(1)
إستضافه أحد أصدقائه المتصوفة في إحدى التكيات البعيدة ، والآن يعود عبر الجبال إلى بيته ، يقطع مسافات طويلة ،تراب الأرض وأحجارها يأكلان من نعلي حذائه البالي ، تخللت مشط الحذاء ثقوب صغيرة تسربت من خلالها حصيات إلى قدميه ، صفحتا رجليه أصبحتا تؤلمانه ، وكان كل غبار الأرض قد جاء ليتعلق على لحيته وحاجبيه ويتسرب إلى فتحتي أنفه .
كان الرجل نحيلاً نحولاً يكاد يكون مرضياً و يخاف على نفسه من هبة ريح هوجاء تطوح به من فوق الجبال ، وكان شاحباً كقمر ليلة باردةٍ . كان المساء قد أوشك أن ينقضي لما وجد نفسه بباب كوخه الذي يستقر بين جَلَامِيدَ قاسية ويكاد يكون معلقاً بأهذاب الفضاء ، كان البيت يشبه عش أحد الكواسر ، متوحدا ومنعزلاً ، يسلك إليه طريق ضيق على حافة جبل ، وأسفل الجبل كان نهر يجري إلى مستقر له .
خارج الكوخ إغتسل من غبار السفر ، فرك أصابع قدميه ونظف جلده القاسي كجلد سحلية ، ثم عظامه الناتئة والتي تخز كل من يحاول الإحتكاك به ، جفف جسده ثم لبس ثياباً بالية لكن نظيفة ومن صندوق خشبيٍّ أخرج صندلاً بالياً لكنه مازال يحتفظ بمتانته ، إنتعله ، جلس على صفاة ، أخرج من جرابه رقاقة خبز خبَزَتْها زوجة صديقه الصوفي ثم أخرج قبضة من تين وزيتون ومن الجرة الموضوعة على يمين الباب غرف ماء قراحاً . شرع يأكل لقيمات الخبز ويقضم حبات التين والزيتون وبين فينة وأخرى يشيع الجميع بحسوات من الماء . لما فرغ من وجبته المسائية ، ولج الكوخ و من تحت حشية واطئة أخرج أصبع شمعة وعلبة من أعواد الثقاب ، أشعل الشمعة ثم إضطجع على الحشية وأسند
ظهره إلى وسادة إنفجرت أمعاؤها وتناثرت على غشائها بقع من زيت الزيتون ، سحب كتاباً كان موضوعاً جانب الحشية ، فَرَدَه فوق ركبتيه ، شرع يقرأ فيه ، وبين حين وآخر يبلل أنملي سبابته وإبهامه ليتسنى له قلب الصفحات بيسر ، كان يضع نظارة لتحسين الرؤية عن قرب ، أهداها له صديقه الصوفي.
التعب الذي صحبه خلال الرحلة جعله غير قادر على الإستمرار في القراءة ، أطفأ أصبع الشمعة وغرق في نوم عميق .
(2)
كان يتظلل في فَيْءِ أشجار الحور جالساً على مقعدٍ من خشب صقيل مواجه لفسقيةٍ من المرمر يسيل ماؤها الفضي على جوانبها ويصدر خريراً ، وفوق رأسه على الأشجار كانت تصدح عصافير ملونة وحوله تحلق فراشات في فساتين مزركشة . أغمض عينيه ليستمتع بتلك الأصوات الدافئة المتناسقة ولما فتحهما فجأة تهيأ له أنه رأى طيف إمرأة يمر مخطوفاً حوله ، كان الطيف يلبس فستاناً أبيضاً يشِفُّ عن تضاريس جسد كامل البنيان . ترك الطيف في ذاكرته عينين سوداوين ذواتي رموش داكنة و كثة وشفتين خمريتين ما زال يذكر أنهما إفترتا عن إبتسامة كشفت عن أسنان نضيدة بيضاء كالبرد وَلِأَول مرة تحركت في الرجل أغصان أيكة الحب . سبح الله وأثنى على عظمته وجماله ثم دخل في حالات من الذكر لم يفق منها إلا على خطوات صبيان كانوا يمرون بجانب الفسقية ثم توقفوا لما شاهدوه ، كان غريباً أن يروا رجلاً في الجنة ،نظروا إليه باستغراب ، تشاوروا فيما بينهم ثم واصلوا سيرهم حتى تجاوزوا مجلسه ثم عادوا أدراجهم محيطين بالفسقية محاذرين أن يراهم ، لَبَدُوا كامنين خلف جدع نخلة ضخم أخفاهم عن الدرويش ثم بدؤوا ينادونه :
ـ واالحمق ! واالحمق !
فرقع الدرويش قهقهة رجت حدائق الجنة وأرعشت بتلات الأزهار حتى فاحت منها رائحة زكية عطرت أجواء الجنة .
ـ وما صاحبكم بمجنون وإنه لعلى خلق عظيم ! قال الرجل واهتزت لحيته على صدره بفعل ضحكة كانت عبارة عن هرير خرج من بين ضلوعه .
سمع الحارس القهقهة ، وجاء متوسلاً الحذر ومتسللاً عبر النباتات يستطلع الأمر، تقدم حتى أصبح خلف صبيين ضبطهما يصيحان :
ـ واالحمق ! واالحمق !
أمسك بشحمتي أذنيهما عركهما جيداً حتى إحمرتا ، قفز الصبيان وأصدرا أنيناً مكتوماً في حين أشارالآخرون في إتجاه الرجل الذي جلس على المقعد .
ـ أيها الشقيان !
ـ سمعناه يكلم نفسه بكلام غريب فحسبناه مجنوناً ! قال أحدهما .
ـ كل من دخل الجنة كان آمناً ، فلماذا تؤذون الرجل بكلام قبيح ؟ ثم أضاف
ـ احمدوا الله إذْ إستضافكم في جناته دونما حساب .
إعتذر الأطفال عن تصرفهم الأخرق، صرفهم الحارس ثم اتجه نحو الدرويش وكان هذا الأخير قد أغمض عينيه وشرع في الذكر مجدداً ناسياً أن صبياناً كانوا قبل قليل قربه يسِمُونه بالأحمق .
ـ هل هو المسيح الذي ظهر في الجنة أخيراً بعد أن رفعه الله إليه ؟ قال الحارس
ـ ما أنا برسول أو نبي وما أنا إلا درويش قدم إلى الفردوس ليتمتع بجمال حدائقه ويلمس الكمال الإلهي عن كثب
ـ تمتعْ بلحظات جميلة ما دمت قد حظيت بزيارة الجنة لا أدري كيف . وعلى كل حال ، فأنا لست بعيداً عنك ، وإذا ما تَاقَت نفسك شيئاً ، ما عليك إلا أن تبحث عني فإني قريب مجيب .
شكرَ الدرويش حارس الفردوس الذي إتخد سبيله بين الأشجار.
عمَّ المكان هدوء تام فكان مدعاة للحلم ومجلب للطمأنينة الداخلية ولم يسمع الرجل لعلعات الرصاص التي كانت تنطلق من أسفل الوادي وتنداح في فضاء الجبل لتشوش علىه إنصرافه إلى الذكر في كوخه المنعزل . كان الرصاص يخرج من صلب وترائب بنادق صيادين حاقدين وأنانيين جاؤوا يفسدون صمت الوادي .
(3)
لم يكن حارس الجنة قد غادر الدرويش بعينيه لحظة واحدة وإنما ظل يراقبه عن كثب ، دون أن يفطن الرجل به ، متوارياً خلف أيكة كثيفة وذلك لِمَا لمس في الدرويش من غرابة في تصرفاته وهندامه فضلاً عن أن الحارس لم يشاهد قط زائراً في الفردوس عدا صبيان طرية أظافرهم . بات يراقبه حتى شاهده يقفز كالمجنون وينفض عنه جناحين أصرَّا على أن يصاحباه في قفزاته ، كان يرجهما بقوة ربما ليتخلص منهما ، وكانت يديه قد إختفتا فجأة ، رآه يحلق لحظة قصيرة في الفراغ ثم يهوي على قدميه ، وكان يضحك بشكل غريب ، ثم شاهده يعلو على الفسقية ثم يعود إلى مكانه على الأرض ، وفي الأخير لما غادر الحارس مكمنه ليتوجه صوب الدرويش ، كان هذا الأخير قد بدأ يحلق عالياً في فضاء الحديقة حتى توارى عن أنظار الحارس ، ومن خلال أوراق الأشجار كان يبدو له بين فينة وأخرى ثارة فارداً جناحيه وممسكهما وثارة يرفرف بهما ، ظل الدرويش يحلق ثم يحلق حتى لم يعد يقوى على الإتيان بحركة أخرى ، كان قد شعر بتشنج في ذراعيه وتعب في جسمه ، فكف عن التحكم في جناحيه، آنئذٍ بدأ يهوي في الفراغ بسرعة جعلته يرتطم بأغصان سوامق الأشجار ثم أخيراً بالأرض ، فأحس بأعضائه الداخلية تكاد تنفجر. قفز من نومه مذعوراً ، تلمس ساقيه ، ـــــــــــــــــــــــ
احماد بوتالوحت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق