... من عبق الروح تنتفض أجنحتي الكسيرةُ فأحلّق عاليا، عاليا في فضاء مديد يلوّنه قوسُ قزحِ ذكرياتي البعيدةِ الموغلةِ في النّسيان حدّ التيه والتشظّي ذرّات ذرّات، هنا وهنالك في متاهات العمر المفعم باللُّهاث وراء حلم مجنّح عصيّ كما الخرافة في حكايا جدّتي...
أحلّق وهمًا كأنّني النَّسر الجريح وقد فقد توازنه بعد أن هدّه الوجعُ وأدماه العجْزُ فتتراءى لي الأرض بيضاء بلقعا بِيدا وراءها بيدُ بعد زُمين اخضرار ظننته لن يذبل ولن يبيد أبدا... وتعترضني البناءاتُ الشاهقة كأعشاش طير عبثت بها رياح الخريف الصفراءُ الغبراءُ العاتيةُ وتعصف بي روائح المدينة المتباينةُ فلا هي تُنعش النفسَ منّي ولا هي تذكي الذاكرة ولا هي تزفّ إليّ سريانَ الموت وشدو الفناء...
أنصت بكلّ كياني إلى همهمات... هي شبه أدعية تحملني إلى مهد تلك الطفلة البريئة الحالمة الّتي لا تنام إلّا في أحضان أمّها وهي تهدهدها بصوتها الملائكيّ الرّخيم ببعض الأدعية المنمّقة ذات الإيقاع الانسيابيّ اللّطيف وتغنّي: " سعدي بيها سعدي بيها، تكبر بنتي ونقرّيها ويخطبوني ما نعطيها كي يجيبوا لي تونس فيها ذهب البِركة ما يرضيها، زيت الساحل لقطاطيها وقمح فريقة عولة ليها وحنّة قابس في رجليها حِجبة وزغاريط عليها !
سعد سعود وسعد سعود، في عرسها نذبح قْعود، مِهري وعويناته سود يا حنّانة سعد سعود.
باب ابار باب ابار في عرسك نعمل خنّار ونستاذن تونس بالدار شايبة وبناويت صغار ونذبح عاصي للطبّال ونذبح ثور للزكّار وللكلاب نذبح حمار.
سعد سعد وسعد سعد مهر بنتي ما يقدّو حد، يجيبو قصعة بالذهب وتلبس بنتي لين تفد وماتعطيش لحتّى حد. سعدك بيها سعدك بيها يا للا وين لقيتيها خمسة والخميس عليها " وبأناملها الدّافئة الحاذقة تمشّط شعرها الأشقر المنسدل كما الحرير... أُمْسِك بتلابيب تلك البنيّةِ التّي لا تزال تسكُنُنِي و الهاربةِ منّي أبدا. أداعبها، أسائلها، أحتضنها، ألثَمها، أضمّها إلى صدري بظمإ الصّدى ولهفة الشوق ووجع الحرمان وقيظ الغربة والاغتراب... تحدّق فيّ مليّا بعينيها العَسَليّتين البرّاقتين وتبتسم... فأبتسم ويداهمني طَرَبٌ كذاك الذّي مرّ بي أو مررتُ به ذات عهد من أيّامي الأولى بالمدرسة الابتدائيّة حين يشكرني معلّمي مرتابا و يصفّق لي أترابي وأنا أتلو عليهم "إنشائي "...
أدنو منها زحفا وتتناءى عنّي خببا فركضا... أزحف رَجَزا وألوّح لها بيدي اليمنى فاليسرى ثمّ بكلتيهما... تتوقّف لحظاتٍ هي الدّهرُ كلُّه وتلتفتُ إليّ وتبتسم. تبتسم في مكر وكِبْر وخُيَلَاء... أُجهدُ النّفس في اللَّحاق بها ركضا حتّى تنقطع منّي الأنفاس وتَدْمى قدماي من وعثاء الطّريق... تغوص هي في يمّ لا يُدْرَكُ غورُه ثمّ لا تلبث أن تركبَ الموجَ الهادرَ في رشاقة عروس البحر وغَنَجِها وعطرِها... يجذبني إليها أريجُ حركاتها وسكناتها وعزفُ ظلال خفّتها ورشاقتها، أنا التّي لا تُحسنُ السّباحةَ ولا ترومها... غير أنّ جمر العزم منّي قد صحّ واشتدّ وامتدّ واعتدّ لألحق بها إسراءً و معراجا. و ما أكاد أصل إليها وأهمّ بتقبيلها وضمّها إليّ عساها تكون لي دِثارا يقيني الحرَّ والقُرَّ في الزّمن الآتي الزّاحف إليّ ببيض لياليه حتّى يلفَّها الفضاءُ الرّحيب غيمةً شذيّةً في سماه وتتلاشى بَرَدًا كومضة ضوء في حالك الظلام... بل كبسمة وليد في يوم عبوس لا ينتهي ...
أنا امرأة يستهويني التحدّي حتّى لكأنّني من سلالة " سيزيف " في صراعه مع صخرته العاتية... أهوى النّزالَ ولا أُغلَبُ غالبا... لذلك قرّرتُ اليومَ أن أجتثَّ الحلم َ العصيَّ من منجم الرّوح وأُسْكنَه معطفي حتّى أتدثّرَ به وأَهزمَ الصّقيعَ الذّي كأنّ به حياء فما رام غير عظامي أهلا وسهلا وطيبَ عيشٍ رغيدٍ... هو جاثم بعظامي و بدمي كما الموت؛ تصلني رائحتُه بين الحين والآخر زخّات مِزَقاً فلا أجزع ولا أغضب بل أقتلع الأمل الشّاردَ من سباخ الرّوح وأُكحّل به عنفوانَ الآتي وأُخضّبُ به رموش العين و بؤبؤها حتّى أدحَرَ الوَجَعَ الّذي ينخرُني من كلّ جانب كما السّوس في شتاء العمر العجِلِ المتواري كقاطرة تطير تحت الماء {المنش } لتصل شرايين مدينة الأنوار: باريس بشرايين مدينة الضّباب: لندن !
أتدرّبُ على ترويض ألمي دُرْبتي على تأليف أَملي... أحتضنهما معا بعبق الحياة و دفئها المتغلغلين في كياني و أسري بهما نحو " الفراديس المعلّقة المفقودة " فتمتدّ الدّروب أمامي ومن خلفي ومن تحتي ومن فوقي، بعضها قبس من نور يبشّرني بقِبلتي والخلاص وقد ضاعت منّي كلُّ الجهات، وبعضها لا يعدو سرابا خلّبا ينذر ببيداء يباب تنعق بها الغربان والبوم هنا وهنالك...
لا يني منّي العزم ولا تكلّ منّي الإرادة فأجمّع أشلاء حيرتي ورذاذ وجعي وأُكوّرها لأقذف بها في يمّ الشُّبُهات... أُغمِضُ عينيَّ وأصمُّ أذنيَّ و أُواصلُ الإسراء سيرا على الأقدام!!!
ألتقيه هناك في منعطف الدّرب متلفّعا بجلباب " بجماليون " ينحتُ من الماء طينا ومن الهباء حياة ويراود طواحين النّار عن شعلتها فلا تزداد إلّا تأجّجا... يكاد اللّهب يبتلعه فأدنو منه على حذر وأسحبه إلى أحضاني المستعرة جليدا وشوقا... ينقاد إليّ مطواعا وقد أرهقه التّرحال من مدن الثّلج إلى مواسم القيظ. يغمس هامته التّعبة في دفء صدري ويغمض عينيه كما تعوّد أن يفعل إذا ما رام أن يرى العالم من حوله أجمل وأسنى... أهدهدُهُ طفلا على صدى ترانيم جدّتي بأصابعي تندسّ في رفق بين ثنايا شعره الأشمط فيركن إلى لمساتي السحريّة بعض ساعة ليثب مذعورا نحو دربه الذّي أمعن السير فيه على عسره وكثرة مزالقه... وأظلّ على شوقي إلى من كان لا يرى العالم إلّا بمرآة حدقتيّ ولا يسعني إلّا أن أقصد البحر أستظلّ بأمواجه من ضجري و أحتمي بزرقته من بياض ليالي حلّي وترحاله.
صفيّة قم بن عبد الجليل ( تونس )
سوسة، في 06 ديسمبر 2012
أحلّق وهمًا كأنّني النَّسر الجريح وقد فقد توازنه بعد أن هدّه الوجعُ وأدماه العجْزُ فتتراءى لي الأرض بيضاء بلقعا بِيدا وراءها بيدُ بعد زُمين اخضرار ظننته لن يذبل ولن يبيد أبدا... وتعترضني البناءاتُ الشاهقة كأعشاش طير عبثت بها رياح الخريف الصفراءُ الغبراءُ العاتيةُ وتعصف بي روائح المدينة المتباينةُ فلا هي تُنعش النفسَ منّي ولا هي تذكي الذاكرة ولا هي تزفّ إليّ سريانَ الموت وشدو الفناء...
أنصت بكلّ كياني إلى همهمات... هي شبه أدعية تحملني إلى مهد تلك الطفلة البريئة الحالمة الّتي لا تنام إلّا في أحضان أمّها وهي تهدهدها بصوتها الملائكيّ الرّخيم ببعض الأدعية المنمّقة ذات الإيقاع الانسيابيّ اللّطيف وتغنّي: " سعدي بيها سعدي بيها، تكبر بنتي ونقرّيها ويخطبوني ما نعطيها كي يجيبوا لي تونس فيها ذهب البِركة ما يرضيها، زيت الساحل لقطاطيها وقمح فريقة عولة ليها وحنّة قابس في رجليها حِجبة وزغاريط عليها !
سعد سعود وسعد سعود، في عرسها نذبح قْعود، مِهري وعويناته سود يا حنّانة سعد سعود.
باب ابار باب ابار في عرسك نعمل خنّار ونستاذن تونس بالدار شايبة وبناويت صغار ونذبح عاصي للطبّال ونذبح ثور للزكّار وللكلاب نذبح حمار.
سعد سعد وسعد سعد مهر بنتي ما يقدّو حد، يجيبو قصعة بالذهب وتلبس بنتي لين تفد وماتعطيش لحتّى حد. سعدك بيها سعدك بيها يا للا وين لقيتيها خمسة والخميس عليها " وبأناملها الدّافئة الحاذقة تمشّط شعرها الأشقر المنسدل كما الحرير... أُمْسِك بتلابيب تلك البنيّةِ التّي لا تزال تسكُنُنِي و الهاربةِ منّي أبدا. أداعبها، أسائلها، أحتضنها، ألثَمها، أضمّها إلى صدري بظمإ الصّدى ولهفة الشوق ووجع الحرمان وقيظ الغربة والاغتراب... تحدّق فيّ مليّا بعينيها العَسَليّتين البرّاقتين وتبتسم... فأبتسم ويداهمني طَرَبٌ كذاك الذّي مرّ بي أو مررتُ به ذات عهد من أيّامي الأولى بالمدرسة الابتدائيّة حين يشكرني معلّمي مرتابا و يصفّق لي أترابي وأنا أتلو عليهم "إنشائي "...
أدنو منها زحفا وتتناءى عنّي خببا فركضا... أزحف رَجَزا وألوّح لها بيدي اليمنى فاليسرى ثمّ بكلتيهما... تتوقّف لحظاتٍ هي الدّهرُ كلُّه وتلتفتُ إليّ وتبتسم. تبتسم في مكر وكِبْر وخُيَلَاء... أُجهدُ النّفس في اللَّحاق بها ركضا حتّى تنقطع منّي الأنفاس وتَدْمى قدماي من وعثاء الطّريق... تغوص هي في يمّ لا يُدْرَكُ غورُه ثمّ لا تلبث أن تركبَ الموجَ الهادرَ في رشاقة عروس البحر وغَنَجِها وعطرِها... يجذبني إليها أريجُ حركاتها وسكناتها وعزفُ ظلال خفّتها ورشاقتها، أنا التّي لا تُحسنُ السّباحةَ ولا ترومها... غير أنّ جمر العزم منّي قد صحّ واشتدّ وامتدّ واعتدّ لألحق بها إسراءً و معراجا. و ما أكاد أصل إليها وأهمّ بتقبيلها وضمّها إليّ عساها تكون لي دِثارا يقيني الحرَّ والقُرَّ في الزّمن الآتي الزّاحف إليّ ببيض لياليه حتّى يلفَّها الفضاءُ الرّحيب غيمةً شذيّةً في سماه وتتلاشى بَرَدًا كومضة ضوء في حالك الظلام... بل كبسمة وليد في يوم عبوس لا ينتهي ...
أنا امرأة يستهويني التحدّي حتّى لكأنّني من سلالة " سيزيف " في صراعه مع صخرته العاتية... أهوى النّزالَ ولا أُغلَبُ غالبا... لذلك قرّرتُ اليومَ أن أجتثَّ الحلم َ العصيَّ من منجم الرّوح وأُسْكنَه معطفي حتّى أتدثّرَ به وأَهزمَ الصّقيعَ الذّي كأنّ به حياء فما رام غير عظامي أهلا وسهلا وطيبَ عيشٍ رغيدٍ... هو جاثم بعظامي و بدمي كما الموت؛ تصلني رائحتُه بين الحين والآخر زخّات مِزَقاً فلا أجزع ولا أغضب بل أقتلع الأمل الشّاردَ من سباخ الرّوح وأُكحّل به عنفوانَ الآتي وأُخضّبُ به رموش العين و بؤبؤها حتّى أدحَرَ الوَجَعَ الّذي ينخرُني من كلّ جانب كما السّوس في شتاء العمر العجِلِ المتواري كقاطرة تطير تحت الماء {المنش } لتصل شرايين مدينة الأنوار: باريس بشرايين مدينة الضّباب: لندن !
أتدرّبُ على ترويض ألمي دُرْبتي على تأليف أَملي... أحتضنهما معا بعبق الحياة و دفئها المتغلغلين في كياني و أسري بهما نحو " الفراديس المعلّقة المفقودة " فتمتدّ الدّروب أمامي ومن خلفي ومن تحتي ومن فوقي، بعضها قبس من نور يبشّرني بقِبلتي والخلاص وقد ضاعت منّي كلُّ الجهات، وبعضها لا يعدو سرابا خلّبا ينذر ببيداء يباب تنعق بها الغربان والبوم هنا وهنالك...
لا يني منّي العزم ولا تكلّ منّي الإرادة فأجمّع أشلاء حيرتي ورذاذ وجعي وأُكوّرها لأقذف بها في يمّ الشُّبُهات... أُغمِضُ عينيَّ وأصمُّ أذنيَّ و أُواصلُ الإسراء سيرا على الأقدام!!!
ألتقيه هناك في منعطف الدّرب متلفّعا بجلباب " بجماليون " ينحتُ من الماء طينا ومن الهباء حياة ويراود طواحين النّار عن شعلتها فلا تزداد إلّا تأجّجا... يكاد اللّهب يبتلعه فأدنو منه على حذر وأسحبه إلى أحضاني المستعرة جليدا وشوقا... ينقاد إليّ مطواعا وقد أرهقه التّرحال من مدن الثّلج إلى مواسم القيظ. يغمس هامته التّعبة في دفء صدري ويغمض عينيه كما تعوّد أن يفعل إذا ما رام أن يرى العالم من حوله أجمل وأسنى... أهدهدُهُ طفلا على صدى ترانيم جدّتي بأصابعي تندسّ في رفق بين ثنايا شعره الأشمط فيركن إلى لمساتي السحريّة بعض ساعة ليثب مذعورا نحو دربه الذّي أمعن السير فيه على عسره وكثرة مزالقه... وأظلّ على شوقي إلى من كان لا يرى العالم إلّا بمرآة حدقتيّ ولا يسعني إلّا أن أقصد البحر أستظلّ بأمواجه من ضجري و أحتمي بزرقته من بياض ليالي حلّي وترحاله.
صفيّة قم بن عبد الجليل ( تونس )
سوسة، في 06 ديسمبر 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق