اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

الثَّدْيُ المُتَجَمِّد ــ قصة | بقلم :ـ د. عبد العزيز بوشلالق ــ جامعة المسيلة ــ الجزائر

د. عبد العزيز بوشلالق
مثلما عُرفت بين سكان قريتها بالطيبة عُرفت كذلك بمداواة المرضى ومواساتهم، فتراها كالنحلة دائبة ذهابا وإيابا، هناك من يتجشم عناء التنقل ويأتي إليها وهناك من تذهب إليه بعد قضاء حوائج ولوازم ابنها الوحيد. أنجبت (اللدمية) ولدين وتسع بنات زوجت الإناث كلهن وذهب أحد ولديها ويدعى (إبراهيم) إلى فرنسا عاملا في أحد المصانع حتى اعتل بسمومه وغازاته وتوفي هناك، فلم يكن لها ولعائلتها القدرة المادية لجلب جثته ودفنها في مقابر المسلمين في أرض الوطن. شكّلت لها هذه الحادثة جرحا غائرا فبدأ يصيبها الشحوب وأخذت أوراقها في الاصفرار والذبول، لكنها
لم تستسلم وبقيتْ صامدةً صمود نخلتها المغروسة داخلَ فناء مسكنها الطوبي، فكثيرا ما روتْها من يدها ونهرتْ زوجَها وولَدها مِنْ أن يمدُّوا أيديَهم ويقتلعوها، كانتْ تمثلُ لها البركةَ في الرزق والشموخَ في عزّة النفس والكبْر، وتستمِدُّ منها الصبرَ والمقاومةَ لضربات الزمان الموجعةِ، كانتْ ترى نفسَها في صورة هذه النخلةِ، لم يكن يُسْمَحُ لها بزيارة بناتِها أو أقاربها، وبعد أن تُوفِّيَ زوجُها، ورثَ عنه ولدُه الثاني (أحمد) السّلُوكَ نفسَه، فكان أكثرَ شراسةً من والده، لا يظلمُ أحدا ولا يخالطُ الناسَ إلا بالمقدار الذي تجمعُه بهم ظروفُ الحياة، يتلهَّى بحقله وينتظر وصولَ أمِّهِ محمَّلَةً بسلَّةِ الغداء، فيسنِدُ ظهرَهُ إلى جذْعِ إحدى الأشجار أو النخيل ويبسطُ طرفا من برنُوسه ويتناولُ وجبتَه مع والدته، بدأتْ مراحلُ العمر تتقدَّمث بالشابِّ وأمُّهُ تكبُرُ، ولا مؤشِّرَ منهُ على الإقبال على الزواج رغم محاولاتها العديدةِ، لشعوٍر منه بالذنْب من جهة في حقِّ أخيه لأنَّهُ هو مَنْ ألحَّ عليه في الذهاب إلى فرنسا لكثرة عبثِهِ ولهوه وتصُّيدِهِ بنات القرية، ولسبب آخرَ تناهى إلى مَسمعِهِ مِنْ أنَّهُ أجْبَرَ أخاهُ على الذهاب إلى فرنسا كي يتزوَّجَ خطيبَتَهُ ، هذه الوساوسُ شكَّلَتْ عائقا في طريق زواجِه، ولمَّا بدأ يرى ويشعرُ بتعب أمِّه قَبِلَ الأمْرَ على مضَضٍ، فتزوَّجَ (علجية) إحدى بنات خاله، استحسنتها عمتُها (اللدمية) فعوضَّتْها التسعَ بنات المتزوجات اللاتي حُرِمَتْ من رؤيتِهِنَّ في العديد من المناسبات، وكانت ( علجية) آيةً في الجمال والطاعة، وأصبحتِ السعادةُ تغمرُ أركانَ البيت من كلِّ جهة، لم تمر عليها فترة الوحم كبنات جنسها كأنْ لمْ تكنْ حاملا قَطُّ،. دار الحولُ وإذا بها تضعُ مولودا بهيَّ الطلعةِ، لم تصدِّقَ العجوزُ (لدمية) بأنَّ تسعةَ أشهرٍ كاملةً قد مرَّتْ لفرطِ السعادة التي نشرتْهَا هذه المرأةُ بل هذا الملاكُ، ولتُرْضيَ شيئا من جُرْحِها الدِّفينِ أقْسَمَتْ على ولدها (أحمد) أنْ يسِمِّيَ ولَدَهُ على اسم أخيه (إبراهيم)، لقيَ هذا الخبرُ استجابةً فوريةً منه، وكأنَّها عزفتْ على الوتَر الذي يُطْرِبُهُ ويُرْضِي نفْسيَّتَهُ ويحرِّكُ مشاعِرَهُ، وعلَّهُ يكَفِّرُ عنْ ذنْبِ يشعرُ بارتكابه لمَّا أصَرَّ على ذهاب أخيه إلى العمل بفرنسا.
مرَّتْ ستَّةُ أشهر على ولادة (إبراهيم) وأمه تشحبُ وتضعفُ، داوتْها عَمَّتُها (اللدمية) بمختلف أنواع الوصْفَات التي تُجيدها وهي خبيرةٌ فيها أليستْ بطبيبة القرية ويؤم بيتَها النَّاسُ من كلِّ مكان، وسهِرَتْ على تمريضها، وباتَتْ معها اللياليَ الطوالَ، ولمَّا لم ينفعْ معها شيءٌ طلبتْ من ولدها أن يجهِّزَ نفسَهُ لأخذها إلى المستشفى الذي يبعدُ عن القرية بعشرين كيلومترا، حضَّرَ نفسَهُ وجهَّزَ بعيرَهُ ليناسبَ الهيئةَ التي تناسبُها دون أن تتألَّمَ، سارَ باكرا، دعتْ لهُ أمُّهُ بالسلامة والعافية والعودةِ الميمونةِ، قطعَ الدَّرْبَ المُوصِلَ إلى الطريقِ العمومي وهو يحدِّثُ نفسَهُ، وبينَ الفيْنَةِ والأخرى يُرْخِي زِمَامَ البعيرِ وينظُرُ إليها فيجِدُها في ألمِ شديد وجْهُها ذابلٌ بلونِ حبَّةِ الليمون، يُخْرِجُ زفرةً حارَّةً من أعماق قلْبِه، ولا يجدُ مَخْرجا إلا متابعةَ السَّيْرِ، لاحتِ المدينةُ من بعيد، زادَ شوقُه وتعجُّلُهُ في طلبِ الشِّفَاءِ، لم يشعرْ وهو يقطعُ الطريقَ خبَبًا مثلَ بَعيرِه لأنَّهُ كان يسبِقُهُ والجملُ يسيرُ على وتيرةِ سيْرِ صاحِبِهِ.
لحِقَ إلى المستشفى وبقيَ ينتظرُ حتى حضرَ المناوِبُونَ وأدخلوا زوجَتَهُ غُرفَةَ الفَحْصِ، وطلبوا منه الانتظارَ، بدأوا في إجراء التحاليل والفحوص اللازمةِ فوجدوها مصابةً بداء تمكَّنَ من رئتَيْهَا، إنَّهُ داءُ السُّلِّ، وَضَعُوها في معزل، ولم يخبروهُ بذلك، أصبحَ حائرا ماذا يعمل؟ هل يتركها ويغادر؟ هل يبقى معها؟ قرَّرَ في النهاية أنْ يسأَلَ عن بعض الاسطبلات لَيَبِيتَ هو وبعيرُه، فكان في النهار يتركُ لبعيره العلَفَ والماءَ، ويذهبُ إلى زوجته، وفي الليل يعودُ إلى المبيت، لم يظهرْ أيُّ تحسُّنٍ على حالِ المرأة وزادَ قلَقُهُ، وطالتْ غيبَتُهُ وأمُّهُ الوحيدَةُ في حَيْرَةٍ مِنْ أمْرها وضاقتْ عليهم الأرضُ بما رَحُبَتْ، في اليوم الخامس ذهبَ باكرا كعادته لزيارةِ زوجتِهِ،اقتربَ منَ الحُجْرَةِ التي كانتْ ترقُدُ فيها، وجدَهَا فارغةً، تسمَّرَ في مكانه، غمَرَتْهُ هَدْأَةُ المكانِ وسكونُهُ بشعورٍ غريبٍ، أحسَّ بشيء يقعُ على كتِفِهِ، حاولَ أنْ يسْتَدِيرَ لم يستطعْ، خرقتْ جملةُ ـ أعظمَ اللهُ أجْرَكُمْ ـ الصَّمْتَ الرَّهيبَ الذي لفَّ المكانَ، ونفَذَتْ إلى سَمْعِهِ بسرعةٍ شديدةٍ، جَثَا على رُكْبتَيْهِ ولم يَفِقْ إلاَّ في سريرٍ كالذي كانتْ ترقدُ فيه زوجَتُهُ، والفريقُ المعالِجُ مِنْ حَوْلِهِ يَشدُّ مِنْ أزْرِهِ، وُيعْظِمُونَ له الأجرَ ثانيةً، نظرَ في وُجُوههم وحاولَ التصَبُّرَ وإظهَارَ بعضِ القوُّةِ والقسْوَةِ التي تسيِّرُ جُزْءًا مِنْ حياتِه، وتُظْهِرُ رُجُولَتَهُ، سَقَطَتْ بعضُ العبراتِ مُؤذِنةً بِفَقْدِ زَوْجَةٍ أحَبَّهَا دونَ أن يشْعُرَ، وتذَكَّرَ في تلك اللحظة معنى الأمومة في (اللدمية) والدَتِهِ ومعنى الخليلةِ في أخيه (إبراهيم) ومعنى الزوجةِ وأمِّ الولدِ في (علجية). قام متثاقلا وعاد ببعيره وحملَ جُثَّةَ زوجَتِهِ راجعا إلى القرية.
لما أفرغَ من واجب الدَّفْنِ والعزاء، خلتِ الدَّارُ مِنَ الأُنْسِ والبَهْجَةِ ، وأصبحَ (أحمدُ) كئيبًا ، ومِمَّا زادَ في كآبَتِهِ هذه العجوزُ التي لا تفارقُها مصيبةٌ إلا وتحلُّ ببيتِهَا أُخْرى وكَأَّنَّ نِصَالَ السُّيوفِ لا غِمْدَ لها إلا قلبَ هذه العجوز، وقرقعةَ سهامِ الخَوْفِ والاضطرابِ قدِ اكتَرَتْ مكانا في جوفِ هذهِ المسكينةِ، حَزِنَتْ على ابنةِ أخيها وزوجةِ ولدِها ومُؤْنِسَتِها في وِحْدَتِها، ومُعَوِّضَتِها عن غيابِ بَنَاتِها.
بدأتْ رحلةٌ جديدةٌ معَ الوليد (إبراهيم) فلابُدَّ له مِنْ مُرْضِعَةِ. اشترى له والدُهُ عنزةً حلوبًا، فلا يأخذُ منها المقدارَ الذي يكفي لنمُوِّهِ، وإذا أُرْغِمَ على الرضاعة يعيدُ ما رضعه متقيئا، لم تهتد العجوزُ إلى دواء ينفَعُهُ أو تجدُ امرأةً مرضعةً تُرْضِعُهُ، وكانتْ تلازِمُهُ إلى صدرها في حلّها وتَرْحَالِها، تَذَكَّرتْ كيف استطاعتْ أن تُرَوِّمَ حَمْلا صغيرا بعد وفاة أمِّهِ على عنزةِ كانتْ ضمنَ القطيعِ، ضَحِكَتْ منَ المَوْقِفِ وأخْرَجَتْ ثدْيَها المتدَلّيَ وبدَأَ الصَّغيِرُ يُدِاعِبُ حَلَمَتَهُ، تكَرَّرَ المَوْقِفُ مرَّاتٍ ومرَّاتٍ، بدأتِ العجوزُ تشعرُ بانتفاخِ في ثدْيَيْهَا، ولمَّا يبدأُ الصَّغِيرُ في امتصَاصِهِ تخرُجُ قطراتُ الحليبِ دافئةً، ألِفَتْهُ الجدَّةُ وألِفَها، وملأَ عليها كيانَها وتبدَّلَتِ حالُها ، وتكرَّرَ الموقفُ مرَّاتٍ أخرى ومرَّاتٍ، قاربتْ هذه الحالُ أربعَ سنوات وكلُّ واحد منهما متشَبِّثٌ بالآخَرِ فلم تستطِعْ فِطَامَهُ، أرادتْ ذلك أمْ لمْ تُرِدْ، كان لا يعرفُ والِدَه لالتصاقِهِ بجدَّتِهِ ، فهي ظِلُّهُ الذي يمشي على الأرض.
طلبتْ مِنْ وَلَدِها الذَّهَابَ إلى بيتِ أخِيها الذي لا يترُكُها تذهبُ إلى غيره من إخوانها لمكانةٍ له في نفسِهِ أو لهوى صادفَ مكانا في قلبِهِ في الدشرة المقابلة والتي تبعدُ بضعَ كيلومترات فقط، وكانتْ تحتالُ لترى أقاربَها من بناتِها وأخواتِها وإخوانها بعد ميعاد مُسبَقٍ يتم في الزيارة اللاحقة، فتارةً تصيبُ الهدفَ وفي مرات تخيبُ فيمنَعُها عارضٌ ونحْوُه. أرادَ ولَدُها أن يجَهِّزَ لها الدَّابَةَ رفضتْ ذلك وأرادتْ أن يرافِقَهَا الصَّغِيرُ مع كلبةٍ لهمْ تحْرُسُهُم، وتسيرُ على مهلها والطريقُ آمنٌ وهي تعرفُهُ جيِّدا لكثرةِ ما سلَكَتْهُ، ولأنَّ أغراضَ الزراعةِ والبيتِ تحتاجُ إلى الدَّابَّةِ طلبتْ منهُ أنْ يُعْفِيهَا مِنْ رَكُوبِها، شيَّعَهَا إلى مشارفِ القريةِ وعادَ، بدأتْ رحْلَتَهَا مع صغيرِهَا تارةً يسبقُهَا وتارةً يتعلَّقُ بثيابها وأخرى يطْلُبُ منها رَضْعَةً فتجلسُ وتضعُهُ في حجرها فيأخذُ حاجَتَهُ ويعودُ إلى الرَّكْض.
قطعَا بعضَ الأميالِ ، أحسَّتِ العجوزُ ببعضِ الإجهادِ وضيقٍ في التَّنَفُّسِ، نادتْ على (إبراهيم) الصغير أنْ يُحْضِرَ لها ماءِ ، نظرَ يمنةً ويسرةً لم يجدْ ماءً، قاومتِ الإعياءَ وزحَفَتْ إلى جذعِ شجرةٍ من أشجارِ الطَّرْفَةِ البرية وأسندَتْ رأسَها وجزءًا من ظهْرِها إليه، وبدأَ جَبِينُها يتفصَّدُ عرقا، وصَوْتُها يَنْخَنِقُ وتُصِيبُهُ حَشْرَجَةٌ وهي تحدِّثُ نفسَها والطفلُ لا يعرفُ ما تقرأ ُوما تقولُ، وما الإشارة التي تشيرُ بها بسبابةِ يدها اليمنى، رافعة يدها إلى السَّماءِ ، أسلمتْ روحَها إلى بارئِها، يعودُ إليها الطفلُ يحادِثُها لا تُجيبُهُ، فكثيرا ما لَعِبَتْ معَهُ هذه اللعبةَ حتى يتعبَ ويغضبَ فتنهضُ إليهِ وتَحْضُنُهُ وتُعْطِيهِ حَقَّهُ مِنْ ثَدْيِها فينتَعِشُ ويزُولُ الخلافُ بسرعة، تَذكَّرَ كيفَ كانتْ تناطِحُهُ كالخِرَافِ فَتَغْلِبُهُ تارة وتترُكُهُ يَغْلِبُهَا تاراتٍ وتاراتٍ، تذَكَّرَ كيفَ كان يمتطيها فرسًا فينهَرُها ويزْجُرُها فبأمْرٍ منه تسيرُ وبأمر آخر يوقفُ سيْرَها فيَطْرَبُ للموقف ويضحَكُ، ما بَالُها هذه المرَّةَ أطالتِ السُّكُوتَ، حرَّكَ يَدَها بيديهِ الصغيرتين فلمْ يستطِعْ، شعرَ بالبكاءِ ودخلَ يشهقُ دون توَقُّفٍ لأنَّهَا أطالتِ النَّوْمَ ولمْ تَستَجِبْ له والكلبةُ تدورُ حولهما وتنبَحُ نباحا غريبا.
بدأتْ أشعِّةُ الشَّمْسِ تميلُ إلى الاحمرار والطفلُ على الحال نفسِها، ولما أحسَّ بالتَّعَبِ التَصَقَ بصَدْرها محاولاً إخراجَ ثَدْيِهَا حتَّى تمِكَّنَ مِنْ ذلك، فمازالتِ الجُثَّةُ لم تبردْ بعدُ ، لامسَ حَلَمَتَهَا وأخذَ كفايَتَهُ مِنَ الحليبِ ونامَ على وقْعِ ارتفاعِ وانخفاضِ صَدْرِهِ مِنَ الشَّهِيقِ الذي أحْدَثَهُ بُكَاؤُهُ، باتَ الليلةَ ملتصِقًا بها والكلبةُ تطاردُ أيَّ ذِئْبٍ أو ثعلبٍ يَقْتَرِبُ مِنَ المكان فتطَارِدُهُ إلى أبعدِ مسافةٍ، لمْ يشعرِ الوليدُ بهذه الحربِ بينَ الكلبةِ والذئابِ ، ولكنْ تبيّنَهَا أهل القريةِ مَعَ وَلَدِها (أحمد) مِنْ بعيد ولمْ يعرفُوا حقيقةَ الموقفِ.
أحسَّ الصَّغِيرُ بِقُشَعْرِيرَةِ بَرْدٍ مِنَ الجِسْمِ الذي كان يمدُّهُ بالدّفْءِ والحرارة، ومرَّتْ مِنْ فَوْقِه نسمةُ الفَجْرِ الباردةُ استيقظَ مُبَكّرًا على عادَتِهِ ليأخُذَ قِسْطَهُ المعتادَ مِنَ الحليبِ، ارتمى فوقَها مثلما جرتِ العادةُ ليوقِظَها كيْ تحْضُنَهُ وتُرْضِعَهُ ، لمْ تُحرِّكْ ساكِنًا ، نظرَ إلى ثدْيِهَا وحاولَ أن يداعبه وجدَهُ مُتَجَمِّدًا، مدَّ شَفَتَيْهِ إلى حَلَمَتِهِ لم تَخْرُجْ قطرةٌ واحدةٌ، أخذَ في البكاء وضربَ العجوزَ لأنَّهَا لمْ تُطِلِ النَّوْمَ فقط، بلْ أغْلَقَتْ عليه الأنبوبَ الذي يمُدُّهُ بالحياةِ ويُشْعِرُهُ بالشَّبَعِ، أكثرَ البكاءَ ، تقدَّمَتْ مِنْهُ الكلبةُ وأخذتْ تشمُّ رائحةٍ غريبةً مِنَ الجُثَّةِ حامتْ حولَها مرَّاتٍ ومرَّاتٍ، ثمَّ أخَذَتْ في الإمساكٍ بجزء من ثيابها وجرِّهَا عبرَ الطَّريقِ الذي سلكوهُ أوَّلَ مرَّةٍ والطفلُ يتْبَعُهَا باكيا، ولمَّا تشعرُ بالتَّعَبِ ، ترتاحُ قليلاً إلى أنْ أوصَلَتْها إلى مشارفِ القريةِ وأخذتْ تَنْبَحُ نباحَها الغريبَ إلى أَنْ تَجَمَّعَ النَّاسُ حوْلَ المشهدِ وغطُّوا العجوزَ وأخَذُوها إلى بيتِهَا وأقامُوا لها واجبَ الدَّفْنِ والعَزَاءِ. 2016.01.02

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...