستَنِيرَ بِشمسِكَ الدّاخِليّة .., كُنْ مُتَفَرّدَاً حَتّى لَا تَقتُلَ الوقتَ بِالعَبَثيّة
مَهَنّد ع صقّور
جبلة .. السّخابة
وَلَكِنَ السّؤَالَ الأزَلِيّ الذي طَرَحَ وَمَا زَالَ وسَيَبقى يَطْرحُ نفسَهُ وَبِقُوّةٍ هُوَ: هَلْ كُلّ مَنْ نَظَمَ أو كَتَبَ شِعْرَاً يُمكِن أنْ يُقالَ لهُ شَاعِر ..؟ وهَلْ يُمكِن أنْ يُقالَ لِكِتَابتِهِ أوْ نظمِهِ شِعْراً .؟ الجوابُ عَلَى ذلِكَ لَيسَ بِالأَمرِ السّهلِ , أَوِ اليَسِيرِ , والجَوَابُ يَجِبُ ألّا يَكُونَ عَشْوَائِيّاً أو سَطحِيّاً أو مُختَزَلَاً أيضَاً لِأنّ هُنَاكَ كَائِنَاً جَمِيلَاً رَصِينَاً مُتّزِنَاً مَنْطِقِيّاً فِي تَعَاطِيِهِ مَعَ القَضِيّة , مِنْ جِهَة , وحِيَادِيّاً لَهُ أدَوَاتُهُ اللّغَوِيّة ومَكانَتَهُ الثّقَافِيّة والمَعرِفِيّةُ الَتي تُمَكّنُهُ مِنَ الإدْلَاءِ بِدَلوِهِ , ذاكَ الكَائِن هُوَ " النّاقِد " الذي مِنَ البَدَهِيّ والمَنطِقِيّ يَجِبْ أنْ يَكُونَ " شَاعِرَاً ونَاقِدَاَ بِآنٍ مَعَاً وإلّا سَيَبقَى حُكْمُهُ نَاقِصَاً قَاصِرَاً مَهمَا اجتَرَحَ لَهُ مِنَ المَسوّغَاتِ والمُبَرِرَاتْ .
كَمَا أنّ هُنَاكَ أيضَاً مَنْ لا يَجِب تَجُاهُلُهُ بِأيّ شَكلٍ مِنَ الأشكَالِ ألَا وَهُوَ القَارِئُ الجيّدُ المُتَمَكّنُ مِنَ الغَوصِ في بَحرِ النّصِ , والقَادِرُ أيضَاً مِنْ اختِراقِ أسوارِ المَجَازِ والاستِعَارَاتِ والتّحلِيقِ مَعَ المُفرَدةِ فِي فضَائِهَا الذي أطلَقَهَا فِيهِ شَاعِرُها .., والذّوّاقُ أيضَاً لِلنّكْهَةِ الشّعرِيّةِ في هَذَا النّصّ أو غَيرِه ., إذَاً وُفقَ هَذينِ المِعيَارَينِ يُسْتَطَاعُ الحُكمُ عَلى نِتَاجِ شَاعِرٍ بِاَنّهُ شِعرٌ أو لَا , وبِغيرِ ذَلِكْ لَا أعتَقِدْ أنّهُ بِإمكَانِنَا إضفَاء صِفةِ شِعر وشَاعِرِيّة عَلَى أيّ نَصّ بِغَضّ النّظَرِ عَمّنْ كَانَ قائِلُهُ أو نَاظِمُهُ .
مِنْ جَانِبٍ آخرٍ وهُو الأسَاسُ بِرَأيي ولَا يَقِلّ أهَمّيةً عَمّا سبَق إذْ لَم يَكُن الأهَمّ وهو : الشّعرُ ذَاكَ الوحيُ الّذي لَا يَتَأتّى لِأيّ كَان , والّذي لا يَتَكَرّرُ بِاعتِبَارِهِ وَمْضة أو حالَة تَمرّ مَرّ السّحَاب ولَا تَعود ما هُو السّرّ الذي يَحمِلَهُ ويُودِعَهُ لَدَى الشّاعِر .؟ ومَا هُوَ النّبَأ العَظيمُ الذي يُلَقّنَهُ لِلشّاعِر .؟ وهَل الحَقِيقَةُ بِكامِلِهَا في ذَاكَ الوحي .؟ وهَل بِمقدُورِ الشّاعِر القِيَام بِهَذَا الحِمل .؟ وهَل هُو عَلى قدرِ المَسؤولِيّة المُلقَاةِ عَلى عَاتِقِهِ .؟ وهَلْ لَدَيهِ مِنَ العِدّةِ والعَتَادِ مَا يُمكّنُهُ مِنْ إيصَالِ رِسَالَتهِ بِامَانةٍ تَامّة .؟ ومِنْ ثمّ هل تُسْعِفُهُ ذخيرتُهُ اللغَويّة وخَيَالُهُ عَلى إعَادَةِ خَلِقِ قصيدَةٍ تَليقُ بِذَاكَ الوحي ..؟
أسْئِلَةٌ أترُكُ الإجَابَةَ عَلَيهَا لِمَنْ يَعتَقِدُ واثِقَاً أنّهُ " شَاعِر" .., ولِمَنْ يُنصِفُ نَفسَهُ أوّلاً واللغَةَ والشّعرَ ثَانِيَاَ و الآخرِينَ ثالِثَاً ..!! أعني " النّاقِدَ الحُرّ "
" مَعَ وضِدّ"
أنَا مَعَ السّريَالِيين بِأنّ الشّعرَ هُوَ غَيرُ الواقِع , وأنّهُ يجِب أنْ يُكتَبَ بِغِيابِ العَقلِ .., ولَكِنّني لَستُ مَعَهُم وأرفُضُ بِالمُطلَقِ تَحطيمَ الواقِعِ وتشويهَهُ وتَزييفُهُ والصّراخِ عَليهِ وكَأنّهُ العَدوّ الأوحَد .., بَل بِالعَطفِ عليهِ , ومُدَارَاتِهِ , والالتِفَافِ عَليهِ , ثُمّ الاندِمَاجِ فيهِ , لِتَعمِيرِهِ مِنْ جَديد , وفِي مَكَانٍ جَديد لِأنّ الاستِعلَاءِ عَلَى الواقِعِ الذي اشتَقّ " السّريَالِيونَ " اسمُهُم مِنهُ لَا يكونُ بِتَفجيرهِ , بَلْ بِتَعمِيرهِ . هَذِهِ المُلَامسة المُسْتَمِرّةِ لِلحَيَاةِ هِيَ التي تُميّز الشّاعِر ..., هَذِهِ المُلَامَسة المُستَمِرّةِ لِلواقِعِ هِي التي تُقيّمُ الشّعر ..
" الشّاعِر"
الشّاعِرُ ذاكَ الكَائِنُ / الرّسولُ الذي لَمْ ولَنْ تَنتَهي رِسَالَتُهُ .., الهَارِبُ مِنَ الشّعرِ إلى الشّعرِ .., الطّاعِنُ ذَاتَهُ مرّاتٍ ومَرّات ليَنزِفَ بَيتَاً مِنَ الشّعرِ يُخلّدُهُ في دِيوانِ " عَبقَر " هُو نَفسُهُ الشّاعِرُ الذي لم يَقُلْ يَومَاً وجدتُها أي " الحَقِيقَةَ ".., هو البَاحِثُ دَائِمَاً عَنهَا في بَواطِنِ الكَلِمةِ التّائِهَة .., وفي تَجاعِيدِ الوجُوهِ السّاهِرةِ فِي مآتِمِ الحُروفِ الثّكلى .., البَاحِثُ عَنهَا بينَ ضَفَائرِ الشّمسِ .., وفي صَرَخَاتِ حُرّةٍ ثَكلَى .., وفي أكُفّ مُشَقّقَةٍ لِفلَاحٍ يَنثُرُ بِذَارَهُ .., وفي قَسَمَاتِ جندِيّ يَكتُبُ وصِيّتَهُ الأخِيرَةِ في خَندَقٍ يَتَوحّدُ فيهِ البَارُودُ والدّخّانُ .. إذ " الحَقِيقَةُ في الشّعرِ غيرُ ثَابِتَةٍ .., وغَيرُ واضِحَةٍ .., وغَيرُ نِهَائِيّةٍ .., ولَا شيءَ في الحَقيقةِ الشّعرِيّةِ يَبقَى كَمَا كان .., بِمَعنَى أنّ زَمَنَ الشّعرِ هُو زَمَنُ التّغييرِ والصّيرُورَةِ " هَكَذا يَقُولُ أدونِيس ...
الشّاعِرُ هُو ذَاكَ الفِينِيقُ العَابِرُ لِلّغةِ الذي لم تَكفِهِ أبجَدِيّتهُ لِكِتَابَةِ جُرحِ وطَن .., هُوَ ذاكَ الحَائِمُ حَولَ دَائِرةِ الوجُودِ المُبهَمَةِ .., هُو ذَاكَ المُتَأبِطُ نَبضَ قَلبِهِ .., وهَسيسَ روحِهِ فِي رِحْلَةٍ مَجهولَةِ الجِهَاتِ .., وعرَةِ المَسَالِكِ .., هُوَ الرّاكِبُ بِساطَ المَجَازِ عَارِجاً طَبَقَاتِ الأسئلةِ والأحَاجي علّهُ يَلْمَحُ بَرِيقَاً لِمَحَارَتِهِ المَفقُودَةِ .., هُوَ ذاكَ المُمتَدّ فرَاسِخَاً وفَرَاسِخ في وادِي الحَيرَةِ الأزَلِيّ عَلّهُ يُمسِكُ طَرَفَ خيطِ وجُودِهِ الرّفِيع ... هُوَ ذَاكَ السّائلُ دومَاً " مَاذَا , كيْفَ , عَنْ , لِمَاذَا , هَلْ " لِأنّ الشّعرَ سُوالٌ مَفتوحٌ وبالتّالِي اللّغَةُ الشّعرِيّةُ هِيَ حِوارٌ بَينَ مَا يُرَى ومَا لَا يُرى .., وعَليهِ فاللامَرئيّ الغَيبيّ موضُوعُ تَسَاؤلٍ وشَكّ وهَذا سِرّ ظُهورِ الحَقِيقَةِ الشّعريّةِ في المَجهولِ والّلا معقُولِ ..
الشّاعِرُ هُوَ ذَاكَ المُتهِمُ / المُنجِدُ بَحثَاً عَنْ " أناهُ " الضّائِعَةِ .., هُوَ ذَاكَ الطّحّانُ المُشَمّرُ عَنْ سَاعِديهِ مُمسِكَاَ غِربَالَ الّلغةِ مُنَقّيَاً جيّدِهَا مِنْ ردِيئِهَا وفقَ مًوسِيقَاهُ الوَادِعةِ .., هُوَ مَنْ يَجعَلُ " يُوسُفاً " أجمَلَ وأهيَبَ عَبرَ بَوحِهِ .., وهو مَنْ يَجعَلَ " الجُبّ " أوسَعَ مَدخَلَاً عَبرَ عزفِه .. هُو مَنْ يَدّثرُ عَبَاءةَ " زُليخا" في رِحلةِ عِشقِهِ ووجدِهِ مُنتَبِذَاً مِنْ قومِهِ مَكَاناً قصيّا
الشّاعِرُ هُو ذَاكَ الخَالِقُ حَرفَاً نَبيّاً يُعِيدُ للقُلوبِ نبضَها .., وللرّوحِ أمَانَهَا .., حَرفَاً نَبِيّاً يَحفَظُ للكَلِمةِ عِرضَهَا .., وللِعِبَارَةِ كَرَامَتَها .., ولِلصّورَةِ ألَقَهَا ودَهْشَتَهَا .., هُو الذي لَا يَخونُ حَبِيبَتَهُ القَصِيدَة ولَو أُعْطِيَ مِلءَ الكَونِ ذَهَبَا .., هُوَ الذي لا يُطَأطِئُ رَأسَهُ إلّا لمولَاتِهِ القَصِيدَة .. ,
الشّاعِرُ هُو ذاكَ الذي يَقولُ مَا يعجَزُ الغيرُ عَنْ قولِهِ .. بمَعنَى أنّهُ يقولُ مَا لَا يُقَالُ .., ويخلُقُ عَلَى غَيرِ مِثَال .., أيْ هُو ذَاكَ الإلَهُ / بالمَعنَى المَجَازِيّ للكَلِمةِ / الذي يُعيدُ خَلقَ الأشيَاءِ وصِيَاغَةَ الموجُودَاتِ عَبَرَ عَمَلِيَةِ عَجنٍ للغَتِهِ الشّعريّةِ الهَادِرةِ بِمَاءِ البَقَاءِ والشّدوِ حيْثُ بَرَاكينُ الإبدَاعِ والإعجَازِ تقذِفُ حِمَمهَا قصَائِد لَا أشْهَى ولَا أعذّبْ .. هُوَ هّذا الشّاعِرُ لَا ذَاكَ الذي يَنعِي قصَائِدَهُ قبلَ أنْ تَرَى الشّمس ..
الشّاعِرُ هُوَ ذَاكَ الرّامي الذي يَنحَني كقوسٍ عَلى سَهمٍ , مُشغِلاً التّوتّرِ حتّى شَفَا التّمزّقِ , وَمِنْ ثُمّ يَرمي بِالمَجمُوعَة : الزّندِ والقَوسِ والسّهمِ , عَلَى كُلّ مَا هُو مُستَحِيلٍ فإذَا هُوَ في قلبِ المُمكِنِ , وإذَا غَنَائِمُهُ لَاهِباتُ القَصَائِدِ ومُحكَمَاتُ الشّعرِ .
الشّاعِرُ هُوَ ذَاكَ الكَائِنُ المُدنَفُ الذي تُواعِدُهُ حَبيبَاتُهُ الكَلِماتُ في حَدَائِقِ الجَمالِ كي يُدَاعِبَ خُصورَهُنّ ..., ويُمشّطَ شَعرَهُنّ بأمشَاطٍ سِحريّةٍ .., ومِنْ ثُمّ لِيَفُزنَ مِنهُ بالرّقصَةِ الأخِيرَةِ ولِيسرِقنَ مِنهُ قُبْلَةَ العُمرِ الولِيد .., عَلَى أنغَامِ موسِيقَاهُ العَذبَة ..,
الشّاعِرُ هُوَ مَنْ يَثِبُ مِنْ عصرِهِ /عبرَ شِعرهِ / فوقَ العُصُورِ ليَسكُنَ المُستَقبَل حيثُ الشّعرُ مجدٌ دُونهُ كلّ مجد ... وخُلْدٌ دونَهُ أيّ خُلدْ
وبَعدَ هَذّا أجِدُنِي مُلْزَمَاً بِسرْدِ هَذهِ الحِكَاية :
يُقَالُ أنّ اللهَ سُبحَانَهُ عِنْدَمَا خلَقَ الشّاعِرَ خلَقَهُ بِعَمَلِيّةٍ . وانتَبَهَ – جلّ سُبحَانَهُ عَنِ النّسيان – انتَبَهَ بَعدَ فَواتِ الأوَانِ , أنّهُ نَسيَ كُلّ الأدَواتِ في الدّاخِلِ , لَكِنّ الشّاعِرَ كانَ قدِ استَفَاقَ فَمَا عَادَ يقبَلُ بِأيّ شَكلٍ أنْ يُمَسّ مِنْ جَديد . إذَنْ هُنَاكَ اتّفَاقٌ عَلَى أنّ الشّاعِرَ يملُكُ أشيَاءَ البَدْعِ , بِمَعنى أنّهُ يُوجَدُ في دَاخِلِهِ أشيَاء إلَه , وبِشيءٍ مِنَ التّجَاوزِ مُصغّرٌ عَنْ إلَه .
ولَكِنّ الذي حَدَثَ ولَا زالَ هُو أنّ أحداً مِنّا لم يُوقِظ هَذا النّائِم في أعمَاقِهِ , وذَلِكَ بِسَبَبِ مَرَضِ الاستسهَالِ , وبِسَبَبِ مَرضٍ آخَرٍ اسمُهُ الاتّكَال : الاتّكَالُ عَلَى مَا كَتَبَ الآخَرون , أو الاتّكال عَلَى أنّ الأميّةَ والعَمَى سيبقَيَانِ فِي العُيونِ , وخُصوصَاً الاتّكَال علَى الله .
وأخيرَاً ولِكَي أترُكَ القَلَمَ لِيُريحَ ويَستَرِيح لَم أجِدْ خَيرَاَ مِنْ نَصِيحَةٍ لِي ولَكُم .., نَصِيحةٍ قَالَهَا ذَاتَ يَومٍ " مَالَرمِيه " لـ " فَاليرِي " عِندَمَا طَلَبَ إليهِ النّصِيحَة .., قَالَ لهُ " كًنْ وحِيدَاً .., أي كْنْ مَتَفرّدَاً بالتّمَامِ والكَمَالِ .., كُنْ مَتَفَرّدَاً لِتَلتَقي بِحَقيقَتكَ مَعَ الحُريّة أو بِحُرّيتِكَ مَعَ الحَقيقَة .., كُنْ مَتَفَرّدَاً لِتَستَنِيرَ بِشمسِكَ الدّاخِليّة .., كُنْ مُتَفَرّدَاً حَتّى لَا تَقتُلَ الوقتَ بِالعَبَثيّة
مَهَنّد ع صقّور
جبلة .. السّخابة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق