اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

القراءة التأويلية لأبن رشد | د. رائد جبار كاظم

من المؤسف أن تظل الدراسات والكتابات العلمية والثقافية والمعرفية حبيسة المكتبات والرفوف والأنترنيت، دون قراءتها وتحليلها ونقدها، وتعريف القرّاء والمثقفين والمهتمين بها، فالكتب والدراسات لم تؤلف لتركن أو تموت أو تهمل، وانما لتحيا وتعيش وتثمر أفكاراً وآراءاً ومشاريعاً من أجل الاصلاح والتغيير والتنوير، والا لو لم تكن كذلك فلا قيمة لها ولا أهمية ولا ضرورة، فهذه هي الغاية العظمى للكتابات الجادة والفاعلة، والمثقف والقاريء اللبيب يستطيع أن يكشف الجيد من الكتب والكتابات من رديئها وسقيمها، ووظيفة الدارسين والباحثين والاكاديميين الكشف عن الجيد من هذه الكتابات والتعريف بها والاشارة الى جهد
كتابها ومناهجهم في القراءة والعرض والتحليل، من خلال أعتماد آليات نقدية ومنهجية أكاديمية علمية جادة في ممارسة تلك القراءة والكشف عن ظاهرها وباطنها، دون ممارسة الطعن والتشويه والنيل من المؤلفين ومنتجاتهم المعرفية. ونقطة مهمة نود تسليط الضوء عليها والدعوة لها وهي ممارسة الترويج العلمي والمعرفي والاعلام الثقافي، فكل شيء في عالمنا يخضع للترويج والاعلان والاعلام، فلماذا لا يخضع الكتاب والمنجز الثقافي والمشاريع المعرفية لذلك العمل أيضاً، لزيادة الوعي ونشر المعرفة والتثقيف بين الناس، فعالمنا المعاصر عالم تقني ومعلوماتي وتواصلي، وشعار الامم والشعوب المتقدمة (المعرفة قوة)، وهذا ما نسعى اليه ونتمناه وندعو له في مجتمعاتنا العربية المتأخرة عن ركب المدنية والحضارة العالمية.
نود هنا في هذا المقال تسليط الضوء على دراسة أكاديمية في مجال الفلسفة للاستاذ الدكتور علي المرهج(*) في كتابه (النص الرشدي في القراءة الفلسفية العربية المعاصرة)، وكيفية قراءة المرهج لتلك القراءات العربية لأبن رشد، مع بيان قراءته ونوعها أيضاً. ولابد من الاشارة الى أن الدكتور عامر عبد زيد، استاذ الفلسفة في جامعة الكوفة، كان قد عرض للكتاب في مقالة له نشرها في موقع الحوار المتمدن عام 2007،(1) وهي أشارة وقراءة مبكرة للكتاب قام بها عبد زيد، وهو باحث جاد وفاعل ديدنه كشف الجديد من الدراسات وتسليط الضوء على المنجز الثقافي والمعرفي في العراق، وهذا ما نحاول السير عليه والدعوة له، في مجال الثقافة والنقد الفلسفي والمعرفي.
خارطة كتاب النص الرشدي للمرهج(2)، بصفحاته (269) الصادر عن دار الهادي بطبعته الأولى سنة 2005، تتألف من مدخل وأربعة فصول، حيث تناول المدخل موضوع اشكاالية الاتباع والابداع في القراءة الفلسفية العربية المعاصرة. وتناول الفصل الأول النص الرشدي بين الفكر الفلسفي اليوناني والفكر الاسلامي. أما الفصل الثاني فتناول النص الرشدي في القراءة العلمانية. بينما تناول الفصل الثالث القراءة الدينية للنص الرشدي. والفصل الرابع والاخير قدم لنا القراءة الأبستمولوجية للنص الرشدي.
لا شك أن أبن رشد عقل فلسفي مميز، ولفلسفته أثر كبير على الساحة الثقافية العربية والاسلامية والعالمية، ولنصوصه الفلسفية أهمية كبرى في بناء نظام معرفي وفلسفي نقدي وعقلاني مميز جذبت نحو فلسفته الكثير من الكتاب والدارسين والمفكرين، وهذا ما يتضح في حجم الدراسات والمؤلفات التي كُتبت عن أبن رشد والاهتمام بفلسفته ومنهجه الفكري، ويكفيه فخراً أنه قسم الفلسفة العربية والاسلامية الى مرحلتين وكان الفيصل بينهما أبن رشد، مرحلة ما قبل أبن رشد ومرحلة ما بعده، ولعل الوهن الفكري والفلسفي قد أصاب الواقع والثقافة العربية والاسلامية فيما بعد أبن رشد، ليأتي الدور العالمي للثقافة الأوربية ونهضتها للاهتمام بالفكر والمعرفة والفلسفة عموماً، وقراءة أبن رشد وتبني أفكاره ومنهجه وطروحاته تحديداً، من خلال شروحاته لأرسطو، وأن كان (أفرويس) الذي هو أبن رشد كما يسميه الغرب لاتينياً، قد شغل مساحة كبيرة في الفكر الأوربي، فهو قد شغل مكانة مميزة أيضاً في الدراسات العربية والاسلامية، في المشرق والمغرب، وان كان المرهج يرى أن الاهتمام بأبن رشد عربياً كان بسبب أهتمام الغرب به، فنحن لا نلتفت الى شيء الا بعد أن نرى من يشير الى منجزنا وتراثنا وثقافتنا ويقوم بدراسته، وتلك عقدة معرفية أصُبنا بها، فأن كان مغني الحي لا يُطربنا فقد يُطرب غيرنا، وحين يُطرب الغير نتمسك به وندعو له، لأنه أطرب غيرنا فلعله يُطربنا، وتلك عقدتنا المستديمة في ذاتنا المعرفية والثقافية.
لقد كشف المرهج في دراسته عن قراءات متنوعة ومتعددة آزاء النص الرشدي، أنطلقت تلك القراءات من أيديولوجية القاريء وتوجهاته الفكرية، ولذلك حدد المرهج ووضع ثلاث قراءات لأبن رشد، بمختلف توجهاتها داخل هذه القراءات، وهي :
1ـ القراءة العلمانية.
2ـ القراءة الدينية.
3ـ القراءة الأبستيمولوجية.
وقد حدد المرهج سمات وخصائص ومنطلقات هذه القراءات، وأوضح معالمها وروادها وتوجهاتهم.
فالقراءة الأولى (العلمانية) التي مثلها جمع من المفكرين العرب المعاصرين، ضمن التوجه العلماني، المادي منه أو القومي، كما هي مع فرح أنطون والطيب تيزيني ونايف بلوز، التي قاست أبن رشد وفق توجهاتها وجعلته يقترب من العقلانية والعلمانية والمادية. وتتحدد رؤية هذه القراءة كما يذكرها المرهج في تسعة منطلقات والتي نوجزها في : (3)
1ـ أرسطية أبن رشد، وبالتالي عقلانيته وواقعيته.
2ـ تقديم الفلسفة على الدين، أو العقل على النقل.
3ـ مادية أبن رشد، في مسألة قدم العالم وأزليته.
4ـ علمية أبن رشد وعقلانيته.
5ـ التأسيس لفصل الدين عن الدولة، من خلال تلك العلمية والعقلانية.
6ـ تغليب الجانب الانساني على الجانب اللاهوتي في فلسفة أبن رشد.
7ـ تخلي أبن رشد عن الجانب الديني في فلسفته وصبغها بنزعة علمية.
8ـ عالمية أبن رشد، من خلال طلبه للحقيقة اينما كانت، وأحد رواد الفكر التويري كما أعتمدته أوربا اللاتينية.
9ـ حصر الاخلاق بمفهوم الاخلاق الطبيعية وبما تقتضيه العلاقات الانسانية.
اما فيما يتعلق بالقراءة الثانية (الدينية) التي ذهب اليها جمع من المفكرين ومنهم محمد عبده ومحمود قاسم ومحمد عمارة وغيرهم، فقد جعلت أبن رشد في خانة الفلسفة الدينية والقرآنية، وسحبته الى الفكر الديني والى ساحة التوفيق بين الفلسفة والدين، كما صرح أبن رشد في أكثر من مؤلف له عن علاقة الحكمة بالشريعة، وجعل الاولى الأخت الرضيعة للثانية، وهذا ما صرح به في كتاب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)، وغيرها من مؤلفاته، وتنطلق القراءة الدينية هذه من المنطلقات الآتية كما نوجزها وهي :(4)
1ـ فلسفة أبن رشد دينية أو قرآنية.
2ـ عقلانية أبن رشد عقلانية دينية تجعل الفلسفة خادمة للدين (اللاهوت).
3ـ غلبة الجانب الميتافيزيقي والروحي في فكر أبن رشد وأقترابه من المتصوفة القائلين بوحدة الوجود العقلية.
4ـ توفيقية أبن رشد بين الحكمة والشريعة، ومقصود الشرع هو مقصود الحكمة أيضاً.
5ـ حكومة الفيلسوف حكومة شرعية، لا لأنه فيلسوف بل لأنه متنفقه في الدين ويعرف قوانين التأويل التي تجيز له فهم القرآن بما تقتضيه الحكمة والبرهان.
6ـ نقد أبن رشد للفلاسفة المسلمين عامة وللغزالي خاصة من خلال اعتماده على فكر اسلامي بعيد عن فلسفة أرسطو، أو هو أنتصار للرشدية الاسلامية على الرشدية الارسطية.
7ـ حصر الأخلاق بالتعاليم الدينية وتجاوز مفهوم الاخلاق الطبيعية.
8ـ احلال الميتافيزيقا محل العلم، والعلم في خدمة الميتافيزيقا.
اما فيما يتعلق بالقراءة الثالثة (الأبستمولوجية)، تلك التي قام بها المفكر العربي محمد عابد الجابري وتقترب منها كثيراً قراءة ماجد فخري ومحمد عاطف العراقي وحسام الآلوسي، كونها قراءة معرفية، وقراءة الجابري الأبستيمولوجية يصفها المرهج بأنها قراءة (حيادية)، فهي قراءة تقترب من القراءة العلمانية في أشياء، وتقترب من القراءة الدينية في أشياء أخرى، ولكنها ليست توفيقية، وهي قراءة ليست بريئة أيضاً، وأن كانت ذات منهجية علمية، لأنها وقعت في الجانب الأيديولوجي من جانب والعرقية والعنصرية من جانب آخر، ومنطلقات القراءة الابستمولوجية تتلخص في : (5)
1ـ فكر أبن رشد فكر أبستمولوجي فلسفي علمي لا فكر ثيولوجي ديني.
2ـ نقدية أبن رشد وتبنيه للبرهان، وتجاوزه للخطاب البياني والجدلي والعرفاني، لأنه خطاب معادٍ للعقل والبرهان.
3ـ أرسطية أبن رشد والتي تعني عقلانيته، وأستبعاد أي أثر للافلاطونية المحدثة في فلسفته.
4ـ الفصل بين الفلسفة والدين والذي يعني أيضاً الفصل بين الدين والدولة.
5ـ الربط بين السياسة والاخلاق بالعلم.
ويرى المرهج ان هذه القراءات لم تكن بريئة أو محايدة، وانما وضعت أبن رشد في قالبها الفكري وصاغته وفق أطرها الفكرية، ووقعت تحت قيد التقديس للتراث، فـ (القراءات الثلاث التي تعرضنا لها على الرغم من الاختلاف فيما بينها وأختلاف مشاربها الاانها ما زالت تحمل تلك النظرة التقديسية للتراث بما فيها القراءة الأبستتيمولوجية التي غضت الطرف عن الكثير من نقاط الضعف في فلسفة أبن رشد ... ان جميع القراءات كانت الأيديولوجيا هي المحرك الرئيسي للفعل المعرفي فيها بما في ذلك القراءة الابستيمولوجية التي حاولت أن تخفي ذلك الجانب في قراءتها الا أنه يعلن عن نفسه بين اللحظة والأخرى وذلك ما بدا واضحاً في قراءة الجابري.)(6)
وموقف المرهج النقدي من المفكرين العرب في القراءات الثلاث للنص الرشدي تتلخص فيما يأتي : (7)
1ـ بالنسبة للقراءة العلمانية فأنها أثبتت مادية أبن رشد، الا أنه رفض ذلك وذهب للقول بمثاليته، كما ان أصحاب القراءة العلمانية لم يكن هدفهم أبن رشد بقدر ما كان همهم تقرير أهمية الغرب وضورة تبني طروحاتهم في الفكر ونبذ التراث، وكأن أبن رشد قد مثل لهم تلك الركيزة التي من الضروري الأتكاء عليها تدعيماً لموقفهم وخروجاً من سلطة التراث، لأنها مبرر للتخلي عن التراث من التراث نفسه. وبالتالي فالمرهج يميل الى القول بمثالية أبن رشد لا ماديته، ولاهوتيته مقابل وحاولة اثبات العلمانيين مادية أبن رشد، وكذلك فأبن رشد ـ من وجهة نظر المرهج ـ ذهب الى دمج الفلسفة والدين مقابل قول العلمانيين بفصل الفلسفة عن الدين.
2ـ بالنسبة للقراءة الدينية لأبن رشد فأن المرهج يتفق معها بقولها بمثالية أبن رشد لكنه لا يميل الى القول بأن فلسفة أبن رشد فلسفة دينية أو قرآنية، لأن النص الرئيس الذي أشتغل عليه أبن رشد هو النص الفلسفي الأرسطي لا القرآني، الا أنه في الوقت نفسه لا يريد أن يخرج عما يقتضيه النص القرآني أو تقتضيه الشريعة. وبالاضافة الى ذلك فالقراءة الدينية ـ من وجهة نظر المرهج ـ كانت مشغولة بهاجس اسمه المستشرقون، سواء بالتبني أو النقد، والذي يستشعره القارىء ان طريقة الدفاع عن أبن رشد تبدو ضد أبن رشد أكثر منها لصالحه، وتقلل من أهمية طروحاته.
3ـ أما بالنسبة للقراءة الأبستيمولوجية فيرى المرهج انها على الرغم من التزامها بالجانب المعرفي الا أنها بقيت مغرمة بالعقلانية الغربية، واثبات مركزية العقل الأوربي وهامشية العقل العربي. كما انها لم تلتزم بالمنهج الابستيمولوجي بصورته الغربية كما هو مع باشلار وفوكو، فأبستيمولوجيا الجابري تتبنى الدعوة الى رشدية عربية معاصرة ضمن ما تقتضيه توجهاته الأيديولوجية التي تريد أن تثبت أرجحية العقل المغربي على العقل المشرقي، من خلال النظام النسقي الذي وضعه الجابري أو ثلاثيته المعرفية، (البيان والعرفان والبرهان)، والتي حاول أن يحشر فكر المشرقيين في نظامين هما "البيان" و "العرفان" أما المغاربة فقد خصهم الجابري بـ "البرهان"، وبعد هذا وذاك فالمرهج يرى أيضاً انه على الرغم من نقد الجابري في قراءته الأبستيمولوجية للبيان ودعوته للبرهان، الا أنه صاغ خطابه الفكري والمعرفي بلغة بيانية عالية ذات شكل جناسي، وتغلب على لغته المسحة الخطابية أكثر من البرهانية.
قراءة علي المرهج لفلسفة أبن رشد :
الدراسة القيمة التي خلص لها المرهج ليس في قراءته لمن قرأ أبن رشد من المفكرين العرب المعاصرين فحسب، وانما للقراءة الموضوعية والفلسفية الدقيقة التي قرأ فيها فلسفة أبن رشد، وهو جهد كبير قام به في الفصل الأول من الكتاب قبل أن يذهب للقراءات العربية للنص الرشدي، وتلك كانت مهمة ومعاناة شاقة مارسها الكاتب في قراءة فلسفة أبن رشد وقرّاءه، فهي قراءة تأويلية تكاملية وشاملة ذهب اليها المرهج ليكون أميناً ومدركاً لكل ما قاله أبن رشد وما قام به القراء من الباحثين لنقد وتحليل فلسفة أبن رشد، وأرى أن قراءة المرهج لأبن رشد في كتابه لا تقل أهمية عن القراءات التي قدمها في فصول كتابه، وهي قراءة وضعت أبن رشد في مساحات فكرية وفلسفية متنوعة، من يونانية أفلاطونية وأرسطية وأفلاطونية محدثة، الى اسلامية مشرقية بين كلامية وعرفانية ودينية، يقول المرهج واصفاً فلسفة ومنهج وطريقة ولغة أبن رشد : ( أصبحت فيه لغة أبن رشد الفلسفية تقترب أو تكاد تكون لغة لاهوتية يحكمها علم الكلام والفلسفة المشرقية الاسلامية)(8)
وهذه قراءة مشرقية بحتة تضع أبن رشد في خانة فلاسفة المشرق الكبار ومنهجهم المثالي الذي يقترب من الدين ويوفق بين الفلسفة والدين، شأنه شأن الفارابي وأبن سينا والغزالي، الذين تركوا أثرهم على أبن رشد رغم نقده لهم، من خلال اعتماد منطق أرسطو وطريقته في التفكير، فهو لا يختلف عنهم الا بالتأويل، وهو الطريق الذي دخل من خلاله أبن رشد لنقده للفلاسفة، (فباستطاعتنا القول أن نزعة أبن رشد العقلية هي نزعة أسترضائية تبرر للعقل حركته بالقدر الذي يسمح به الشرع بوصف عدم التعارض الموجود بينهما، وبوصف دعوة الشرع للتعقل والتفلسف والانفتاح على الآخر، ما زال هذا الآخر هو الذي بيده مفاتيح الحكمة، لذلك شرح أبن رشد أرسطو ولخص الضروري من المعرفة العلمية في فلسفة أرسطو، وكان جل همه نقل فكر أرسطو في وقت دعوته الى معرفة علوم الغير، ولكن في الوقت نفسه أضفى على فلسفة أرسطو بوعي أو بدون وعي فهماً يمكن أن نسميه رشدياً نتيجة قراءته للفكر الاسلامي الكلامي وشراح أرسطو والفارابي وأبن سينا فضلاً عن التزامه النص الديني.) (9)
ولعل البعض وجد في فلسفة أبن رشد نزعة علمانية ومادية، كم ذهب أصحاب القراءة العلمانية، فسحبوا أبن رشد الى ساحتهم وأضفوا عليه مسحة علمانية، ولكن موقف المرهج من ذلك يتضح بقوله ان أبن رشد : (جعل هناك مساحة أوسع للشريعة أو فتح مجالاً أمام السلطة الشرعية لتكون قيمة على السلطة الحكمية، بوصف انها تستمد سلطتها من السماء، وبالتالي شمولية هذه المعرفة على المعرفة العقلية، بل ان المعرفة النبوية تحتوي ضمناً المعرفة الحكمية، ولهذا فأبن رشد في الوقت الذي يبدو عليه نصه دعوة للانتصار للفلسفة، نراه يجعل من الفلسفة تابعة للشريعة، على الرغم من انه يُقِصُر في بعض مواضيع الشريعة على ما يتعلق بالأخلاق وتدبير الناس والفضيلة، الا انه جعل الشريعة تحتوي على الطريقين "النظري والعملي").(10)
وبالتالي فأن فلسفة أبن رشد وفق منظور المرهج، لم تستطع الخروج من النسق الفلسفي المشرقي رغم نقده للفلسفة المشرقية، وأعتماده العقل والبرهان، ونقده للخطاب الجدلي والبياني، فـ ( ان أبن رشد فيما يخص الشريعة واقع تحت تأثير الغزالي، بل ولا يريد هو الخروج عن منظومة الغزالي الشرعية، الا بما تقتضيه الشريعة نفسها في الدعوة لأستخدام العقل، والعقل لا يبحث الا بما يجيزه قانون التأويل الشرعي، وبهذا تكون المنظومة الأرسطية بخدمة المنظومة الغزالية عند أبن رشد والتنظير لها من جديد ووضعها في اطار يسمح لها للخروج من التصوف والعرفان الى العقل والبرهان وفهم الطبيعة لا بما يقتضيه قانون العادة، بل بما يقتضيه قانون السببية الذي لا يتعارض مع ادراك الذات الالهية، اذا لم يكن هو المؤيد لها على ضوء ان لكل سبب مسبب وصولاً الى مسبب الأسباب الذي تريد الشريعة اظهار فاعليته وبأنه الوجود الحق.)(11)
فأبن رشد قد تم تصويره في المغرب وتحديداً من قبل محمد عابد الجابري، بانه رائد العقلانية والبرهان والتنوير، وانه قدم الفلسفة على الدين، وبالتالي تخلصه من القيود الدينية والتحرر من النزعة اللاهوتية، ولكن المرهج يرى خلاف ذلك، ويرى ( ان أصالة أبن رشد الفلسفية تكمن في هذه النقطة أي الربط بين ما هو كلامي وما هو فلسفي والأرتقاء بالكلامي لأجل أن يكون فلسفياً، والنزول بمستوى الفلسفي الى مستوى الكلامي، وذلك ما يتبين أكثر حين البحث في المشكلات الأخرى التي عالجها أبن رشد.) (12)
ويبطل المرهج القول الذي ذهب اليه مجموعة من الباحثين حول أرسطية أبن رشد الصرفة، وهو ما يميز أبن رشد في عقلانيته على غيره من الفلاسفة، الا أن المرهج يرى ان أبن رشد قد وظف أرسطو توظيفياً يقترب من الشريعة، وهناك فرق بين الفلسفتين، ( ففلسفة أبن رشد ليست نفسها فلسفة أرسطو، فهي على الرغم من أقترابها من هذه الفلسفة بشكل كبير الا انها تختلف عنها بنقاط جوهرية، مثل مسألة ايمانه بعلوم الأنبياء التي لم يمر عليها أرسطو. ومسائل صفات الله وأسماء الله هذا فضلاً عن مشكلة الألوهية نفسها، فالمعالجة الرشدية تكاد تختلف بشكل كبير عن أرسطو، فضلاً عن مشكلة العالم، فقد أقترب أبن رشد مرة من المثالية، ومرة من الصوفية، ومرة من الكلاميين، وبالتالي مرة من اللغة القرآنية، وتصور الذات الالهية ومشكلة الخلف، تصور يسمح به النص بنفس القدر الذي يسمح به تأويل النص الأرسطي في ضوء النص القرآني. وبالعكس، أي تأويل النص القرآني في ضوء توجهه الى أرسطو.) (13)
وبالتالي نستنتج من قراءة المرهج ان أبن رشد مشرقي الهوى والفلسفة بامتياز في فلسفته رغم انه ابن المغرب، وبالتالي لا يمكن عد أبن رشد الا تابعاً أو أبناً شرعياً للمشرق، رغم كل المحاولات التي سعى لها الكثير من المفكرين العرب، ومنهم الجابري الى بيان استقلالية أبن رشد عن المشرق وعدم تبعيته له، فيبقى أبن رشد ذلك الفيلسوف الذي سار على النهج العربي الاسلامي وعلى خطى الفلاسفة المشرقيين رغن نقده لهم الا انه تأثر بهم وداخل بين فكره وفكرهم، ولم ينفصل عن منظومة المشرق الميتافيزيقة والعرفانية والمثالية. وأما قول الباحثين بمادية أبن رشد وعلمانتيه انما هي دعوة غربية بامتياز، وهي توظيف غربي لأبن رشد أو أبن رشد في عيون غربية، وهذا الذي كنا نتمناه من المرهج في دراسته، سواء في كتابه هذا او في دراسات قادمة وهو الكشف عن قراءات المستشرقين لأبن رشد، فهي قراءة تحمل الكثير من المعلومات والموضوعات، وهي التي ربما تكون الدافع الرئيس التي وجهت وحركت رواد القراءة العلمانية لأبن رشد بأن يقراؤه بعيون علمانية، وأن ينسحب الى ساحتهم وأن يغضوا النظر عن كثير من التوجهات الدينية والاسلامية والمثالية والكلامية التي ذهب اليها أبن رشد في فلسفته، والتي كشف بعض ملامحها ومعالمها الدكتور المرهج في دراسته هذه. وقراءة المرهج التأويلية هذه قراءة منفتحة لم تغلق الابواب ورائها وانما دعت الباحثين والدارسين لتقديم رؤى وأفكار وقراءات معرفية للفلسفة الاسلامية عموماً ولفلسفة أبن رشد تحديداً، وهي قراءة أستطاعت أن تتبع منهجية أكاديمية في تحليل القراءات العربية الفلسفية للنص الرشدي من خلال كشف المضمر من الخطاب المعرفي والثقافي والغوص في أعماق أنساق تلك القراءات المتعددة وبيان الدافع الذي كان يوجه قراءات الدارسين وكشف الأيديولوجي من الأبستيمولوجي في قراءة النص الرشدي في الفكر الفلسفي العربي المعاصر.
د. رائد جبار كاظم. كاتب وباحث أكاديمي. واستاذ الفلسفة المساعد في الجامعة المستنصرية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الاستاذ الدكتورعلي عبد الهادي عبد الله المرهج. كاتب وباحث أكاديمي من العراق. أستاذ الفلسفة والفكر العربي المعاصر في قسم الفلسفة ـ كلية الآداب ـ الجامعة المستنصرية. له اضافة الى الكتاب أعلاه مجموعة من الكتب والبحوث والمقالات، منها كتابه عن الفلسفة البراجماتية ودراسة فيلسوفها ومؤسسها بيرس. وكتاب علي الوردي وآراؤه المنهجية والفكرية (مشترك). وكتاب الإصلاح والنهضة، دراسة في إمكانات ومعوقات الإصلاح في الواقع العراقي، (مشترك). اضافة الى البحوث والدراسات الأخرى والمقالات في مجلات وصحف عربية وعراقية ومواقع ألكترونية متعددة.
(1) ينظر: د. عامر عبد زيد رابط المقال في الحوار المتمدن : http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=100387
(2) ينظر : للفائدة رابط كتاب النص الرشدي في مكتبة نرجس. http://www.narjes-library.com/2016/08/blog-post_346.html.
(3) ينظر: علي عبد الهادي عبد الله. النص الرشدي في القراءة الفلسفية العربية. ط1. دار الهادي. بيروت ـ لبنان. 2005. ص 15ـ16.
(4) ينظر: المصدر نفسه ص 16 ـ18.
(5) ينظر: المصدر نفسه. ص 19ـ20.
(6) االمصدر نفسه. ص 249.
(7) ينظر: المصدر نفسه. ص 249 وما بعدها.
(8) المصدر نفسه. ص44.
(9) المصدر نفسه. ص 51.
(10) المصدر نفسه. ص52ـ53.
(11) المصدر نفسه. ص 56.
(12) المصدر نفسه. ص 60.
(13) المصدر نفسه. ص 63.

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...