⏪⏬
خرج مبكراَ من مكتبه الكبير في الوزارة، تمنى عدم المرور بالحارس الذي يصر على أخذ التحية العسكرية بقوة تكاد تخسف الأرض من تحته، بالكاد يسيطر على ارتباكه أمام رهبة تلك التحية الصارمة، وكأنها تود تأكيد سطوة الثورة الوليدة.
استغرب سائقه لمّا همَ أن يفتح له باب السيارة الفارهة، مسدلة ستائر الشبابيك الخلفية، عندما طلب منه أن يأخذ بقية اليوم إجازة، قبل ذهابه أعطاه بعض النقود، وكأنه يقدم له رشوة عتقه من الوصاية الرسمية، كي يشتري ما يشاء لأولاده، أخذ السائق المال بابتسامةٍ ممتنة، مطّت شاربه الكث الذي يظلل شفته العليا، يشبه شارب ذلك الوجه مكفهر الملامح دوماً، الذي كان يهتز بعنف كلما علا صوت صياح مسجونيه داخل الزنازين الضيقة.
أراد أن تتسع خطاه ما استطاع، بعد أن رمى ربطة عنقه على الأرض في نفورٍ كبير، رغم الألم الذي يوخز ساقيه اللتين تورمتا مراراَ وكسرتا أكثر من مرة على مدار أكثر من خمس عشرة عاماً من الضرب وتهاوي السياط، كُفلتا تعيينه مستشاراً للوزير، أحد رفاقه العسكريين ممن اعتلوا الدبابات التي اقتحمت القصر الجمهوري.
لم تمضِ سنة واحدة على توظيفه في ذات المبنى الفخم قبل تعرضه للاعتقال أمام ارتعاب قلبٍ هجس باضطراب نبضاته عن بعد، في ذات اليوم الذي اتفقا فيه على تقدمه لخطبة صاحبته من والدها، رغم تخوفه من عدم موافقته بسبب نشاطه السياسي. ما أن استلَم مهام منصبه، التي لم يتبين منها شيئاً لحد الآن سوى تلقي مكالمات هاتفية، لم يستطع توطيد نفسه على الرد على مجاملتها بما يتطلب وضعه الجديد من لباقة، ورسائل التهاني والمباركة التقليدية، أخذ يبحث في سجلات الموظفين ويسأل من بقي من زملائهم عنها، فعلم أنها قد تزوجت منذ ما يقرب من إثنتي عشرة سنة، ثم سافرت مع زوجها وطفلتهما إلى الخارج، ظل يتوقع أن يراها في أي وقتٍ أو مكان، وليس فقط في غرفة مكتبه الخانقة، رغم تزويدها بشتى وسائل الراحة المرفهة التي لم تلج تفكيره يوماً، تتقدم منه، بعد أن تأخذ منه سكيرتيرته التي يثيره حسنها كفتىً مراهق الإذن بدخولها، وهي تنظر إليه بعينين يتمنى أن يبدد إشراقهما ضبابية أيامه دونها، تحملان حنو ابتسامتها التي كانت ترتب له تفاصيل عالمه، ينزاح عن ألقهما دمع ذلك الوداع الصامت حتى الباب الخارجي للوزارة، رغم خشونة تحذير رجال الأمن من التجمع، فيتمعن في ملامح وجهٍ لم تنل منه السنوات التي غيبته عنها، تتدلى فوق جبينه خصلٌ من شعرها الطويل فاحم السواد وذلك العطر الذي كان يغار أن يشمه سواه، رغم كل أفكاره التقدمية.
حين أتاه أحد الصحفيين لإجراء حوار معه حول سنوات القهر التي أمضاها داخل أقبية النظام السابق، والتي شق عليه ترجتمها إلى كلماتٍ ترضي فضول القرّاء المتشوقين لكشف أغوار الجراح النازفة داخله، وتقتات على أعصابه ليل نهار، كل ما تمناه عندها أن تطلِع هي على تلك الجريدة، ذات التوزيع المرتفع في كثير من دول العالم، وأن تشاهد صورته التي تصدرَت الصفحة، وإن أظهرته بعينين شبه مغمضتين، يحاول إخفاء جفلته أمام وميض الكاميرا الساطع، كوهج الضوء الذي كان يُسلَط على وجهه أثناء جلسات تحقيق كانت تنتهي دوماَ بإرغامه على التوقيع على أوراق لم يستطع معرفة ما دوِّن فيها من اعترافات، دون أن تتضمن الشتائم والصفعات والركل والبصق الممتزج بلزوجة عرق وجهه وخيوط الدماء النازفة من أنفه وشفتيه المتورمتين.
خطت أقدامه في شوارع لم يتوقع أن الحظ سيحالفه برؤيتها مجدداً، ولو من خلف القضبان التي تنتصب أمام عينيه، لم تخلُ من سيارات الجيش والقطعات العسكرية ورجال الأمن، أكثر ما لفت انتباهه المتخَفون منهم، وقد ظن لوهلة، ورعدةٌ خفية تتناوش أفكاره، أنهم يترصدون خطواته دون أي شخصٍ آخر، راح يتنقل، بلا وعيٍ منه، بين الأرصفة التي ألفت تسكعه الطويل في أعوامٍ مضت، بل كاد ينسل إلى الأزقة التي كان يلجأ إلى تشعبها هرباً من مطارداتهم، وكأنه سيجد كل أبواب البيوت مشرعة لإيوائه.
مرّ أثناء سيره، منهك القوى، من تحت الأعلام الخفاقة ولافتات بيضاء ترفرف بكلماتٍ متأججة الحماس، كبيرة الخط ومتوهجة الحمرة، فيما الأغاني الوطنية الجديدة، كما لو تم تأليفها وتلحينها خلال عدة دقائق، تصم الآذان، حتى وجد نفسه أمام ذلك المقهى القديم الذي اعتاد وأصحابٌ لا يعرف عن أخبار أغلبهم شيئاً الجلوس فيه، يخفون تحت حصير أرائكها المخلّعة منشورات الحزب قبل أن يوزعوها فيما بينهم بمنأى عن العيون، بينما تصخب قهقهة أحاديثهم التافهة ونكاتهم الفاضحة على مسمع من الجميع، وخاصةً المخبرين السريين الذين كانوا يميِزونهم جيداً، اتخذ ركناً قصيا عن الشارع الضاج بالحركة القلقة، يواجهه زعيم البلاد الجديد في صورةٍ من الصور التي باتت توَزع في كل مكان، بإطارٍ مذَهب، يتطلع إلى وجوه الجالسين المثقلة بشتى التساؤلات، لا يدري ما الذي جعله يظنهم يوجهونها إليه بالتحديد.
أخذ يرشف بيدٍ يعتريها شيء من الرجفة، في تمهلٍ وتلذذ شديد، من قدح الشاي الحار الذي قدَّمه إليه العامل الشاب، لم يتعرف عليه صاحب المقهى العجوز، المشغول بالإشراف على تعليق شرائط الزينة لامعة الألوان، بذات الهمة التي أعقبت الثورة الماضية، دخن سيجارة كاملة، دون أن يقتسمها مع آخرين، كما اعتاد، وشعر بنشوةٍ غريبة لمّا أعقبها بأخرى، راح ينفث أدخنتها قوياً في الهواء، عيناه لا تنفكان عن البحث في الوجوه عن أي شخصٍ يعرفه، أو حتى كان يتبادل معه سلاماً عابرا، ود أن يشارك الشابين الجالسين على مقربةٍ منه أحاديثهما قبل تلاشي همسها أمام توجسهما من تطفل نظراته، فأخذا يتطلعان، بعيونٍ مترقبة، إلى التلفاز المعلَق في إحدى زوايا المقهى، في صمتٍ ملبَد بذات تعبيرات وجهه ورفاقه في الماضي البعيد، وصوت ذات المذيع الهادر يعيد البيانات الأولى للثورة، يستعرض القوائم الجديدة المتضمنة أسماء المقالين والمحالين على التقاعد، وأولئك الذين صدرت بحقهم أحكام السجن، لفترات متفاوتة تصل إلى المؤبد، في ذات المعتقل الذي وأد جلّ سنوات شبابه، ومن أمرت المحكمة العسكرية ـ السرية ـ المشَكَلة على عجل بإعدامهم في أحد الميادين العامة، دون أن يتم التنويه عن الاستقالة التي أرسلها للوزير صباحاً، تلك التي أضافت إسمه، فيما بعد، إلى قائمة المعادين لمبادئ الثورة وتوجهاتها المباركة.
*أحمد غانم عبد الجليل
خرج مبكراَ من مكتبه الكبير في الوزارة، تمنى عدم المرور بالحارس الذي يصر على أخذ التحية العسكرية بقوة تكاد تخسف الأرض من تحته، بالكاد يسيطر على ارتباكه أمام رهبة تلك التحية الصارمة، وكأنها تود تأكيد سطوة الثورة الوليدة.
استغرب سائقه لمّا همَ أن يفتح له باب السيارة الفارهة، مسدلة ستائر الشبابيك الخلفية، عندما طلب منه أن يأخذ بقية اليوم إجازة، قبل ذهابه أعطاه بعض النقود، وكأنه يقدم له رشوة عتقه من الوصاية الرسمية، كي يشتري ما يشاء لأولاده، أخذ السائق المال بابتسامةٍ ممتنة، مطّت شاربه الكث الذي يظلل شفته العليا، يشبه شارب ذلك الوجه مكفهر الملامح دوماً، الذي كان يهتز بعنف كلما علا صوت صياح مسجونيه داخل الزنازين الضيقة.
أراد أن تتسع خطاه ما استطاع، بعد أن رمى ربطة عنقه على الأرض في نفورٍ كبير، رغم الألم الذي يوخز ساقيه اللتين تورمتا مراراَ وكسرتا أكثر من مرة على مدار أكثر من خمس عشرة عاماً من الضرب وتهاوي السياط، كُفلتا تعيينه مستشاراً للوزير، أحد رفاقه العسكريين ممن اعتلوا الدبابات التي اقتحمت القصر الجمهوري.
لم تمضِ سنة واحدة على توظيفه في ذات المبنى الفخم قبل تعرضه للاعتقال أمام ارتعاب قلبٍ هجس باضطراب نبضاته عن بعد، في ذات اليوم الذي اتفقا فيه على تقدمه لخطبة صاحبته من والدها، رغم تخوفه من عدم موافقته بسبب نشاطه السياسي. ما أن استلَم مهام منصبه، التي لم يتبين منها شيئاً لحد الآن سوى تلقي مكالمات هاتفية، لم يستطع توطيد نفسه على الرد على مجاملتها بما يتطلب وضعه الجديد من لباقة، ورسائل التهاني والمباركة التقليدية، أخذ يبحث في سجلات الموظفين ويسأل من بقي من زملائهم عنها، فعلم أنها قد تزوجت منذ ما يقرب من إثنتي عشرة سنة، ثم سافرت مع زوجها وطفلتهما إلى الخارج، ظل يتوقع أن يراها في أي وقتٍ أو مكان، وليس فقط في غرفة مكتبه الخانقة، رغم تزويدها بشتى وسائل الراحة المرفهة التي لم تلج تفكيره يوماً، تتقدم منه، بعد أن تأخذ منه سكيرتيرته التي يثيره حسنها كفتىً مراهق الإذن بدخولها، وهي تنظر إليه بعينين يتمنى أن يبدد إشراقهما ضبابية أيامه دونها، تحملان حنو ابتسامتها التي كانت ترتب له تفاصيل عالمه، ينزاح عن ألقهما دمع ذلك الوداع الصامت حتى الباب الخارجي للوزارة، رغم خشونة تحذير رجال الأمن من التجمع، فيتمعن في ملامح وجهٍ لم تنل منه السنوات التي غيبته عنها، تتدلى فوق جبينه خصلٌ من شعرها الطويل فاحم السواد وذلك العطر الذي كان يغار أن يشمه سواه، رغم كل أفكاره التقدمية.
حين أتاه أحد الصحفيين لإجراء حوار معه حول سنوات القهر التي أمضاها داخل أقبية النظام السابق، والتي شق عليه ترجتمها إلى كلماتٍ ترضي فضول القرّاء المتشوقين لكشف أغوار الجراح النازفة داخله، وتقتات على أعصابه ليل نهار، كل ما تمناه عندها أن تطلِع هي على تلك الجريدة، ذات التوزيع المرتفع في كثير من دول العالم، وأن تشاهد صورته التي تصدرَت الصفحة، وإن أظهرته بعينين شبه مغمضتين، يحاول إخفاء جفلته أمام وميض الكاميرا الساطع، كوهج الضوء الذي كان يُسلَط على وجهه أثناء جلسات تحقيق كانت تنتهي دوماَ بإرغامه على التوقيع على أوراق لم يستطع معرفة ما دوِّن فيها من اعترافات، دون أن تتضمن الشتائم والصفعات والركل والبصق الممتزج بلزوجة عرق وجهه وخيوط الدماء النازفة من أنفه وشفتيه المتورمتين.
خطت أقدامه في شوارع لم يتوقع أن الحظ سيحالفه برؤيتها مجدداً، ولو من خلف القضبان التي تنتصب أمام عينيه، لم تخلُ من سيارات الجيش والقطعات العسكرية ورجال الأمن، أكثر ما لفت انتباهه المتخَفون منهم، وقد ظن لوهلة، ورعدةٌ خفية تتناوش أفكاره، أنهم يترصدون خطواته دون أي شخصٍ آخر، راح يتنقل، بلا وعيٍ منه، بين الأرصفة التي ألفت تسكعه الطويل في أعوامٍ مضت، بل كاد ينسل إلى الأزقة التي كان يلجأ إلى تشعبها هرباً من مطارداتهم، وكأنه سيجد كل أبواب البيوت مشرعة لإيوائه.
مرّ أثناء سيره، منهك القوى، من تحت الأعلام الخفاقة ولافتات بيضاء ترفرف بكلماتٍ متأججة الحماس، كبيرة الخط ومتوهجة الحمرة، فيما الأغاني الوطنية الجديدة، كما لو تم تأليفها وتلحينها خلال عدة دقائق، تصم الآذان، حتى وجد نفسه أمام ذلك المقهى القديم الذي اعتاد وأصحابٌ لا يعرف عن أخبار أغلبهم شيئاً الجلوس فيه، يخفون تحت حصير أرائكها المخلّعة منشورات الحزب قبل أن يوزعوها فيما بينهم بمنأى عن العيون، بينما تصخب قهقهة أحاديثهم التافهة ونكاتهم الفاضحة على مسمع من الجميع، وخاصةً المخبرين السريين الذين كانوا يميِزونهم جيداً، اتخذ ركناً قصيا عن الشارع الضاج بالحركة القلقة، يواجهه زعيم البلاد الجديد في صورةٍ من الصور التي باتت توَزع في كل مكان، بإطارٍ مذَهب، يتطلع إلى وجوه الجالسين المثقلة بشتى التساؤلات، لا يدري ما الذي جعله يظنهم يوجهونها إليه بالتحديد.
أخذ يرشف بيدٍ يعتريها شيء من الرجفة، في تمهلٍ وتلذذ شديد، من قدح الشاي الحار الذي قدَّمه إليه العامل الشاب، لم يتعرف عليه صاحب المقهى العجوز، المشغول بالإشراف على تعليق شرائط الزينة لامعة الألوان، بذات الهمة التي أعقبت الثورة الماضية، دخن سيجارة كاملة، دون أن يقتسمها مع آخرين، كما اعتاد، وشعر بنشوةٍ غريبة لمّا أعقبها بأخرى، راح ينفث أدخنتها قوياً في الهواء، عيناه لا تنفكان عن البحث في الوجوه عن أي شخصٍ يعرفه، أو حتى كان يتبادل معه سلاماً عابرا، ود أن يشارك الشابين الجالسين على مقربةٍ منه أحاديثهما قبل تلاشي همسها أمام توجسهما من تطفل نظراته، فأخذا يتطلعان، بعيونٍ مترقبة، إلى التلفاز المعلَق في إحدى زوايا المقهى، في صمتٍ ملبَد بذات تعبيرات وجهه ورفاقه في الماضي البعيد، وصوت ذات المذيع الهادر يعيد البيانات الأولى للثورة، يستعرض القوائم الجديدة المتضمنة أسماء المقالين والمحالين على التقاعد، وأولئك الذين صدرت بحقهم أحكام السجن، لفترات متفاوتة تصل إلى المؤبد، في ذات المعتقل الذي وأد جلّ سنوات شبابه، ومن أمرت المحكمة العسكرية ـ السرية ـ المشَكَلة على عجل بإعدامهم في أحد الميادين العامة، دون أن يتم التنويه عن الاستقالة التي أرسلها للوزير صباحاً، تلك التي أضافت إسمه، فيما بعد، إلى قائمة المعادين لمبادئ الثورة وتوجهاتها المباركة.
*أحمد غانم عبد الجليل
كاتب عراقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق