.. "أحزان الفصول الأربعة" هي المجموعة الشعرية السادسة للشاعر نضال القاسم، إذ صدرت له مجموعات شعرية من قبل، وهي على التوالي: أرض مشاكسة، ومدينة الرماد، وكلام الليل والنهار، وتماثيل عرجاء، والكتابة على الماء والطين، وأخيرا هذه
المجموعة قيد الدراسة.
يتسم شعر القاسم بهيمنة الحس الوطني على مجموعاته الشعرية، إذ أخذ على عاتقه قضية وطنه المسكون فيه ولم يغادر روحه يوما رغم بُعده القسري عنه. بل إنه تجاوزها معبّرا عن وجع الإنسانية وأمراض العصر، فخلف كل قصيدة قضية مهمة يطرحها، وهدف إنساني ينشده، فشعره مبني على مضامين هادفة، مفعم بالأحاسيس والمشاعر التي تحرّك وجدان القارئ لملامستها همومه وعذاباته، فتثير مشاعره تاركة أثرها فيه.
استعان الشاعر بفنون متعددة وتقنيات مختلفة كالمشهدية، واللقطة، والأسطورة، والرمز، والتناص، والتكرار، وغيرها من التقنيات التي منحت قصائده تنوّعا وحياة. وسنسلط الضوء في هذه العجالة على تقنية المشهدية في هذا الديوان.فقال:
تبعثرت لما رأيتك ما بين ضوء وظل
تقنيات سينمائية:
استعان القاسم بتقنيات من الفن السابع، إذ يرى بعض منظريه أن "الفيلم كتابة بالصور". ومن هذا المنطلق لجأ القاسم إلى تقنية المشهدية واللقطة لتجسيد الأفكار والمضمون، وبث الروح والحركة في تلك اللقطات التي يقتنصها من الحياة، متحدة مع الرمز للتعبير عن مشاعره ورؤيته للعالم، وتصوير الواقع وإعادة صياغته بصورة فنية خلاّقة.
المشهد واللقطة:
يعد المشهد وحدة السيناريو، وهو في إطاره العام حدث يقع في زمان ومكان، وإيقاع وصراع أي: دراما سينمائية صغيرة، يبنى من لقطات متوالية لتحقق مجتمعة أبعاد المشهد وإحداث التأثير والإحساس بفكرتها وترك الأثر المرجو في المتلقي فـ "ليس هنالك شيء مثل المشهد قادر على أن يمنح الحياة والحركة للقصة". ومن اللقطات تتكون المشاهد وباجتماعها يتم الوصول إلى فيلم متكامل ودراما كبيرة. والقارئ لديوان القاسم يلاحظ تنوّع الصّور والمشاهد في قصائده.
المشهد المبني على الوصف (الوصفي):
يهتم نضال القاسم في معظم قصائده بإبراز الجو المكاني والزماني، إذ يمثّل المكان عنصرا مهما في غالبية قصائده، كقصيدة "كل شيء يذكرني بليلى" وقصيدة "إني متعب جدا" حيث ربط البُعد النفسي بمظاهر الطبيعة "مخرجا خفايا النفس وكوامنها على هيئة حديث ذاتي أو مونولوج داخلي، يعكس الحالات النفسية المختلفة من قلق وتذكر وحزن وانفعال". ففي قصيدة "كل شيء يذكّرني بليلى" التي استهلها بوصف مسهب لليلى، انتقل إلى وصف ما يتعلق بها (بيتها) فجال بعدسته الشعرية المكان، واصفا كل ما تقع عليه عينه بلغة مرئية، مستعينا بمكونات الصورة السينمائية فقال:
كل شيء يذكّرني بليلى ...
الطريق المؤدي إلى بيتها المنزوي في السفوح
جدرانه البيض خلف الظل والزقزقات/ شرفته الصغيرة والأصص
أثاثه المهلهل/ أبوابه الموصدة / مقاعد الأسفنج والخيزران / ملاءة السرير والوسائد الزرقاء والستائر
شبّاك غرفتها المضيء/ قطّتها الأثيرة / أزهارها الذابلة.
تكون المشهد من لقطات، خارجية من بعيد (الطريق المؤدي إلى بيتها المنزوي في السفوح، جدرانه البيض خلف الظل والزقزقات)، ولقطات داخلية تصوّر فيها عدسة الكاميرا الشعرية محتويات البيت (أثاثه المهلهل، ملاءة السرير والوسائد، مقاعد الاسفنج والخيزران،..).
استعان الشاعر بمكونات الصورة السينمائية من ديكور وإضاءة ولون وحركة، متجولا بكاميرته الشعرية في المكان الموصوف، مصورا إياه من زوايا متعددة، لقطات داخلية وخارجية، إذ يعد المكان المحدد الرئيس للمشهد وتغييره يعني الدخول في مشهد جديد، فالمشهد "لا يتحدد بما يحتويه من حدث ولا بدخول وخروج الممثلين ولكن بتغيير المكان أو مرور الوقت".
يبدأ المشهد بلقطة بعيدة تظهر الطريق المؤدي إلى بيتها المنزوي في السفوح، مركزا على البيت من الخارج بجدرانه البيضاء الدالة على النقاء والسلام، وزقزقات الطيور الدالة على الهدوء والأمان (لون وصوت وصورة)، وشرفته الصغيرة المليئة بالأصص، ثم ينتقل إلى مشهد داخلي تتجول فيه الكاميرا الشعرية داخل البيت، مصوّرة لقطات متتالية لأثاث البيت المهلهل القديم، بمقاعده الأسفنجية، وغرفة نومها وسريرها المغطى بملاءة زرقاء، والستائر المنسدلة ذات اللون الأزرق أيضا فـ "اللون عنصر متمم للصورة، واستخدامه أكثر بكثير من التسجيل الآلي للألوان...."، وشباك غرفتها المضيء (لون وإضاءة)، وبتجميع العناصر المتعددة وإدماجها وترتيب اللقطات التي صوّرتها عدسة الكاميرا الشعرية يضعنا الشاعر أمام مشهد سينمائي متكامل وكأننا نتابع مشاهد حية من فيلم سينمائي.
إن استحضار الشاعر لعناصر البيت (المشهد) بكل تفاصيله يشي بتعلقه بالمكان ورسوخ هذه الذكريات في ذاكرته واحتفاظه بها وحرصه على بقائها حاضرة أمام عينيه.
المشهد المبني على الحوار (الحواري):
اعتمد الشاعر على المشاهد الحوارية فبنى عليها بعض قصائده، ونقصد بالمشهد الحواري، تلك المشاهد التي تقوم على كلام منطوق على لسان الممثلين والممثلات في الفيلم. وقد بُنيت مشاهد قصيدة "ميدوري" على الحوار، وتعد هذه القصيدة فيلما سينمائيا بعناصره وتقنياته المختلفة، ففي الحوار الذي دار بينه وبين مضيفة طيران أعجب بها حين رآها، فقال:
"تبعثرت لما رأيتك ما بين ضوء وظل / تهدّج صوتي، قلت: ما اسمك؟ / قالت: ميدوري/ وماذا تعملين هنا، قالت: مضيفة في الطائرة / قلت: من أين أنتِ يا ساحرة / قالت: من بلاد الشمس/ قلت: أليس من وقت لديك؟
قالت: جدول الأعمال مزدحم".
بعد هذا التعارف بينهما يتبنّى الحوار مهمة تعريف المتلقي بأهم معالم وتراث اليابان على لسان المضيفة التي ستتولى تحديد موعد لقائها بالعربي (الشاعر):
لو نلتقي في الصباح لنشرب الشاي في " كانتاكا" وراء الأفق/ وهناك نبدأ الحوار عن فوكوياما وعن ناطحات السحاب / نناقش خدعة "الهولوكست" ورقصة" التانغو" ونحكي عن / طواحين الهواء / ونلقي خطابا نعدد فيه المآثر عن حاملات الصواريخ والعولمة.
بُني المشهد الحواري على طرفين، الشاعر ومضيفة الطيران، بعد أن بدأ بوصف دقيق حدّد فيه الإطار العام للمشهد (المكان والزمان والحدث)، بإسهابه في وصف المكان لتهيئة المتلقي للدخول في أجواء المشهد، ثم تولّى الحوار تقديم الشخصيتين المتحاورتين، والكشف عن طبيعة العلاقة بينهما وطريقة تفكيرهما، فالطرف الأول الشاعر العربي المسافر إلى اليابان، الذي بادر بفتح الحوار مع المضيفة بعد أن أبدى إعجابه بها، والطرف الثاني (المضيفة) اليابانية التي تعمل في الطائرة، وقد كشف الحوار عن تجاوبها مع الطرف الأول رغم انشغالها، كما أظهر سيطرة الطرف الثاني على دفة الحوار المتعلق بمكان لقائهما، لكونها من سكّان البلد الذي يسافر إليه الشاعر.
ويأتي الحوار مكثّفا كتقنية لجأ إليها الشاعر للإفصاح عن هموم وقضايا الإنسان المعاصر، إذ غطّى جوانب متعددة من مشكلات العصر ومعضلاته، كما أنار جانبا من معالم اليابان، بدءا من مكان اللقاء الذي بيّن أهم المدن والمعالم الأثرية بحشد كم هائل من تراث وحضارة اليابان على لسان المضيفة (برج طوكيو، معبد الشنتو، متحف المدينة في أساكوسا، المتحف الوطني، شيمباشي) والأكلات والمشروبات الشعبية، (السوشي، الشابو، الساكي، الأصداف، الكافيار، والأعشاب البحرية) والألعاب الرياضية والرقصات الشعبية (السومو، التانغو) وكل ما يخص التراث الياباني ويميزه. كما تطرّق الحوار إلى قضايا العصر ومشكلاته (البنيوية، الحداثة، الهوية، والتصحّر والجوع والفقر، والتكتيك والحب، والعولمة، والتسلّح)، و(فوكوياما) المفكر الياباني الذي أثارت آراؤه جدلا واسعا، مستحضرا رموزا وأساطير عالمية وأحداثا تاريخية على لسان المضيفة اليابانية تمثّل الصراع الدائر بين الخير والشر (طواحين الهواء، خدعة الهولوكست، الطوفان، العنقاء، الثور السماوي). في حين اقتصر كلام الطرف الأول (الشاعر) على أوضاع الأمة العربية والإسلامية وترديها:
فلا تمعني في السؤال ما بين ظلي وبيني، ولا تسأليني / عن الأهل والحال والأصدقاء ما بين شط الجريد وشط العرب / فكل الدروب في بلادنا تؤدي إلى المقبرة / غدا...ربما نلتقي في المساء/ وهناك متسع لنحكي عن "قريش" و"أبي ذر الغفاري" و"كليب" / و"تميم" و"قضاعة" و"المهلهل" / ربما نتقاطع...أو نتوازى.
وهناك ندخل في حديث دائم لبحث الجوع والأمن الغذائي / أو بحث البطالة والتضخم والشقاء / حيث ينمو الفقر في بلادنا من الأطلسي حتى تخوم البلاد القصية / وفي بلادنا الأنهار جفت وأعداد الخيام على المدى تزداد للنازحين / وفي بلادنا تئن الريح والشمس تشرق حمراء حمراء / وليس في بلادنا سوى بلادنا التي تمزقت إلى أشلاء / ولا نرى إلا الدخان، والدموع، والدما / وقد أنهكتنا حروب القبائل واللجان المستديمة والقرارات الجديدة / والانتظار الطويل/ وليس في بلادنا سوى مسيرات التضامن واجتماعات الطوارئ / واحتفالات الجلاء.
وليس في بلادنا سوى الغزاة والطغاة والسلع الأجنبية والضرائب / والخواء.
استدعى الشاعر الماضي في مقابلة واقع الأمة العربية الحالي، التي تتغنّى بماضيها وتبكي حاضرها المأساوي المتهالك، وحال المواطن العربي الذي غرق في بحر الدماء والضرائب والبطالة والهموم، وعانى من الحروب والسلطة والتشرّد، صورة لواقع سوداوي قاتم ينم عن ضعف الأمة العربية وفساد مؤسساتها وفقدان الكرامة والأمن والحياة الكريمة للمواطن المغلوب على أمره.
تحدث الشاعر على لسان كل عربي باستخدامه ضمير (نا)، فهمومه ليست ذاتية، إنها هموم جمعية يقاسيها كل عربي. ولبيان استمرار المعاناة والحروب وتفاقم المآسي استخدم الشاعر الصيغ المضارعة في صوره (ينمو الفقر، تزداد، تئن الريح، تشرق حمراء، نرى) فأضفى الحركية على الصور التي شكّلت لقطات متتالية فـ (الفقر ينمو بلا توقف، والريح تئن في بلادنا العربية، والشمس حمراء بفعل الدماء المراقة).
وفي حديثه عن حال الوطن العربي استخدم الجمل الإسمية الدالة على دوام الحال المتردي واستقراره في الدول العربية. تأتي الصور تباعا وكأن الشاعر فقد السيطرة على عواطفه التي انفجرت كبركان غير قابل للخمود، فلم يكترث للوزن، مستعيضا عنه بالتراكيب الفنية والانزياحات.
استحضر الشاعر رموزا عربية وإسلامية، ولكل رمز دلالاته المختلفة، (خطيئة آدم، ذئب يوسف، عصا موسى، أبي زيد الهلالي، قريش، أبي ذر الغفاري، كليب، تميم، قضاعة، المهلهل)، كما أشار إلى حال هذه الأمة (فكل الدروب في بلادنا تؤدي إلى المقبرة) صورة مكثفة أوجزت حال الأمة العربية. تمكّن الشاعر بهذا الحوار المكثف من تصوير واقع الحياة التي نحياها. وقد حشد الشاعر عددا كبيرا من أسماء المدن والمقاهي ومعالم اليابان كان بمقدوره التخلّي عن بعضها.
ويبقى الشاعر نضال القاسم من الشعراء الذين يسيرون نحو التجديد والتجريب، مطلقا لشعره العنان للتحليق والابتكار بلا قيود تحد من دفقاته الشعرية التي تنبع من شعوره الداخلي ورؤيته للحياة والواقع، متمردا في بعض قصائده على العروض مستعيضا عنها بالصور الفنية والتراكيب الشعرية، والألفاظ المنتقاة بعناية لتجسّد المعنى وتبرزه. ويبقى شعره منفتحا على فضاء التأويل والتجديد واستخراج المضامين والمعاني المختلفة بتعدد القراءات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق