محمد إسماعيل زاهر
يحاول ألبرتو مانغويل في كتابه الأخير «الفضول» أن يجيب عن ذلك السؤال الإشكالي الذي حيّر الجميع، ونعني به لماذا نقرأ؟ واللافت أن الكتاب لا يقدّم إجابة شافية للسؤال، وإن حاول الاقتراب منها في جميع فصوله، والملاحظ كذلك أن صاحب «تاريخ القراءة» لا يطرح هذا السؤال بشكله الواضح والمباشر، ولكننا نستشفه بين الكلمات ونقرؤه ضمن العديد من الأسئلة الأخرى التي يطرحها عبر كتابه، موظفاً مفهوم «الفضول» بوصفه الدافع الرئيسي للقراءة.
«الفضول» ربما يكون أصعب كتب مانغويل، لا يتميز بإمتاعية «تاريخ القراءة» أو «المكتبة في الليل»، ولا بالدهشة التي يمنحها العاشق الأرجنتيني للكتب لقارئ أعماله الأخرى التي يتجوّل فيها بصحبة الطفلة أليس عبر مغامراتها في بلاد العجائب. الكتاب قراءة جديدة لرائعة دانتي «الكوميديا الإلهية»، بوصفها النص الذي انتهى إليه مانغويل وهو على أعتاب العقد السابع من عمره.
حياة مانغويل موزعة على الكتب، فمرة يفتن ب «التخيلات» لبورخيس، ومرة ب «دون كيشوت» لسيرفانتس، وثالثة ب «ألف ليلة وليلة»، وها هو يقع في غرام «الكوميديا الإلهية»، يقول: «لقد وصلت متأخراً إلى الكوميديا. ومنذ القراءة الأولى أصبح الكتاب بالنسبة إلى كتاباً شخصياً ولا حدود له في الوقت نفسه»، «الكوميديا» كتاب لا يحده شيء «لعمقه، واتساعه، وحذاقة مبناه».
*أساسات وأعمدة الكتاب
يرتكز الكتاب الجديد لمانغويل في أساساته على نص كلاسيكي وصعب في الوقت نفسه، وتقوم أعمدة الكتاب على الفلسفة في المقام الأول، ويكتمل بناء النص من خلال لهاثنا وراء الكاتب في طرحه لموضوع الفضول عبر إحالاته وأطروحاته. حتى أن القارئ يظل طوال الكتاب يسأل نفسه عن العلاقة بين مفهوم الفضول والكوميديا الإلهية وافتتان مانغويل بهذا النص في تلك الفترة المتأخرة من حياته. هل هو الفضول الذي قتله مانغويل بحثاً بين الكتب على مدار عقود حياته، ولم يجد ما يشفي غليله، الأمر الذي دفعه ليصطحب دانتي في رحلاته المتخيلة عبر العالم الآخر؟ هل يدعونا مانغويل إلى إزاحة الكتب المقروءة لبرهة لنتأمل في تلك الأسئلة الكبرى التي لا يحدها كتاب؟ خاصة أنه يصف عمل دانتي بالكتاب الذي لا يحده شيء، أي الكتاب الأكبر من «الكتاب»، لو جاز لنا هذا التعبير.
أسئلة بالجملة تتوارد على ذهن القارئ وهو يطالع كتاب مانغويل. أسئلة خاصة بالمؤلف نفسه، بتجربته الشخصية، بتورطه طوال حياته في الكتب، بتحوّل مغامرته في المعرفة إلى فضول تثيره مفردات العالم بأكمله، مفردات تتجاوز الكتاب كأداة رئيسية لتحصيل المعرفة ولكنها ليست الأداة الوحيدة. وهناك إلى جوار ذلك أسئلة يطرحها علينا تتعلق ب «فضولنا» نحن.
فصول كتاب مانغويل موزعة على سبعة عشر سؤالاً: ما الفضول؟ ما الذي نريد معرفته؟ كيف نفكر؟ كيف يمكننا رؤية ما نفكر فيه؟ كيف نسأل؟ ما اللغة؟ من أنا؟ ما الذي نفعله هنا؟ أين مكاننا؟ ما الذي يجعلنا مختلفين؟ ما الحيوان؟ ما عواقب أفعالنا؟ ما الذي يمكننا امتلاكه؟ كيف نرتب الأشياء؟ ماذا بعد؟ لمَ تحدث الأشياء؟ ما الصحيح؟ يبدأ كل فصل - سؤال بالمؤلف سارداً لموقف حياتي دفعه لطرح ذلك السؤال.
ما الفضول؟ هل هو فن طرح الأسئلة؟ ولكن العالم كله سؤال، يقول مانغويل، بعكس ما يعتقد معظم البشر الذين لا ينتابهم الفضول ويتميزون بكسل عقلي وراحة نفسية متمثلة في استهلاك الإجابات المعلبة والسريعة والجاهزة والتي لا تصنع معرفة ولا تنتج جديداً، الفضول وفق أحد تعريفات مانغويل هو تلك الرغبة في صياغة حكاية مختلفة عن «الأشياء الواضحة التي لم يسبق لأحد ملاحظتها»، وهو في العبارة الأخيرة ربما يضع الفضول كشرط رئيسي للإبداع ويتقاطع صوته مع الجاحظ الذي قال يوماً: «الأفكار ملقاة على قارعة الطريق»، أو مع من حاول صياغة فلسفة عربية خالصة تقوم على مبدأ «انظر تجد». العالم وفق مانغويل، ومن تقاطع معهم، شديد الوضوح لا يمكن إضافة الجديد إليه إلا عبر عين مختلفة، زاوية نظر أخرى، والتفكير في الاعتيادي والمعروف والمكرر بشكل مغاير.
*متعة الشك
إن الاعتيادي والمكرر والذي نراه كل يوم لن يتغير وعينا به إلا بالشك، أو كما يقول مانغويل مقتبساً دانتي: «إن متعتي في الشك لا تقل عن متعتي في اليقين». الشك في الوضوح، الشك في الأفكار الملقاة في الشارع والراسخة في العقول، الشك في وجهات النظر الثابتة والمتحجرة. الشك هو الدافع لرحلة عوليس المهلكة، ولكنها المؤسسة في الأدب الغربي للكثير من الكلاسيكيات والأعمال العظيمة، فعوليس وفق قراءة مانغويل للكوميديا يجسد ذروة الفضول، تلك الرحلة التي تبدأ محفوفة بالمخاطر وتتميز بمراوحة مضنية بين الشعور بحتمية الفشل وبصيص ضئيل من الأمل يلمع بين الفينة والأخرى، هنا لا حسم ولا توكيدات ولا جزم بنتائج مسبقة، هنا يرتبط الشك في البداية بإمكانية الإخفاق أولاً، حيث لا يهم مانغويل مسألة النجاح، ولا يتوقف كثيراً للتفكير في ثمار ما سيحصد، هنا رؤية مختلفة تماماً لمئات المفكرين العرب خاصة المعاصرين لنا، الذين يطنطنون حول الشك، ولكن في كتاباتهم يكتبون «روشتات» تبدأ من الشك الآن، وتنتهي إلى ضرورة النجاح في الغد.
الشك لدى مانغويل هو ما يقودنا إلى التمرد على المعروف، ما يدفعنا إلى القلق، ما يجعلنا نطرح الأسئلة الذهبية: ماذا ولماذا وكيف، ما يحثنا على تأليف كتاب أو القيام بعمل لا نتصور نتائجه، قد نفشل وربما ننجح: «فإن تؤلف كتاباً يعني أن تسلم نفسك للفشل، ولكن هذا الفشل قد يكون فشلاً مشرفاً»، وفي النهاية لا يمكن أن يطلق على الحياة أي حياة إلا وصف «التجربة». أن نجرب في مدارات جديدة يعني أن نؤمن بأننا سنفشل، ولكننا إذا نجحنا فسنحقق نجاحاً مضاعفاً. أما النجاح في تلك المدارات المعروفة فربما هو أقرب إلى الفشل، إذا نظرنا من وجهة نظر مختلفة.
الفضول - السؤال - الشك، مفردات دارت حولها القصص والحكايات، مفاتيح المعرفة الأساسية، التي نحصّلها من القراءة والتجربة والتأمل، نحن لا نقرأ للمتعة، ولا لكي تزيد معلوماتنا، ولا لنتباهى ولا لنحاور بعضنا بعضاً، نحن نقرأ لكي تتغير قناعاتنا أولاً ومن ثم يتغير العالم، والحال نفسه بالنسبة لتجاربنا وتأملاتنا، فنحن يجب ألا نفكر في موضوع ونصل إلى ما يدعم قناعتنا كما يحدث في الفكر العربي، مانغويل يحذرنا بخفة ذكية من هذه الإشكالية القاتلة لروح الإبداع.
لا بد أن نؤمن أن الخيال، مدار الفضول ودعامة الشك، وأفق السؤال، عرضة دائماً للإخفاق: «يتطور خيالنا عبر إخفاقنا، ومن المحاولات التي يتبين خطؤها، ما يستوجب محاولات أخرى ستؤدي بدورها إلى إخفاق جديد، ذلك إذا حالفنا الحظ، إن تاريخ الفن والأدب، كما تاريخ الفلسفة والعلم، هو تاريخ إخفاق مستنير».
يطرز مانغويل كتابه عبر قراءة جديدة لرحلة خيالية، بحثاً عن الإنارة بمصطلحاته، أو الاستنارة أو التنوير كما نقول في الفكر العربي، يتجوّل فيها مع القارئ في صحبة بوكاشيو وشكسبير وأرسطو وسقراط وأبي العلاء.. وعشرات غيرهم، يقود الجميع دانتي من الجحيم إلى المطهر ومن ثم الفردوس، يتوقف هنا ليسأل دانتي، أو يعلّق عليه أو ينتقد أحد أبطاله، يحاول أن يشكك دانتي نفسه في قيمة رحلته، ولكنها،كما يكشف لنا النص بعد قراءته، رحلة قلق يخوضها مانغويل من القرون الوسطى إلى التنوير إلى دولة الرفاه بالنسبة للمجتمعات الغربية، ومن رحلة عوليس المهلكة إلى اكتشافات العلم الكبرى إلى الصعود إلى الفضاء بالنسبة لمسار العلم. لم يكن عوليس يعرف نهايات رحلته المحفوفة بالمجهول، عوليس الذي تحدث شكسبير على لسانه قائلاً: «إن عليك أن تعرف العالم بأسره»، أن تقرأه، أن تتأمله، أن تفكر فيه، وانتهت الرحلة إلى كل ما هو خلاب ومدهش، بعد سبعة قرون، كانت تمتلئ بالمعاناة، بالحروب، بمحاكمات المفكرين، بالتجربة والخطأ، ولكنها بدأت بلحظة الشك، وبعدم القدرة على التنبؤ بضرورة النجاح.
يقول مانغويل: «بعد مرور سبعة قرون على لقاء دانتي بعوليس، وفي 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، أطلق جهاز استكشاف بحجم سيارة، وذلك من منطقة تدعى رأس كانافيرال، جزء من مقاطعة بريفارد في فلوريدا، كان ذلك في الساعة 10:02صباحاً، وبعدها قطع المستكشف مسافة تزيد على 350 مليون ميل، وصل كوكب المريخ في السادس من أغسطس/ آب 2012، حيث حط على سهل مقفر يدعى أيوليس بالوس. كان اسم ذلك المستكشف، المركبة الفضائية، هو Curiosity، أي الفضول، الرغبة في المعرفة، أو ما سماه دانتي ardore، وهي الرغبة نفسها التي دفعت بعوليس إلى رحلته الأخيرة المهلكة».
ويوضح مانغويل أكثر ما يهدف إليه بالقول: «النتائج الجزافية والتراجيدية أحياناً تؤدي إلى وصولنا إلى عوالم لم تستكشف من قبل».
*10 أسئلة رئيسية
يبدأ مانغويل كتابه بعشرة أسئلة كانت صحيفة الجارديان البريطانية قد طرحتها في عام 2010 من خلال استبيان وزعته على مجموعة من الفلاسفة والعلماء، الذين رأوا أن المستقبل رهين بهذه الأسئلة: ما الوعي؟ ما الذي حدث قبل الانفجار العظيم؟ هل سيعيد العلم والهندسة لنا فردانيتنا؟ كيف سنتعاطى مع التزايد السكاني؟ هل بإمكاننا ابتكار طريقة تفكير علمية قابلة للتعميم المطلق؟ كيف لنا أن نضمن بقاء البشرية وازدهارها؟ هل يمكن لأحد أن يفسر الفضاء اللامتناهي على نحو مناسب؟ هل سيكون بمقدوري تسجيل ما يدور في دماغي كما أسجل برنامجاً تلفزيونياً؟ وهل باستطاعة البشرية أن تبلغ النجوم؟
حاول مانغويل أن يقدّم إجابته الخاصة جداً لهذه الأسئلة من خلال سرد قصة الشغف بطرح السؤال الذي يؤدي إلى ضرورة أن نعرف «وما يمكن لنا تخيله»، هي أسئلة «ترسم خرائط واضحة لخيالنا»، حتى ولو من خلال العودة إلى الماضي، لإدراك كيف اشتغل هذا الماضي على «مستقبله» أي واقع الحضارة الغربية، بما يمثل درساً للمقبل، أو مغامرة لمستقبل هذه الحضارة، التي لم تضع العربة أمام الحصان ولم تطرح الماضي لاجتراره أو للتصارع حوله، أو للتأزم تجاه أحداثه ووقائعه.
والأسئلة التي تنتاب مخيال القارئ العربي للكتاب عديدة لا تبدأ من: أين موقعنا من أسئلة الجارديان العشرة؟ بل أين موقعنا مما يحدث في العالم على وجه الدقة؟ وأين هو المثقف العربي الذي يسرد لك رحلته مع تطور قناعاته تجاه مسار آخر يختلف عن بداية رحلته؟
كتاب مانغويل ببساطة حزمة مركبة من الأسئلة، هو نعمة السؤال في مكان، ونقمته في مكان آخر.
يحاول ألبرتو مانغويل في كتابه الأخير «الفضول» أن يجيب عن ذلك السؤال الإشكالي الذي حيّر الجميع، ونعني به لماذا نقرأ؟ واللافت أن الكتاب لا يقدّم إجابة شافية للسؤال، وإن حاول الاقتراب منها في جميع فصوله، والملاحظ كذلك أن صاحب «تاريخ القراءة» لا يطرح هذا السؤال بشكله الواضح والمباشر، ولكننا نستشفه بين الكلمات ونقرؤه ضمن العديد من الأسئلة الأخرى التي يطرحها عبر كتابه، موظفاً مفهوم «الفضول» بوصفه الدافع الرئيسي للقراءة.
«الفضول» ربما يكون أصعب كتب مانغويل، لا يتميز بإمتاعية «تاريخ القراءة» أو «المكتبة في الليل»، ولا بالدهشة التي يمنحها العاشق الأرجنتيني للكتب لقارئ أعماله الأخرى التي يتجوّل فيها بصحبة الطفلة أليس عبر مغامراتها في بلاد العجائب. الكتاب قراءة جديدة لرائعة دانتي «الكوميديا الإلهية»، بوصفها النص الذي انتهى إليه مانغويل وهو على أعتاب العقد السابع من عمره.
حياة مانغويل موزعة على الكتب، فمرة يفتن ب «التخيلات» لبورخيس، ومرة ب «دون كيشوت» لسيرفانتس، وثالثة ب «ألف ليلة وليلة»، وها هو يقع في غرام «الكوميديا الإلهية»، يقول: «لقد وصلت متأخراً إلى الكوميديا. ومنذ القراءة الأولى أصبح الكتاب بالنسبة إلى كتاباً شخصياً ولا حدود له في الوقت نفسه»، «الكوميديا» كتاب لا يحده شيء «لعمقه، واتساعه، وحذاقة مبناه».
*أساسات وأعمدة الكتاب
يرتكز الكتاب الجديد لمانغويل في أساساته على نص كلاسيكي وصعب في الوقت نفسه، وتقوم أعمدة الكتاب على الفلسفة في المقام الأول، ويكتمل بناء النص من خلال لهاثنا وراء الكاتب في طرحه لموضوع الفضول عبر إحالاته وأطروحاته. حتى أن القارئ يظل طوال الكتاب يسأل نفسه عن العلاقة بين مفهوم الفضول والكوميديا الإلهية وافتتان مانغويل بهذا النص في تلك الفترة المتأخرة من حياته. هل هو الفضول الذي قتله مانغويل بحثاً بين الكتب على مدار عقود حياته، ولم يجد ما يشفي غليله، الأمر الذي دفعه ليصطحب دانتي في رحلاته المتخيلة عبر العالم الآخر؟ هل يدعونا مانغويل إلى إزاحة الكتب المقروءة لبرهة لنتأمل في تلك الأسئلة الكبرى التي لا يحدها كتاب؟ خاصة أنه يصف عمل دانتي بالكتاب الذي لا يحده شيء، أي الكتاب الأكبر من «الكتاب»، لو جاز لنا هذا التعبير.
أسئلة بالجملة تتوارد على ذهن القارئ وهو يطالع كتاب مانغويل. أسئلة خاصة بالمؤلف نفسه، بتجربته الشخصية، بتورطه طوال حياته في الكتب، بتحوّل مغامرته في المعرفة إلى فضول تثيره مفردات العالم بأكمله، مفردات تتجاوز الكتاب كأداة رئيسية لتحصيل المعرفة ولكنها ليست الأداة الوحيدة. وهناك إلى جوار ذلك أسئلة يطرحها علينا تتعلق ب «فضولنا» نحن.
فصول كتاب مانغويل موزعة على سبعة عشر سؤالاً: ما الفضول؟ ما الذي نريد معرفته؟ كيف نفكر؟ كيف يمكننا رؤية ما نفكر فيه؟ كيف نسأل؟ ما اللغة؟ من أنا؟ ما الذي نفعله هنا؟ أين مكاننا؟ ما الذي يجعلنا مختلفين؟ ما الحيوان؟ ما عواقب أفعالنا؟ ما الذي يمكننا امتلاكه؟ كيف نرتب الأشياء؟ ماذا بعد؟ لمَ تحدث الأشياء؟ ما الصحيح؟ يبدأ كل فصل - سؤال بالمؤلف سارداً لموقف حياتي دفعه لطرح ذلك السؤال.
ما الفضول؟ هل هو فن طرح الأسئلة؟ ولكن العالم كله سؤال، يقول مانغويل، بعكس ما يعتقد معظم البشر الذين لا ينتابهم الفضول ويتميزون بكسل عقلي وراحة نفسية متمثلة في استهلاك الإجابات المعلبة والسريعة والجاهزة والتي لا تصنع معرفة ولا تنتج جديداً، الفضول وفق أحد تعريفات مانغويل هو تلك الرغبة في صياغة حكاية مختلفة عن «الأشياء الواضحة التي لم يسبق لأحد ملاحظتها»، وهو في العبارة الأخيرة ربما يضع الفضول كشرط رئيسي للإبداع ويتقاطع صوته مع الجاحظ الذي قال يوماً: «الأفكار ملقاة على قارعة الطريق»، أو مع من حاول صياغة فلسفة عربية خالصة تقوم على مبدأ «انظر تجد». العالم وفق مانغويل، ومن تقاطع معهم، شديد الوضوح لا يمكن إضافة الجديد إليه إلا عبر عين مختلفة، زاوية نظر أخرى، والتفكير في الاعتيادي والمعروف والمكرر بشكل مغاير.
*متعة الشك
إن الاعتيادي والمكرر والذي نراه كل يوم لن يتغير وعينا به إلا بالشك، أو كما يقول مانغويل مقتبساً دانتي: «إن متعتي في الشك لا تقل عن متعتي في اليقين». الشك في الوضوح، الشك في الأفكار الملقاة في الشارع والراسخة في العقول، الشك في وجهات النظر الثابتة والمتحجرة. الشك هو الدافع لرحلة عوليس المهلكة، ولكنها المؤسسة في الأدب الغربي للكثير من الكلاسيكيات والأعمال العظيمة، فعوليس وفق قراءة مانغويل للكوميديا يجسد ذروة الفضول، تلك الرحلة التي تبدأ محفوفة بالمخاطر وتتميز بمراوحة مضنية بين الشعور بحتمية الفشل وبصيص ضئيل من الأمل يلمع بين الفينة والأخرى، هنا لا حسم ولا توكيدات ولا جزم بنتائج مسبقة، هنا يرتبط الشك في البداية بإمكانية الإخفاق أولاً، حيث لا يهم مانغويل مسألة النجاح، ولا يتوقف كثيراً للتفكير في ثمار ما سيحصد، هنا رؤية مختلفة تماماً لمئات المفكرين العرب خاصة المعاصرين لنا، الذين يطنطنون حول الشك، ولكن في كتاباتهم يكتبون «روشتات» تبدأ من الشك الآن، وتنتهي إلى ضرورة النجاح في الغد.
الشك لدى مانغويل هو ما يقودنا إلى التمرد على المعروف، ما يدفعنا إلى القلق، ما يجعلنا نطرح الأسئلة الذهبية: ماذا ولماذا وكيف، ما يحثنا على تأليف كتاب أو القيام بعمل لا نتصور نتائجه، قد نفشل وربما ننجح: «فإن تؤلف كتاباً يعني أن تسلم نفسك للفشل، ولكن هذا الفشل قد يكون فشلاً مشرفاً»، وفي النهاية لا يمكن أن يطلق على الحياة أي حياة إلا وصف «التجربة». أن نجرب في مدارات جديدة يعني أن نؤمن بأننا سنفشل، ولكننا إذا نجحنا فسنحقق نجاحاً مضاعفاً. أما النجاح في تلك المدارات المعروفة فربما هو أقرب إلى الفشل، إذا نظرنا من وجهة نظر مختلفة.
الفضول - السؤال - الشك، مفردات دارت حولها القصص والحكايات، مفاتيح المعرفة الأساسية، التي نحصّلها من القراءة والتجربة والتأمل، نحن لا نقرأ للمتعة، ولا لكي تزيد معلوماتنا، ولا لنتباهى ولا لنحاور بعضنا بعضاً، نحن نقرأ لكي تتغير قناعاتنا أولاً ومن ثم يتغير العالم، والحال نفسه بالنسبة لتجاربنا وتأملاتنا، فنحن يجب ألا نفكر في موضوع ونصل إلى ما يدعم قناعتنا كما يحدث في الفكر العربي، مانغويل يحذرنا بخفة ذكية من هذه الإشكالية القاتلة لروح الإبداع.
لا بد أن نؤمن أن الخيال، مدار الفضول ودعامة الشك، وأفق السؤال، عرضة دائماً للإخفاق: «يتطور خيالنا عبر إخفاقنا، ومن المحاولات التي يتبين خطؤها، ما يستوجب محاولات أخرى ستؤدي بدورها إلى إخفاق جديد، ذلك إذا حالفنا الحظ، إن تاريخ الفن والأدب، كما تاريخ الفلسفة والعلم، هو تاريخ إخفاق مستنير».
يطرز مانغويل كتابه عبر قراءة جديدة لرحلة خيالية، بحثاً عن الإنارة بمصطلحاته، أو الاستنارة أو التنوير كما نقول في الفكر العربي، يتجوّل فيها مع القارئ في صحبة بوكاشيو وشكسبير وأرسطو وسقراط وأبي العلاء.. وعشرات غيرهم، يقود الجميع دانتي من الجحيم إلى المطهر ومن ثم الفردوس، يتوقف هنا ليسأل دانتي، أو يعلّق عليه أو ينتقد أحد أبطاله، يحاول أن يشكك دانتي نفسه في قيمة رحلته، ولكنها،كما يكشف لنا النص بعد قراءته، رحلة قلق يخوضها مانغويل من القرون الوسطى إلى التنوير إلى دولة الرفاه بالنسبة للمجتمعات الغربية، ومن رحلة عوليس المهلكة إلى اكتشافات العلم الكبرى إلى الصعود إلى الفضاء بالنسبة لمسار العلم. لم يكن عوليس يعرف نهايات رحلته المحفوفة بالمجهول، عوليس الذي تحدث شكسبير على لسانه قائلاً: «إن عليك أن تعرف العالم بأسره»، أن تقرأه، أن تتأمله، أن تفكر فيه، وانتهت الرحلة إلى كل ما هو خلاب ومدهش، بعد سبعة قرون، كانت تمتلئ بالمعاناة، بالحروب، بمحاكمات المفكرين، بالتجربة والخطأ، ولكنها بدأت بلحظة الشك، وبعدم القدرة على التنبؤ بضرورة النجاح.
يقول مانغويل: «بعد مرور سبعة قرون على لقاء دانتي بعوليس، وفي 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، أطلق جهاز استكشاف بحجم سيارة، وذلك من منطقة تدعى رأس كانافيرال، جزء من مقاطعة بريفارد في فلوريدا، كان ذلك في الساعة 10:02صباحاً، وبعدها قطع المستكشف مسافة تزيد على 350 مليون ميل، وصل كوكب المريخ في السادس من أغسطس/ آب 2012، حيث حط على سهل مقفر يدعى أيوليس بالوس. كان اسم ذلك المستكشف، المركبة الفضائية، هو Curiosity، أي الفضول، الرغبة في المعرفة، أو ما سماه دانتي ardore، وهي الرغبة نفسها التي دفعت بعوليس إلى رحلته الأخيرة المهلكة».
ويوضح مانغويل أكثر ما يهدف إليه بالقول: «النتائج الجزافية والتراجيدية أحياناً تؤدي إلى وصولنا إلى عوالم لم تستكشف من قبل».
*10 أسئلة رئيسية
يبدأ مانغويل كتابه بعشرة أسئلة كانت صحيفة الجارديان البريطانية قد طرحتها في عام 2010 من خلال استبيان وزعته على مجموعة من الفلاسفة والعلماء، الذين رأوا أن المستقبل رهين بهذه الأسئلة: ما الوعي؟ ما الذي حدث قبل الانفجار العظيم؟ هل سيعيد العلم والهندسة لنا فردانيتنا؟ كيف سنتعاطى مع التزايد السكاني؟ هل بإمكاننا ابتكار طريقة تفكير علمية قابلة للتعميم المطلق؟ كيف لنا أن نضمن بقاء البشرية وازدهارها؟ هل يمكن لأحد أن يفسر الفضاء اللامتناهي على نحو مناسب؟ هل سيكون بمقدوري تسجيل ما يدور في دماغي كما أسجل برنامجاً تلفزيونياً؟ وهل باستطاعة البشرية أن تبلغ النجوم؟
حاول مانغويل أن يقدّم إجابته الخاصة جداً لهذه الأسئلة من خلال سرد قصة الشغف بطرح السؤال الذي يؤدي إلى ضرورة أن نعرف «وما يمكن لنا تخيله»، هي أسئلة «ترسم خرائط واضحة لخيالنا»، حتى ولو من خلال العودة إلى الماضي، لإدراك كيف اشتغل هذا الماضي على «مستقبله» أي واقع الحضارة الغربية، بما يمثل درساً للمقبل، أو مغامرة لمستقبل هذه الحضارة، التي لم تضع العربة أمام الحصان ولم تطرح الماضي لاجتراره أو للتصارع حوله، أو للتأزم تجاه أحداثه ووقائعه.
والأسئلة التي تنتاب مخيال القارئ العربي للكتاب عديدة لا تبدأ من: أين موقعنا من أسئلة الجارديان العشرة؟ بل أين موقعنا مما يحدث في العالم على وجه الدقة؟ وأين هو المثقف العربي الذي يسرد لك رحلته مع تطور قناعاته تجاه مسار آخر يختلف عن بداية رحلته؟
كتاب مانغويل ببساطة حزمة مركبة من الأسئلة، هو نعمة السؤال في مكان، ونقمته في مكان آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق