" الحزن حالة شاعرية تراوغ صاحبها في الكتابة "
*رائد محمد الحواري ــ نابلس
وتيرة الحزن العامة في الديوان:
وقع الأحداث على الشعراء يكون أضعاف مضاعفة إذا ما قارناه مع الأفراد العاديين، وهذا يعود إلى الإحساس المرهف الذي يتمتع به الشعراء، فعندما نقرأ/ نستمع إلى الطريقة/ الشكل/ اللغة التي يقدمون بها مشاعرهم نشعر بشعورهم ويتنامى فينا الإنسان، الإنسان
النقي البكر الذي يتأثر بأي خبر/ حدث/ لفظ/ حرف قاس أو مؤلم، من هنا تكمن أهمية الشعراء، وأجزم بأن الحياة دونهم، ودون حزنهم ـ رغم انعكاسه علينا ـ تفقد بريقها، وتمسى ذات لون واحد، لا رونق له ولا بهاء.
حدثني "فراس حج محمد" عن الديوان قبل صدوره، وقال: "إنه أسود، بلا فرح"، وهذا ما جعلني حذرا ومترددا في التقدم منه، لكن، ما إن قرأت فاتحة الديوان:
"لا شيء فينا كاملٌ أو ناقصٌ
كل شيء هو هو
ناشئ بفطرتهِ
تشوّهه الحياة بلغز مبتذَل" ص5.
حتى انفتحت الأبواب أمامي لأتقدم وبلهفة من الديوان، وكأن الشاعر يمهد لضرورة تقبلنا للواقع ـ على علاته ـ فطبيعة الحياة فيها الكامل والناقص وما بينهما، وعلينا أن نتعامل/ نأخذ بها كما هي، إذا أرادنا أن نكون سويين فيها، أما إذا أرادنا أن نحدث خللا في هذا الواقع المتوازي فسينعكس علينا، فهو يدعو إلى تقبل الأشياء والأشخاص على ما هم عليه، دون أن نفرض رأينا/ سلوكنا عليهم، فهل هذه (ديمقراطية)، أم أن الشاعر وصل إلى حالة يأس بحيث لم يعد يفكر في إحداث أي تغيير في الواقع؟
هناك أكثر من مستوى للحزن/ للغضب/ لليأس، وهذا المستوى يتأثر بالألفاظ التي تسبقه، يقول في قصيدة "هكذا آتيكم":
"وأتيتكم بتاريخ طويل في القصائدِ
للتاريخ
للذات الشقيةْ
لخيل العُرْب قد ماتت على الإسفلتْ
للنّاقة المحلوبةِ العمياءْ
للصقر في الصحراءِ
أرض الموت في الأرض السليبةْ!
وأتيتكم أبكي عليّ/ عليكمُ" ص8.
إذا ما توقفنا عند الألفاظ التي جاءت بعد "عرب" نجدها بمجملها غارقة في السواد، "ماتت، الإسفلت، المحلوبة، العمياء، صقر، الصحراء، الموت، السليبة، أبكي" وكأن "خيل" العرب زادت من حدة الألم/ الحزن/ غضب الشاعر، فكانت الألفاظ سوداء كحال المضمون، وحتى عندما استخدم لفظ أبيض "الأرض" أتبعه مباشرة بالموت والسليبة، بحيث لم يترك أي مكان للخط الأبيض، وهذا يشير إلى حجم وقع الأحداث عليه. ثم يبدأ الشاعر بالخروج ـ ولو قليلا ـ من حالة القتامة السابقة:
"وعلى كل الحروف النازفات بروح أغنية الشعوب المستريحة في مسالخها
ومنامها بين الدماء
وأتيتكم لأقولْ
الغول قد أكل الكلام وسدّ حلق المنشدينَ
واخترق الحنينَ
وسلّم الشعراء ريشتهم هناكْ
حيث مالُ معاويةْ
ومالوا واستمالوا كل رأس طاغيةْ
واستراحوا في سباتْ
في حضن أنثى غاويةْ
لم يعودوا الكهنةْ" ص8
المستوى الثاني أقل حدة من الأول، فيبدو وكأن الشاعر فرغ شيئاً مما فيه من خلال ما تحدث به في السابق، فنجد ألفاظا بيضاء "بروح، أغنية، المستريحة، المنشدين، الحنين، وسلم الشعراء، ريشهم، أنثى" فهذه الألفاظ ورغم أنها جاءت مقرونة بحالة السواد، إلا أنها أحدثت (خلخلة) في القتامة عند الشاعر، وهذا ما سينعكس على المقطع التالي:
"فكيف أقول؟
وأين من يمضي معي لنعيد صوغ الأغنياتِ
على وقْع الوترْ
في ظل خضراءِ الشجرْ
يا ليتني وقصيدتي كنا حجرْ
وفؤاد طيري من حجرْ
لعرفت ساعتها بأني أشعر الشعراء قافية وأندى من حضرْ
لكنني ما كنت إلا مثلهم عرّاب أحلام الضجرْ" ص8-9.
هناك تحول كبير عند الشاعر، فنجده يكثر من استخدام الألفاظ البياض، فصيغة السؤال "فكيف، وأين" جعلته يستيقظ من كابوسه، ويتقدم من حالة بيضاء كان بأمس الحاجة إليها: "صوغ، الأغنيات، الوتر، ظل، خضراء، الشجر، قصيدتي، فؤاد، طير، لعرفت، أشعر، الشعراء، قافية، وأندى، حضر، أحلام" كل هذه الألفاظ جاءت بعد حالة التفكير، فالسؤال الذي طرح، هو الذي أحدث اليقظة، لهذا نجد هذا (الزحم) من الألفاظ/ البياض، وكأنه أراد بها طرد (الكابوس) السابق.
الشاعر يحدثنا عن أكثر من حالة، فهناك الحزن، واليأس، والغضب، أحيانا نجده يجمع بينها، وأحيانا يتحدث عن حالة واحدة، يحدثنا عن أقلها سوادا في قصيدة "هذا الشتاء":
"سيمرُّ هذا الشتاء ويأخذ
من خلايانا ويمضي
ستمرُّ فينا الريح وتلك العاصفةْ
سيدخل بيننا في كل منعطفٍ
ويمضي...
سيأخذ شمسنا والنورْ
ويعطينا غيوما قاحلة
سيأخذنا إلى قدرٍ جديدٍ به بعض الحُجُبْ
فيه لونٌ أبيضٌ مغسولُ عِرْقِ الجيوب البائسةْ
سيأخذنا هذا الشتاء
ويسري نحوَ كلَّ هطول غربةْ
ويأكل في موائدنا على نفس الطبقْ" ص10.
اللافت للنظر أننا أمام قصيدة شتائية، والشتاء غالبا ما يأتي بصورة الهدوء، لكنه هدوء إجباري، فالظرف والحال كلها تجعل الإنسان (يخبو) متكيفا مع الشتاء، لكن الشتاء يحمل بين ثناياه الأمل والخير القادم، فحالة السكون ما هي إلا مؤقتة، وبعدها (سيكون) حال جديد، نتوقف عند حرف "السين" فهو غايتنا ووسيلتنا للتحمل والتكيف مع الشتاء، والشاعر أيضا يستخدمه محاولا أن يقنع نفسه من خلال استخدامه: "سيمر، ستمر، سيدخل، سيأخذنا" بأن الخير قادم، والخلاص آت، والشاعر لا يكتفي بهذا الأمل الكامن في حرف السين، بل يؤكده من خلال استخدامه لصيغة المضارع "ويأخذ، ويمضي، ويعطينا، ويسري"، وإذا ما توقفنا عند مدلول الفعل المضارع المجرد الذي يشير إلى حالة التفاؤل والفرح القادم، يمكننا القول إن الشاعر في هذه القصيدة كان يحمل الأمل والفرح، وهذا يشير إلى أنه ما زال يحمل بذور الخير ولم يقنط من الواقع.
العناوين وتآلف النصوص:
العنوان، وفاتحة القصيدة لهما أثر في متنها؛ في قصيدة "المجد للشاهدين" التي تتكون من ثلاثة مقاطع، يتحدث في المقطع الأول عن الشعر، فهو أحد عناصر الفرح للشاعر، كحال المرأة والطبيعة، به يحاول الشاعر التقدم من الحالة السوية، فيستخدم ألفاظا بيضاء بمضامين فرح، فهذا المقطع يكاد يكون خارج حالة "ما يشبه الرثاء" التي تهيمن على الديوان، وهذا ما يجعلنا نقول إن "فراس حج محمد" يحمل في اللاشعور حالة الفرح، لكن وقع الحال يجعله يتقهقر إلى الوراء تاركا البياض خلفه:
"الشعر صعب" قل: "طويل سلمه"
فقد انبرت تلك النجوم تغازلهْ
تهوى الجلوس إلى المعاني الشاردهْ
والروح تنهض ترتقي درجات سلمها
وتصدح بالغناء لعلها تجد
الملائكة الشهودَ تكلمهْ" ص22.
أما المقطع الثاني فجاء فيه:
ذوت كما تذوي السنينُ
كواهل المعنى الشقيُّ
ذوت كما تذوي معاني الفلسفهْ
والقول هدهدها
الذات تذوي،
ويكون شاهدها الشعر المحلى
بأحلام النبي" ص 22.
فإن الشاعر يستخدم حرف الذال ست مرات، وهذا يشير إلى أثر العنوان "الذات" في بقية القصيدة، فهو يتحدث عن ذاته، لهذا فهو قريب من القصيدة، والقصيدة قريبة منه، لأنها تعبر عما فيه، وهذا ما أكده لفظ "هدهدها" الذي يوحي بالعلاقة الحميمة التي تجمع الشاعر بالقصيدة/ بذاته، لهذا استخدم كلمة ذات حروف تتكرر الهاء فيها ثلاث مرات، والدال مرتين في كلمة واحدة.
سنتوقف هنا قليلا، هل يعني هذا أن الشاعر يقف (عاجزا/ مذهولا/ حائرا) أمام العنوان، بحيث يفقد القدرة على الإتيان بألفاظ أخرى؟ أم أنه يمثل حالة التماهي مع القصيدة، بحيث يكون هو والقصيدة شيئا/ كائنا واحد؟ الإجابة تأتينا في المقطع الثالث:
المجد للشعر في المعنى
والمجد للذات الشقيهْ
كلما تذوي تجد الولادةَ
في الكلام" ص22.
في هذا المقطع نجد جمع لكل ما سبق، "المجد، الشعر، الذات، الكلام"، وهذا يشير إلى أن الشاعر تكتُبه القصيدة، فهي من تجعل الشاعر يُخرجها لنا
الفاتحة المجهولة والخاتمة المعلومة:
في قصيدة "ترانيم الغياب" مجموعة مقاطع، تبدأ بلفظ مجهول، غير مكتمل المعالم، لكن في النهاية المقطع نعرف حالته:
"قانون
يشقون بالأحلامِ
بالضبطِ الشَّقيِّ
بالفوضى،
يرتبون مقاعداً وهميةً
بشرودِ قافية المدرسْ
كانوا تلامذة لقانون الغيابْ" ص28.
نلاحظ أن حرف القاف موجود في "قانون، يشقون، الشقي، مقاعد، قافية"، وهذا يشير إلى أن لفظ "قانون" مهيمن ومسيطر على لغة القصيدة، بحيث جعل الشاعر أسيرا للعنوان "قانون" الذي كان كلمة مجهولة، فنحن لا ندري عن أي قانون أو بماذا متعلق هذا القانون، لكن في النهاية عرفنا أنه قانون الغياب.
وفي المقطع الثاني:
"الزنبقة
من امتثال الروح للنجمهْ
من انتفاخ الأوردهْ
من اشتعال الروحِ
فيكَ
زنبقةٌ تموتْ" ص28.
فاتحة وعنوان أبيض، رغم أنه مجهول، لكن بعد أن نتعرف على "الزنبقة" نجدها "قاسية "تموت" ورغم أن الألفاظ جاءت في الغالب بيضاء: "الزنبقة، الروح، للنجمة" إلا أن المعرفة في النهاية جاءت مؤلمة.
أما المقطع الثالث:
"حنين
نسي الحمامُ شقاءهُ
لما انتعلت الحزنَ
تمشي....
تمشط ذكرياتكَ
خطوات الذين مضوا
وبهم حنين الاشتعالْ" ص28.
أيضا فاتحة بيضاء لكن الخاتمة وبعد إضافة تفاصيل عنها وجدناها مؤلمة.
ونقرأ كذلك المقطع الرابع:
"أنا
أنتم، وأنتنَّ، وأنتِ، وأنتما ....
وهما، وهنَّ، وهم، وأفرادهما....
كلها ضمائر شاهدهْ:
متكلمهْ،
متخاطبهْ،
إلا "أنا"
و"أنا" ضمير غائبٌ" ص28.
"أنا" كانت مجهولة، ولا تشير إلى أية سواد أو ألم، لكن في نهاية المقطع وجدنا "أنا ضمير غائب"، إذن كلما كانت المعرفة أقل، كان هناك بياض وجمال، وكلما حصلنا على تفاصيل/ معرفة، يصبح البياض أسود، والسعادة ألما. هل يدعو الشاعر إلى تجاهل/ تناسي/ الخوض في التفاصيل، والاكتفاء بالمقدمات/ البدايات/ العناوين لكي لا نصطدم بالحقيقة المؤلمة؟ ولعله يعيد مقولة الشقاء بالمعرفة.
المرأة والكتابة:
المرأة تمنحنا الهدوء والسكينة، وتخرجنا من المأزق الذي يحاصرنا، ونحن نلجأ إليها ـ بوعي أو دون وعي ـ عندما تضيق بنا السبل، "فراس حج محمد" في "ما يشبه الرثاء" في وضع لا يحسد عليه، لهذا نجده يتجه نحو المخلّصة دون أن يشعر، يقول في قصيدة "الرحيل" التي يخاطب فيها جدته:
"آهٍ منك يا سندانة البلد الذي
قد غاب عنها شكلُه وحنينهُ
وتجمدت فيه المرايا السائلهْ
عيناك لما أُسْبِلتْ
غطت مساحات الحنان الشاسعهْ
يا من تشبهين الفجر
فتح عينه بالزهرِ
يحلمُ بالأثيرْ
من هناك إلى هناكْ
ماجت بك الأطياف من
تعب المسيرْ
إلى ظلال الخطوة القصوى" ص32-33.
السنديان صلب وقاس، لكن الشاعر يؤنثه فيحدثنا عن "السنديانة" ثم يتماهي مع حالة التأنيث من خلال "تجمدت، المرايا، الشاسعة، السائلة، مساحات، تشبهين"، فأثر التأنيث لم يقتصر على الألفاظ المجردة فحسب، بل تجاوزها إلى ألفاظ بيضاء: "البلد، حنينه، عيناك، أسبلت، الحنان، الفجر، فتح، بالزهر، يحلم، بالأثير، الأطياف"، أعتقد أن هذا البياض ما كان ليكون دون (هروب) الشاعر إلى المرأة/ الجدة، فهي من منحه كل هذا البياض في ظرف "ما يشبه الرثاء".
ونجد أثر الأنثى/ المرأة في قصيدة "طقوس الموت والحياة" الغارقة في السواد:
من يصنع التابوت للموتى
يبكي عليهم.... لكنه
يمضي يفتش في دفاتره ليصنع حظه
يمضي على درب طويل قاتم
يستنجد المجهولَ
ويعب من خمر الحياة، وينسى....
من يصنع التابوت يغزل من مأساتها
القصص الجميلة للفتاة
ويكتب الشعر المدغدغ للأنوثة حيث يصحو القلب وجدا
يطلب نظرة ولقاءً
ويسهر ليله يحن للذكرى
يعذب روحه
ويصعد للأعالي يلم نجومها
عقدا لجيد حبيبة ولهى غريرةْ" ص36.
في المقطع السابق حالتان متناقضتان، الأولى جاءت غارقة في السواد، فهي تتحدث عن صانع التابوت، "للموتى، يبكي، طويل، قاتم، المجهول، مأساتها، وبها ينتهي السواد، ويبدأ الشاعر بنهج جديد "القصص الجميلة للفتاة" فهنا عبارة مطلقة البياض، فقد استخدم الشاعر "القصص/ الكتابة، والفتاة/ المرأة/ الأنثى" واعتمد عنصرين من عناصر تخفيف الألم، بمعنى أخذ طاقة كبيرة، وهذا ما انعكس إيجابيا عليه وعلى القصيدة، فبدت لنا بشكل ومضمون آخر، من خلال ألفاظ: "يكتب، الشعر، المدغدغ، للأنوثة، يصحو، القلب، نظرة، لقاء، يسهر، روحه، الأعالي، نجومها، عقدا، حبيبته"، فمثل هذا البياض ما كان ليكون دون الكتابة والفتاة.
القرآن الكريم:
من يقرأ "فراس حج محمد" يجده متأثرا بالقرآن الكريم، إن كان نثرا أم شعرا، وهو يتفرد باستخدامه للآيات القرآنية، ففي هذه القصيدة (يغرب) الاسم، بدل سورة المسد، فتصبح"سُوَرُ المسد"، فهل لصيغة المذكر "سُوَر" علاقة بانحياز الشاعر للمرأة؟ والسورة القرآنية قدمت "أبو لهب وامرأته" بصورة سوداء، فهل عندما استخدم الشاعر حالة السواد للمذكر دون المؤنث، يشير إلى أن عقله الباطن منحاز للمرأة؟
"نساؤنا ثمر بطعمٍ من غواية روحنا
مدلاة ضفائرها على نهر الوجود المخملي
ألساكن الأوجاع في قفص الحياة.
ماذا يظن الأبله المجذوب؟
أتكفي رشفة من ريقها حتى تدوم له الجنان الخضر" ص39.
إذا ما توقفنا عند ما جاء في المقطع السابق نجد انحياز الشاعر للمرأة فقد جاءت بصورة جميلة، إضافة إلى الألفاظ البيضاء التي تعبر عن مكانتها وأثرها في نفس الشاعر، لكن عندما يستخدم صيغة المذكر نجد تحولاً في الألفاظ والأفكار:
"ماذا يظن الأبله المجذوب؟
أتكفي رشفة من ريقها حتى تدوم له الجنان الخضر
أم سيبدأ عمره بالبحث عن كأس يطاولها الزبدْ،
وفي أسراره نار بلا لهب تعيد له المعاني" ص39.
"الأبلة، المجذوب، أسراره، عمره، الزبد، لهب" كلها جاءت بصيغة المذكر وسوداء وقاسية، واللافت للنظر أن المقطع: "تكفي رشفة من ريقها حتى تدوم له الجنان الخضر" جاء بين صيغة المذكر، ومع هذا بقى محافظا على بياضه وعلى جماله، وهذا يؤكد أن العقل الباطن عند الشاعر منحاز للمرأة، وهو من يتحكم في مسار الألفاظ. ويستمر هذا الانحياز عند الشاعر في قوله:
"كـأنها نبت المجاز،
فلم يظفرْ بغير أحلام تبخر مع آخر نسمة من عطر أنثى،
تبدل حلي ردفيها كما يحلو لها الريح المشاكس،
وينثرها غبارا في متاهات الرجال" ص39
نلاحظ أن المؤنث في بنت المجاز وما تبعها جاء جميلا وبألفاظ بيضاء، بينما جاءت صيغة المذكر "الريح المشاكس، وينثرها غبارا" بصور سوداء، وهذا يأخذنا إلى أن كل مذكر عند الشاعر سيأتي بصورة سوداء/ قاسية، وكل مؤنث سيأتي ببياض وجمال. ونلاحظ عندما يقرن أو يجمع المؤنث مع المذكر يعطي صورة سوداء، فالغلبة للمذكر كحال الواقع، (الرجال قوامون على النساء):
"هات ارسمي شكلا لروحي؛ إذ تكسر مثل أوردة البشرْ
من ذا يلملمها ويكتب سيرة ولهى،
ويقرأها كأنجيل تدلى من بعض أحلام القمرْ،
لا تكملي عني حروفك في استتار النون من بين أروقة الجسدْ
هل سيفك المعقوف ما زال مغروسا بخاصرة القصيدة،
وتتركها تنز سطورا من ورقْ؟؟" ص39.
في المقاطع السابقة نجد تداخلا وتشابكا بين صيغة المذكر والمؤنث، وهذا انعكس سوادا على الألفاظ والمضمون، فنجد "أوردة البشر" يسبقها "تكسّر"، وأيضا "سيفك المعقوف" يتبعه "مغروسا في خاصرة القصيدة" ويضيف "تنز سطرا". ضمن هذا (الصراع) بين المذكر والمؤنث وجدنا مقاطع أنثوية خالصة، فكانت بيضاء وناعمة في ذات الوقت:
"من ذا يلملمها ويكتب سيرة ولهى،
ويقرأها كأنجيل تدلى من بعض أحلام القمرْ،
لا تكملي عني حروفك في استتار النون من بين أروقة الجسدْ"
فالأنثى هنا لها الغلبة، فكانت الألفاظ والمضمون بيضاء ناعمة، وإذا ما نظرنا إلى القصيدة كوحدة واحدة، نلاحظ هذا الانحياز للأنثى.
*رائد محمد الحواري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الديوان من منشورات دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى، 2019.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق