اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

قراءة في نص الأديب المبدع محمد الرمادى

⏪بقلم: أحمد بيدر
⏪من المنبع

من المنبع
حضرتِ ولم تحضري
فلم تكوني غائبة...
وغبت ولم تغيبي
فلم تكوني حاضرةً...
كنتِ كالهواء يُحيينا
لكنَّا لا تراه
كنتِ كالضوء يروينا
لكنَّا لا نحسه
كنتِ كنقطة التقاء البحر بالسماء
من المستحيلِ الوصولِ إليها
ولا عزاء
2)
أيها الحالم اليَقظُ
إلى متى ستظلُ حالما
متى ستخرج من تلك الدائرة التي رُسمت لك
كي ترى الحقيقة كاملة
متى؟!
حتى لا تلقى اتهاماتك جزافا فهذا ظالم في رأيك
وهذه حالمة
3)
يا أماه
كلُّ البيوتِ التي دخلتُها بعد رحيلك
لم أجد بها رائحةَ الأم
وكل القلوبِ حملت يافطة للبيع
كأن البيوتَ صارت من زجاج
والقلوبُ أطرافٌ صناعية
أخبريني يا أمي هل يفيد الندم؟
على قلوب لا تشعر...لا تحس... لا تستكين
و تحيا الحياةَ كصنم
4)
تلك القلوبُ يا أمي ليست آلهة
و لستُ
ما أكثرُ القلوب التي عرفتها و صاحبتها
و أسِفتُ
القلبُ الوحيدُ الوحيدُ يا أمي كان قلبُك أنتِ
ليتكِ يا أمي ما رحلتِ
5)
يا أماه لقد باعوا المدينةَ
والشوارع و الأرصفة
باعوا البحرَ والأرض
والقلوب أصبحت مرتعشة... خائفة
لم يعد لدينا ما نبكي عليه يا أمي
لم يعد شيء لدينا
فمتى تقومُ الراجفة؟
6)
تنقّل الدمع بين الوريد و الشريان
حتى الدمعُ الذي كان يهوى السقوط لم يسقط
آبى أن يبكي من وراء قضبان سجنه اللامتناهي
7)
يوما ما أحبتني بقلبها
كان قلبا من ورق
ظنت أني كما يدعون شاعرا
سأكتفي بالكتابةِ على القلب الورق
لم تدر أن أحرفي و نبضاتي و كتاباتي
دمٌ وعرق
وأنني وإن كنت أهوى في عيون الحسان الغرق
ما بحثتُ عن طوق نجاة إلا في عينيها
ليتها ظلت مفتوحةَ العينين
لكنها راحت يا أمي في سباتٍ عميق
كم أتعجب يا أمي من قدرة رب العباد
و أندهش لمَ خلق
8)
أمي!!
هل أنتِ حقا أمي
إن كنتِ حقا أمي فلماذا رحلتِ؟!
و تركتني في هذا الدرب العسير بلا رفيق
بلا أملٍ... بلا مأوى... بلا بريق
درب الذين ضل سعيهم و هم يحسبون شيئا أخر
--
الشعر نبض عقل وقلب وروح... سفير يحمل المشاعر والنبضات من القلوب إلى القلوب...
يكتب الشاعر رؤيته وفكره ونبضه حروفا من نور... تطير عطرا يصافح الأمل والغد والغياب والحضور...
وشاعرنا حقل زهر وورد ورياحين... يرسل روحه لتعانق الحياة بكل ما فيها من سعادة وحبور وشقاء وغياب وجروح... لا يعطر الكلمات لتبدو سعيدة... بل يرسلها نارا تلظى لتحرق الوهم الساكن في الصدور...
ونصنا مقاطع يربطها خيط رفيع من الفقد والحزن والمعاناة... والبحث عن طوق نجاة...

يبدأ شاعرنا بالعنوان (من المنبع)... و(من) حرف جر يفيد الابتداء... و(المنبع) موضع تدفق النبع وهو الأصل والبداية... يحمل الماء الصافي النقي الطاهر... الخالي من مشاعر تدنسها خطوات الزيف والكذب والادعاء... فسيحمل لنا كل ما هو صادق وواضح...
وقد يقال ان (من) هنا استفهامية... نستفهم بها عمن نراه المنبع... من يحدد بداية تدفقه ومصبه... هل هي الأم أم الوطن ولعلها الحرية ويراها البعض الفرص السانحة له... وتمتد قائمة البدائل المتاحة... وللإجابة عن تساؤلنا حول العنوان... دعونا نطلق عقولنا بلا قيود في رحلة البحث...
--
⏪يبدأ شاعرنا نصه بقوله في مقطعه الأول:
(حضرتِ ولم تحضري... فلم تكوني غائبة...) ليقودنا في تناقض عقلي... يدفعنا إلى المشاركة في النص بمحاولات تحليلية علّنا نهتدي لمقاصده... فشاعرنا يرفض أن نكون متلقين... نستمع ونصفق... بل متفاعلين مع نصه مبحرين معه في قاربه الشعري...
وهو يخاطب أنثى بعبارة تقريرية (حضرتِ ولم تحضري)... فهي حاضرة غائبة أو لنقل غائبة في حضورها... أو غائبة رغم حضورها... ولعلها حاضرة قبل حضورها... وربما مغيبة عن الحضور المرغوب فيه...
يبتسم الشاعر لمحاولاتنا تحليل كلماته... فهو إبحار ممتع لكنه قد يغرق القارئ في بيئات لم يعتد عليها... ويتركنا شاعرنا نبحث في عقولنا عن (حضور من لم تحضر)؟!!
استخدم شاعرنا الفعل الماضي (حضرتِ)... ولا يكون الحضور إلا من غياب...
قد تشير العبارة إلى أنها كانت غائبة ماديا وجسديا وحضرت... وبقيت مشاعره نحوها أنها غائبة رغم حضورها.
وقد تشير إلى أنه كان يتوقع أن يُحدث حضورها تغييرا فيما يعيش من أحوال... لكن هذا لم يتحقق... فكان حضورها سلبيا محبطا لطموحاته...!! فتساوى لديه حضورها والغياب...
وقد يشير القول: (حضرت ولم تحضري): إلى امتلأ وجوده بها من قبل حضورها... فهو يعيش حضورها المعنوي الذي لا يفارقه... فحضورها المادي لم يقدم جديدا لحضورها المعنوي... فهي تشاركه وجوده قبل وجودها المادي وبعده؟!
وقد يحمل القول: (حضرت ولم تحضري) عتابا لها على حضور ناقص (سلبي)... حضور مادي جسدي وغياب القلب والعقل والمشاعر والروح؟...

ويقفز السؤال: إن كانت كل هذه الاحتمالات ممكنة... فمن التي حضرت ولم تحضر؟... هل هي الحبيبة... الأم... الوطن... الحرية... السعادة؟... وتبقى كل الاحتمالات مفتوحة...

ويقول شاعرنا معقبا (فلم تكوني غائبة)... ليقول لنا ان حضورها لم يكن بعد غياب... فيعيدنا إلى الغياب المادي والمعنوي... فهي لم تكن غائبة جسديا أم معنويا؟! وهل كان حضورها جسديا أم معنويا؟...
ولنكمل لعل الشاعر يقدم لنا مفاتيح بوابات نصه...
يقول: (وغبت ولم تغيبي... فلم تكوني حاضرةً...) فنجد أنفسنا في دوامة جديدة مرتبطة بالأولى... فالغياب مضاد للحضور... لكن من يسكننا حاضر رغم غيابه، ومن لا يودنا غائب رغم حضوره.
فهل غادرته (الحبيبة) جسديا... لكنها معه؟... فهي ملهمة عقله وأمله وطريق سلوكه...
وتساءلت إذا لم تكن غائبة رغم غيابها فهي حاضرة... فكيف لم تكن حاضرة؟!! ألا يحمل المعنيان تناقضا؟
هل يقصد أنها لم تكن حاضرة كجسد... ألا تشير كل المعاني السابقة لحضور رغم الغياب وغياب حاضر؟ هل كان قوله الأخير توكيدا بتكرار المعنى؟!!
هل يقصد انها في غيابها لا تملؤه وفي حضورها لا تروي عطشه... فهو يريدها بمنطق آخر يملؤه ويرويه ويهديه في حضورها وفي غيابها... وهذا ما لم يتحقق له بعد...

والتعبير قد يشير إلى مدى الانصهار والتمازج والترابط بين الشاعر والحبيبة... بل والحاجة إليها...

ويكمل أديبنا: (كنتِ كالهواء يُحيينا... لكنَّا لا نراه... كنتِ كالضوء يروينا... لكنَّا لا نحسه... كنتِ كنقطة التقاء البحر بالسماء؛ من المستحيلِ الوصولِ إليها... ولا عزاء...)....
وهو في هذا المقطع يبوح لنا برؤيته لواقع علاقتهما... ويؤكد قوله أنها حاضرة رغم غيابها... فقد كانت حوله دائما... تعطيه وإن غابت... فهي كالهواء لا يعيش بدونها... رغم أنه يمد يده ليحتضنها فيحتضن الفراغ أو اللا شيء... هي القدرة الكاملة والعطاء الكامل التي تبث فيه الحياة رغم أنها تشبه الخيال في غياب القدرة على تحديد أبعادها وأوصافها...
وهي كالضوء تروي العقل والروح والطريق نورا؛ فيسير على هداها... لكنها تبقى حلما يعيشه ولا يلمسه بحواسه... لا زالت هي الحاضرة فيه رغم أنه عاجز عن الإحاطة بها... وهي غائبة عنه رغم كونها الروح التي لا يحيا بدونها...
ولا زال السؤال المتكرر فينا من هي؟ وتبقى كل الاحتمالات مفتوحة!!

و(كنت) في (كنت كالهواء يحيينا) فعل ماض فهل كانت ولم تعد كذلك؟ أم كانت ولا زالت والماضي في صيغتها ليحمل امتدادا زمنيا موغلا في القدم؟ وإنا إلى هذا الراي أميل...
واختار (يحيينا) لأنه يراها إيجابية فاعلة تهب وتعطي... وليبعد عن مداركنا أي دور سلبي لم يضف و(يميتنا)
ويراها وهما أو خيالا فنقطة التقاء السماء بالأرض وهمية لا وجود لها إلا في الخداع البصري... فهي تشبه السراب في كونها حلم عطش...
--
⏪وينتقل بنا إلى المقطع الثاني:
يقول: (أيها الحالم اليَقظُ إلى متى ستظلُ حالما... متى ستخرج من تلك الدائرة التي رُسمت لك كي ترى الحقيقة كاملة... متى؟!) ونتساءل: من الحالم اليقظ؟ هل هو شخص يحاوره بطل نصنا... أم يتحدث إلى ذاته وعنها... فهو الحالم اليقظ... وأنا إلى الرأي الثاني أميل...
وكيف يكون حالما ويقظا في اللحظة ذاتها... والحلم لا يأتي إلا لنائم؟! واليقظة لا تجلب حلما... إلا إذا كانت أحلام اليقظة... وهي أحلام نستدعيها ولا تفرض نفسها علينا...
هل يقصد بـ (الحالم اليقظ): العاقل المترقب الواعي المتدبر في آليات تحويل الحلم إلى واقع؟!
فهل الحلم هنا رغبة وأمل وغد واعد يبحث عن تحقيقه... أم أنه حلم لا يجد له متنفسا يخرجه من الظلمات إلى النور؟
وأديبنا يرفض هذه الحالة... (الوقوف بين الحلم واليقظة) وقفة تملؤه حيرة وضياع... لِمَ لا يستقر؟ وهي الدعوة التي يستثيرها أديبنا في بطله.
ويظهر لنا اديبنا رؤيته لبطل نصه بقوله: (إلى متى ستبقى حالما؟) وهو استفهام يحمل رفضا وحثا للخروج من دائرة الضياع التي تحيط به دون أن يبحث جادا عن مخرج منها...
ويرى أديبنا أن بطل نصه ضعيف مستكين غير فاعل يقول: (متى ستخرج من تلك الدائرة التي رُسمت لك كي ترى الحقيقة كاملة... متى؟!)... والنداء (متى ستخرج) يحمل رفضا للواقع وتذمرا من وجوده وحثا على تجاوزه... وهو واقع لا يد له في بنائه لكن عليه تجاوزه... فإن تمكن من ذلك خرج من الدائرة المغناطيسية المغلقة التي تحيط به...
فأديبنا لديه اعتقاد قوي بإمكانات بطله على إيجاد مخرج له من دائرة الضعف والاستكانة... فإن فعل ظهرت له سماء المعرفة وانفتحت طاقات العلم والنور...
ونتساءل عن طبيعة الدائرة المحيطة بالبطل والتي تشله عن الفعل الواعي والانتصار على الذات للانتصار على الأخرين الذين أحكموا دائرتهم حوله... وما علاقتها بالأم؟
و(متى) الثانية تحمل حثا واستنهاضا وتعجلا من أديبنا ليخرج بطله إلى نور الحقيقة...
ويظهر أديبنا بعضا من ضعف بطله...
يقول: (حتى لا تُلقي اتهاماتك جزافا فهذا ظالم في رأيك... وهذه حالمة). وإلقاء التهم جزافا بلا دليل واضح وبينة ظاهرة نوع من الضعف ونوع من الهروب...
و(حتى) هنا بمعنى (كي/ من أجل) حرف يفيد إظهار السبب... و(الإلقاء) هنا يحمل عدم التروي وعدم الحرص... لذا جاءت (جزافا) لتفيد: بلا دليل ولا بينة... وجاءت الاتهامات جمعا لبيان الكثرة وربما التعدد أو التنوع... وهي أفعال لا يقوم بها متزن يدرك أبعاد سلوكاته.
ويبين لنا أن بطله يتخذ من رؤيته الخاصة معيارا للحكم على السلوكات... فيعتقد أن ما يراه صوابا هو الصواب (هذا ظالم في رأيك وهذه حالمة)... وفي رؤيته غياب رؤية وظلم...
والرؤية الذاتية ليست خطأ لكنها غير كافية لإصدار الأحكام والاعتداد بالذات دون محاكمة باقي الافتراضات، فهي نقطة ضعف، ربما كانت سببا فيما يشعر به من ضيق... فعليه جمع البينات ومعرفة آراء الآخرين ومحاكمتها وتقبل ما تظهره النتائج من أحكام.
ولا زالت صورة المنبع باهتة لا تهدينا إلى دلالة خاصة بها... ولا زالت الأم بعيدة عن روح النص ومفرداته...
--
⏪ويكمل في المقطع الثالث:
(يا أماه كلُّ البيوتِ التي دخلتُها بعد رحيلك لم أجد بها رائحةَ الأم...)
و(يا) حرف نداء للبعيد مكانا أو زمانا أو بعدا معنويا... وهي هنا للبعدين المكاني والزماني... فهو يبحث عنها في كل البيوت... وهي راحلة... لكنه يعيشها ـ في كل لحظة ـ حية نابضة في قلبه وروحه...
بحث عنها فلم يجد فيها رائحة (الأم)... وصيغة (يا اماه) للندبة والتوجع
ونجد أديبنا استخدم (الأم) في (رائحة الأم) على إطلاقها... فهو لم يبحث عن أم خاصة به... ولم يبحث عن الأم الجسد... بل الأم العطاء: الباعثة فيمن حولها الحب والحنان والانتماء والمشاعر... فلم يجد في الأم أمَّا... ما أسوأ بيتا لا تحتضنه الأم... ما أسوأ شعبا بلا أم... وما أسوأ أما لم تكن أمّا
وبطلنا فقد ما تمثله الأم في كل ما حوله... وهي معاناة نفسية يشعر بها الأديب الذي فقد الأم حقيقة ومجازا...
ويكمل مقطوعته: (وكل القلوبِ حملت يافطة للبيع... كأن البيوتَ صارت من زجاج... والقلوبُ أطرافٌ صناعية...)
القلوب منابع المشاعر... وبيع القلوب بيع للمحبة والرقة والعواطف والروابط التي تجمع الأم بأبنائها والأب بأولاده والأخوة والأصدقاء... بيع لليْن والود والعطاء... ولعله قصد ببيع القلوب بيع مفرزاتها... فأصبحت قلوبا منافقة فقدت مصداقيتها.
ويبدو أن راغبي البيع قلة... لذا كان لا بد من السعي لتسويق المعروض للبيع بالإعلان عن الرغبة في البيع بيافطة...
ولعل السبب في الإعلان غرابة ما يعرض للبيع...
بل والأكثر أن القلوب هي من تعرض ذاتها للبيع!! والقلوب بيوت المحبة...
لكن هناك احتمالا: لعلها أجبرت على عرض ذواتها للبيع!! قهرا من غيرها أو إرضاء لهم! أو تسلقا لمنفعة مرغوبة.

ونتساءل لماذا ومتى تعرض القلوب نفسها للبيع؟... بيع القلوب تحولها من قلوب حرة إلى قلوب عَبدة مسبية... انتحار القلوب انتحار لمالكها... فمتى تنتحر القلوب؟...
هل تنتحر عندما لا تجد كل ما تتمناه وتسعى إليه حاضرا؟
هل تنتحر عندما لا تجد تقديرا من الجميع لما تبذله وتعطيه لمن يحيط بها... أم تنتحر إذا نفذ عطاؤها... أو وجدت نكرانا وكرها؟!
لا تنتحر القلوب لكثرة عطائها... بل تنتحر إذا لم يُحسن توظيف خيراتها بما يخدم الجميع...
والبيوت الزجاجية سهلة الكسر لا تقي ساكنيها تقلبات الدهر... لا تقاوم الظلم والكره... وتفتقد الشجاعة والإقدام... ولعلها أكثر حساسية وتأثرا...
بل ويرى شاعرنا أن قلوب القوم اليوم قلوبا صناعية كاذبة مزورة لا تملك الأصالة ولا تحمل مشاعر... ولا تقبل أو ترفض... فهي أعدت لتقوم بأدوار خططت لها... ويُقذَف بها بعد تأديتها مهمتها التي أعدت من أجلها...
فالحياة تحولت إلى زيف بعد أن فرّطت بالفطرة التي فطر الله عليها القلوب... وتحجّرت بفعل ما لحق بها من تغير باطل...
ويكمل أديبنا نصه: (أخبريني يا أمي هل يفيد الندم؟ على قلوب لا تشعر...لا تحس... لا تستكين... وتحيا الحياةَ كصنم)...
و(الإخبار) نقل معلومات قد تكون صائبة وقد لا تكون فهي أقل مكانة من (الإنباء) الذي يعلوها صدقا... فهل يريد من أمه إخبارا أم إنباء؟ أعتقد أنه لا يبحث إلا عن أنباء صادقة واضحة الدلالة.
والنداء حقيقي ويفيد التحبب والتقرب وطلب المساندة...
والاستفهام ليس حقيقيا... وكل استفهام غير حقيقي يحمل في ثناياه تعجبا...

وبطل نصنا يسأل عما يعرف: يعرف ألا قيمة للندم إلا الإحساس بالحسرة التي يولدها... وما قد يحمل من دروس عليه أن ينتفع منها فيبتعد عن طريق الأفعال والسلوكات التي تقوده إلى ندم جديد...
وندمه ليس عاما يطول كل القلوب ... بل يرتبط بقلوب ويرى أن ارتباطه بها يستحق الندم... فهي قلوب بلا مشاعر ولا أحاسيس تأخذ ولا تعطي بل هي أصنام حيّة...
والكثيرون يستخدمون (شَعَر وأحَسَّ) بالمعنى ذاته... وهذا استخدام غير دقيق... فالمشاعر قلبية... والأحاسيس مرتبطة بالحواس...
وأنا لست مع استخدام (لا تستكين) فالتركيب اللغوي يحمل معنى التحرك والاندفاع بعيدا عن الصمت الذي تحمله ضمنا (لا تشعر ولا تحس) فهي مغيبة...
لكن ربما يقول لنا أديبنا... أن الاستكانة تحمل معاني الهدوء والتروي والرضا والقبول... وعدم الاستكانة تفقد القلوب طيبتها وعطاءها...
والأم هنا مرجعيته التقويمية، التي يستند إليها في إثبات أنه يميز الصواب من الخطأ ويسير في طريق نابضة...
--
⏪ويقول في مقطعه الرابع:
(تلك القلوبُ يا أمي ليست آلهة... ولستُ...) فهو يدرك أن قلوب البشر تخطئ وتصيب وتقترب وتبتعد... وهو مثلهم... وهي نظرة واقعية وموضوعية تشير إلى عقلانية بطلنا فالناس عيوبهم.
وفي تجربة حياته قابل الكثير من الصنف الذي لا يرغبه والذي تنتهي علاقته بهم على محاسبة للنفس وأسف وندم. فهو يبحث عن أصدقاء بمواصفات طاهرة نقية صادقة يبحث عن نفسه في غيره... يقول: (ما أكثرُ القلوب التي عرفتها وصاحبتها وأسِفتُ) و(ما) تعجبية من كثرة من صاحبهم ولم يكونوا كما يرغب؟
ونتساءل: هل كثرة الأصدقاء السيئين نتيجة عدم قدرة على الاختيار... أم طيبة قلوبنا... أو مقارنتهم بما نراه مثالا لنا في الصفات والأخلاق...
وشاعرنا يرى أن (القلبُ الوحيدُ الوحيدُ يا أمي كان قلبُك أنتِ... ليتكِ يا أمي ما رحلتِ) فهل قلب أمه الأجمل فعلا... لأنه يمتلئ طيبة وحنان وحب وعطاء وتدبر وتوجيه وتقويم و... أم لأنه قلب الأم الذي يحب؟ أم هو الأجمل بسبب غيابها ورحيلها؟
ونجد أنفسنا نقف عند بعض احتمالات الأم... فالوطن قد نفقده لكنه لا يرحل... والحرية قد نخسرها ولكنها لا ترحل... والأم، والزوجة؟ فنحن إن فقدنا الأم: فقدنا تمازج صفاتها التي تحمل معاني التدبر والعطاء فهي دوما قلبها نابض بأبنائها ولهم... وهي دائما تغفر ذنوبهم وتتجاوز عن زلاتهم...
--
ويكمل في المقطع الخامس:
(يا أماه لقد باعوا المدينةَ والشوارع و الأرصفة... باعوا البحرَ والأرض... والقلوب أصبحت مرتعشة... خائفة). وهو مقطع يتناول ما حدث بعد غيابها أو استكانتها... باعوا الوطن...
فهل لم يكن أحد يجرؤ على النيل من المدينة في حضورها...
أم باعوا المدينة لكون الأم حاضرة غائبة أو مغيبة؟...
وترتفع لدينا معايير أن الأم هي الأم... وهي الأرض الوطن... والحب والحنان والتدبر والعطاء...
فهي أكثر حزنا على تمزيق أشلائها وتشويه ملامحها وضياع معالمها... باعوا كل ما يباع وما لا يباع... باعوا المدينة بما حوت... بل وباعوا من قبل الشوارع والأرصفة عندما سمحوا أن يطأ أرضها كل باحث عن مصلحة ذاتية خاصة... فتحولت إلى محال تجارية كل شيء يباع على قارعة الأرصفة حتى إنسانية الإنسان...
وهي ظاهرة تمتد على طول كل شوارع ومدن وطننا العربي الذي يهدر ثرواته فيما لا يجلب خيرا... بل شرا يأكل الوطن والمواطن...
ويكمل: (لم يعد لدينا ما نبكي عليه يا أمي لم يعد شيء لدينا... فمتى تقومُ الراجفة؟) والبكاء لا يكون إلا على عزيز... و(لم يعد لدينا ما نبكي عليه...) تعبير يحمل معاني فقدان وضياع وتفريط يمتد من المحسوسات والماديات إلى المشاعر والأحاسيس والأخلاقيات والضمائر...
ويختلف مدلول العزيز الذي يُبكى عليه من امرئ لآخر... فالبعض يبكي على الدنيا وآخرون خشية ضياع الآخرة...
والصنفان فقدا ما يبكون عليه... فلم تَبقَ ماديات تجمع الناس، ولا يملكون أخلاقيات وضمائر تكون مرجعيات لسلوكاتهم...
وقول الشاعر (لم يعد لدينا ما نبكي عليه...) وهي عبارة تحمل معاني الانهيار والتهالك واليأس... فقدوا كل ما له قيمة ومقومات حياتية ويعتبر من أساسيات كل مجتمع... وهل بعد بيع الضمائر والعقول يبقى شيء لم يبع؟! فكيف سيواجهون خالقهم يوم الحساب؟!
وبم سيجيبون ربهم عندما يسألهم لماذا أصبح الشعب عراة لا تكسوهم رحمة ولا شفقة ولا عطاء...
ويتعجل شاعرنا يوم المحاسبة والجزاء والعدل والحق... (متى تقوم الراجفة)... متى تهتز الأرض وتسقط كل المتخاذلين واللصوص الذين نسوا أو تناسوا بل لم يخافوا يوما عاقبة سلوكاتهم...
وطلبه (الراجفة) طلبا لعودة الحق المطلق والعدل المطلق الذي فقد في الحياة الدنيا... طلبا لمحاسبة المسؤولين المتسببين في كوارث شعوبهم...
ونتساءل: هل على الشعوب الاستسلام والخنوع على الجور والظلم وانتظار يوم القيامة لنيل حقوقهم؟! أم عليهم أن يتخطوا ضعفهم وينتصروا لأنفسهم ولخالقهم من شياطين الجن والإنس؟
--
ويكمل في المقطع السادس:
( تنقّل الدمع بين الوريد و الشريان حتى الدمعُ الذي كان يهوى السقوط لم يسقط... آبى أن يبكي من وراء قضبان سجنه اللامتناهي)... والدمع هنا كائن حي يتنقل وينفعل... يرضى ويغضب... يتحرك كما تقتضيه طبيعة الحال... ولعل التنقل حالة من عدم الاستقرار...
وتنقله بين الوريد والشريان تنقل بين النقيضين ليفيد الشمول فهو يتنقل في كل خلايا الجسد...
وقيل التنقل هنا لا يفيد التنقل بين متناقضين بل بين متكاملين... فكل من الوريد والشريان بحاجة للآخر ليستمر ويؤدي دوره... فهل كان تنقل الدمع إيجابيا أم سلبيا؟ هل رفض الدمع التساقط رغم أنها عادته التي يمارسها تعني شيئا ما؟ ... هل يمكن القول إنّ تساقطَ الدمع حزنٌ، وتفريغٌ لمشاعر سلبيةٍ... ورفضه التساقط قد يكون نوعا من التحدي؟...
ألا يعتبر تجاوزا للمنطق أن نرى أن التحجر في المقلتين تعبير عن شدة المعاناة أو ورفض للحال...؟
فالدمع رغم كونه نتاج حزن (غالبا)... إلا أنه ينظف العين ويطهرها ويخرج ما بها من قذى وشوائب، ويجدد نشاطاتها...
لكن الدمع هنا كما أزعم امتنع رفضا وتحديا... فلن يقبل أن يكون وسيلة تعبير سلبية للمعاناة والحزن والابتلاء... يتمرد رافضا الاستسلام ومطالبا الحالَ أن يتغير...
ولعل العين التي تبكي تجلي حدقتها وتزيدها تلألؤا وصواب رؤية...
فإذا كُسِر القيد تجاوز الدمع السجن الذي يبدو لا نهاية له...
ولعله يريد للدمع أن ينهمر فبعد المطر يصفو الجو وترتاح السماء.
-
⏪ويكمل في مقطعه السابع:
(يوما ما أحبتني بقلبها... كان قلبا من ورق... ظنت أني كما يدعون شاعرا سأكتفي بالكتابةِ على القلب الورق). يعود شاعرنا للتحدث عن التي أحبها وأحبته بمنطقين مختلفين وبرؤيتين متغايرتين... وهي هنا ليست الأم... بل أنثى أخرى أو أم بمنطق آخر... الزوجة الأم أو الحبيبة الأم أو الابنة الأم وكم تتداخل الصور والخطوط وتختلط فتتحول إحداهن إلى الأخرى...
يقول عنها أنها أحبته بقلبها وبأن قلبها من ورق... فحبها حب قلبي... مشاعر وأحاسيس ونبضات... لكنه ليس حبا عقليا او حبا امتزج فيه حبا القلب والعقل... وحب القلب ضعيف هوائي متقلب متغير... فكيف به وهو قلب من ورق تمزقه النسمة لا العاصفة... والحب الورقي يستخدم لمرة واحدة ثم يقذف به بعيدا... فهو حب مؤقت سطحي وبلا عمق...
فهي كانت تنظر له من خلال رؤيتها لقلوب الشعراء... (يقولون ما لا يفعلون)... فحبهم كلمات حب بلا حب... وأشواق زائفة... حبهم هوائي وبلا جذور... تعاملت معه برؤيتها الخاصة وأسقطتها عليه... فلم تتعلق به تعلقه بها...
يقول: (لم تدر أن أحرفي و نبضاتي و كتاباتي دمٌ وعرق... وأنني وإن كنت أهوى في عيون الحسان الغرق... ما بحثتُ عن طوق نجاة إلا في عينيها)... فهي اعتقدت بما ليس صوابا... فهو يكتب الشعر بدمه وعرقه (والدم حياة... والعرق جهد وعمل)... فهو لا يكتب الشعر لهوا وترفا... بل صدقا وعطاء... واعتبر الشعر (نبضات) والنبض للقلب فشعره حياته وبتوقف كتاباته يتوقف قلبه وتنتهي دفقات مشاعره وأحاسيسه... فكتاباته ليست من ورق بل من روح ودم وقلب ووجود...
وهو قول لو أدركته الأنثى لتغيرت رؤيتها له...
ويعترف أنه كان يميل للأنثى ويداعبها بأشعاره... ويسعى ليكون محظيا لديها... لكنه لم يرَ في غيرها طوقا ينجيه من وحدته وتفرده... وتلهفه للتعلق بأنثى إلا بها...
ورغم أنه في قوله يؤكد رؤيتها في الشعراء وأن قلوبهم من ورق... إلا أننا نشعر بصدق رؤيته لها بأنها تغاير غيرها وهي طوق نجاته الذي سعى للتشبث به لينجيه...
وهي التي تعلق بها وارتبط بها واتخذ من عينيها عشه وملجأه رحلت... يقول: (ليتها ظلت مفتوحةَ العينين لكنها راحت يا أمي في سباتٍ عميق) ففقد بفقدانها طوق النجاة والروح والغد والأمل...
و(ليت) حرف لتمني حدوث ما لا يمكن حدوثه... وهل هناك عودة بعد رحيل لا عودة بعده... ما أقسى فراغ القلب والعقل والروح...
ويكمل بعبارة استوقفتني: (كم أتعجب يا أمي من قدرة رب العباد وأندهش لمَ خلق)... و(كم) خبرية تعني الكثرة... وتشير إلى توقفه أمام الكثير مما يشير إلى قدرة الله في خلقه... وتعجبه من دقة الخلق وكيفية نرابط مخلوقاته مع بعضها... وما في ذلك من أحكام وتوازنات وتداخلات وفق نظام لا مجال لخلل فيه فكل شيء لديه بقدر وميزان وحساب وبدايات ونهايات...
والاندهاش يختلف عن الاستغراب... فالاستغراب لكل ما تراه غريبا وغير مألوف... لكنه قد يصل بك إلى الاندهاش... وقد تستوعبه وتتقبله... أما الاندهاش فهو درجة تعلوا الاستغراب وتبعث الحيرة والذهول... وقيل أن الاستغراب أمر عقلي... والاندهاش قلبي عاطفي...
فهو لم يتوقف عند الاستغراب بل واندهش
والاندهاش (لمَ خلق)... لمَ خلق سبحانه ووفق وربط وجمّع وحبب... ثم فرَّق... ولمَ رزق وأعطى ثم أخذ؟ وأنا لست مع هذا الاندهاش والقرآن الكريم يبين ذلك وشاعرنا يدركه تماما... فالدنيا كلها دار ابتلاء يبلينا الله إذا أعطانا ليرى حمدنا وشكرنا وكيفية التعامل مع نعمه والانتفاع بها وإنفاقها بما يعود للناس بالخير والفائدة... وإذا منع عنا فليرى حمدنا وشكرنا أن هناك مصابا أكبر مما أصابنا حمانا الله منه... وليرى صبرنا على الابتلاء وكيفية تصرفنا بعد فقدان ما أُخذ منا... وفي رأي كان على أديبنا ألا يندهش من ابتلاءات الخالق وحكمته...
--
⏪ويختتم نصه بالمقطع الثامن:
يقول: (أمي!! هل أنتِ حقا أمي... إن كنتِ حقا أمي فلماذا رحلتِ؟! وتركتني في هذا الدرب العسير بلا رفيق... بلا أملٍ... بلا مأوى... بلا بريق)... وهو قول يحمل الكثير من المعاناة ويعكس نفسية الشاعر وما تحمل من فراغ عاطفي وحنين لكل ما فقد في طريق حياته من أهل وأصدقاء ومعارف... ومن ضل منهم الطريق... والاستفهام عتابي أو رفض للواقع المعاش... وهو يدرك أن بقاءها وغيابها لا تملكه الأم ولو ملكته لبقيت... لكنه القدر الذي يؤمن شاعرنا بقدرته وحكمته...
وأنا أرى أن رحيل الأم رغم قسوته ورغم أنه قدر لا يوقفه رغبات ولا أماني... وعلى شاعرنا أن يجد ما يسلوه من أبناء وأهل وأصدقاء وأقارب... فهم عون على مصاعب الحياة... فهم المأوى والأمل وهم حبل النجاة...
ويختتم بوصفه حاله اليوم بدون حبيب أو رفيق بجواره... بدون أم ولا زوجة أو أبناء أو أصدقاء حقيقيين يساندونه... يقول: (درب الذين ضل سعيهم و هم يحسبون شيئا أخر) فقد ضاعت حياته واكتشف أن ما كان يزعمه بأنه يعطي ويعطي بلا كلل وأنه صنع لنفسه مكانة مرموقة وتاريخا ناصعا... اكتشف أنه سراب... مقتبسا من القرآن الكريم قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا {الكهف/103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا {الكهف/104})
فهل كان أديبنا يرى أنه كان يحسن صنعا واكتشف غير ذلك؟ أم هي لحظة فقدان لكل من كان يريدهم حوله... ففقد الجميع وبقي وحيدا...
وأنا أكاد أجزم أنه رغم ما يحيط به من فراغ قاتل ومن إنكار بعض الصدقاء وتلون ألسنتهم فقد خلق له مكانة يقف أمامها الكثيرون من العظماء خاشعين... وترك خلفه ثروة أدبية سترسم مسارا جديدا للأدب العربي...
ونكتشف أخيرا أن الأم عنده كانت باقة من الأمهات تحيط بالأم الأولى... فالأم أم والزوجة أم والابنة أم والوطن أم والأصدقاء والمؤلفات أمهات...

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...