اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

اللص الكريم " روبن هود فلسطيني " ــ.قصة قصيرة..** بقلم نازك ضمرة


وجدت نفسي في زيارة لهم في منزلهم وبعد سبعين عاما من القطيعة، وفي البيت نفسه، إلا أن حوش المنزل اتسع قليلا وصار حوله سور من حجارة دون أسمنت او طين وبلا عناية، لا أستطيع تذكر تفاصيل كثيرة لأنني كنت على عجل، تجنبت التحدث مع والده
العبوس، لم أكن أكرهه، بالعكس كنت أحترمه وأقدره، ولكن ربما كنت كغيري من الأطفال، أنقر منه لأن الجد يغلب على وجهه، لا أذكر أنني شاهدته مرة يبتسم او يضحك، لا بل نادرا ما تكلم امامي، ، وقبل سبعين عاماً كان يكلم أسرته في شبه اوامر بصوت هادئ يشبه الهمس، ثم يغادر البيت، ثم لم أشاهده مرة واحدة يجلس مع أي من أفراد عائلته، لم أجلس معه في طفولتي إلا مرة واحدة للطعام، اكلنا بندورة مجففة مالحة جدا، ممزوجة بالماء، مع الخبز الحاف، وبعد الأكل ناولني فنجان قهوة، قليلة السكر، فكرهتها، ولم أشرب ربع الفنجان الصغير. المهم وجدت نفسي في زيارة لبيتهم العتيق نفسه ليلة الأمس.
تجنبت الحديث مع والد صديقي مايز عندما غادر البيت، وتشاغلت كي لا يحدثني، بعدها بربع ساعة تقريبا رجع للبيت وما زلت مع ابنه صديقي القديم مايز، كنا نقف خلف البيت ونتحدث في أمور مختلفة، كنت ارتدي بذلة عصرية كأي رجل ناضج، وحضوري كان من أمريكا لزيارة صديقي القديم مايز، لأذكره بأفعاله الماضية، ولأشكره من جديد على مساعدته لي في طفولتي، او لأعرض عليه أي مساعدة يطلبها واستطيع تلبيتها، عاد والده العجوز للبيت ثانية، وفطن أنني موجود في ساحة البيت الخارجية، سمعته ينادي علي، تقدمت فإذا به مسترخ وممدد على فراش رقيق على ارض الغرفة، ورأسه قرب باب غرفة الحلاقة نفسها، فسلمت عليه وقبلت وجنته وهو ممدد، فرح كثيرا، ودعاني للدخول للغرفة معه وزوجته التي كانت تجلس قرب قدميه، فاعتذرت وقلت له إنني على عجل، وأخشى أن أكون قد تأخرت عن موعد السيارة التي ستحملني للعودة لأمريكا.
عايشت ابنه مايز لثلاث سنوات تقريبا. سأسمي صديقي مايز (اللص الكريم)، ولنبحر في الزمان والمكان للعام 1945 والسنتين التاليتين كنت طالبا في مدرسة القرية المجاورة، ولكم ذكرت عن رحلات الشقاء لتلك المدرسة في مواقف كثيرة سابقة، وللتذكير تبعد المدرسة عن قريتنا في فلسطين خمسة كيلومترات، نمشيها صباحا، ونعود لبيوتنا مساء، إذ تنتهي الدروس عادة حوالي الساعة الثاثة والنصف، إن لم يكن في المدرسة نشاط رياضي او زراعي، حيث يكرهنا الأساتذة على المشاركة ولو للمشاهدة أحياناً. كنا ندرس إرضاء للوالدين، لا حبا في المدرسة، كنا نكره الذهاب للمدرسة او الوصول لها، ومصيبتنا الكبرى كانت مع المدرسين القساة، على كل حال كان الأمر هيناً علينا كأطفال في شهور الدفء والجفاف، لكن عناءنا الأكبر كان في فصل الشتاء والمطر والبرد، ،
صديقي مايز كان حلاقا وابن حلاق، سمته والدته مايز، اي من التميز او ا لتمييز، قالت والدته ان اسمه مايز، لأنها تريده ان يميز الخير من الشر، والحلال من الحرام. ورث المهنة عن ابيه، وربما هي مهنة توارثها افراد تلك العائلة على مدى عقود، كان بعمر يزيد عن عمري بما يقارب اثنتي عشر عاما، وأتوقع أن يداخلكم بعض شك حين أقول إنه كان صديقي، هو الذي يقول أنه صديقي، لكنني لم أشعر يوما باقتراب منه او إعجاب به، رافقت والدي مرة في زيارة لقرية المدرسة في ربيع العام 1945، وحللنا ضيفين على والد مايز لمعرفة سابقة بينهما وقبل عشرين عاماً ، فقضى والدي ليلتين ضيفا في القرية المجاورة لقريتنا، وكانت العادة أن يحل الضيف في مضيف العشيرة، حيث أن معظم بيوت القرويين كانت صغيرة، ومكونة من غرفة واحدة او غرفتين على الأكثر، فلا متسع للضيف مع العائلة، ولذلك خصصت كل حمولة او عشيرة بيتا او غرفة واسعة، ولأسميها صالة اجتماعات، مع انها لا تقارب مسمى صالات هذه الأيام، لكن لم تكن أصغر من ستة في ستة أمتار، وتتسع لما يقارب اربعين رجلا جالسين على الأرض، يسندون ظهورهم للجدران، في حالة الأعراس والفرح، او في حالة الترح والفقد، وحين يزور العائلة ضيف غريب، يجتمع الأقارب للسلام على الضيف ولإكرامه، ويشترك الجميع في تأمين الطعام للضيف، حيث يحضر معظهم، ما تيسر من طعام في منزله، ويأكلون كلهم في سفرة واحدة مع الضيف، لا أدري كيف نصحني والدي المبيت في منزل والد الحلاق، ومع ابنيه بعد العشاء، لأن الرجال يسهرون ويتأخرون في العودة لبيوتهم، ويبيت بعض الرجال في المضيف لمرافقة للضيف، بعد أن يسهروا ساعة او ساعتين بعد منتصف الليل.
لم أعارض والدي وقتها، كنت انفذ كلامه حبا به وإعجابا طاعة شبه عمياء، لا أناقش ما يقوله لي مهما صعب، ولأنني بعيد عن والدتي الحنون جدا عليّ، وبصحبة والدي، فقد نفذت كلامه وقضيت الليلة الأولى عند ابن الحلاق الذي كان بعمر يقارب العشرين عاما، لكن عقله كان اصغر بكثير من عمره، إذ اقدره أنه كان بعمر اربعة عشر على الأكثر، لكنه والحق يقال، كان هادئا ناعما وبطيء الحركة، ولا يرفع صوته مطلقا، مهما حصل من إشكالات في العالم حوله، لا يحب العتاب او العناد، لا ينفعل بل بالعكس كان إذا أثاره احدهم او انتقده يبتسم، ويهمهم بكلام غير مفهوم، وربما يقول سامحك الله، ثم يواصل عمله في قص شعر الزبون.
كالأطفال نمت نوما هادئا وجيدا بين الأخوين وأختهما الوحيدة، والتي كانت بمثل عمري تقريبا، أما والدتهم ووالدهم فيبيتان في غرفة صغيرة جدا مجاورة شتاء، وعلى سطح الغرفة صيفا، الغريب ان البنت لا تنام مع والدتها، ربما تقدرون السبب، وفي الصباح احتفلوا بي، فعملوا لي بسيسة، طحين القمح مع الزيت مع التين المجفف، كانت فلسطين تحت حكم بريطانيا، وكان الشاي عزيزا ايامها ومكلفا، لأنه يتطلب إشعال نار او طباخ الكاز والسكر شبه معدوم، وكان من عادة الريفيين في تلك الأيام يشترون الشاي يوميا، بقدر حاجتهم لذلك اليوم فقط أو ليومين او ثلاثة ايام على الأكثر، إن كان عندهم ضيوف، المهم استمتعت بالبسيسة لأنني كنت جائعا، ومهيأ لآكل اي شيء متوفر، ثم لأن بلدتنا لا يوجد بها أشجار تين كثيرة، ولا زيادة في الثمر ليجففوه، ولا أدري كيف حصل أهل مايز على التين المحفف، لأنهم لم يكن لديهم أرض زراعية، فكانت معيشتهم على دخلهم من الحلاقة، وأهل البلد يحبونهم، ويقدرون هدوءهم، المهم من يومها تعلق مايز بي وأحبني، دون أن أدري سبب ذلك الحب، تعلق بي لدرجة انه صار يزورني في المدرسة وقت الغداء، ويحضر لي ما تيسر له من طعام، كبيضة مسلوقة أو زيتون او مخلل أو حبة حلوى واحدة فقط، كل زيارة له كانت لمجرد أن يراني ويسلم علي، ويضطرني للجلوس معه لدقائق قليلة، لأنني أريد أن ألعب في فترة استراحة الغداء، مثل غيري من الأطفال، وقبل العودة للسجن داخل غرف الصف الصغيرة والمزدحمة، استمرت علاقته بي عبر سنوات ثلاث، بدءا من الصف الثاني، طفل عمره ثماني سنوات، ويحضر لزيارته شاب عمره يقارب عشرين عاما، وبعقل مراهق عمره اربعة عشر عاما، سامحوني على تكرار المعلومة، وبعد انتهاء المدرسة وفي أيام الشتاء والبرد، كان يحضر لدعوتي لقضاء الليلة في منزلهم، بسبب كثرة المطر والبرد والسيول، والتي كانت تعترض طريق عودتنا لبيوتنا البعيدة خمسة كيلومترات عن المدرسة، لم أكن أقبل الدعوة عادة، لأنني كنت أعرف انني طفل ولم أستشر والدي، وإذا أردت فعل ذلك فيجب أن أخبر والديّ، وإلا سيقيمان الدنيا ويقعدانها قلقا علي، وبحثا عني، وإذا أردت قضاء ليلة في قرية المدرسة عند أي عائلة من معارف أسرتي، فيجب أن اخبر ثلاثة أطفال من بلدتي لكي أضمن أن يخبر أحدهم والدتي بقراري المبيت في القرية المجاورة، كان لي أقارب بعيدين وأصهار في قرية المدرسة، فكنت قادرا على زيارة بيت أي منهم، وأعرف انهم يرحبون بي، وحتى أولادهم يتقربون مني ويحترمونني، ويفرحون بي لو قررت قضاء يوم او يومين عندهم. لم أكن أحب أن ازور بيوت الناس، كنت محبوبا جدا في بيتي من والديّ ومن إخواني وأخواتي، واعتدت على حياة الأسرة الكبيرة، فكنت إذا اضطررت للمبيت خارج بيتنا، اشعر بوحشة وشوق للعودة لمنزلي بين أسرتي كثيرة العدد، وفي بيت صديقي مايز كنا نبيت في غرفة الحلاقة. ومن الضروري أن أذكر أن غرفة الحلاقة كانت هي غرفة الاستقبال في ذلك البيت، وهي لجلوس الضيوف فوق فراش بسيط على الأرض، وغير عريض، ثم تصبح غرفة لنوم الأولاد ليلا، وخاصة في أيام البرد والشتاء، كانت بنافذة صغيرة واحدة، بعرض ثلاثين سنتمترا، وارتفاع يقارب نصف متر.، وباب الغرفة بدرفتين لا تنطبقان جيدا، ولا يمكن إقفالهما لمنع الاقتحام. بل كان الأمان متوفرا بين الناس، ولا يخشون اي عدوان، وربما لأنه لم يكن في البيوت شيء يستحق السرقة والمغامرة، بالاختصار كانت الغرفة للحلاقة وللضيوف وللمبيت وللطعام، وبمساحة مترين ونصف عرضا، وثلاثة أمتار طولا، والأثاث الوحيد بها، كانت طاقة من الطين على احد الجدران، بجوار النافذة الصغيرة، يضع الحلاق أدواته اليدوية البسيطة فيها، والتي لا تتعدى مقصا وماكينة قص الشعر اليدوية ومشطاً قديماً به بعض النقص، وطاسة نحاسية لوضع الماء بها والصابون، وكرسي خشبي لجلوس الزبون الذي يريد قص شعره، لا مسند ظهر لذلك الكرسي، وهو من صنع نجار بدائي في القرية.
كان طلاب المدارس في القرى يجدون عنتاً وصعوبة في الحصول على الدفاتر والأقلام قبل العام 1947، لقلة دخل القرويين ولعدم توفر المشاريع والأعمال في فلسطين، وبسبب إهمال بريطانيا للمواطنين العرب، إذ كان اعتماد الناس بشكل رئيسي على الزراعة، وانتظار موسم الحصاد او ثمار الزيتون والفواكه القليلة الأخرى، إلا في مناطق الساحل حيث تكثر زراعة البرتقال والليمون وتجارتهما، لم يكن الناس بحاجة ماسة للفلوس في قرى فلسطين الوسطى والجبلية، لأن معظم حياتهم كانت تتم بالمقايضة، فمن عنده قمح يأخذ قدر كيلو قمح للدكان، ويشتري قلماً ودفترا وممحاة، أو شاي وسكر وحبة أسبرين، ومن كان عنده زيت يبيع كمية من الزيت الصافي لقضاء حاجته الطارئة فقط.
وفي يوم بارد في خريف العام 1945 زار مايز والدي، وأخبره برغبته أن أقضي يوما أو يومين عندهم، فرافقته لمنزلهم في اليوم التالي، أكرمتنا والدته وطبخت لنا عدس مجروش مع الثريد، أعجبني الأكل لأنه كان مالحا، وفتات الخبز ناقعا وسهلا للبلع، واكلنا معه البصل الأخضر والزيتون، وباقي الأسرة أكلوا الفلفل الحار، لم أعتد على أكل الفلفل، وبقيت هكذا طول عمري لا أطيق أكل الفلفل، بعدها ناولني مايز ثلاثة دفاتر جديدة وثلاثة أقلام وممحاة كبيرة لم يسبق أن امتلكت مثلها، كنت قد ترفعت للصف الثالث الابتدائي، فرحت كثيرا بالهدية العزيزة، وشكرته وبدأت فورا في كتابة واجباتي المدرسة في دفترين، قلت له لا يلزمني إلا دفترين، فما رأيك ان تبقي الدفتر الثالث عندك أو لك، ويكفيني قلمان، ضحك مني وربت على ظهري، وقال احملها ولا تقل لأحد كيف حصلت عليها إلا لوالديك، بعدها بأيام فكرت أن أسأله كيف حصل على هذه الثروة الكبيرة، وهو لا يملك النقود، فضحك وقال سرقتها من مدرستك، من غرفة مدير المدرسة، سبق ودرست في تلك المدرسة قبل ثماني سنوات، وأعرف السر في كيفية فتح إحدى النوافذ المعطوبة وغير دقيقة الإقفال، وجميع نوافذ غرف الصفوف غير محصنة بالحديد، وما هي إلا أبواب خشبية قديمة مع الزجاج، دخلت من الناقذة ا لمعيبة، وحملت ما تحتاجه انت فقط. وأضاف قائلا، كل دفاترك واقلامك وممحاتك ستكون مؤمنة لك بعد اليوم، لم أجرؤ أن اقول له قد يكتشفونك، لكنه وكأنه عرف ما يدور في ذهني، فقال لا تخف، إنني لا أسرق كثيرا، سأسرق حاجتك فقط، وبرغم انني مازلت طفلاً بعمر ثماني سنوات، ألا أنني فكرت، ما الذي يجعل هذا الشاب يسرق ليساعدني. أخبرت والديّ عن الهدية الكبيرة فدعا له بالعافية والسعادة، صرت أحب المدرسة والمعلمين، وأريد أن أظل محبوبا منهم ومجتهدا، فهذه الهدية زادتني تعلقا بالدراسة والنجاح.
سألته للمرة الثانية، لماذا تسرق لتساعدني؟ فابتسم كعادته، ثم قهقه هذه المرة، أنزل رأسه خجلا ربما، أو هي من عاداته، ثم قال، جربت الحاجة، وعرفت من والدي أن ظروف أهلك صعبة، وأسرتكم كبيرة، وحين كنت انا في المدرسة لسنتين كنت أطلب من والدي أن يشتري لي الدفاتر، فيقول لي لا أملك قرشا واحدا، إسأل والدتك فربما تعطيك بيضتين او قليلا من القمح تشتري حاجتك، ولأننا لا نملك ارضا نزرعها، فأعرف أن مخزوننا من القمح الذي يأتينا سنويا هو بدل الحلاقة للناس، وهو بالكاد يكفي لطعامنا، وكثيرا ماعاقبني المعلم، لأنني لا أكتب ولا أحمل دفترا معي، كرهت المدرسة وانقعطعت عنها، ثم تخصصت في مهنة الحلاقة مساعدا لوالدي في البداية، ثم لأصبح حلاق القرية كما ترى، لهذا أسرق لأساعدك، بعدها صرت أستمتع سماع قصص سرقاته الأخرى، قص عليّ قصصاً كثيرة من سرقاته ليساعد المحتاجين، كان يسرق من سنابل القمح قبل قطافها، ويسرق ثمار الزيتون، وثمار التين، ليساعد أي عجوز أو فقير يعرفه، حتى انه أخبرني انه ساعد رجلا عجوزا لا يقوى على العمل، فقطع من جذوع أشجار الزيتون شجيرات صغيرة وزرعها للرجل العجوز في أرضه، ومرة أحضر لنا خمس قطع من جذوع الزيتون الخضراء وبها خلايا تنبت حين تدفتها في الأرض، حملها على ظهره في كيس خيش ولخمسة كيلومترات وهي ثقيلة، لأنها خضراء ولا يقل وزن ا لخمسة عن خمسة عشر كيلوغراماً، وزرعها في أرضنا الصغيرة غرب البلدة، وما زالت تلك الأشجار الخمسة تصارع الحياة وحيدة دون عناية بسبب رحيلنا القسري والتهجير.
صار طبيعيا أن أبيت عندهم، حين يكون المطر شديدا، وكما ذكرت سابقا فإن نوم الريفيين كان على الأرض، وبريطانيا الكاذبة لم تطور أي شيء مما وجد الناس أنفسهم عليه في فلسطين، بل استمر الحال في القرى مثل أيام حكم العثمانيين، والذي تميز بالجهل والتخلف والسذاجة، صحوت مرة قرب الفجر فوجدت صديقي الحلاق مايز ملتصقا بي كثيرا، فنفرت منه، وكرهته لحظتها، فانتقلت بخفة للنوم بين أخيه الأصغر وشقيقتهما الوحيدة واحتضنتها دون هدف، التصقت بها أكثر حيث أحسست بأنني ارتاح اكثر كلما اقتربت منها، لكن لم يخطر ببالي شيء اكثر من ذلك، كنت غافلا وجاهلا لكل شيء له علاقة بالجنس، ولم أكن ابدا مثل اي طفل آخر ربما، وكأنني خلقت محايدا لا كذكر ولا كأنثى، ودام حالي هكذا حتى صرت بعمر خمسة عشر عاما، أي بعد أن انتقلت للدراسة الثانوية في المدينة وصرت اسمع الحكايات ومغامرات الشباب من ابناء المدينة، فصرت أتعرف على نفسي، ثم أضاءت عتمتي امرأة مسيحية طيبة جميلة، تطورت بعدها وصرت أعرف لماذ خلقنا الله.
لم أذكر لصديقي مايزعما حصل منه ليلا ولا عاتبته، ولم يسألني او لم يلمح لي بحرف عن الحادثة الجلل، لكنني بقيت في شك وقلق بعدها، هل التصق بي يريد استغلالي، او يريدني أن أستغل جسمه، ظل هذا الأمر خفيا وسريا لم يعرف به أحد في عالمنا حتى هذه اللحظة، صرت بعدها أحذر منه وأحاول النأي عنه، والشيء الذي أؤكده أنني لم أعد للمبيت بجانبه حين اضطر لقضاء ليلة في بيتهم، لكنه لم ينقطع عن التواصل معي، فاستمر يساعدني في الصف الثالث وكذلك في الشهرين الأولين من الصف الرابع، لكن مدير المدرسة عرف عن تفوقي، وحاجة اهلي، فصار يساعدني بالدفاتر والأقلام بنفسه، ويظهر ان مدير المدرسة لاحظ ان مخزونه من هذه المواد كان يتناقص شهرا بعد شهر، فقرر أن يقوم بصرف بعضها للطلاب المتفوقين المحتاجين. بعدها أوقفت علاقتي بصديقي مايز، ولكم حاول ان يدعوني لمنزلهم، وأغراني بوجود دفاتر وأقلام عنده في بيتهم، لكنني أخبرته ان مدير المدرسة يعطيني كل حاجتي، ولا يلزمني شيء، لكنني أبقيت على علاقة بسيطة به ليظل حلاقي، إذ كان يرحب بي جدا، حين أذهب لقص شعري عنده كل شهرين، يحترمني ويقدم لي الشاي الذي يقوم بتجهيزه بنفسه، حتى لو كان عنده زبون آخر. وقبل ان يضع فوطة الحلاقة على كتفي، كنت أدقق بها، أمسكها بنفسي، واقترب من باب الغرفة، وأنفضها جيدا مرات عدة خارج الغرفة، ثم أتأملها حتى لايكون عليها قمل. وسبب ذلك، كنت في زيارة لمنزلهم مرة، وكانت الفوطة مغسولة ونظيفة، فشاهدت خمس قملات او ستة تتنزهان على وجه الفوطة بعد الحلاقة لطفل ريفي، وبعد الانتهاء من الحلاقة نفض الفوطة في نفس الغرفة التي كنا ننام بها على الأرض، وكلما قضيت ليلة عندهم، فإن اول شيء كنت افعله عند عودتي لمنزلنا أن أخلع ملابسي، واطلب من والدتي ان تغسلها وتنظفها من القمل، وأستبدلها بأي لباس آخر يسترني، لم يكن لدي ملابس كثيرة، بل هما غياران فقط، تغسل والدتي أحدهما، والبس الآخر، ولم يشتر أهلي لي خلال ثلاثة أعوام إلا غيارين عاشا معي، حتى كبر جسمي قليلا، فاضطروا أن يشتروا لي غيارا واحدا جديدا، كنت البسه لساعات الدراسة في المدرسة فقط، وحين أعود للبيت ألبس من الملابس القديمة أو التي ضاقت علي، وقد تقوم والدتي برثي البلى، او توسيعها بقطعة قماش قريب من لونها، ولو مختلفة اللون.
بعد توديع الرجل العجوز، رافقني مايز لعشرة أمتار، ثم بدأت أبتعد عن بيتهم، لا أنظر يمينا او يسارا، عيناي كانتا تهتمان بعقبات الطريق، سمعت حركة خفيفة، نظرت فشاهدت قبرتين تحوما على ارتفاع منخفض، وحين حطتا تنهدت، فإذا بعشرات القبرات يدرجن على ارض بحثا عن طعام، قرب أطراف القرية، بين الحقول الصغيرة والمسورة بجدران حجرية غير مرتفعة، مشيت خطوات في الطريق العريض الصعب، طريق عثماني قديم يربط القرية بالطريق المعبد من الجهة الغربية، هبت نسمة هواء ضعيفة مفاجئة، فوصلتني روائح زهور برية ممزوجة بطعم خضار أعرفها، كأنها بنادورى او كوسا طازجة، أثناء رحلاتنا للمدرسة لم نكن نستخدم هذه الطريق، لأنها اطول بما يقارب كيلومترين، أنظر حولي فأرى اشجار التين والزيتون وبعض الفواكه المثمرة في تلك ا لبساتين الصغيرة، تذكرت أن العثمانيين فعلوا شيئا لتلك القرية، فبعد أن وافقوا وبنوا مدرسة ابتدائية في القرية المتوسطة بين قرى كثيرة، أنشأوا تلك الطريق العريض للعربات وللجيش، وقبل دخول القرن العشرين، اعتقد انه لم يكن لدى الدولة العثمانية سيارات، بل عربات تجرها الخيول، حاولت الاقتراب من شجرة تين معمرة، لأقف خلف جذعها المنخور، لعلي أراقب العشرات من القبرات تسير على الأرض وتنبش بها، فتفاجأت بطير فلسطين الوطني عصفور الدوري، إذ أجفلت العشرات من تلك الطيورعن شجرة التين طارت بعيداً في الفضاء الواسع، كانت تشارك أهلها الثمر، أحسست بالندم، فعدت إلى الطريق الذي أصبح وعرا جدا بعد زوال حكم العثمانيين، وحلول الإنجليز محلهم في حكم فلسطين، ولغزارة الأمطار والسيول ولعشرات السنين اصبحت تلك الطريق غير صالحة حتى للعربات، لكثرة الانجرافات وتدحرج الحصى والحجارة عبرها، نظرت للساعة فوجدت أنني تأخرت عن موعد السيارة التي اتفقنا ان تنقلني للمطار، وعليّ السير بخطى سريعة، وربما يلزم أن اركض ولو لدقيقة او اثنتين كلما استرحت، وبينما انا في عجلة تذكرت أنني نسيت أن أسال مايز بطريقة ما، ماذا كان قصده من التصاقه بي، وأظنه ليلتها كان بدشداشة قديمة بسيطة قصيرة وبلا سروال.

*ناز ضمرةك

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...