غَابِرُون
حِينَ أحَسَّ بِتَشاؤُمِهِم مِن الحَرب، صَنع سَفِينَة مِن وَرَق، تَِسَعُ أَحلاَمَهُم، لَكِنّه نَسيَ أَن يُخبِرَهُم بِألَّا يَلتَفِتُوا وَرَاءَهُم، فَأَصَابَتهُم اللّعنَة.
..........................................................
باختصار ظالم لإعجابي الشديد بعظمة هذا النّصّ أوجزُ فأقول :
غابرون : عنوانٌ عبقريّ بلفظٍ ضدّ نكرةٍ موحٍ مفردٍ ، وإن جاء ـ عن ذكاءٍ ـ بصيغة جمع المذكّر السالم.
فاللفظُ ضدّ أي : الماضي الباقي ، وبهذه الثنائيّة الضدّيّة وسع إيحاؤهُ مطلقَ الزمان (ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ) ، وجاء التنكير تكريساً لعدم تقييده بزمن واحد.
وهذا العنوان المفرد لفظاً جاء جمعَ مذكّر سالماً ، وهذه الصيغة تنحصر بجماعة العقلاء وصفاتهم بدلالتها اللغويّة النحويّة ، في حين تشيرُ دلالتها الرمزيّة إلى تجاربَ إنسانيّةٍ قديمة متجدّدة ممّا منحَ العنوانَ نجاحاً منقطعَ النظير.
وفي مدارات الدلالة والإسقاط والتشبيك مع النّصّ هناك الكثيرُ ممّا يقال عن هذا العنوان المائز المنتقى بعناية فائقة والمتفرّد بروعته السياقيّة ، لكنّي سألجم شراهة قلمي عن هذا العنوان الشهيّ لأعرّج ـ بإيجاز ودون انزلاق إلى التفاصيل ـ على البنيتَين الفكريّة والفنّيّة لهذا النصّ الذي طوّع كاتبُه اللغة فيه بإتقان ، وروّض السردَ ليكون لمعانيه وفِكَره خيرَ حصان.
تأخّرت الجملة المفتاحيّة (صنعَ سفينة من ورق تسعُ أحلامَهم) ، وهذا التلاعب الفنّي البلاغيُّ بالنسق اللغويّ فعّلِ بمهارةٍ عنصرَ التشويق إلى المتأخِّر ، وأبرز بالتوازي مع ذلك أهمّيّةَ المتقدّم وسببيّته.
في الجانب الفكريّ المتّسم بالتكثيف يُلحظُ أنّ بطلَ القصّة (الخائب) يتسلّح بالقلم ، فأداة النجاة هي ( سفينة من ورق ) أوجدها قلمُه لتنقذَ الجميعَ من ويلات الحرب ومآسيها ، وذلك بإيقاف رحاها عبر الهدي والترغيب، والاستثمار بتشاؤم المتقاتلين منها ، وصولا بتطلّعات الناس إلى ضفّة السلم المرجوّ.
ثمّ يلجأ الكاتب إلى رابط الاستدراك (لكنّه) لينقلنا إلى القفلة التي صدمتنا بتبيان أنّ البطل ارتكب خطيئةً كبرى حين لم يحذّر المقاتلين والمتضرّرين في الحرب من مغبّة استحضار الماضي واجترار أحاديث الحرب وقذاراتها لما تبعثُ عليه من الأحقاد والثارات ( نسي أن يخبرَهم بألّا يلتفتوا وراءهم) ، وهذة الخطيئة تحيلنا فنّيّاً إلى عالم الأسطورة وحكاية صاحب القيثارة كما تحقّقُ تناصا أُحسن توظيفُه مع قصّة قوم سيدنا لوط في القرآن الكريم ، وهنا تتبدّى ظلال العنوان المتميّز بصيغة جمع المذكّر السّالم.
وبالفعل التفتوا إلى الخلف والالتفات هنا استحضار وتذكّر وإحياء ، فأصابتهم اللعنةُ ، واللعنةُ تتّسم بالديمومة كون الأحقادِ تجرُّ الأحقادَ ، والثاراتُ ولّادة .
فمن حدائق الرضا والإعجاب والإكبار البعيدة عن اعتراضي على الفاصلة قبل الجملة الوصفيّة (تسعُ أحلامهم) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق