⏪⏬
كانت لوالدي شقيقة واحدة فقط من أمه وأبيه، تقطن في قرية صغيرة رابضة على سفح الجبل، ولقد خصها المولى القدير بجملة راقية من الخلال الحميدة كطيبة القلب، وصفاء الروح، وحلاوة اللسان، ونعمة التواضع.
كانت عمتي كثيرا ما تطل علينا في المناسبات، إذا لاحت لأعيننا كالبدر المنير تتهادى في مشيتها البطيئة نبعثر ما في أيدينا من لعب، ونتقافز إليها كالأرانب النشطة ونحن محملون بعراجين اللهفة، وأطنان الفرح، نتشبث بملاءتها الأشد بياضا هاتفين من غير صبر:
ـــ اشتقنا إليك يا عمتي.
ـــ نحبك حبا جما يا عمتي.
بيديها المعروقتين تمسك بقفتها القابعة على رأسها، وتضع إياها على الأرض، ومن ثم تغمرنا بسيل جارف من القبلات الرحيمة وهي تسألنا في غمرة من الشوق الدفين: كيف حالكم؟ أأنتم بخير يا صغاري؟
تمر دقائق قصار وإذا بها تحمل قفتها من جديد وتثبتها على رأسها مبينة بوضوح تام: لقد جلبت لكم من الريف أشهى الفواكه وألذ الأطعمة.
سألها سامي متلهفا: ألم تنسي النبق اللذيذ يا عمتي؟
ـــ كلا يا عزيزي، لم أنسه، أنا أعرف جيدا أنك من عشاقه.
ثم تكمل بارتياح عميق: جلبت لكم ما تشتهونه من حليب الماعز، ودراق، وخبز شهي، وزبدة البقر، و....، و....، و.....
نصفق مبتهجين، ونردد في آن واحد: نحبك يا عمتي، نحبك يا عمتي.
ترد علينا بكلمات ينساب من ثناياها حنان دفاق: وأنا كذلك أحبكم يا صغاري اللطفاء.
نواصل سيرنا في حبور عارم إلى أن نبلغ منزلنا المتواضع.
تقول لأمي: أولادي الخمسة انتقلوا جميعهم إلى حضن المدينة بعد زواجهم مباشرة، و....
تفاجئها والدتي قائلة وقد اكتسى صوتها نوع من العتاب الرقيق: كان من الأجدر أن يمكثوا بجوارك ليعكفوا على مراعاتك وأنت في مثل هذا السن الحرج.
ـــ أنا ووالدهم من سمحنا لهم بالانتقال إلى المدينة لممارسة أعمالهم هناك، لقد ألحوا علينا مرارا بأن نبيع مسكننا الدافئ، ونصرف نظرنا عن أرضنا المعطاء بغية مرافقتهم إلى المدينة، رفضنا الفكرة من أساسها، لم نتقبلها مطلقا، أنا وزوجي لنا صلة وطيدة بأمنا الأرض، ليست لنا الشجاعة الكافية على مفارقتها، هي بمكانة الهواء الصافي الذي ينعشنا، هي جزء منا لا ينفصم.
ثم تابعت قائلة: لو أنجبت من قبل لكان أولادك كبارا في سن أولادي بالضبط، ولكن....
واحتمت بستائر الصمت الموجع كأنما ارتكبت خطأ فادحا بما تفوهت به. بعد هنيهة سارعت لتقول: سامحيني عزيزتي على ما ابتدر مني، تصورت أن كلامي أثار إزعاجك إلى حد كبير، لم أكن أبغي تجريحك، والله لم أقصد، سامحيني.
نهضت من مكانها وقبلت رأسها.
ـــ لا تتأسفي على ذلك، نحن بمثابة الأخت لأختها، نحن نحب بعضنا منذ زمن بعيد، يا ترى هل تنزعج الأخت من أختها لأدنى سبب؟
سكتت لثوان ثم استرسلت: ما باليد حيلة، أنت تعلمين علم اليقين أن الله لم يمن علينا بالذرية رغم أننا طرقنا أبواب الأطباء مرات عدة، وفي النهاية شاء القدر بأن نعكف على تربية أبناء ليسوا بأبنائنا، لا آباء لهم ولا أمهات، هم ضحايا لنزوات طائشة.
كالعادة اشتقنا إلى مجيء عمتنا الطيبة، ولكنها لم تأت ولذا صممنا على زيارتها في أقرب وقت.
طافت نظراتها على صفحات وجوهنا لبعض الدقائق، ثم سألتنا وكان في سؤالها نوع من الغرابة وعدم التصديق: من أنتم؟ ومن أين أتيتم؟
تبادلنا النظرات القلقة فيما بيننا، وسادنا الوجوم.
تطوع والدي ليزيل عنها ضبابية الالتباس: إن الذين أمامك هم أولادي، يحبونك وتحبينهم، أولادي الثلاثة فتحي، سامي، وبلال، أما أنا شقيقك عبد القادر، أنسيت ذلك يا ابنة أمي وأبي؟
حملقت في الجميع وقالت مستنكرة: أنا لا أعرفكم، لم يسبق لي ولو مرة أن رأيت هذه الوجوه.
حينئذ اعتبرنا كلامها مزحة ليس إلا.
أكدت لنا: والله لا أعرفكم، من أنتم؟
في تلك اللحظة دخل زوجها، سلم علينا وقال بأسف شديد: لقد خبت ذاكرتها، لم تعد تنعم بها كالسابق، أصيبت بداء الزهايمر.
لم يكن بوسع والدي فعل شيء، أما نحن الصغار تأكدنا من كلامها بأنها لم تعد تتذكر وجوهنا أبدا.
*غزالة الزهراء
كانت لوالدي شقيقة واحدة فقط من أمه وأبيه، تقطن في قرية صغيرة رابضة على سفح الجبل، ولقد خصها المولى القدير بجملة راقية من الخلال الحميدة كطيبة القلب، وصفاء الروح، وحلاوة اللسان، ونعمة التواضع.
كانت عمتي كثيرا ما تطل علينا في المناسبات، إذا لاحت لأعيننا كالبدر المنير تتهادى في مشيتها البطيئة نبعثر ما في أيدينا من لعب، ونتقافز إليها كالأرانب النشطة ونحن محملون بعراجين اللهفة، وأطنان الفرح، نتشبث بملاءتها الأشد بياضا هاتفين من غير صبر:
ـــ اشتقنا إليك يا عمتي.
ـــ نحبك حبا جما يا عمتي.
بيديها المعروقتين تمسك بقفتها القابعة على رأسها، وتضع إياها على الأرض، ومن ثم تغمرنا بسيل جارف من القبلات الرحيمة وهي تسألنا في غمرة من الشوق الدفين: كيف حالكم؟ أأنتم بخير يا صغاري؟
تمر دقائق قصار وإذا بها تحمل قفتها من جديد وتثبتها على رأسها مبينة بوضوح تام: لقد جلبت لكم من الريف أشهى الفواكه وألذ الأطعمة.
سألها سامي متلهفا: ألم تنسي النبق اللذيذ يا عمتي؟
ـــ كلا يا عزيزي، لم أنسه، أنا أعرف جيدا أنك من عشاقه.
ثم تكمل بارتياح عميق: جلبت لكم ما تشتهونه من حليب الماعز، ودراق، وخبز شهي، وزبدة البقر، و....، و....، و.....
نصفق مبتهجين، ونردد في آن واحد: نحبك يا عمتي، نحبك يا عمتي.
ترد علينا بكلمات ينساب من ثناياها حنان دفاق: وأنا كذلك أحبكم يا صغاري اللطفاء.
نواصل سيرنا في حبور عارم إلى أن نبلغ منزلنا المتواضع.
تقول لأمي: أولادي الخمسة انتقلوا جميعهم إلى حضن المدينة بعد زواجهم مباشرة، و....
تفاجئها والدتي قائلة وقد اكتسى صوتها نوع من العتاب الرقيق: كان من الأجدر أن يمكثوا بجوارك ليعكفوا على مراعاتك وأنت في مثل هذا السن الحرج.
ـــ أنا ووالدهم من سمحنا لهم بالانتقال إلى المدينة لممارسة أعمالهم هناك، لقد ألحوا علينا مرارا بأن نبيع مسكننا الدافئ، ونصرف نظرنا عن أرضنا المعطاء بغية مرافقتهم إلى المدينة، رفضنا الفكرة من أساسها، لم نتقبلها مطلقا، أنا وزوجي لنا صلة وطيدة بأمنا الأرض، ليست لنا الشجاعة الكافية على مفارقتها، هي بمكانة الهواء الصافي الذي ينعشنا، هي جزء منا لا ينفصم.
ثم تابعت قائلة: لو أنجبت من قبل لكان أولادك كبارا في سن أولادي بالضبط، ولكن....
واحتمت بستائر الصمت الموجع كأنما ارتكبت خطأ فادحا بما تفوهت به. بعد هنيهة سارعت لتقول: سامحيني عزيزتي على ما ابتدر مني، تصورت أن كلامي أثار إزعاجك إلى حد كبير، لم أكن أبغي تجريحك، والله لم أقصد، سامحيني.
نهضت من مكانها وقبلت رأسها.
ـــ لا تتأسفي على ذلك، نحن بمثابة الأخت لأختها، نحن نحب بعضنا منذ زمن بعيد، يا ترى هل تنزعج الأخت من أختها لأدنى سبب؟
سكتت لثوان ثم استرسلت: ما باليد حيلة، أنت تعلمين علم اليقين أن الله لم يمن علينا بالذرية رغم أننا طرقنا أبواب الأطباء مرات عدة، وفي النهاية شاء القدر بأن نعكف على تربية أبناء ليسوا بأبنائنا، لا آباء لهم ولا أمهات، هم ضحايا لنزوات طائشة.
كالعادة اشتقنا إلى مجيء عمتنا الطيبة، ولكنها لم تأت ولذا صممنا على زيارتها في أقرب وقت.
طافت نظراتها على صفحات وجوهنا لبعض الدقائق، ثم سألتنا وكان في سؤالها نوع من الغرابة وعدم التصديق: من أنتم؟ ومن أين أتيتم؟
تبادلنا النظرات القلقة فيما بيننا، وسادنا الوجوم.
تطوع والدي ليزيل عنها ضبابية الالتباس: إن الذين أمامك هم أولادي، يحبونك وتحبينهم، أولادي الثلاثة فتحي، سامي، وبلال، أما أنا شقيقك عبد القادر، أنسيت ذلك يا ابنة أمي وأبي؟
حملقت في الجميع وقالت مستنكرة: أنا لا أعرفكم، لم يسبق لي ولو مرة أن رأيت هذه الوجوه.
حينئذ اعتبرنا كلامها مزحة ليس إلا.
أكدت لنا: والله لا أعرفكم، من أنتم؟
في تلك اللحظة دخل زوجها، سلم علينا وقال بأسف شديد: لقد خبت ذاكرتها، لم تعد تنعم بها كالسابق، أصيبت بداء الزهايمر.
لم يكن بوسع والدي فعل شيء، أما نحن الصغار تأكدنا من كلامها بأنها لم تعد تتذكر وجوهنا أبدا.
*غزالة الزهراء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق