⏪⏬
في نيسان 2012 نشر الشاعر الفلسطيني موسى حوامدة مقالاً بالعنوان أعلاه ، نشره في الصفحة الأولى من ملحق الدستور الثقافي : شرفات ثقافية . وذكر في هذا المقال أن الأثر التوراتي في شعر الراحل محمود درويش قد استوقفه ، وتساءل : هل كان درويش يعتبر
التوراة أحد مصادره الشعرية ؟ وقال عنه إن التوراة ” أثرت فيه وعليه إلى درجة الاستلاب ” ثم تساءل مرة أخرى ” هل وقع ( درويش ) تحت سطوة الأدب العبري ، والتوراة بالتحديد ؟ ” وقال : إن درويش ” نقل مقاطع كاملة من التوراة باعتبارها من تأليفه ، أي من دون إشارة إلى المصدر ، لا من قريب ولا من بعيد ” وجاء بمقاطع وأبيات من ” جدارية محمود درويش ” وقارنها بنصوص من التوراة دعماً لرأيه . ثم نقل عن القس متري الراهب ما مفاده : أن درويش كان متعلقاً بسفر الجامعة ، وكان ملماً بالعهدين القديم والجديد ، إلى درجة أن الراهب وصفه بأنه كان ” لاهوتياً ” . ثم ختم حوامدة مقاله بالقول : إن الأثر التوراتي في شعر درويش لا يحتاج إلى دليل ، فقد قال هو نفسه ذات يوم : لقد قرأت التوراة بالعبرية ، وأحببت ركاكة بعض الترجمات العربية . وقال حوامدة ” لا غبار على ذلك ، لكن نقل بعض المقاطع كما في الأصل التوراتي تجعلنا نتحفظ على هذا النقل الحرفي . ”
واضح مما تقدم أن الشاعر حوامدة يعد اقتباسات محمود درويش من التوراة وإحالاته إليها مأخذاً عليه ، بحجة النقل الحرفي ، وهو يؤاخذه من ناحيتين ، الأولى : ثقافية ، وهي أن تأثر درويش بالتوراة قد بلغ ، في رأيه ، درجة الاستلاب ، والثانية : أخلاقية ، وهي أن درويش لم يشر إلى التوراة برغم ما أخذه منها .
والواقع أن من يقرأ شعر محمود درويش قراءة شاملة فاحصة لا يجد فيه هذا التأثر الذي يصفه الأستاذ حوامدة . فمرجعية شعر درويش الثقافية مرجعية عربية ، وليست توراتية ، ومصادره الثقافية عديدة وغزيرة ومتنوعة ، عربية وأجنبية ، قديمة وحديثة ، وهذا ما تدل عليه عامة كتاباته ، وخاصة شعره وما فيه من تناصات وإحالات ورموز وإشارات كثيرة ، قريبة وبعيدة ، ولاسيما في طوره الشعري الأخير ، وما التوراة إلا مصدر من مصادره التي لا تحصى .
إن من تنطبق عليه تحفظات حوامدة ، أو بعضها ، هو شاعر فلسطيني آخر ، هو توفيق صايغ ، وليس محمود درويش . فقد كان صايغ معجباً بأدب التوراة كل الإعجاب ، وكان يعد هذا الأدب تراثه الحقيقي ، وليس التراث العربي ، إن لم يكن بوصفه شاعراً سورياً ( بالمعنى الذي حدده الحزب القومي الاجتماعي السوري ) فبوصفه شاعراً مسيحياً ( بالمعنى الديني الضيق ) . وقد طمح منذ بدايته إلى كتابة ” شعر مسيحي ” في رؤاه ولغته ورموزه . وهذا ما أوضحته بجلاء ، وبتفصيل ، في كتابي : تجربة توفيق صايغ الشعرية ومرجعياتها الفكرية والفنية . ( دار رياض الريس للنشر / بيروت / 2009 ) . وما ينطبق على صايغ في هذا المجال لا ينطبق قط على درويش .
ويبدو إن اقتباسات محمود درويش من سفر الجامعة في جداريته هي ما جعل الأستاذ حوامدة يدلي بتحفظاته . فهذه الاقتباسات كثيرة نسبياً ، ومحصورة في صفحات ست متتابعات ، ومأخوذة من إصحاح واحد من إصحاحات السفر هو الإصحاح الأول ، فبدت في القصيدة كثبفة وواضحة للعيان ، ولكن درويش لم ينقلها كلها نقلاً حرفياً ، بل القليل منها ، فقد تلاعب بها وحرف صياغاتها ، قليلاً أو كثيراً ، وأخضعها للوزن ، وقاطعها بعبارات منه ، وجعلها في خدمة نصه الشعري ، وقد خدمته من دون ريب . ولكن هل فعل درويش هذا في غير الجدارية ؟ والجواب : لا ، من دون تحفظ .
علينا أن نتذكر أن درويش كتب جداريته وهو مريض يصارع الموت ، وحاول فيها أن يعبر عن ” موقفه ” من قضية الحياة والموت ، ويقدم لنا خلاصة ” الحكمة ” التي توصل إليها بتأملاته في هذه القضية في السنوات الأخيرة من عمره ، وبعد ما حظي به من مكانة شعرية متقدمة وشهرة واسعة ثقافية وشعبية . وقد فعل ذلك بطريقة متوازنة دلالياً وفنياً وثقافياً . فعبر أولاً عن جزعه من الموت ، بإحالتنا إلى البطل السومري كلكامش وجزع كلكامش من الموت الذي أودى بصديقه أنكيدو ، ورحلته للبحث عن عشبة الخلود وعودته من هذه الرحلة خالي الوفاض إلا من قلقه وحيرته ، ليجد أخيراً أن الموت أمر لابد منه وأن الإنسان يمكن أن يخلد اسمه بأعماله الجليلة ( ملحمة كلكامش ) . ثم عبر درويش عن ” الحكمة ” التي توصل إليها بإحالتنا إلى الملك سليمان ، المعروف في الثقافة الشعبية بسليمان الحكيم ، والملقب بالجامعة بن داود ، وما توصل إليه هذا الملك من ” حكمة ” بعد أن حظي بالملك وتمتع بامتيازاته وتحمل ذنوبه وخطاياه ، فاكتشف أن ( الكل باطل وقبض الريح ) وأن الإنسان لا يجني شيئاً حتى من كثرة الحكمة ( لأن في كثرة الحكمة الغم ، والذي يزيد علماً يزيد حزناً ) . ( سفر الجامعة ) .
هما موقفان إنسانيان إذن ، بغض النظر عمن يكون كلكامش ، وعمن يكون سليمان ، وإلى من ينتمي هذا وينتمي ذاك . موقفان تبناهما درويش ، لأنهما وافقاه ، وعبر عنهما بتكامل وبتوازن دلالي وثقافي ومهارة فنية .
ومن التعجل في رأيي القول : إن محمود درويش لم يشر إلى المصدر الذي اقتبس منه ( لا من قريب ولا من بعيد ) . فهو في واقع الأمر قد أشار إلى مصدره إشارة واضحة ، قبل أن يعرض ” حكمته ” التي توصل إليها وبعدها ، أشار إليه بطريقة شعرية ، في تساؤله :
من أنا ؟
أنشيد الأناشيد
أم حكمة الجامعة ؟
( الجدارية / ص 86 )
ثم أعاد الإشارة إليه في النهاية في قوله :
هل يضيء الذهب
ظلمتي الشاسعة ،
أم نشيد الأناشيد
والجامعة ؟
( الجدارية / ص 91 )
فنشيد الأناشيد ، وسفر الجامعة ، وكلاهما ينسبان إلى سليمان ، هما سليمان الملك في حالتيه : حالة إقباله على الحياة وتمتعه بالملك وسطوته وامتيازاته ومباهجه ، وحالة شعوره بخطاياه وذنوبه ، وجنوحه إلى الزهد والبحث عن الحكمة ، وإحساسه بالإحباط ، لأن ( الكل باطل وقبض الريح ) .
وحتى لو لم يشر درويش مثل هذه الإشارة لما كان في ذلك مأخذ عليه . فالتوراة كتاب معروف بنصوصه ورموزه وقصصه وأساطيره بين قراء العربية ، وهو متداول على نطاق واسع ليس بين العرب المسيحيين فقط ، بل بين الكثير من المثقفين والمتعلمين العرب المسلمين . والإشارة إلى كتاب معروف ومتداول كهذا بهامش تقليدي في ذيل قصيدة ليست ملزمة ولا ضرورية ، بمعايير النقد الأدبي الحديث في الأقل . وقد كان الشعراء العرب ، وما يزالون ، يحيلون إلى نصوص التوراة ويقتبسون منها دون أن يجدوا ضرورة للإشارة إلى مرجعها ، ومن هؤلاء : جبران خليل جبران وإلياس أبو شبكة وسعيد عقل وتوفيق صايغ وخليل حاوي وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم . ولم يقتصر هذا على الشعراء المسيحيين ، بل شمل الشعراء المسلمين بدرجة أو بأخرى . وكذلك شأن شعراء الغرب المسيحي . فهم يقتبسون من نصوص التوراة ويحيلون إليها دون إشارة إلى مرجعها . وما دمنا نتحدث هنا عن سفر الجامعة حصراً فيمكننا القول : إن الشاعر الإنكليزي المعروف ت. س. إليوت قد أعاد كتابة هذا السفر دون أن يشير إليه ، كتبه بصياغته هو ، وبروحه هو ، ولكن على غراره في عنايته بالتفاصيل ، في قصيدته الرائعة : الرباعيات الأربع . وقد أحالنا إلى هذا السفر في أكثر من موضع ، ومن ذلك قوله :
البيوت تحيى وتموت : للبناء وقت
وللعيش وللولادة وقت
وللريح وقت لتكسر لوح الزجاج المرتخي
ولتهز الإفريز حيث يخبط فأر الغيط ..
( رباعية إيست كوكر )
فقد أراد إليوت بقصيدته هذه كتابة سيرته الروحية ، كما فعل الملك سليمان في سفر الجامعة ، وأراد توفيق صايغ كتابة سيرته الروحية هو الآخر حين كتب قصيدته ” معلقة توفيق صايغ ” . وربما هذا ما أراده محمود درويش حين كتب جداريته ، وقد نجح هو من حيث أخفق صايغ في رأيي .
على أية حال ليس هناك ، في ظني ، ما يمكن أن نؤاخذ محمود درويش عليه في ما فعله على هذا الصعيد ، لا ثقافياً ، ولا أخلاقياً ، ولا فنياً . ومن التعسف أن نتوهم أن للأدب العبري ، وخاصة التوراة ، سطوة عليه . وكونه قرأ التوراة بالعبرية وألم بنصوصها هو من حسناته الثقافية ، وليس منقصة تحسب عليه . أما مرجعيته الثقافية الأم في شعره وفي عامة كتاباته فهي الثقافة العربية . وإذا اقتبس شيئاً من خارج هذه الثقافة ، أو أحال إلى هذا النص الأجنبي أو ذاك ، أو استخدم رمزاً من الرموز الأجنبية فلا لوم عليه .
وينبغي لنا ، في الأخير ، ألا نتطير من استخدام رموز التوراة ، أو الإحالة إلى نصوصها ، أو الاقتباس من هذه النصوص ، في ما نكتبه من شعر وأدب . فالمهم هو أن ننجح في استخدامها وتوظيفها في خدمة نصوصنا فنياً ودلالياً . وعلينا ألا ننسى أن التوراة نفسها ليست كتاباً منزلاً ، ولا هي بضاعة يهودية خالصة ، وأن مرجعياتها الثقافية هي آدابنا القديمة نحن ، وأعني : الأدب السومري ، والأدب البابلي ، والأدب الفرعوني ، والأدب الكنعاني . وبقدر معرفتي بأدب العراق القديم أستطيع القول باطمئنان إن من مؤثرات هذا الأدب في أدب التوراة : قصة الخليقة التوراتية ، وقصة الطوفان ، وقصة خلق حواء من ضلع آدم ، وقصة إخراج آدم من الجنة ، وقصة هابيل وقابيل ، وقصة ولادة موسى وإلقائه في اليم ، فضلاً عن تأثيره المباشر في سفر أيوب ، ومراثي إرميا ، ونشيد الأناشيد ، وسفر الأمثال ، وقد كتبت عن ذلك بتفصيل في كتابي ” نظرات جديدة في أدب العراق القديم ” ( دار أزمنة / عمان / 2007 ) . ثم أن التوراة باتت جزءاً من مرجعياتنا الثقافية العربية والإسلامية شئنا أم أبينا . ففي مرجعياتنا هذه الكثير من المعتقدات والقصص والخرافات التي تسللت إليها من هذا الكتاب منذ العصور الإسلامية المبكرة ، وعرفت ، نقدياً ، بالإسرائيليات .
وبعد فإن ما فعله محمود درويش في جداريته لا يدخل في باب ( الانتحال ) كما قد يذهب بعض الذاهبين ، بل يدخل في باب ( التناص النصي ) بمصطلح النقد الأدبي الحديث ، أو يدخل في باب ( التضمين ) بمصطلح النقد الأدبي العربي القديم الذي كتب عنه ابن رشيق فصلاً من كتابه ( العمدة ) . وقد سجلت أكثر من أربعين تضميناً وإحالة وإشارة إلى نصوص ورموز وأسماء ، عربية وأجنبية ، قديمة وحديثة ، في جداريته وحدها ، وهذا مما يدل على سعة ثقافته وبعد أفقه . وخلاصة القول : إن الشاعر محمود درويش أكبر ، فنياً وأخلاقياً ، من أن ينتحل . ومن يريد الانتحال لا يلجأ إلى مصدر معروف ومتداول ، كالتوراة ، بل يذهب إلى ما هو مغمور ومطمور
-
*سامي مهدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذا المقال منشور في كتاب ( آفاق نقدية ) للكاتب الصادر عن دار ميزوبوتاميا / بغداد / 2014
في نيسان 2012 نشر الشاعر الفلسطيني موسى حوامدة مقالاً بالعنوان أعلاه ، نشره في الصفحة الأولى من ملحق الدستور الثقافي : شرفات ثقافية . وذكر في هذا المقال أن الأثر التوراتي في شعر الراحل محمود درويش قد استوقفه ، وتساءل : هل كان درويش يعتبر
التوراة أحد مصادره الشعرية ؟ وقال عنه إن التوراة ” أثرت فيه وعليه إلى درجة الاستلاب ” ثم تساءل مرة أخرى ” هل وقع ( درويش ) تحت سطوة الأدب العبري ، والتوراة بالتحديد ؟ ” وقال : إن درويش ” نقل مقاطع كاملة من التوراة باعتبارها من تأليفه ، أي من دون إشارة إلى المصدر ، لا من قريب ولا من بعيد ” وجاء بمقاطع وأبيات من ” جدارية محمود درويش ” وقارنها بنصوص من التوراة دعماً لرأيه . ثم نقل عن القس متري الراهب ما مفاده : أن درويش كان متعلقاً بسفر الجامعة ، وكان ملماً بالعهدين القديم والجديد ، إلى درجة أن الراهب وصفه بأنه كان ” لاهوتياً ” . ثم ختم حوامدة مقاله بالقول : إن الأثر التوراتي في شعر درويش لا يحتاج إلى دليل ، فقد قال هو نفسه ذات يوم : لقد قرأت التوراة بالعبرية ، وأحببت ركاكة بعض الترجمات العربية . وقال حوامدة ” لا غبار على ذلك ، لكن نقل بعض المقاطع كما في الأصل التوراتي تجعلنا نتحفظ على هذا النقل الحرفي . ”
واضح مما تقدم أن الشاعر حوامدة يعد اقتباسات محمود درويش من التوراة وإحالاته إليها مأخذاً عليه ، بحجة النقل الحرفي ، وهو يؤاخذه من ناحيتين ، الأولى : ثقافية ، وهي أن تأثر درويش بالتوراة قد بلغ ، في رأيه ، درجة الاستلاب ، والثانية : أخلاقية ، وهي أن درويش لم يشر إلى التوراة برغم ما أخذه منها .
والواقع أن من يقرأ شعر محمود درويش قراءة شاملة فاحصة لا يجد فيه هذا التأثر الذي يصفه الأستاذ حوامدة . فمرجعية شعر درويش الثقافية مرجعية عربية ، وليست توراتية ، ومصادره الثقافية عديدة وغزيرة ومتنوعة ، عربية وأجنبية ، قديمة وحديثة ، وهذا ما تدل عليه عامة كتاباته ، وخاصة شعره وما فيه من تناصات وإحالات ورموز وإشارات كثيرة ، قريبة وبعيدة ، ولاسيما في طوره الشعري الأخير ، وما التوراة إلا مصدر من مصادره التي لا تحصى .
إن من تنطبق عليه تحفظات حوامدة ، أو بعضها ، هو شاعر فلسطيني آخر ، هو توفيق صايغ ، وليس محمود درويش . فقد كان صايغ معجباً بأدب التوراة كل الإعجاب ، وكان يعد هذا الأدب تراثه الحقيقي ، وليس التراث العربي ، إن لم يكن بوصفه شاعراً سورياً ( بالمعنى الذي حدده الحزب القومي الاجتماعي السوري ) فبوصفه شاعراً مسيحياً ( بالمعنى الديني الضيق ) . وقد طمح منذ بدايته إلى كتابة ” شعر مسيحي ” في رؤاه ولغته ورموزه . وهذا ما أوضحته بجلاء ، وبتفصيل ، في كتابي : تجربة توفيق صايغ الشعرية ومرجعياتها الفكرية والفنية . ( دار رياض الريس للنشر / بيروت / 2009 ) . وما ينطبق على صايغ في هذا المجال لا ينطبق قط على درويش .
ويبدو إن اقتباسات محمود درويش من سفر الجامعة في جداريته هي ما جعل الأستاذ حوامدة يدلي بتحفظاته . فهذه الاقتباسات كثيرة نسبياً ، ومحصورة في صفحات ست متتابعات ، ومأخوذة من إصحاح واحد من إصحاحات السفر هو الإصحاح الأول ، فبدت في القصيدة كثبفة وواضحة للعيان ، ولكن درويش لم ينقلها كلها نقلاً حرفياً ، بل القليل منها ، فقد تلاعب بها وحرف صياغاتها ، قليلاً أو كثيراً ، وأخضعها للوزن ، وقاطعها بعبارات منه ، وجعلها في خدمة نصه الشعري ، وقد خدمته من دون ريب . ولكن هل فعل درويش هذا في غير الجدارية ؟ والجواب : لا ، من دون تحفظ .
علينا أن نتذكر أن درويش كتب جداريته وهو مريض يصارع الموت ، وحاول فيها أن يعبر عن ” موقفه ” من قضية الحياة والموت ، ويقدم لنا خلاصة ” الحكمة ” التي توصل إليها بتأملاته في هذه القضية في السنوات الأخيرة من عمره ، وبعد ما حظي به من مكانة شعرية متقدمة وشهرة واسعة ثقافية وشعبية . وقد فعل ذلك بطريقة متوازنة دلالياً وفنياً وثقافياً . فعبر أولاً عن جزعه من الموت ، بإحالتنا إلى البطل السومري كلكامش وجزع كلكامش من الموت الذي أودى بصديقه أنكيدو ، ورحلته للبحث عن عشبة الخلود وعودته من هذه الرحلة خالي الوفاض إلا من قلقه وحيرته ، ليجد أخيراً أن الموت أمر لابد منه وأن الإنسان يمكن أن يخلد اسمه بأعماله الجليلة ( ملحمة كلكامش ) . ثم عبر درويش عن ” الحكمة ” التي توصل إليها بإحالتنا إلى الملك سليمان ، المعروف في الثقافة الشعبية بسليمان الحكيم ، والملقب بالجامعة بن داود ، وما توصل إليه هذا الملك من ” حكمة ” بعد أن حظي بالملك وتمتع بامتيازاته وتحمل ذنوبه وخطاياه ، فاكتشف أن ( الكل باطل وقبض الريح ) وأن الإنسان لا يجني شيئاً حتى من كثرة الحكمة ( لأن في كثرة الحكمة الغم ، والذي يزيد علماً يزيد حزناً ) . ( سفر الجامعة ) .
هما موقفان إنسانيان إذن ، بغض النظر عمن يكون كلكامش ، وعمن يكون سليمان ، وإلى من ينتمي هذا وينتمي ذاك . موقفان تبناهما درويش ، لأنهما وافقاه ، وعبر عنهما بتكامل وبتوازن دلالي وثقافي ومهارة فنية .
ومن التعجل في رأيي القول : إن محمود درويش لم يشر إلى المصدر الذي اقتبس منه ( لا من قريب ولا من بعيد ) . فهو في واقع الأمر قد أشار إلى مصدره إشارة واضحة ، قبل أن يعرض ” حكمته ” التي توصل إليها وبعدها ، أشار إليه بطريقة شعرية ، في تساؤله :
من أنا ؟
أنشيد الأناشيد
أم حكمة الجامعة ؟
( الجدارية / ص 86 )
ثم أعاد الإشارة إليه في النهاية في قوله :
هل يضيء الذهب
ظلمتي الشاسعة ،
أم نشيد الأناشيد
والجامعة ؟
( الجدارية / ص 91 )
فنشيد الأناشيد ، وسفر الجامعة ، وكلاهما ينسبان إلى سليمان ، هما سليمان الملك في حالتيه : حالة إقباله على الحياة وتمتعه بالملك وسطوته وامتيازاته ومباهجه ، وحالة شعوره بخطاياه وذنوبه ، وجنوحه إلى الزهد والبحث عن الحكمة ، وإحساسه بالإحباط ، لأن ( الكل باطل وقبض الريح ) .
وحتى لو لم يشر درويش مثل هذه الإشارة لما كان في ذلك مأخذ عليه . فالتوراة كتاب معروف بنصوصه ورموزه وقصصه وأساطيره بين قراء العربية ، وهو متداول على نطاق واسع ليس بين العرب المسيحيين فقط ، بل بين الكثير من المثقفين والمتعلمين العرب المسلمين . والإشارة إلى كتاب معروف ومتداول كهذا بهامش تقليدي في ذيل قصيدة ليست ملزمة ولا ضرورية ، بمعايير النقد الأدبي الحديث في الأقل . وقد كان الشعراء العرب ، وما يزالون ، يحيلون إلى نصوص التوراة ويقتبسون منها دون أن يجدوا ضرورة للإشارة إلى مرجعها ، ومن هؤلاء : جبران خليل جبران وإلياس أبو شبكة وسعيد عقل وتوفيق صايغ وخليل حاوي وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم . ولم يقتصر هذا على الشعراء المسيحيين ، بل شمل الشعراء المسلمين بدرجة أو بأخرى . وكذلك شأن شعراء الغرب المسيحي . فهم يقتبسون من نصوص التوراة ويحيلون إليها دون إشارة إلى مرجعها . وما دمنا نتحدث هنا عن سفر الجامعة حصراً فيمكننا القول : إن الشاعر الإنكليزي المعروف ت. س. إليوت قد أعاد كتابة هذا السفر دون أن يشير إليه ، كتبه بصياغته هو ، وبروحه هو ، ولكن على غراره في عنايته بالتفاصيل ، في قصيدته الرائعة : الرباعيات الأربع . وقد أحالنا إلى هذا السفر في أكثر من موضع ، ومن ذلك قوله :
البيوت تحيى وتموت : للبناء وقت
وللعيش وللولادة وقت
وللريح وقت لتكسر لوح الزجاج المرتخي
ولتهز الإفريز حيث يخبط فأر الغيط ..
( رباعية إيست كوكر )
فقد أراد إليوت بقصيدته هذه كتابة سيرته الروحية ، كما فعل الملك سليمان في سفر الجامعة ، وأراد توفيق صايغ كتابة سيرته الروحية هو الآخر حين كتب قصيدته ” معلقة توفيق صايغ ” . وربما هذا ما أراده محمود درويش حين كتب جداريته ، وقد نجح هو من حيث أخفق صايغ في رأيي .
على أية حال ليس هناك ، في ظني ، ما يمكن أن نؤاخذ محمود درويش عليه في ما فعله على هذا الصعيد ، لا ثقافياً ، ولا أخلاقياً ، ولا فنياً . ومن التعسف أن نتوهم أن للأدب العبري ، وخاصة التوراة ، سطوة عليه . وكونه قرأ التوراة بالعبرية وألم بنصوصها هو من حسناته الثقافية ، وليس منقصة تحسب عليه . أما مرجعيته الثقافية الأم في شعره وفي عامة كتاباته فهي الثقافة العربية . وإذا اقتبس شيئاً من خارج هذه الثقافة ، أو أحال إلى هذا النص الأجنبي أو ذاك ، أو استخدم رمزاً من الرموز الأجنبية فلا لوم عليه .
وينبغي لنا ، في الأخير ، ألا نتطير من استخدام رموز التوراة ، أو الإحالة إلى نصوصها ، أو الاقتباس من هذه النصوص ، في ما نكتبه من شعر وأدب . فالمهم هو أن ننجح في استخدامها وتوظيفها في خدمة نصوصنا فنياً ودلالياً . وعلينا ألا ننسى أن التوراة نفسها ليست كتاباً منزلاً ، ولا هي بضاعة يهودية خالصة ، وأن مرجعياتها الثقافية هي آدابنا القديمة نحن ، وأعني : الأدب السومري ، والأدب البابلي ، والأدب الفرعوني ، والأدب الكنعاني . وبقدر معرفتي بأدب العراق القديم أستطيع القول باطمئنان إن من مؤثرات هذا الأدب في أدب التوراة : قصة الخليقة التوراتية ، وقصة الطوفان ، وقصة خلق حواء من ضلع آدم ، وقصة إخراج آدم من الجنة ، وقصة هابيل وقابيل ، وقصة ولادة موسى وإلقائه في اليم ، فضلاً عن تأثيره المباشر في سفر أيوب ، ومراثي إرميا ، ونشيد الأناشيد ، وسفر الأمثال ، وقد كتبت عن ذلك بتفصيل في كتابي ” نظرات جديدة في أدب العراق القديم ” ( دار أزمنة / عمان / 2007 ) . ثم أن التوراة باتت جزءاً من مرجعياتنا الثقافية العربية والإسلامية شئنا أم أبينا . ففي مرجعياتنا هذه الكثير من المعتقدات والقصص والخرافات التي تسللت إليها من هذا الكتاب منذ العصور الإسلامية المبكرة ، وعرفت ، نقدياً ، بالإسرائيليات .
وبعد فإن ما فعله محمود درويش في جداريته لا يدخل في باب ( الانتحال ) كما قد يذهب بعض الذاهبين ، بل يدخل في باب ( التناص النصي ) بمصطلح النقد الأدبي الحديث ، أو يدخل في باب ( التضمين ) بمصطلح النقد الأدبي العربي القديم الذي كتب عنه ابن رشيق فصلاً من كتابه ( العمدة ) . وقد سجلت أكثر من أربعين تضميناً وإحالة وإشارة إلى نصوص ورموز وأسماء ، عربية وأجنبية ، قديمة وحديثة ، في جداريته وحدها ، وهذا مما يدل على سعة ثقافته وبعد أفقه . وخلاصة القول : إن الشاعر محمود درويش أكبر ، فنياً وأخلاقياً ، من أن ينتحل . ومن يريد الانتحال لا يلجأ إلى مصدر معروف ومتداول ، كالتوراة ، بل يذهب إلى ما هو مغمور ومطمور
-
*سامي مهدي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذا المقال منشور في كتاب ( آفاق نقدية ) للكاتب الصادر عن دار ميزوبوتاميا / بغداد / 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق