⏪⏬
على دخان مبخرة شرقية.. نرتحل إلى عالم متوهج بإيقاعاته المتداخلة، ونقلب صفحات مشرقة تسطع ببريق الذهب , شواهد تشى بعطر التاريخ , نمضى ونتأمل: أحجار المآذن والقباب والعقود والوكالات والحوانيت , تتفاعل بداخلنا أحلام العظمة القديمة، ونحن نجوب عالم "خان الخليلى" فى هذا الحى الأشهر, ومن خلال المواقف والأحداث التى أبدعها أديبنا العالمى نجيب محفوظ: شكل لنا صورة مصرية واقعية، غزيرة التفاصيل, نابضة بالحياة, برع فى إلتقاط ألوانها وظلالها المتباينة فى فترة مضطربة من تاريخنا, خلال الحرب العالمية الثانية، فيقدم عناصر الديكور الواقعى:

وبنظرة من أعلى، يقدم نجيب محفوظ صورة أخرى بالغة الدقة لمعالم خان الخليلى, فالعمارات قد شيدت على أضلاع مربع كبيرة المساحة ".. فكانت نوافذ العمارات وشرفاتها الأمامية تطل على أسطح الحوانيت, وتأخذ نصيبها من الهواء والشمس".
"ويرى فى أسفله مربعات كثيرة من أسطح الحوانيت, تخترقها شبكة معقدة من الممرات والطرقات، ويرى فيما وراء ذلك مئذنة الحسين فى علوها السامق تبارك ما حولها".
وقد عـــرض أدباؤنا في إبداعاتهم لكثير من التقاليد و العادات الموروثة وأنماط الحياة في مجتمعنا ، ومنها مظاهر الاستعداد و الاحتفاء بشهر رمضان – على الرغم من ندرتها – إلا أننا نجد أديبنا العالمي " نجيب محفوظ " قد استعرض استعدادات أسرة مصرية لهذا الشهر الكريم من خلال رائعته " خان الخليلي ".. وكان لنشأة محفوظ فى ميدان بيت القاضى ودرب قرمز على بعد خطوات من حى سيدنا الحسين وخان الخليلى – احياء القاهرة الطيبة الاصيلة – أثر كبير فى اعماله الادبية خاصة الثلاثية وزقاق المدق وخان الخليلى .. وكانت رواية "خان الخليلى" لوحة متميزة غنية بالتفاصيل وتشابك العلاقات الإنسانية ، ثرية بالأضواء والظلال ، عامرة بنبض الحياة ,كما أفسح لنفسه المجال لتخليد صورة مصرية مليئة بالدفء و الحميمية 00 تنسحب رويداً و بهدوء من واقعنا المعاصر !
عائلة عاكف أفندى فى رحاب مولانا الحسين
إلـــــي هذا الحي العتيق 00 بكل ما يملكه من رصيد تاريخي و فني ضخم ، أنتقلت أسرة " عاكف أفندي " من حي السكاكيني – هرباً من غارات الألمان خلال الحرب العالمية الثانية – و هو ما فسره رب الأسرة في تبريره لهذا الانتقال : " هــــذا الحي في حمى الحسين – رضوان الله عليه – و هو حي الدين و المساجد ، والألمان أعقل من أن يضربوا قلب الإسلام و هم يخطبون ود المسلمين " !
" وأقترب رمضان ، فلم يعد يفصل بين هلاله و بين الطلوع سوى أيام قلائل ، ولكن رمضان لا يأتي على غرة أبداً ، و تسبه عادة أهبة تليق بمكانته المقدسة ، ولم تغفل أم أحمد عن ذلك ، وكانت في الواقع المسئولة الأولى عن جلال الشهر و جماله ، فجعلت منه يوماً حديث الأسرة ، قائلة : أنه شهر له حقوقه كما له واجباتـه ، وكان قولها موجهاً لأحمد ( أبنها الموظف بوزارة الأشغال ) فأدرك مغزاه ، وقال مدافعاً عن نفسه :
رمضان له حقوقه ما في ذلك من شك ، ولكن الحرب ضرورة قاسية جارت على جميع الحقوق !
فقالت الأم بلهجة دلت على عدم الارتياح :
لا قطع الله لنا من عادة !
والنقل والكنافة و القطايف ؟!
و وقعت هذه الأسماء من نفسه موقعاً ساحراً – على استيائه – لا لاشتهائها فحسب – ولكن لما دعته من ذكريات الشهر المحبوب وعهود الصبا 00 فقال بلهجة حازمة رغم تحرك الحنان في قلبه :
لندع الكماليات في ظروفنا الحضارة القاسية ، ولندع الله الكريم أن يعيننا على ضروريات الحياة ، وكان اعتماد الأب " عاكف أفندي " على ولده أحمد فأشفق عليه وقال :
حسبنا قليلاً من الصنوبر و الزبيب لضرورتهما في الحشو ، ونصف لفة قمر الدين لتغيير الريق ، و لنقنع من الكنافة بمرة واحدة ، ومن القطايف – وهذه لا تقلـى بالسمـن – بمرتين وليس ذلك عليك بكثير !
فهاله الأمر وأيقن أنه سينفق في هذا الشهر ما اعتاد توفيره كل شهر بالرغم من ضآلته ! 00 غير أنه تذكر شيئاً لا يقل خطورة عن الكنافة و النقل فقال : واللحوم ؟!
فقالت أمه بما لها عليه من دالة :
سمحت الحكومة ببيع اللحوم طوال الشهر الكريم ، و ما ذلك إلا أن قطعة اللحم حقيقة بأن تسند قلب الصائم المتهالك !

" وجـاء مساء الرؤية ، و انتظر الناس بعد الغروب يتساءلون ، وعند العشى أضاءت مئذنة الحسين إيذانا بشهود الرؤية – وقد اجترءوا بالإضاءة على إطلاق المدافع لظروف الطوارئ – و ازينت المئذنة بعقود المصابيح مرسلة على العالمين ضياء لألأ ، فطاف بالحي و ما حوله جماعات مطبلة هاتفة " صيام 00 صيام 00 كما أمر قاضي الإسلام ! 00 فقابلتها العلماء بالهتاف والبنات بالزغاريد و شاع السرور في الحي كلـــــه "
وكان أحمد عاكف يتابع من النافذة ، فلم يتمالك أن يقول :
- أين من رمضان شارع قمر ( حيث مسكنهم القديم بالسكاكيني ) هذا الرمضان البهيـــج ؟
فابتســم والده و قال :" وماذا رأيت مما رأيت يا غلام ؟ 00 أشهدت رمضان في حينا الجديد هذا قبل اندلاع الحرب ؟ 00 أنه النور و السرور ، أنه الليل المنير اليقظان ، أنه الليل العامر بالسمار و المنشدين و اللهو البريء ، وفي أيام الفتوة والصحة ، كنت أسرى قبيل السحور بساعة في جمع من الأخوان من السكاكيني إلي حينا هذا ، نتسحـــــــــر كوارع ولحم رأس وندخن البوري في مقهى الحسين ، و نستمع إلي أذان الشيخ على محمود ثم نعود مع الصباح الباكر ".
كان الشيخ على محمود نجـــــم فن التواشيح و التلاوة ، كما كان مؤذناً و مقرءاً بجامع المشهد الحسينى ، و أسلوبه الفريد - مع بطانته - في السيرة النبوية و مدح النبي و الإنشاد ، في ليالي رمضان و المناسبات الدينية ، جعل منه أسطورة لن تتكرر في هذا الفن ..
فضل الشيخ الاقامة بشارع الباب الأخضر بجوار ضريح سيد الشهداء إلتماساً لبركته ، وكان يصعد إلي المنارة القديمة للمسجد ليؤذن للصلــــــوات الخمس ، ويسبق أذان الفجر بتسابيح توقف كل السائرين حول مسجد الحسين ، وكان عندما يقبل على ساحة الميدان " يخلع نعليه " تأدباً ويسير حافياً إجلالاً لسبط رسول الله !
ونعود الى رواية خان الخليلى .. حيث مضى أحمد – كعادته الجديدة – إلي مقهى الزهرة ، ليجتمع بأصدقائه حيث دار الحديث عن سهرات رمضان وكيف يقضونها .. و روى نجيب محفوظ كيف كابد أحمد عاكف في اليوم الأول من أيام الصيام ، وقد شق عليه ألا يشرب قهوته ويدخن سيجارته على الريق , وعندما عاد من عمله إلي البيت و قد أنهكه التعب ، فاستلقى على فراشه وراح في نوم عميق صحا منه قبيل الفطار بساعة واحدة ، و في طريق عودته من الحمام شاهد والده في حجرته متربعاً على سجادة الصلاة يقرأ في المصحف ، بينما أمه في المطبخ قد شمرت عن ساعديها ، فوقف عند عتبة المطبخ و جال ببصره متشمماً الروائح الزكية ، وطاف بطبق كبير حافل بعناصر السلاطة الخضراء " خضرة يانعة و حمرة فاقعة ! " فانشرح صدره وتحلب ريقه 0 وأنتقل إلي "سلطانية الفول " فلم يستطع صبراً و زايل مكانه ، و في الصالة مر بسفرة الطعام و قد هيئت ، فوضع العيش على ركن منها و فرقت أمام كراسيها أكواب الماء و توسطها طبــــق ملآن بالفجل ! 00 فهرع إلي حجرته ، وفتح النافذة ليقطع الوقت المتبقي بالنظر ، و قد أوشك الطريق أن يخلو إلا من باعة الزبادي 00 و من خلال النوافذ المفتوحة للبيوت المقابلة ، شاهد موائد الطعام الحافلة و على الشرفات انتظمت " القلل " لتبرد ، و تناثرت أطباق الخشاف و أتى الهواء بروائح التقلية " فتاه في دنيا الطعام الساحرة " ! 00
وحـانــت اللحظة المرتقبة 00 فدوى المدفع ، وتصايح الأطفال في الحارة ، وانساب صوت المؤذن جميلاً رائقاً " الله أكبر 00 الله أكبر " 00 والتف ثلاثتهم حول السفرة " ثم غيروا ريقهم على عصير قمر الدين حتى رووا ظمأهم ، و أتت الأم بطبق القول المدمس فأقبلوا عليه بنهم شديد و تركوه أبيض من غير سوء " !
ولكــــن لم يزل في البطون متسع فجيء باللوبيا و الفلفل المحشو و اللحم المحمر ، وتعاونت الأيدي والأعين و الأسنان في عزم وسكون ! 00وقبيــــل العشاء ، غادر أحمد البيت إلي مقهى الزهرة والتقى بأصحابه فراحوا يتسامرون , مضي كمال خليل يتحدث عن ليالي رمضان منذ أقل من ربع قرن ، و كيف كانت بيوت السراه تظل مفتوحة طوال الليل تستقبل القاصدين و مشاهير المقرئين حتى مطلع الفجر .. كما تجدر الإشارة إلي أن سراى عابدين كان يقام بساحته سرادقا لإحياء ليالي رمضان ، وكان نجومه ملوك وسلاطين دولة القرآن , وكانت القاهرة تتألق بباقات من النور والعظمة , انقضى عهد السرايات والبيوتات العريقة ، وراح معه كثير من القيم والأشياء الجميلة فى حياتنا !
وبالعود الى رواية خان الخليلى .. مضت السهرة بالأصدقاء حتى مر بالمقهى جماعة من الصبيان والبنات ملوحين بالفوانيس , هاتفين بأناشيد رمضان سائلين العادة " !
ولمــــــا خلا أحمد عاكف إلي نفسه في حجرته , تناسى أحاديث شلة المقهى غير أنه لم يستطع أن يصفو للمطالعة ، وتــذكـر – فيما يشبه الدهشة – أن شهر رمضان ذو صلة قديمة بقلبه ، ففي شهر رمضان خفق قلبه خفقة الحب الأول ، فيه رأى الفتاه التي رغب صادقاً أن يشاطرها حياته و أخفق ، و ها هو ذا رمضان من جديد ، و ها هو ذا قلبه ينفض عن صفحته الضباب البارد القاتم ليستقبل شعاعاً دافئاً منعشاً ، و كان يلتمس وراء المصادفات حكمة خفية والأحلام هي الفن الوحيد الذي أتقنه في دنياه ! 00 وغمغم في حيرة وسرور : " ماذا وراءك يا رمضان " ؟!
" ثــــــم كانت ليلة القدر من الشهر المبارك ، فاحتفلت بها الأسرة احتفالا بدا في الدجاجة المحمرة التي ازدانت بها سفرة الإفطار و صينية الكنافة00 وراحت الست "دولـــت" تدعو لبعلهــــــــا بالصحــــة و لولديها بطول العمر والسعادة أما عاكف أفندي – الأب – فذهب إلي مسجد سيدنا الحسين لشهود احتفال رابطة القراء بالليلة المفضلة فكانت ليلة سعيدة ! 00 لم يتبق من الشهر الفضيل الا ثلاثة ايام واسف " احمد " على اقتراب نهاية الشهر " وهل ينسى فضله ورحمته " ..
وجمعـــت مائدة رمضان الأخيرة أسرة عاكف أفندي وقد انضم إليهم " رشدي " الابـــن الأصغر عقب عودته من مقر عمله بأسيوط , و تبادل مع أخيه أحمد أخبار الحرب – الحرب العالمية الثانية – والغارات التي انتقلوا بسببها من حي السكاكيني إلي خان الخليل ورحاب سيدنا الحسين 00 وتحدثا عن عالم الفكر والكتب والتأليف – أمنية أحمد عاكف – ولبثا يتحدثان حتى انطلق آخر مدفع إفطار فقدمت الأم صحاف السمك التقليدي وأكلوا هنيئاً وشربوا مريئاً 00 !
ومن النافذة المطلة على الطريق المؤدى الى خان الخليلى راحت الست " دولت " تتشمم " رائحة الكعك الطيبة فى الجو "!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق