انقسمت المجموعة بشكل عام على قسمين: الأول فيه سرد لما وقع (قريباً من الجدار) والثاني لما
وقع (بعيداً عن الجدار) الأول تضمن (إضاءة على ظلام) أرادت القاصة منها تسليط كشافاتها على الجدار باعتباره مركز الحدث، ومحوره، ونقطة الانطلاق إلى مجاوراته المختلفة، وقدمت تعريفاً واقعياً له، وتوضيحاً لأثره نفسياً واجتماعياً كمعلومة سيحملها القارئ دليلاً له في طوافه داخل جغرافية النصوص. وهو إيذان باعتماد الواقعية أسلوب بوح للمضمر والمعلن من معاناة شخوص المجموعة ومكابدتهم الدائمة وعزلهم عن بعضهم قسراً وظلماً. تضمَّن القسم الأول على أحد عشر
قصة اشتغلت القاصة فيها على تقنية الراوي العارف بكل شيء والذي يروي الأحداث نيابة، بينما اشتغلت في القسم الثاني المتضمّن على قصتين: (البوصلة والأظافر وأفول المطر) و (خرافية أبو عرب) على تقنية الراوي الذي يروي الأحداث أصالة أو تداخلاً بين الأصالة والنيابة. في مقدمة القسم الأول تطالعنا جملة إشارية مقتضبة من القاصة أرادت منها تهيئة القارئ ليتقبّل هيئة الجدار كأداة صلدة صماء جامدة ولكن بسلوك بشري وإحساس إنساني، أحيانا، ليعرف ما يتوجب عليه الاعتراف به خارج طبيعته الإسمنتية الجامدة:
"من واجب الجدار الفاصل أن يخجل من نفسه، وان يبكي – ولو سراً – احتجاجا على طغيانه واشمئزازاً من وجوده"
وسنكتشف من خلال عنونة القصة الأولى (وبكى الجدار) أنها سعت إلى جعله شخصا له ما لأي كائن حيّ من مشاعر الخجل والحزن والقدرة على البكاء.
![]() |
صباح الأنباري |
"خالعاً كل ما عليه من غرف ومكامن ومراقب وجنود وبوابات، مستسلما للدك والتّهاوي تكفيراً عن ذنبه الأسود، ومنداحاً في دموعه الإسمنتية وفي أحزانه وندمه على قتل الصغيرين العاشقين"
الهيمنة التي فرضتها لعنات الجدار على هؤلاء كبيرة جداً وواسعة أيضا ولا يمكن استيعاب حجمها بسهولة. وعلى الرغم من واقعيتها وتشكل لبناتها من أرض الواقع إلا أنها ظلّت صعبة قدر تعلق الأمر بالكتابة عنها. لقد وضِعت القاصة بين أمرين قد لا يلتقيان: السرد التقريري البحت، والسرد القصصي العابر للواقعية والتسجيلية. وبدافع الحرص الشديد على نقل الواقع بمحتوياته وتشعباته آلت القاصة د. سناء شعلان على نفسها الوقوف إلى جانب الصدق التام في التعبير عن حقيقة تلك الهيمنة التي شغلتها منذ أقيم جدار العزل وحتى ساعة صدور مجموعتها القصصية فهل دفعت ثمن هذه الوقفة؟ بصريح القول أزعم أنها دفعت ثمن ذلك من تحجيم قدرتها على الخيال والابتكار لصالح الواقع المعيش والحقيقة الماثلة.
الأديبة د. سناء شعلان |
ومما تمتاز به قصص سناء شعلان في هذه المجموعة اهتمامها بانتقاء الشخوص وتقديمهم بطريقة تبدو وكأن القاصة قد أوغلت بدراسة أبعادهم وسلوكهم وحياتهم الداخلية حتى تكاد الشخصية تفصح عما يختلج أو يمور في أعماقها القصية. ففي القصة الموسومة (شمس ومطر على جدار واحد) تقدم لنا شخصيتين جمعهما الجدار تحت بوابته: الأولى شخصية الشاب الأسمر الفلسطيني الذي يعبر يومياً من بوابة الجدار نحو الجهة الأخرى ليشقى بكسب عيشه المضني، والثانية هي المجندة الإسرائيلية ذات الأصول الهنغارية التي تقوم بتفتيشه يومياً قبل عبور البوابة. وتجاوزاً لتكرار التفاصيل عن كلّ منهما اختصر الحال بعلاقة خفية ربطت بين الشخصيتين، علاقة حب مكتوم لم تفصح عنه أي من الشخصيتين. حب أزاح الحقد الدفين، والكراهية البغيضة، وعدم تقبل الآخر ليسمو فوقها جميعاً حتى صارت المجندة تنتظر بلهفة صباحَ اليوم القادم ليتسنى لها أن تكحل عينيها بمرأى فتى أحلامها الشرقي الجميل والمشرق. وذات صباح بينما هي تتقدم نحو الجدار رأت حبيبها المنتظر ملقى على الأرض مع عدد من العمال الذين قتلوا على يد جنود الجدار بدم بارد:
"وكانت العودة إلى هنغاريا دون رجعة إلى هذا المكان هي الفكرة الوحيدة التي تملك عليها ذاتها، وتلحُّ عليها قبل أن يقتلها الجدار كما قتل الرجل الذي عشقته"
وفي القصة الموسومة (من أطفأ الشمعة الأخيرة) تقدم لنا القاصة شخصية نذرت نفسها للاطمئنان على أبنائها الأسرى حتى أنها حفظت رسائلهم الشفهية عن ظهر قلب لتنقلها إلى أمهاتهم بطيبةِ وحنانِ أم رؤوم. كان حلم حياتها أن تزور بيت الله، وعندما حانت الزيارة استثمرت وقتها في إيصال رسائل الأسرى الشفوية لأمهاتهم اللائي عزلهن الجدار عن أبنائهن في معتقلات العدو ولم يبق لها إلا أن تطفئ شمعتها الأخيرة قريبا من الجدار.
لقد انتقت سناء شعلان شخوصها بدقة كبيرة من أولئك الذين فرض عليهم العيش على جانبي الجدار، ومن الأطفال والشباب والشيوخ والثواكل اللائي صبت الحرب على قلوبهن نارها الموقدة. فبالعودة إلى القصة الأولى نجد أن القاصة اختارت الطفلين (الذكر والأنثى) نور لتخبرنا كيف فرَّق الجدار بينهما حد الموت، وفي القصة الثانية والثالثة اختارت شخصية الأم لتسرد لنا في كلتيهما قصة المعاناة الرهيبة لكلّ منهما جراء الجدار. وفي الرابعة اختارت صبيين من جانبي الجدار أقاما علاقة صداقة كان مصيرها الموت برصاص العدو الذي لا يفرق بين طفل فلسطيني وآخر يهودي عندما يتعلق الأمر بالجدار، وفي الخامسة حدثتنا عن شاب وشابة ارتبطا بعلاقة حب ولد ومات قرب الجدار أيضا, وفي السادسة اختارت شخصية الأم ثانية وهي المرأة التي ضحت بزيارتها لبيت الله لتوصل رسائل الأسرى الشفهية لأمهاتهم ثم لتموت قرب الجدار. ومن مطالعتنا لبقية قصص المجموعة اتضحت لنا دلالة الجدار القائمة على التأثير المباشر على حياة الشخوص الداخلية والخارجية، وخلخلة نظام حياتهم، وتراكم مشاعر الضيق والحزن ولوعة الفراق. الشخصيات عموماً تختزن طاقة درامية حققت مقبولية تلقيها بكلّ ما لها وما عليها، وارتبطت بجدار الفصل (مكانياً) ارتباط السبب بالنتيجة مانحة إياه دلالة فريدة ارتبطت بمصائرها الفاجعة كـ (مدلول) فتحول - على الرغم من قسوته المفرطة - إلى مصدر إلهام فعّال جعل مداد القاصة يسيح على الورق بهيئة حروف وكلمات أجادت تركيبها في لغة قصصية لها ثراؤها وأثرها وفعلها وكينونتها كمجموعة كاملة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق