أن يضع الإنسان عقله داخل علبة أو صندوق أو إطار فكري محدد ينظر من خلاله إلى الكون والحياة والعالم أجمع وفق هذا المنظور والاطار الضيق لهو أمر خطير وفيه من المشكلات الشيء الكثير، فهو كمن ينظر الى العالم الرحب من ثقب باب أو كمن يضع نظارة سوداء على عينيه ويرى كل شيء أسوداً، وتلك هي الرؤية الأيديولوجية التي ينطلق منها أي إنسان أو كاتب تجاه الأفكار ومحاكمة الناس والمعتقدات، لأن الموقف الأيديولوجي موقفاً معبّئا ومسبّقاً يحمل من الضدّية والعدوانية والخصومة الشيء الكثير، وتلك الرؤية لا تقتصر على فكر أو حقل أو اتجاه ما، وانما تشمل الكثير من التوجهات السياسية والدينية والفكرية
والعلمية والثقافية، فـ الانغلاق على رؤية واحدة ومحددة وحادة هو ما يجعل الأفكار والتوجهات عمياء وضالة ومتطرفة لا تقبل الفكر والرأي الآخر، وتحط من أي نظرة أو فكرة تصدر من الخصم يعارض توجهها الأيديولوجي وفكرها الأحادي، وتجند كل شيء من أجل إقصاء تلك الأفكار المخالفة، فمقص وسرير بروكست الأيديولوجي يلاحقنا في كل مكان لنخضع لرؤيته و فكره وتوجهه الذي يريد ويرغب، وتلك كارثة الكوارث في الافكار والمعتقدات، حين يريد منا أصحاب الفكر المؤدلج أن نسير وفق ما يؤمنون به ويرغموننا على تبني ما يعتقدون، فهم كمن يفرض الوصاية على عقول الآخرين ظناً منهم بقصور عقول الناس ولذا يطلب الحجر على عقولهم وأن يسيروا وفق ما يرسم لهم من خطوات ومعتقدات وآراء، وهذا ما يفعله الكثير من الكتاب والباحثين حين ينطلقون من رؤى أيديولوجية ضيقة يدعون لها الناس وهم معصوبي الأعين دون فكر أو تأمل أو تدبر، وهو عين ما ذهب اليه الداعية السعودي الشيخ الدكتور عوض القرني(*) في كتابه (الحداثة في ميزان الإسلام)، هذا الكتاب الذي قدم له مرجع السعودية الديني الشيخ عبد العزيز بن باز، الذي قال بحق القرني وكتابه : (أحمد الله الذي قيض لهؤلاء الحداثيين من كشف أستارهم وبين مقاصدهم وأغراضهم الخبيثة وأهدافهم الخطيرة بهذا الكتاب الذي يقدمه مؤلفه فضيلة الشيخ عوض للقراء، فقد كشف لنا القناع عن عدو سافر يتربص بنا ويعيش بين ظهرانينا ينفث سمومه بإسم الحداثة، وهو بهذا الكشف والبيان يلقي مسؤولية عظيمة وجسيمة على علماء هذا البلد وقادته ورجاله وشبابه وغيرهم للتصدي لهذا الخطر، وإيقاظ الهمم، وتنبيه الغافل عنه، ونصح وتوجيه الواقع فيه.).(1)
كتاب القرني ينطلق من رؤية أيديولوجية دينية سلفية تحاكم الأفكار والنظريات والآراء البشرية التي صدرت من عقول أناس بمختلف الأصول والأجناس، وبمختلف توجهاتهم الفكرية والعقائدية والثقافية والقومية، منطلقاً في هذه المحاكمة والنقد من خلال فكره الديني ومعتقده المذهبي الذي يكفّر ويحقّر ويرفض كل خصم لا يؤمن بالإسلام وبشرعته، أو ممن يدعو الى التجديد والتحديث والتنوير في بنية الفكر العربي والاسلامي من المفكرين والادباء والشعراء العرب المعاصرين. وكتاب القرني مليء لا بالنقد فحسب بل بالتكفير والتطرف في فهمه للحداثة وللحداثويين من الغرب والعرب، فالقرني يعد الحداثة داء خطير قد أبتليت به الأمة وعلى الجميع مواجهته، (ومن هذه الأفكار التي ابتليت بها الأمة وبدأ خطرها يظهر في ساحتنا، مذهب فكري جديد يسعى لهدم كل موروث، والقضاء على كل قديم، والتمرد على الأخلاق والقيم والمعتقدات، وهذا المذهب أطلق عليه كهانه وسدنة أصنامه أسم "الحداثة" ).(2)
وقد أنطلق القرني كأي مسلم للدفاع عن دينه ومعتقده جاعلاً من موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دافعاً للتحرك نحو نقده وهجومه على الحداثة ومن يدعو لها، لأنها في مضمونها وجوهرها تحمل بذرة الكفر والألحاد والزندقة فـ (الحداثيين العرب حاولوا بشتى الطرق والوسائل أن يجدوا لحداثتهم جذوراً في التاريخ الإسلامي، فما أسعفهم الا من كان على شاكلتهم، من ملحد أو فاسق أو ماجن، مثل : الحلاج، وأبن عربي، وبشار، وأبي نؤاس، وأبن الراوندي، والمعري، والقرامطة، وثورة الزنج، لكن الواقع أن كل ما يقوله الحداثيون هنا، ليس الا تكراراً لما قاله حداثيو أوربا وأمريكا، ورغم صياحهم وجعجعهتم بالابداع والتجاوز للسائد والنمطي ـ كما يسمونه ـ الا أنه لا يطبق الا على الاسلام وتراثه، أما وثنية اليونان، وأساطير الرومان، وأفكار ملاحدة الغرب، حتى قبل مئات السنين، فهي قمة الحداثة وبذلك فهم مجرد نقلة لفكر أعمدة الحداثة في الغرب مثل : اليوت، وباوند، وريلكه، ولوركا، ونيرودا، وبارت، وماركيز، وغيرهم الى آخر القائمة الخبيثة التي أضطرنا حداثيونا الى قراءة سير أهلها الفاسدة، وانتاجها الذي حوى حثالة ما وصل إليه فكر البشر).(3)
تلك هي لغة القرني وأسلوبه الأدبي والبحثي الذي يخاطب به أهل الحداثة ويحذر من فكرهم ذوي الألباب من المسلمين، لتجنب تلك الأفكار الخارجة عن الدين والاخلاق والقيم. الذي أفهمه ان القرني قد قرأ الحداثة من زاوية فهمه ومنظوره ومعتقده ودوافعه وبالتالي رفضها جملة وتفصيلاً، كما جاءت بصورتها الغربية وكما أراد بعض الحداثويين العرب نسخ تلك التجربة واستخدام المناهج الحداثوية أدباً وفكراً وممارسة. والقرني قد قرر منذ بداية دراسته في الكتاب انه يرفض ويحارب نزعة التجديد والتحديث التي قام بها مجموعة من الأدباء والشعراء والمفكرين العرب، أمثال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وأدباء المهجر وجماعة الديوان ومدرسة أبولو وأدونيس ونزار قباني ومحمود درويش وصلاح عبد الصبور، على مستوى الأدب والشعر، وكل ما جاء به طه حسين وسلامة موسى وشبلي شميل وجرجي زيدان وعلي عبد الرازق وساطع الحصري وقسطنطين زريق ولطفي السيد وغيرهم على مستوى الفكر العربي، فقد كان هؤلاء ـ بنظر القرني ـ منابر دعاية، وأبواق تضليل، للحداثة وللغزو الفكري الغربي وخاصة للماركسية التي ينتمي لها الكثير من الكتاب والمفكرين العرب. فـ (كل هؤلاء وجد فيهم الحداثيون إرهاصات وبدايات مهدت لظهور الحداثة المعاصرة، بل انها البداية الحقيقية لها، وبداية حلقات سلسلتها التي ربط عراها الشيطان الحداثي الأكبر أدونيس.).(4)
ويتفق القرني مع ما جاءت به الباحثة سهيلة زين العابدين، وهي أحدى مصادر دراسته، التي ترى ان الحداثة في الشعر العربي قد حققت ما هدفت إليه الماسونية وبروتوكولات صهيون، ووصلت الحداثة العربية لقمة ذلك مع المرحلة الأندونيسية الحالية التي تعتبر من أخطر المراحل التي مرت بها الحداثة العربية في ثقافتنا المعاصرة وشعرنا العربي، التي (دعا فيها أدونيس إلى نبذ التراث وكل ما له صلة بالماضي، ودعا إلى الثورة على كل شيء، وهو في هذا يدعي أنه من دعاة الابداع والابتكار مع أن ما يردده ليس بجديد، فهذه دعوة الماركسية والصهيونية ألبسها لباس ثورته التجديدية لتحقق الابداع الذي يدعيه).(5)
ومما يؤسف له هناك فهم ساذج ومؤدلج وخطاب وعظي يحمله دعاة المحافظة والتقليد للحداثة والتجديد والتنوير، وأول ما يأتون على ذكره هو الخوف على الاسلام والمسلمين من خطورة الأفكار الوافدة ومن تقليد تلك الأفكار ونشرها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ذات العادات والتقاليد الدينية والاخلاقية، ومخاطبة الجمهور وعامة الناس بخطاب سحري عاطفي يحذرهم من كل تلك الافكار ودعاتها، فهي كفر والحاد وزندقة وهرطقات تهدف الى زعزعة ايماننا وتحريف ديننا، بالتأكيد ان هكذا خطاب وعظي، سحري، بياني، لا يريد نشر العقلانية والنقد والتنوير بين الناس لأنه لا يصب في صالحهم، ممن يدينون بالخطاب الديني المتطرف، الذين يرفضون الآخر جملة وتفصيلاً، ولا يفتحون معه أي قناة للحوار والتواصل والتفاهم، ومما يؤسف له أيضاً هو اللغة المتشنجة والتكفيرية التي تضاد الآخر ولا تتيح له أي مساحة للتفكير والتعبير، بل وصف القرني بعض الحداثيين العرب ممن غادروا فكر الحداثة وندموا على تجربتهم الحداثية السابقة، وصفهم بـ (التائبين)، لأنهم تنبهوا الى أن الحداثة تضاد قيمنا وثقافتنا الأصيلة، وأن الحداثيين يسيرون في خط معاكس ومناقض تماماً لما في مجتمعاتنا من مثل اسلامية وقيم إيمانية.
أرى الى أن ما ذهب اليه القرني قد ذهب اليه الكثير من الكتاب ونقاد الحداثة والتنوير في مجتمعنا العربي ممن يسيرون على الخط الديني، وطبيعي جداً انهم يسحبون الأمور لصالحهم ويطلبون من الجماهير والناس معاداة هذا النمط من التفكير، لأنه من وجهة نظرهم فيه تجاوز على الدين والأخلاق والقيم ويؤدي الى فساد مجتمعاتنا المؤمنة، وما الى غير ذلك من الكلام الخطير الذي يهدد عقائد الناس وما يؤمنون به، وتلك فاجعة في طريقة مخاطبة العقول، دون ترك حرية الاختيار للناس في نوع الثقافة والتفكير الذين يرغبون به، وما يراه رجل الدين في فكر الحداثة قد لا يراه الأكاديمي والعالم والمثقف الحر، بل ان الأمر الذي أراه في تخوف المحافظين من فكر المجددين والحداثيين هو في محاولة القسم الثاني من توعية الناس وتثقيفهم وتوجيههم نحو المطالبة بحقوقهم السياسية والاجتماعية والمدنية، ورفع الحجب والقيود الفكرية والثقافية التي تضعها السلطة السياسية والدينية على عقول الناس وطريقة تفكيرهم في إدارة الحياة والمجتمع، وكل هذا مما يخيف المؤسسة الدينية ويضعف من سلطتها تجاه الناس ويحرمها من مستحقاتها ونفوذها التي تمتعت بها طوال تاريخ كبير من وجودها، فالثورة والنقد والتصحيح والتجديد أفكار حداثوية تزلزل عروش الطغاة وتهدد مصالح الطبقة المتنفذة، وبالتالي تعمل هذه على نقد ورفض ومحاربة كل فكر تجديدي يطالب بالاصلاح والتنوير وتصفه بأقبح الأوصاف والنعوت لتخيف منه العامة، وتلك طرق في التفكير والمعاملة عرفتها تاريخ المجتمعات البشرية طوال وجودها، ومنها تلك القراءة السلفية للحداثة التي تحذر الناس من فكر لا ينسجم والتوجهات الأديولوجية التي يؤمن بها دعاة المحافظة والتقليد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(*)عوض القرني، دكتوراه في الشريعة الإسلامية تخصص الفقه وأصول الفقه، وعمل أستاذا بـجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع أبها (سابقاً) جامعة الملك خالد (حالياً).
(1) عوض القرني. الحداثة في ميزان الاسلام. ط1. دار هجر. 1988. المقدمة ص 6.
(2) المصدر نفسه. ص 12.
(3) المصدر نفسه. ص 17.
(4) المصدر نفسه. ص 30 ـ 31.
(5) المصدر نفسه. ص 33.
والعلمية والثقافية، فـ الانغلاق على رؤية واحدة ومحددة وحادة هو ما يجعل الأفكار والتوجهات عمياء وضالة ومتطرفة لا تقبل الفكر والرأي الآخر، وتحط من أي نظرة أو فكرة تصدر من الخصم يعارض توجهها الأيديولوجي وفكرها الأحادي، وتجند كل شيء من أجل إقصاء تلك الأفكار المخالفة، فمقص وسرير بروكست الأيديولوجي يلاحقنا في كل مكان لنخضع لرؤيته و فكره وتوجهه الذي يريد ويرغب، وتلك كارثة الكوارث في الافكار والمعتقدات، حين يريد منا أصحاب الفكر المؤدلج أن نسير وفق ما يؤمنون به ويرغموننا على تبني ما يعتقدون، فهم كمن يفرض الوصاية على عقول الآخرين ظناً منهم بقصور عقول الناس ولذا يطلب الحجر على عقولهم وأن يسيروا وفق ما يرسم لهم من خطوات ومعتقدات وآراء، وهذا ما يفعله الكثير من الكتاب والباحثين حين ينطلقون من رؤى أيديولوجية ضيقة يدعون لها الناس وهم معصوبي الأعين دون فكر أو تأمل أو تدبر، وهو عين ما ذهب اليه الداعية السعودي الشيخ الدكتور عوض القرني(*) في كتابه (الحداثة في ميزان الإسلام)، هذا الكتاب الذي قدم له مرجع السعودية الديني الشيخ عبد العزيز بن باز، الذي قال بحق القرني وكتابه : (أحمد الله الذي قيض لهؤلاء الحداثيين من كشف أستارهم وبين مقاصدهم وأغراضهم الخبيثة وأهدافهم الخطيرة بهذا الكتاب الذي يقدمه مؤلفه فضيلة الشيخ عوض للقراء، فقد كشف لنا القناع عن عدو سافر يتربص بنا ويعيش بين ظهرانينا ينفث سمومه بإسم الحداثة، وهو بهذا الكشف والبيان يلقي مسؤولية عظيمة وجسيمة على علماء هذا البلد وقادته ورجاله وشبابه وغيرهم للتصدي لهذا الخطر، وإيقاظ الهمم، وتنبيه الغافل عنه، ونصح وتوجيه الواقع فيه.).(1)
كتاب القرني ينطلق من رؤية أيديولوجية دينية سلفية تحاكم الأفكار والنظريات والآراء البشرية التي صدرت من عقول أناس بمختلف الأصول والأجناس، وبمختلف توجهاتهم الفكرية والعقائدية والثقافية والقومية، منطلقاً في هذه المحاكمة والنقد من خلال فكره الديني ومعتقده المذهبي الذي يكفّر ويحقّر ويرفض كل خصم لا يؤمن بالإسلام وبشرعته، أو ممن يدعو الى التجديد والتحديث والتنوير في بنية الفكر العربي والاسلامي من المفكرين والادباء والشعراء العرب المعاصرين. وكتاب القرني مليء لا بالنقد فحسب بل بالتكفير والتطرف في فهمه للحداثة وللحداثويين من الغرب والعرب، فالقرني يعد الحداثة داء خطير قد أبتليت به الأمة وعلى الجميع مواجهته، (ومن هذه الأفكار التي ابتليت بها الأمة وبدأ خطرها يظهر في ساحتنا، مذهب فكري جديد يسعى لهدم كل موروث، والقضاء على كل قديم، والتمرد على الأخلاق والقيم والمعتقدات، وهذا المذهب أطلق عليه كهانه وسدنة أصنامه أسم "الحداثة" ).(2)
وقد أنطلق القرني كأي مسلم للدفاع عن دينه ومعتقده جاعلاً من موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دافعاً للتحرك نحو نقده وهجومه على الحداثة ومن يدعو لها، لأنها في مضمونها وجوهرها تحمل بذرة الكفر والألحاد والزندقة فـ (الحداثيين العرب حاولوا بشتى الطرق والوسائل أن يجدوا لحداثتهم جذوراً في التاريخ الإسلامي، فما أسعفهم الا من كان على شاكلتهم، من ملحد أو فاسق أو ماجن، مثل : الحلاج، وأبن عربي، وبشار، وأبي نؤاس، وأبن الراوندي، والمعري، والقرامطة، وثورة الزنج، لكن الواقع أن كل ما يقوله الحداثيون هنا، ليس الا تكراراً لما قاله حداثيو أوربا وأمريكا، ورغم صياحهم وجعجعهتم بالابداع والتجاوز للسائد والنمطي ـ كما يسمونه ـ الا أنه لا يطبق الا على الاسلام وتراثه، أما وثنية اليونان، وأساطير الرومان، وأفكار ملاحدة الغرب، حتى قبل مئات السنين، فهي قمة الحداثة وبذلك فهم مجرد نقلة لفكر أعمدة الحداثة في الغرب مثل : اليوت، وباوند، وريلكه، ولوركا، ونيرودا، وبارت، وماركيز، وغيرهم الى آخر القائمة الخبيثة التي أضطرنا حداثيونا الى قراءة سير أهلها الفاسدة، وانتاجها الذي حوى حثالة ما وصل إليه فكر البشر).(3)
تلك هي لغة القرني وأسلوبه الأدبي والبحثي الذي يخاطب به أهل الحداثة ويحذر من فكرهم ذوي الألباب من المسلمين، لتجنب تلك الأفكار الخارجة عن الدين والاخلاق والقيم. الذي أفهمه ان القرني قد قرأ الحداثة من زاوية فهمه ومنظوره ومعتقده ودوافعه وبالتالي رفضها جملة وتفصيلاً، كما جاءت بصورتها الغربية وكما أراد بعض الحداثويين العرب نسخ تلك التجربة واستخدام المناهج الحداثوية أدباً وفكراً وممارسة. والقرني قد قرر منذ بداية دراسته في الكتاب انه يرفض ويحارب نزعة التجديد والتحديث التي قام بها مجموعة من الأدباء والشعراء والمفكرين العرب، أمثال بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وأدباء المهجر وجماعة الديوان ومدرسة أبولو وأدونيس ونزار قباني ومحمود درويش وصلاح عبد الصبور، على مستوى الأدب والشعر، وكل ما جاء به طه حسين وسلامة موسى وشبلي شميل وجرجي زيدان وعلي عبد الرازق وساطع الحصري وقسطنطين زريق ولطفي السيد وغيرهم على مستوى الفكر العربي، فقد كان هؤلاء ـ بنظر القرني ـ منابر دعاية، وأبواق تضليل، للحداثة وللغزو الفكري الغربي وخاصة للماركسية التي ينتمي لها الكثير من الكتاب والمفكرين العرب. فـ (كل هؤلاء وجد فيهم الحداثيون إرهاصات وبدايات مهدت لظهور الحداثة المعاصرة، بل انها البداية الحقيقية لها، وبداية حلقات سلسلتها التي ربط عراها الشيطان الحداثي الأكبر أدونيس.).(4)
ويتفق القرني مع ما جاءت به الباحثة سهيلة زين العابدين، وهي أحدى مصادر دراسته، التي ترى ان الحداثة في الشعر العربي قد حققت ما هدفت إليه الماسونية وبروتوكولات صهيون، ووصلت الحداثة العربية لقمة ذلك مع المرحلة الأندونيسية الحالية التي تعتبر من أخطر المراحل التي مرت بها الحداثة العربية في ثقافتنا المعاصرة وشعرنا العربي، التي (دعا فيها أدونيس إلى نبذ التراث وكل ما له صلة بالماضي، ودعا إلى الثورة على كل شيء، وهو في هذا يدعي أنه من دعاة الابداع والابتكار مع أن ما يردده ليس بجديد، فهذه دعوة الماركسية والصهيونية ألبسها لباس ثورته التجديدية لتحقق الابداع الذي يدعيه).(5)
ومما يؤسف له هناك فهم ساذج ومؤدلج وخطاب وعظي يحمله دعاة المحافظة والتقليد للحداثة والتجديد والتنوير، وأول ما يأتون على ذكره هو الخوف على الاسلام والمسلمين من خطورة الأفكار الوافدة ومن تقليد تلك الأفكار ونشرها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ذات العادات والتقاليد الدينية والاخلاقية، ومخاطبة الجمهور وعامة الناس بخطاب سحري عاطفي يحذرهم من كل تلك الافكار ودعاتها، فهي كفر والحاد وزندقة وهرطقات تهدف الى زعزعة ايماننا وتحريف ديننا، بالتأكيد ان هكذا خطاب وعظي، سحري، بياني، لا يريد نشر العقلانية والنقد والتنوير بين الناس لأنه لا يصب في صالحهم، ممن يدينون بالخطاب الديني المتطرف، الذين يرفضون الآخر جملة وتفصيلاً، ولا يفتحون معه أي قناة للحوار والتواصل والتفاهم، ومما يؤسف له أيضاً هو اللغة المتشنجة والتكفيرية التي تضاد الآخر ولا تتيح له أي مساحة للتفكير والتعبير، بل وصف القرني بعض الحداثيين العرب ممن غادروا فكر الحداثة وندموا على تجربتهم الحداثية السابقة، وصفهم بـ (التائبين)، لأنهم تنبهوا الى أن الحداثة تضاد قيمنا وثقافتنا الأصيلة، وأن الحداثيين يسيرون في خط معاكس ومناقض تماماً لما في مجتمعاتنا من مثل اسلامية وقيم إيمانية.
أرى الى أن ما ذهب اليه القرني قد ذهب اليه الكثير من الكتاب ونقاد الحداثة والتنوير في مجتمعنا العربي ممن يسيرون على الخط الديني، وطبيعي جداً انهم يسحبون الأمور لصالحهم ويطلبون من الجماهير والناس معاداة هذا النمط من التفكير، لأنه من وجهة نظرهم فيه تجاوز على الدين والأخلاق والقيم ويؤدي الى فساد مجتمعاتنا المؤمنة، وما الى غير ذلك من الكلام الخطير الذي يهدد عقائد الناس وما يؤمنون به، وتلك فاجعة في طريقة مخاطبة العقول، دون ترك حرية الاختيار للناس في نوع الثقافة والتفكير الذين يرغبون به، وما يراه رجل الدين في فكر الحداثة قد لا يراه الأكاديمي والعالم والمثقف الحر، بل ان الأمر الذي أراه في تخوف المحافظين من فكر المجددين والحداثيين هو في محاولة القسم الثاني من توعية الناس وتثقيفهم وتوجيههم نحو المطالبة بحقوقهم السياسية والاجتماعية والمدنية، ورفع الحجب والقيود الفكرية والثقافية التي تضعها السلطة السياسية والدينية على عقول الناس وطريقة تفكيرهم في إدارة الحياة والمجتمع، وكل هذا مما يخيف المؤسسة الدينية ويضعف من سلطتها تجاه الناس ويحرمها من مستحقاتها ونفوذها التي تمتعت بها طوال تاريخ كبير من وجودها، فالثورة والنقد والتصحيح والتجديد أفكار حداثوية تزلزل عروش الطغاة وتهدد مصالح الطبقة المتنفذة، وبالتالي تعمل هذه على نقد ورفض ومحاربة كل فكر تجديدي يطالب بالاصلاح والتنوير وتصفه بأقبح الأوصاف والنعوت لتخيف منه العامة، وتلك طرق في التفكير والمعاملة عرفتها تاريخ المجتمعات البشرية طوال وجودها، ومنها تلك القراءة السلفية للحداثة التي تحذر الناس من فكر لا ينسجم والتوجهات الأديولوجية التي يؤمن بها دعاة المحافظة والتقليد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(*)عوض القرني، دكتوراه في الشريعة الإسلامية تخصص الفقه وأصول الفقه، وعمل أستاذا بـجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع أبها (سابقاً) جامعة الملك خالد (حالياً).
(1) عوض القرني. الحداثة في ميزان الاسلام. ط1. دار هجر. 1988. المقدمة ص 6.
(2) المصدر نفسه. ص 12.
(3) المصدر نفسه. ص 17.
(4) المصدر نفسه. ص 30 ـ 31.
(5) المصدر نفسه. ص 33.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق