*محمد أبوالدهب
كتب الروائي أحمد عامر روايته (رجل في الأرض.. إمرأة في السماء) الصادرة في طبعتها الثانية عن دار الناشر بالقاهرة بغيظٍ مستحكم ومسئوليّةٍ باهظة تجاه واقعٍ تقلّبَ في دركاته وجاسَ في تناقضاته وتنبّأ من ثمّ بحتميّة زواله، دون أن يضطره هذا الغيظ وتلك المسئوليّة ومن بعدهما سَمْت المتنبِّيء إلي الانحراف عن الشرط الفنيّ الروائي وتحويل روايته إلي بيان ثوريّ بليغ، خاصّة وأن الواقع المقصود رسمتْ حدودَه بوضوح حالةُ التخبّط والعشوائية التي ضربتْ مصر سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً في السنوات القليلة التي سبقتْ ثورة 25 يناير. ولا أبالغ إذا قلت إن هذه الرواية قدّمت نفسها كأصدق وأصرح عمل روائي -فيما قرأتُ- عبّر عن أزمة جيل كامل من شباب الطبقتيْن المتوسطة والفقيرة بمصر في العقد الأول من الألفيّة الثانية. ومَن أراد أن
يراجع أسباب ومعطيات الظرف التاريخي الذي تمخّضتْ عنه ثورة يناير فليقرأْ (رجل في الأرض.. إمرأة في السماء) والتي صدرتْ طبعتها الأولي عام 2009 قبيل اندلاعها بأقل من عامين، وليعِشْ المُراجعُ خيْبات (حبيب) المتواترة جسداً وروحاً، وقفزات استسلام (طارق) المتأقلمة الملتوية، وتحوّلات (ماجد) الإجبارية المستضعفة، وليستنبطْ الرمز الذي يلوّح به طيف (عبير) طوال الرواية ليبقي أفقاً حُلْميّاً غائباً ومأمولاً ينتظر من يبتعثه من سمائه ليصير دليلاً هادياً علي الأرض.
يفضّ حبيب أيامَه مفصوماً بين استسلامٍ ومقاومة، بين كراهية لمفردات واقعه وعدم القدرة علي التخلّي عنه، بين شغفه بالحياة والقرف منها في الوقت نفسه، بين فقر وبطالة وجوع روحيّ وجنسيّ وتلمُّسٍ لدور بطولةٍ ولو زائفة من البطولات المدّعاة الكثيرة من حوله والتي يقتنصها ذوو الوجوه الحمراء (نعتٌ استخدمه أحمد عامر للدلالة علي فئة تحوز كل شيء، المال والسلطة والنفوذ، علي حساب جموع الناس، وظلّتْ تثير لدي الراوي هاجساً بالمطاردة: "الوجوه الحمراء تطاردني، الوجوه الحمراء تهرول خلفي، أشعر بهم خلفي")، بين نياشين الأب الذي كان من أبطال حرب أكتوبر والجاثم أمامه بتاريخه ورقابته، وأفلام البورنو التي أدمن حبيب مشاهدتها حتي صار وسيطاً لمشاهديها، وعالمه البديل المصنوع المصطنع في غرفة الشات والذي تقلّبتْ مراحلُ غيابه واستغراقه فيه توازياً وتناسباً طرديّاً مع مراحل تصاعد واستفحال أزمته ويمكننا قياس تدرّجه كالآتي: (ممكن فتاة محترمة للتعارف الجاد.. ممكن فتاة للتعارف الجنسي.. ممكن فتاة خليجيّة للتعارف.. ممكن سيّدة ترغب في علاقة جنسيّة ممتعة!) وحتي حين ذاب في ذلك الافتراض وأسقطه علي كل تفاصيل مكابداته وارتضي به مُصرِّفاً ومُحرِّكاً لأيامه البائسة، كان حلّه السحريّ الواهم والمتّسق مع عالمه الجديد المُكتَشَف للتخلّص من مُنغّصاته أن يعمل لهاdelete) )، أن يلقي بالمغتصبين تباعاً في سلّة المحذوفات، لكن ذلك لم يفلح أبداً مع مطارديه: (أفشل دائماً في حذف الوجوه الحمراء).. ولم يكن ذلك مُستغرَباً لأنه دأب علي استلام الأوامر والنواهي من الجميع، من الجدّة والأب والأم والأستاذ والخال وحتي من مذيعة التليفزيون، بموافقةٍ نهائيّة وردّ واحد: (حاضر).. وإذا كنا قد رأينا أثَرَ هذه الطاعة وإلي أيّ عتبةٍ أوصلته، فهل يمكن أن نسمع منه -في القادم- صيحةَ رفضٍ أو نشهد ثورة تغيير؟
إلتحق حبيب أخيراً بوظيفةٍ كحارس أمن لأحد الأبراج السكنيّة، وبدلاً من أن تهدأ روحه الجريحة قليلاً وتهنأ خواطره علي هذا المرفأ الذي لابد حقّق له ولو قدراً ضئيلاً من الأمان المادي والاجتماعي، نجده يهوي أعمق في بئر همومه وتتعقّد علاقته، المرتبكة من الأساس، بمفردات واقعه، ربما لأن هذا البرج السكنيّ المطلوب منه حراسته كان بوّابته الأوسع والمفتوحة دائماً للدخول المباشر والصادم وغير المتكافيء لعالم (أصحاب الوجوه الحمراء)... ولأنه كان يمتلك كل مؤهّلات الخنوع، أو بالأصح استلبه ظرفه الحاضر كل مؤهلات المقاومة، وقع سريعاً في فخّ غواية واستعباد زوجة القاضي. وتتوالي التناقضات التي صار شاهداً عليها بعد انتقاله المفاجيء من موقع المتفرّج إلي موقع المشارك وإنْ كمفعولٍ به، بين دعوة صديقه طارق له للانضمام إلي حزب المصري الجديد تلك الدعوة التي لم يرفضها حبيب رفضاً قطعيّاً برغم أنه خاض حواراً معه مَثّل مناظرةً بين وعييْن علي طرفيْ نقيض، وبين مراقبته لقريته التي صار يطالعها من بؤرةٍ مختلفة بمضيّها الحثيث علي طريق التحوّل إلي مسخٍ مشوّه من مدينة الوجوه الحمراء بعد أن تناثرت أطباق الدّش علي سطوح بيوتها وضجّتْ دروبها بنغمات الهواتف المحمولة وانتشرت في شوارعها مقاهي النتّ وثارتْ بناتُها علي ملابسهنّ القديمة، وبين اكتشافه علاقة زوجة القاضي بأحد المعارضين الإسلاميين الكبار مُجسِّدة مركز الدائرة التي يطوف حولها الجميع: السلطة(الزوج القاضي).. المعارضة(القيادي الإسلامي).. الجموع المهضومة المُشتّتة بينهما(حبيب) بغنائيّته المعزولة ومثاليّته المغدورة اللّتيْن جعلتاه سريع التأثّر مقبلاً دوماً علي البكاء كردّ فعل أوّل لكافّة الأزمات التي يواجهها، كما قدّمتْه الرواية.. سأجتزيء سطوراً كتبها أحمد عامر بذكاء وبقصديّة دالّة علي سيطرته علي مجريات سرده تبعاً للمآلات المتوالية للأمور، تُصوّر هذه السطور شروداً لحظيّاً لحبيب في مشهدٍ عابر بالشارع أمامه من موقعه علي كرسي الحراسة الذي يليق -حسب الرواية- بحاكمٍ مسالم: (يهمّ الكلب الضال بعبور الطريق، يتراجع خوفاً من السيّارات المسرعة، يبحث بجوار صندوق القمامة عن طعام، السيّارة الحمراء تبتعد عن بصري، الكلب يهزّ ذيله وهو يأكل الطعام العفن، يهز زميلي كتفي "الورديّة انتهت").. هل أكون فظّاً إذا طلبتُ ممّن قرأ الرواية جيّداً أن يضع (حبيب) محلّ الكلب الضال وأن يستبدل الوجوه الحمراء بالسيّارات المسرعة وأن يسمّي السيّارة الحمراء زوجة القاضي وأن يستنطق الرمز من وراء أكل الطعام العفن وتنبيه الزميل بانتهاء الورديّة؟!
ومع حشد التناقضات التي تتري علي أيام حبيب الجديدة، والتي يكتفي هو برصدها دون أن يتدخّل في ضبط موازينها، نصادف عدداً من المفارقات كإفرازٍ طبيعيّ لهذه التناقضات، خاصّة مع وصول السرد إلي مرحلةٍ ضاع فيها الفاصل بين الواقعي وبين المرتجاة واقعيّته، بين غرفة الشات وغرفة النوم، بين كوابيس حبيب اللّيليّة ويوميّاته الآهلة بكوابيس اليقظة، لتؤكد هذه المفارقات علي انحسار هذا الفاصل إن لم يكن زواله تماماً، ومنها نذكر: استعمال طارق كتاب (وصف مصر) كصينيّة لإعداد الشاي... بعدما دشّن حبيب طقوس خضوعه لزوجة القاضي يجد نفسه مطالباً في اليوم التالي بحضور مظاهرة مناصرة للقضاة... أحد رموز الحزب الجديد يطالب بحماس بضرورة إعادة توزيع الثروة علي الشعب فيما تطوِّق يدَه ساعةٌ ذهبية ويلف جسده معطف باهظ الثمن وبين أصابعه قلم فضيّ. لو أضفنا إلي ذلك الارتداد المستغلّ والمستهلِك لطارق نحو أفكار الحزب ورموزه، والبتر المفجِع الذي لحق بالحالة الرقيقة السويّة الوحيدة وسط كل هذا التوحّش والغبن والمحق: حالة (ماجد/زهرة).. ولا عجب إذن أن تتواري رمزيّة (الكلب الضال) التي تحدّثْنا عنها سابقاً لتصير تصريحاً قانطاً واعترافاً لامبالياً: (أنا هذا الشيء الذي يتحرّك فوق الأرض بدون فائدة، مثل كلبٍ طيّب يبحث عن طعامه في سلال المهملات، وإن تمرد أو أراد أن ينبح أو يطارد اللصوص، فرصاصة تنطلق بواسطة يد مدرّبة ولسان يطمئن الناس بأنه كان لابد أن يحدث هذا).. وعليه فكان لابد أن يُؤخذ حبيب راضياً مرضيّاً أو مُرغَماً مجبوراً إما إلي الانتحار أو إلي الجنون لأن أسباب المواصلة لم تعد مقنعة -حتي لو ظلّ حضن الأم وطيف عبير يَمدّانه بطاقةٍ واهنة ليقاوم- ويحاول الانتحار بالفعل لنعرف بعدها أن عبير ميّتة منذ زمن وأنها ربما لم تكن تعرف شيئاً عن حبّ حبيب لها، علي الأقل هذا ما تكلّم به طارق، ليتأكّد لنا أنها امرأة السماء التي لن تنزل لرجل الأرض إلا كما تراود الفكرة العقول فتكون ثورة!.
استطاع الروائي أحمد عامر أن يصنع تآلفاً أو لنقلْ تناغماً بين مقولة روايته والكيفيّة التي قِيلتْ بها، إذ أنجز إيقاعاً سريعاً لاهثاً لسرديّته يناسب حالة (النّفَس المقطوع) التي يلاحق بها حبيب اتجاهات وتيّارات واقعه الذي يتفلّت منه بسرعة هادرة تَفلُّت الصحيح من المجذوم. تحقّقَ هذا الإيقاع بجُمَله القصيرة المتدفّقة التي شكّلت مقاطع متوالية قصيرة وكثيرة لا يمكن حتي أن نَصِفها بالفصول خشية أن نضع حدّاً لديناميكيّتها الجارفة بهذا الوصف، وحتي أنه يمكننا قراءة الرواية، علي نحوٍ ما، باعتبارها مونولوجاً داخليّاً واحداً.
رواية (رجل في الأرض.. إمرأة في السماء) للروائي أحمد عامر ترسلك قراءتها إلي حالة مؤرِّقة من تأنيب الضمير لأن الظلام الذي تخبّط فيه حبيب قبل عشر سنوات للحدّ الذي دفعه للشروع في التخلّص من وجوده لم يزل مَكِيناً حتي اللحظة إن لم يكن قد زاد كثافةً وقتامة، غير أنها تطمئنك إلي أن تشريح معاناة الوطن في عملٍ روائيّ انطلاقاً من هموم ذاتيّة مع الحفاظ الفنيّ علي كيان السرد لم يزل رهاناً مقبولاً ومؤثّراً ولم يعفُ عليه الزمن كما يدّعي البعض، مُبتعدة بك كثيراً عن صرخة بودلير: (الأديب عدوّ العالم).. منحازة علي الأقرب إلي آهةِ عبدالحكيم قاسم: (أكره الحياة ولا أتخلّي عنها).
*محمد أبوالدهب
كتب الروائي أحمد عامر روايته (رجل في الأرض.. إمرأة في السماء) الصادرة في طبعتها الثانية عن دار الناشر بالقاهرة بغيظٍ مستحكم ومسئوليّةٍ باهظة تجاه واقعٍ تقلّبَ في دركاته وجاسَ في تناقضاته وتنبّأ من ثمّ بحتميّة زواله، دون أن يضطره هذا الغيظ وتلك المسئوليّة ومن بعدهما سَمْت المتنبِّيء إلي الانحراف عن الشرط الفنيّ الروائي وتحويل روايته إلي بيان ثوريّ بليغ، خاصّة وأن الواقع المقصود رسمتْ حدودَه بوضوح حالةُ التخبّط والعشوائية التي ضربتْ مصر سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً في السنوات القليلة التي سبقتْ ثورة 25 يناير. ولا أبالغ إذا قلت إن هذه الرواية قدّمت نفسها كأصدق وأصرح عمل روائي -فيما قرأتُ- عبّر عن أزمة جيل كامل من شباب الطبقتيْن المتوسطة والفقيرة بمصر في العقد الأول من الألفيّة الثانية. ومَن أراد أن
يراجع أسباب ومعطيات الظرف التاريخي الذي تمخّضتْ عنه ثورة يناير فليقرأْ (رجل في الأرض.. إمرأة في السماء) والتي صدرتْ طبعتها الأولي عام 2009 قبيل اندلاعها بأقل من عامين، وليعِشْ المُراجعُ خيْبات (حبيب) المتواترة جسداً وروحاً، وقفزات استسلام (طارق) المتأقلمة الملتوية، وتحوّلات (ماجد) الإجبارية المستضعفة، وليستنبطْ الرمز الذي يلوّح به طيف (عبير) طوال الرواية ليبقي أفقاً حُلْميّاً غائباً ومأمولاً ينتظر من يبتعثه من سمائه ليصير دليلاً هادياً علي الأرض.
يفضّ حبيب أيامَه مفصوماً بين استسلامٍ ومقاومة، بين كراهية لمفردات واقعه وعدم القدرة علي التخلّي عنه، بين شغفه بالحياة والقرف منها في الوقت نفسه، بين فقر وبطالة وجوع روحيّ وجنسيّ وتلمُّسٍ لدور بطولةٍ ولو زائفة من البطولات المدّعاة الكثيرة من حوله والتي يقتنصها ذوو الوجوه الحمراء (نعتٌ استخدمه أحمد عامر للدلالة علي فئة تحوز كل شيء، المال والسلطة والنفوذ، علي حساب جموع الناس، وظلّتْ تثير لدي الراوي هاجساً بالمطاردة: "الوجوه الحمراء تطاردني، الوجوه الحمراء تهرول خلفي، أشعر بهم خلفي")، بين نياشين الأب الذي كان من أبطال حرب أكتوبر والجاثم أمامه بتاريخه ورقابته، وأفلام البورنو التي أدمن حبيب مشاهدتها حتي صار وسيطاً لمشاهديها، وعالمه البديل المصنوع المصطنع في غرفة الشات والذي تقلّبتْ مراحلُ غيابه واستغراقه فيه توازياً وتناسباً طرديّاً مع مراحل تصاعد واستفحال أزمته ويمكننا قياس تدرّجه كالآتي: (ممكن فتاة محترمة للتعارف الجاد.. ممكن فتاة للتعارف الجنسي.. ممكن فتاة خليجيّة للتعارف.. ممكن سيّدة ترغب في علاقة جنسيّة ممتعة!) وحتي حين ذاب في ذلك الافتراض وأسقطه علي كل تفاصيل مكابداته وارتضي به مُصرِّفاً ومُحرِّكاً لأيامه البائسة، كان حلّه السحريّ الواهم والمتّسق مع عالمه الجديد المُكتَشَف للتخلّص من مُنغّصاته أن يعمل لهاdelete) )، أن يلقي بالمغتصبين تباعاً في سلّة المحذوفات، لكن ذلك لم يفلح أبداً مع مطارديه: (أفشل دائماً في حذف الوجوه الحمراء).. ولم يكن ذلك مُستغرَباً لأنه دأب علي استلام الأوامر والنواهي من الجميع، من الجدّة والأب والأم والأستاذ والخال وحتي من مذيعة التليفزيون، بموافقةٍ نهائيّة وردّ واحد: (حاضر).. وإذا كنا قد رأينا أثَرَ هذه الطاعة وإلي أيّ عتبةٍ أوصلته، فهل يمكن أن نسمع منه -في القادم- صيحةَ رفضٍ أو نشهد ثورة تغيير؟
إلتحق حبيب أخيراً بوظيفةٍ كحارس أمن لأحد الأبراج السكنيّة، وبدلاً من أن تهدأ روحه الجريحة قليلاً وتهنأ خواطره علي هذا المرفأ الذي لابد حقّق له ولو قدراً ضئيلاً من الأمان المادي والاجتماعي، نجده يهوي أعمق في بئر همومه وتتعقّد علاقته، المرتبكة من الأساس، بمفردات واقعه، ربما لأن هذا البرج السكنيّ المطلوب منه حراسته كان بوّابته الأوسع والمفتوحة دائماً للدخول المباشر والصادم وغير المتكافيء لعالم (أصحاب الوجوه الحمراء)... ولأنه كان يمتلك كل مؤهّلات الخنوع، أو بالأصح استلبه ظرفه الحاضر كل مؤهلات المقاومة، وقع سريعاً في فخّ غواية واستعباد زوجة القاضي. وتتوالي التناقضات التي صار شاهداً عليها بعد انتقاله المفاجيء من موقع المتفرّج إلي موقع المشارك وإنْ كمفعولٍ به، بين دعوة صديقه طارق له للانضمام إلي حزب المصري الجديد تلك الدعوة التي لم يرفضها حبيب رفضاً قطعيّاً برغم أنه خاض حواراً معه مَثّل مناظرةً بين وعييْن علي طرفيْ نقيض، وبين مراقبته لقريته التي صار يطالعها من بؤرةٍ مختلفة بمضيّها الحثيث علي طريق التحوّل إلي مسخٍ مشوّه من مدينة الوجوه الحمراء بعد أن تناثرت أطباق الدّش علي سطوح بيوتها وضجّتْ دروبها بنغمات الهواتف المحمولة وانتشرت في شوارعها مقاهي النتّ وثارتْ بناتُها علي ملابسهنّ القديمة، وبين اكتشافه علاقة زوجة القاضي بأحد المعارضين الإسلاميين الكبار مُجسِّدة مركز الدائرة التي يطوف حولها الجميع: السلطة(الزوج القاضي).. المعارضة(القيادي الإسلامي).. الجموع المهضومة المُشتّتة بينهما(حبيب) بغنائيّته المعزولة ومثاليّته المغدورة اللّتيْن جعلتاه سريع التأثّر مقبلاً دوماً علي البكاء كردّ فعل أوّل لكافّة الأزمات التي يواجهها، كما قدّمتْه الرواية.. سأجتزيء سطوراً كتبها أحمد عامر بذكاء وبقصديّة دالّة علي سيطرته علي مجريات سرده تبعاً للمآلات المتوالية للأمور، تُصوّر هذه السطور شروداً لحظيّاً لحبيب في مشهدٍ عابر بالشارع أمامه من موقعه علي كرسي الحراسة الذي يليق -حسب الرواية- بحاكمٍ مسالم: (يهمّ الكلب الضال بعبور الطريق، يتراجع خوفاً من السيّارات المسرعة، يبحث بجوار صندوق القمامة عن طعام، السيّارة الحمراء تبتعد عن بصري، الكلب يهزّ ذيله وهو يأكل الطعام العفن، يهز زميلي كتفي "الورديّة انتهت").. هل أكون فظّاً إذا طلبتُ ممّن قرأ الرواية جيّداً أن يضع (حبيب) محلّ الكلب الضال وأن يستبدل الوجوه الحمراء بالسيّارات المسرعة وأن يسمّي السيّارة الحمراء زوجة القاضي وأن يستنطق الرمز من وراء أكل الطعام العفن وتنبيه الزميل بانتهاء الورديّة؟!
ومع حشد التناقضات التي تتري علي أيام حبيب الجديدة، والتي يكتفي هو برصدها دون أن يتدخّل في ضبط موازينها، نصادف عدداً من المفارقات كإفرازٍ طبيعيّ لهذه التناقضات، خاصّة مع وصول السرد إلي مرحلةٍ ضاع فيها الفاصل بين الواقعي وبين المرتجاة واقعيّته، بين غرفة الشات وغرفة النوم، بين كوابيس حبيب اللّيليّة ويوميّاته الآهلة بكوابيس اليقظة، لتؤكد هذه المفارقات علي انحسار هذا الفاصل إن لم يكن زواله تماماً، ومنها نذكر: استعمال طارق كتاب (وصف مصر) كصينيّة لإعداد الشاي... بعدما دشّن حبيب طقوس خضوعه لزوجة القاضي يجد نفسه مطالباً في اليوم التالي بحضور مظاهرة مناصرة للقضاة... أحد رموز الحزب الجديد يطالب بحماس بضرورة إعادة توزيع الثروة علي الشعب فيما تطوِّق يدَه ساعةٌ ذهبية ويلف جسده معطف باهظ الثمن وبين أصابعه قلم فضيّ. لو أضفنا إلي ذلك الارتداد المستغلّ والمستهلِك لطارق نحو أفكار الحزب ورموزه، والبتر المفجِع الذي لحق بالحالة الرقيقة السويّة الوحيدة وسط كل هذا التوحّش والغبن والمحق: حالة (ماجد/زهرة).. ولا عجب إذن أن تتواري رمزيّة (الكلب الضال) التي تحدّثْنا عنها سابقاً لتصير تصريحاً قانطاً واعترافاً لامبالياً: (أنا هذا الشيء الذي يتحرّك فوق الأرض بدون فائدة، مثل كلبٍ طيّب يبحث عن طعامه في سلال المهملات، وإن تمرد أو أراد أن ينبح أو يطارد اللصوص، فرصاصة تنطلق بواسطة يد مدرّبة ولسان يطمئن الناس بأنه كان لابد أن يحدث هذا).. وعليه فكان لابد أن يُؤخذ حبيب راضياً مرضيّاً أو مُرغَماً مجبوراً إما إلي الانتحار أو إلي الجنون لأن أسباب المواصلة لم تعد مقنعة -حتي لو ظلّ حضن الأم وطيف عبير يَمدّانه بطاقةٍ واهنة ليقاوم- ويحاول الانتحار بالفعل لنعرف بعدها أن عبير ميّتة منذ زمن وأنها ربما لم تكن تعرف شيئاً عن حبّ حبيب لها، علي الأقل هذا ما تكلّم به طارق، ليتأكّد لنا أنها امرأة السماء التي لن تنزل لرجل الأرض إلا كما تراود الفكرة العقول فتكون ثورة!.
استطاع الروائي أحمد عامر أن يصنع تآلفاً أو لنقلْ تناغماً بين مقولة روايته والكيفيّة التي قِيلتْ بها، إذ أنجز إيقاعاً سريعاً لاهثاً لسرديّته يناسب حالة (النّفَس المقطوع) التي يلاحق بها حبيب اتجاهات وتيّارات واقعه الذي يتفلّت منه بسرعة هادرة تَفلُّت الصحيح من المجذوم. تحقّقَ هذا الإيقاع بجُمَله القصيرة المتدفّقة التي شكّلت مقاطع متوالية قصيرة وكثيرة لا يمكن حتي أن نَصِفها بالفصول خشية أن نضع حدّاً لديناميكيّتها الجارفة بهذا الوصف، وحتي أنه يمكننا قراءة الرواية، علي نحوٍ ما، باعتبارها مونولوجاً داخليّاً واحداً.
رواية (رجل في الأرض.. إمرأة في السماء) للروائي أحمد عامر ترسلك قراءتها إلي حالة مؤرِّقة من تأنيب الضمير لأن الظلام الذي تخبّط فيه حبيب قبل عشر سنوات للحدّ الذي دفعه للشروع في التخلّص من وجوده لم يزل مَكِيناً حتي اللحظة إن لم يكن قد زاد كثافةً وقتامة، غير أنها تطمئنك إلي أن تشريح معاناة الوطن في عملٍ روائيّ انطلاقاً من هموم ذاتيّة مع الحفاظ الفنيّ علي كيان السرد لم يزل رهاناً مقبولاً ومؤثّراً ولم يعفُ عليه الزمن كما يدّعي البعض، مُبتعدة بك كثيراً عن صرخة بودلير: (الأديب عدوّ العالم).. منحازة علي الأقرب إلي آهةِ عبدالحكيم قاسم: (أكره الحياة ولا أتخلّي عنها).
*محمد أبوالدهب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق