رحل خالي الغالي عن الدنيا وأهلها يوم الاثنين 26 جوان 2017 بعد منتصف النّهار بقليل (ثاني أيّام عيد الفطر المبارك) وشيّعناه بدموع الفقد والدّعاء إلى مستقرّه الأخير، اليوم الثلاثاء 27 جوان 2017، التاسعة صباحا. لم يكن مريضا ولم يلازم الفراش وإن يوما. كنّا ننوي زيارته مساء ثاني أيّام العيد للمعايدة وتهنئته بالعمرة التي أدّاها في النصف الثاني من شهر رمضان رفقة نجله الأصغر محمود المقيم بفرنسا لو لم يُنْعَ إلينا خبر وفاته في ذات اليوم !
حدّثت ابنته عائدة قالت:" عاد يوم العيد من العمرة مشرق المحيّا بهجة رغم بعض إرهاق وما أن دخل البيت حتّى سارع إلى الوضوء وأداء الصلاة..." وأضافت كنّته لطيفة المقيمة معه في ذات البيت: " استيقظ صباحا وغادر فراشه وفتح باب غرفته والنّافذة وقدّمتُ له فطور الصّباح فطلب منّي أن أمهله حتّى يبرد الحليب قليلا... عدتُ أتفقّده مرّتين فوجدته قد عاد إلى سريره. تركته وانصرفتُ إلى المطبخ أعدّ له قليلا من " الشربة " للغداء. في الأثناء زاره بعض الأقارب للمعايدة ولمّا علموا أنّه نائم رغبوا عن إزعاجه ووعدوا بالعودة مساء. عند منتصف النّهار عاد ابنه المهديّ من المطار بعد أن شيّع أخاه محمودا ليلتحق بأسرته بباريس، فطلبتُ منه أن يدعوه إلى تناول الغداء على مائدتنا. وما إن فتح الغرفة حتّى وجده أرضا ولم يمض على مفارقته الحياة غير زُمين !"
رحم الله خالي المختار الغالي وأسكنه أعلى فراديسه مع الأنبياء والصدّيقين ورزقنا الصّبر على فراقه وإنّا لله وإنّا إليه راجعون ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العظيم القدير...
حزني جليل ومصابي عظيم وقد فوجئتُ برحيله؛ بيْد أنّي الآن أغبطه على حسن عاقبته وأرجو من العزيز الوهّاب أن ييسّر لي ميتتي حين يأتي الأجل كما يسّر له. رحل نقيّا طاهرا عفيفا مطمئنّ النّفس وهو الطيّب المتبتّل الّذي لم تغره الدنيا بكلّ مفاتنها. عاش زاهدا فيها مدبرا عنها، لا وجهة له غير الله ولا مكان يرتاده غير بيوت الله ولا كتاب يتلوه ليلَ نهار غير كتاب الله وأحاديث رسوله الأمين وسيرة صحابته الأكرمين.
خالي المختار قد اختار لنفسه عن وعي ودراية دروب التقشّف والزهد إلّا في ما يُرضي الله ورسوله؛ فما عرفتُه إلّا قارئا القرآن وكتب التّفاسير التي ورثها عن أبيه، جدّي الشيخ عدل الإشهاد أحمد جراد الذي قضّى جلّ عمره يطلب العلم في جامع الزيتونة المعمور، وما عرفتُه إلّا مؤدّبا في عديد مساجد مدينة مساكن، وما عرفتُه إلّا مقرئا وناصحا ومرشدا إلى أقوم المسالك للفوز برضا الرحمان الرحيم... بل ما عرفتُ في حياتي من هو أشدّ تقوى منه ولا أبرّ منه بوالدته، جدّتي آمنة بلحاج جراد، تلك المرأة الموغلة في الطيبة والكرم وحسن المعشر...
خالي المختار هو خالي الوحيد وهو أصغر أخواته الستّ، وما كان إلّا مُحبّا لهنّ وعطوفا عليهنّ جميعهنّ وواصلا لرحمهنّ، كلّ آن وحين، يفرح لفرحهنّ ويواسيهنّ في مصابهنّ... ما زلتُ أذكر مدى فرحهنّ بزواجه وما زلتُ أذكر كيف صارت خالتي زهرة رحمها الله تدعوه بسي مختار مباشرة بعد زواجه رغم أنّها تكبره بسنين، وما زلتُ أسمع زغاريد جدّتي وخالاتي المدوّية عندما رُزق بابنه البكر نبيل ثمّ بأبنائه الآخرين...
اليوم، أرى خالي ونحن نودّعه الوداع الأخير عريسا يرفل في جبّته البيضاء، أراه مضيء المحيّا مشرقا مطمئنّا كما عهدتُه دوما... أراه صامتا إلى الأبد وتتهادى إليّ أدعيّة جدّتي له بالصّلاح والفلاح والثّبات وحسن الذرّيّة. تلك الأدعية كانت ولا تزال رصيدا لا ينفد أبدا. ألتفتُ يمنة ويسرة فأبصر حواليّ أبناءه الخمسة: نبيل والمهدي ولطفي ومحمود وعائدة، خمسة فرسان شقّوا طريقهم بأمان وسلام تحفّهم رعاية الرّحمان ورضا الوالدين. وأرى جدّتي آمنة تتهلّل بشرا وترحيبا بكلّ من يزورها. أراها تجود بكلّ ما ملكت يدُها ولا تدّخر خبيئا... هذا البيتُ الكبيرُ كم استقبل من الجيران والأهل والأصدقاء والأبناء والأصهار والأحفاد... هذا البيتُ كم أغدق على المحتاج وإن لم تكن جدّتي من ذوات الثروة واليسر، بل كانت ذات قلب رحيم ويد عليا ومعدن نادر، وكم أطعم من الأفواه وكم واسى مَنْ أصابه ضيم... هذا البيتُ كم لعبنا فيه وكم أنصتنا إلى أحاديث جدّتي وحكاياتها...
هذا البيتُ كم ناضلت زوجة خالي، آمنة يوسف ـ رحمها الله ـ واجتهدت في تشييده وتنظيمه وكم كان مفعما بروحها ضاجّا بنشاطها ناطقا بحذقها وحسن تدبيرها...
هذا البيتُ، بيتُ خالي المختار لا يزال عامرا بأرواح من رحلوا إلى الرّفيق الأعلى وسيظلّ بيتا معمورا بأنفاس الأبناء والأحفاد... سيظلّ بيت المحبّة والتراحم والتآخي، بيت آل جراد الكرام.
جدّي أحمد جراد وهو عدل الإشهاد الزيتونيّ لم يترك ثروة هائلة من عقارات وأراض وبساتين وحقول بل لم يترك غير القليل ممّا ورثه عن أبيه وكذا خالي وجدّتي؛ ولكنّهم تركوا الأفضل والأغلى: لقد تركوا ثروة بشريّة هائلة: سيرة يُقتَدى بها وذريّة صالحة متشبّعة بالفضائل والقيم الإنسانيّة المثلى تدعو لهم وتقتفي مآثرهم وتركوا رصيدا من فعل الخيرات لا ينفد أبدا...
اللّهمّ ارحم أصولنا وفروعنا وتقبّلهم القبول الحسن. اللّهمّ بارك لهم وبهم ومتّعهم برضاك يا أرحم الرّاحمين، يا ربّ العالمين. اللّهمّ أحسن عاقبتنا كما أحسنت عاقبتهم وإنّا لله وإنّ إليه راجعون ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ الحكيم.
مساكن
، في27 جوان 2017
حدّثت ابنته عائدة قالت:" عاد يوم العيد من العمرة مشرق المحيّا بهجة رغم بعض إرهاق وما أن دخل البيت حتّى سارع إلى الوضوء وأداء الصلاة..." وأضافت كنّته لطيفة المقيمة معه في ذات البيت: " استيقظ صباحا وغادر فراشه وفتح باب غرفته والنّافذة وقدّمتُ له فطور الصّباح فطلب منّي أن أمهله حتّى يبرد الحليب قليلا... عدتُ أتفقّده مرّتين فوجدته قد عاد إلى سريره. تركته وانصرفتُ إلى المطبخ أعدّ له قليلا من " الشربة " للغداء. في الأثناء زاره بعض الأقارب للمعايدة ولمّا علموا أنّه نائم رغبوا عن إزعاجه ووعدوا بالعودة مساء. عند منتصف النّهار عاد ابنه المهديّ من المطار بعد أن شيّع أخاه محمودا ليلتحق بأسرته بباريس، فطلبتُ منه أن يدعوه إلى تناول الغداء على مائدتنا. وما إن فتح الغرفة حتّى وجده أرضا ولم يمض على مفارقته الحياة غير زُمين !"
رحم الله خالي المختار الغالي وأسكنه أعلى فراديسه مع الأنبياء والصدّيقين ورزقنا الصّبر على فراقه وإنّا لله وإنّا إليه راجعون ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العظيم القدير...
حزني جليل ومصابي عظيم وقد فوجئتُ برحيله؛ بيْد أنّي الآن أغبطه على حسن عاقبته وأرجو من العزيز الوهّاب أن ييسّر لي ميتتي حين يأتي الأجل كما يسّر له. رحل نقيّا طاهرا عفيفا مطمئنّ النّفس وهو الطيّب المتبتّل الّذي لم تغره الدنيا بكلّ مفاتنها. عاش زاهدا فيها مدبرا عنها، لا وجهة له غير الله ولا مكان يرتاده غير بيوت الله ولا كتاب يتلوه ليلَ نهار غير كتاب الله وأحاديث رسوله الأمين وسيرة صحابته الأكرمين.
خالي المختار قد اختار لنفسه عن وعي ودراية دروب التقشّف والزهد إلّا في ما يُرضي الله ورسوله؛ فما عرفتُه إلّا قارئا القرآن وكتب التّفاسير التي ورثها عن أبيه، جدّي الشيخ عدل الإشهاد أحمد جراد الذي قضّى جلّ عمره يطلب العلم في جامع الزيتونة المعمور، وما عرفتُه إلّا مؤدّبا في عديد مساجد مدينة مساكن، وما عرفتُه إلّا مقرئا وناصحا ومرشدا إلى أقوم المسالك للفوز برضا الرحمان الرحيم... بل ما عرفتُ في حياتي من هو أشدّ تقوى منه ولا أبرّ منه بوالدته، جدّتي آمنة بلحاج جراد، تلك المرأة الموغلة في الطيبة والكرم وحسن المعشر...
خالي المختار هو خالي الوحيد وهو أصغر أخواته الستّ، وما كان إلّا مُحبّا لهنّ وعطوفا عليهنّ جميعهنّ وواصلا لرحمهنّ، كلّ آن وحين، يفرح لفرحهنّ ويواسيهنّ في مصابهنّ... ما زلتُ أذكر مدى فرحهنّ بزواجه وما زلتُ أذكر كيف صارت خالتي زهرة رحمها الله تدعوه بسي مختار مباشرة بعد زواجه رغم أنّها تكبره بسنين، وما زلتُ أسمع زغاريد جدّتي وخالاتي المدوّية عندما رُزق بابنه البكر نبيل ثمّ بأبنائه الآخرين...
اليوم، أرى خالي ونحن نودّعه الوداع الأخير عريسا يرفل في جبّته البيضاء، أراه مضيء المحيّا مشرقا مطمئنّا كما عهدتُه دوما... أراه صامتا إلى الأبد وتتهادى إليّ أدعيّة جدّتي له بالصّلاح والفلاح والثّبات وحسن الذرّيّة. تلك الأدعية كانت ولا تزال رصيدا لا ينفد أبدا. ألتفتُ يمنة ويسرة فأبصر حواليّ أبناءه الخمسة: نبيل والمهدي ولطفي ومحمود وعائدة، خمسة فرسان شقّوا طريقهم بأمان وسلام تحفّهم رعاية الرّحمان ورضا الوالدين. وأرى جدّتي آمنة تتهلّل بشرا وترحيبا بكلّ من يزورها. أراها تجود بكلّ ما ملكت يدُها ولا تدّخر خبيئا... هذا البيتُ الكبيرُ كم استقبل من الجيران والأهل والأصدقاء والأبناء والأصهار والأحفاد... هذا البيتُ كم أغدق على المحتاج وإن لم تكن جدّتي من ذوات الثروة واليسر، بل كانت ذات قلب رحيم ويد عليا ومعدن نادر، وكم أطعم من الأفواه وكم واسى مَنْ أصابه ضيم... هذا البيتُ كم لعبنا فيه وكم أنصتنا إلى أحاديث جدّتي وحكاياتها...
هذا البيتُ كم ناضلت زوجة خالي، آمنة يوسف ـ رحمها الله ـ واجتهدت في تشييده وتنظيمه وكم كان مفعما بروحها ضاجّا بنشاطها ناطقا بحذقها وحسن تدبيرها...
هذا البيتُ، بيتُ خالي المختار لا يزال عامرا بأرواح من رحلوا إلى الرّفيق الأعلى وسيظلّ بيتا معمورا بأنفاس الأبناء والأحفاد... سيظلّ بيت المحبّة والتراحم والتآخي، بيت آل جراد الكرام.
جدّي أحمد جراد وهو عدل الإشهاد الزيتونيّ لم يترك ثروة هائلة من عقارات وأراض وبساتين وحقول بل لم يترك غير القليل ممّا ورثه عن أبيه وكذا خالي وجدّتي؛ ولكنّهم تركوا الأفضل والأغلى: لقد تركوا ثروة بشريّة هائلة: سيرة يُقتَدى بها وذريّة صالحة متشبّعة بالفضائل والقيم الإنسانيّة المثلى تدعو لهم وتقتفي مآثرهم وتركوا رصيدا من فعل الخيرات لا ينفد أبدا...
اللّهمّ ارحم أصولنا وفروعنا وتقبّلهم القبول الحسن. اللّهمّ بارك لهم وبهم ومتّعهم برضاك يا أرحم الرّاحمين، يا ربّ العالمين. اللّهمّ أحسن عاقبتنا كما أحسنت عاقبتهم وإنّا لله وإنّ إليه راجعون ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ الحكيم.
مساكن
، في27 جوان 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق