مع صياح ديك الجيران، تطلُّ الشمسُ من كوّتها، استيقظت جاسمين والابتسامة تغزو وجهها المفعم بالأنوثة، جسدها يضجُّ بنشاطِ وحيويةِ فتياتِ القرية كلِّها.
كلُّ عشبة في المرج المجاور كانت تنتظرها، شقائق النعمان تنحني ندية لمرورها السريع نحو كوخها، الذي بناه والدها في أعلى شجرة السنديان-الوحيدة المتبقية في القرية- بناه بعد وفاة والدتها أثناء ولادتها.
تصعد الكوخ كسنجاب اعتاد تسلق الأشجار، تتنفس الصباح كأنها- ولأول مرَّة- تشعر بنسيمات المكان.
قبل يومين كانت منكبَّة في غرفتها، بطاقات الدعوة تملأ سريرها المطرَّز بزهور الربيع، تلفحها هواءات النافذة المطلّة على بيت رفيقة طفولتها روزا وأخيها باولو، اللذين في كلِّ يوم ، يرافقانها نحو المدرسة عبر ذلك الطريق الترابي، ويفترقان عند الجسر الخشبي في آخر القرية.
تعود جاسمين إلى غرفتها في الدور العلوي، تراجع قوائم المدعوين، تهبط مسرعةً تجاه زوجة أبيها التي غادرت فراشها قبل مغادرة القمر سماء تلك الليلة، بعد معركة كلامية مع أبيها، اعتادت على سماعها كلَّ فترة.
منهكمة زوجة أبيها بتوضيب المنزل على مضض:
- خالتي، أليس من المناسب أن أضع شريط الإضاءة عبر مدخل الحديقة؟
- جاسمين، بربك افعلي ما تريدين، لديّ الكثير من الأعمال، لا أعلم كيف سينتهي هذا اليوم!
- أعتقد أن البالونات يجب أن تكون عند حائط المدفأة.
- جاسمين!
- أو ربما! حسناً يا خالتي، سأجد حلّاً بنفسي.
تزفر الزوجة زفرة كادت أن تملأ بها بالونات الحبل كلّها، تقاسيم وجهها تصرخ ممتعضة غير راضية عما يحدث.
اليوم سيكون حدثاً عظيماً في حياة جاسمين، ابنة زوجها الوحيدة، سوف تصبح أصغر سيدة في القرية، ستكون جاسمين في الثامنة عشر من عمرها عند منتصف ليل هذا اليوم.
عند ولادتها العسيرة، تشاءم أهل القرية، كان يوم كسوف على غير العادة، وسنة لم تكن المحاصيل فيها وافرة، ولأول مرّة لم تستطع قابلة القرية أن تنقذ الأم، بعد مخاض دام ليلتين كاملتين، صراخها عَبَرَ جنبات الجبال المحيطة للقرية، فاضطر الزوج لنقلها إلى المشفى، حيث استعان بجرّار مختار القرية لنقلها سريعاً، وهناك أجبر الأطباء على القيام بعمل جراحي لإنقاذ الجنين، كانت مقعدية، نزفت على أثره أمُّ جاسمين الكثير من الدماء، فارقت الحياة، معلنة ولادة جاسمين.
كانت زوجة الأب تحبُّ والد جاسمين، استغلت الفرصة والموقف حينها لتغرس سهام عشقها في قلبه، فأظهرت حبَّها ورعايتها للمولودة اليتيمة، آملةً أن تنجب منه، بعدما خُزلت بزواجها الأول، لكنَّ الأقدار لم تستجب لطلبها.
بدأ المدعوون يتوافدون، الجميع ينتظر أن تُطلَّ شمس الزمان، بهية الحضور، جاسمين.
كثيراً ما تلقت عبارات الحسد ونظرات الدهشة والذهول من نساء القرية وفتياتها لفرط جمالها، يقولون أنها فاقت أمها سحراً وجمالاً، أكثرهم شغفاً وولهاً بها باولو:
- لقد أتت!، يا الله ما أجملها!
همسٌ وتمتمات غير مفهومة، علامات الاستغراب والدهشة تملأ وجوه الحاضرين. تمسك بيدها عند آخر السلم وصيفتها روزا، الليدي جاسمين ذات الشعر الأسود المسدول، شلال ينحدر من أعلى كتفيها، عيناها الواسعتان كالمدى يُبرقان كدرَّتين تحت قوسيّ حاجبيها العريضين، ابتسامة ملاك لاتفارق شفتيها الرقيقتين، يشدُّ جسدها ثوبها الأحمر ليرسم الإله لوحته بريشة تجمع مشاهير العالم جميعاً من جون سنفر وفريدريك ليتون وسلفادور دالي وغيرهم .. هي ليست موناليزا دافنشي ولا موناليزا فيرمير، إنها موناليزا الآلهة.
الجميع يتقدم لتهنئتها وتقديم الهدايا، تعمُّ الفوضى المكان، أصوات الموسيقا تعلو صاخبة، ينتظر باولو رقصته الأولى معها، وزوجة أبيها تركن أردافها العريضة عند زاوية الصالة، وتتابع الجميع بابتسامة كاذبة:
- تأخر والدي كثيراً، لقد وعدني أنه سيأتي في الموعد، هو يعلم أهمية هذا اليوم بالنسبة لي.
- وما أدراني، لا أعتقد أنه سيكون راضياً بهكذا فوضى.
تحاول جاسمين تدارك قسمات وجهها الحزينة، تُقبل نحو باولو وتباغته بطلبها للخروج نحو الحديقة، دون أي اعتراض يخرج معها وكأنه نُوِّم تنويماً مغناطيسياً.
ينطلقان عبر ذلك الطريق الترابي، يقفان عند الجسر الخشبي، كان القمر رفيقهما، يفضح ظلهما على سطح ماء النهر الراكد.
حالة من الوله والشغف المفاجئ أصابت باولو، يسيل لعابه، تقترب يده لمعانقتها. دون أن تنظر إليه تجيبه:
- أعلم ما يجول بقلبك، ولكن ليس الآن، لم يأتِ أبي، ولم ينتهِ اليوم بعد!
- كلُّ واحد منّا يحمل ناراً مقدَّسة في قلبه، وأنتِ تلك النار في داخلي.
- عليك أن تحافظ على نارك كي لا تحرقك.
أخذت يداه تشدانها نحوه بقوة، اقترب لاثماً شفتيها، تمنعت وأفلتت منه :
- قلتُ لك أريد انتظار أبي ليس إلا.
لكن تلك النار في داخله جعلته يقترب منها مفترساً إياها، تهرب منه بين الأشجار، يطاردها، لم يستطع كبت غريزته، كأن الحمل الوديع تحوَّل إلى ثورٍ هائج.
أسقطها عنوة تحت شجرة السنديان، وأصلب يديها في رطوبة التراب، صرخاتها ضاعت عبثاً في فراغ المكان، إلا من ذلك البوم العالق في أعلى قمة الشجرة.
امتطاها كفرس تُروَّض لأول مرّة. مزَّق ثوبها الأحمر، واختلط بلون دمائها الحمراء، ودموعها السوداء. تجمدت كلُّ الحيوات، ما عدا صوت أجراس ساعة البلدة تعلن عن بدء منتصف الليل.
تمزقّت جاسمين مع كلِّ دقة، وتبخَّر حلمها بالنقاء قبل دقيقة واحدة.
تصعد حابية كوخها، تغطي جسدها بما تبقى من ذلك الثوب، هاربة من ذاتها، بعدما هرب باولو عائداً إلى الحفلة التي- على مايبدو- بدأت تنفك أواصرها شيئاً فشيئاً.
تلحظ سيارةً قادمة من بعيد، عند منعطف ذلك الجسر تضرب أضواءها قصرها الخشبي المهمَّش هناك، كاشفة قبح تلك اللحظة في حياة جاسمين، كانت تحاول الصراخ، تتعثر بطرف ثوبها، لتسقط في تمام ذلك المكان والموعد حين وصول والدها.
لم تكن شام تنهي مشاهدة الفيلم حتى أصابها شؤم مغمور بتحدٍّ للبقاء، لن تغادر دمشق ولن تركب أمواج التغيير. أصرت على الالتزام بما علمها إياه والدها الذي توفي قبيل يومين:" يا بنيتي، الوطن مثل الأم حين تلد وليدها، تتحمل آلام المخاض والولادة، لكنها تنجب في النهاية روحاً جديدة".
أحمد العامود
توطئة
_______
القصة القصيرة تُعرف القصة القصيرة تعرف بحسب آرسكين كالدويل بأنّها عبارة عن حكاية من الخيال، ذات معنى معين، وتكون ممتعة وشيقة؛ لتجذب انتباه القارئ إليها، كما يجب أن تكون مكتوبة بشكلٍ عميق لتعبر عن طبيعة الإنسان.
ومن قصة اكتملت فيها جميع عناصر القق...
من حدث
اجتمعت فيه الوقائع السردية التي كانت موجهة نحو هدف معين .
إلى سرد
نقل إلينا الوقائع والأحداث بلغة سلسلة وألفاظ واضحة تعبر عنها.
إلى بناء
كان الشكل فيها مشوقا ومتلاحم الأحداث ومترابط المضمون .
وجاء لنا النص كوحدة فنية رائعة ركز فيها على البطلة...جاسمين . بإسقاطاتها الدلالية التي أرادها أن تصل إلينا
والشخوص
كانت في القصة حاضرة وبداية بالبطلة إلى عائلتها أبناء قريتها وكانت القصة تقوم عليهم ليتم التفاعل معهم ومع الأحداث التي كانت تتطور لتحدث تغيرا في القصة .
ومن مكان وزمان
وتلك كانت الفكرة التي كان يريدها الكاتب أن يوصلها لنا من خلال ذلك السرد السلس والشخوص التي كانت تتهادى أمامنا .
العنوان
الثامنة عشر ودقيقة
________________
ومن قصة وقفت بين حدود الوهم والحقيقة أخذنا الكاتب على عاتقه ليشعل شمعة وكأنه يقول لنا إشعال شمعة خير لنا من أن نلعن الظلام ألف مرة ،ولكن أمام إعصار الحكاية في ليل القهر كانت الدقيقةالفاصلة فيها وهي الفارق الزمني الذي كان يلفنا ،وصارت فيه الشمعة هي فعل التخدير الحقيقي بالنص،وكمن يعطينا جرعة زائدة من التخدير لينجح بتخديرنا جميعا ،وبجعلنا ننزف قبل أن نصحو دون أن يضمد لنا الجراح أو يحدد موضعها على الأمل في الثامنه عشر ودقيقه رصد فيها بمهارة هذا الظلام وظلاله التي كان الليل فيها الستارة المسدلة فوق مسرح الجريمه ليرصد فينا تلك اللحظة التي سيطلق بعدها وابل رصاصه أو وابل جراده على أرضنا لتأكل بعدها خبز أحلامنا .
قراءة في النص
________________
من نص تقف فيه أمام دهاليز تعتقد أنها مستقيمة، ولكن أمام السرد وكلما دخلت مرحلة بالنص تكتشف أن للنص دهاليز تقود إلى دهاليز، والشخوص فيها ناطقة بطريقه تشحذ همتك للمضي معها بتفاصيلها،وأنت تقرأ فيها في الخارج تشعر أنه ليس فيه الكثير من الكلام عما حدث وأنما أحداث مترابطة تؤدي إلى بديهيات.
وفي العمق وبالإسقاطات لا يجوز أن تمر الحادثه مرورا عابرا ، فكأنك تسمع دوي وقع حجر في بركة ساكنة.
ومع أول شروق يكون المخاض الأول لجاسمين (بلاد) تكونت بجسد ممشوق فيها كل مقومات الانوثه الطاغية القادرة على أن تدير الرؤوس وتفتن العيون،وتكون مطمع الشباب أجمعين.
ومن بيت آمن إلى أسرة هادئة إلى حياة تحسد عليها فهي مزجت العمق مع البساطة،كلوحة رائعة مبهرة ومن المخاض الأول الذي طال زمن حملها لم تكن فيه الولادة يسيرة كما يتخيل البعض فكأن الحلم يتكاثر بنا ليغطي تلك المساحة من الكابوس الدموي ومن الولادة الأولى كأن الكاتب يقول لنا أن العالم يضيق بقدر توهمنا وأن الجدران التي هدمت من حولنا قد تكون سببا لأن نحدق من جديد في المدى ،الفضاء العالم الشاسع وبالأفق.
حين يتزوج الحلم والعمل لابد أن يثمر خلقا إنسانيا جديدا فينا فيه من الفكر السياسي و الاجتماعي والإنساني،وعرابها لن يكون إلا بالمحبة فالولادة من عنق الزجاجة تصير رغم النزف والدماء تكون ثورة محبة وحب والثائر فيها كبيرا اسمه عاشق حقيقي .
ومن قلب الموت دائما تولد الحياة، ومن صورة صورها لنا الكاتب بلحظة الميلاد كان يحاول أن يبحث عن الخلاص نظريا وسلوكيا فكانت السباحة ضد التيار معمدة بالدم والموت ورغم ذلك كان هناك حياة ، وكانت أم البطلة تفاجئنا بالولادة وتخليص روح من روح.
وبما أن الأم كانت الشهيدة الأولى تكتشف أن لا مجال للخلاص الفردي ضمن المجموعة المضطهدة و محاولة تحررها الفردي وانما هو إنعكاسا غير إرادي لعملية التحرر الجماعي .
ولهذا رسم لنا الكاتب الشخصيات بهذه السردية بشكل دقيق وحركهم لنا على أرض الواقع بشكل ديناميكي وربطهم بايديولجيات شاملة منظمة لمجتمع صغير بناه لنا بحيث نسقط عليهم الواقع الأكبر .
ومن اللحظة التي بدأ التربص بها من باولو إلى نظرات جيرانها إلى زوجة الأب غير مكترثة لما يدور حولها ومع بدء الفوضى التي كانت تعم المكان كان الارتباك سيد الموقف .
وتصوير تحرر الجسد من ظل الفوضى تحت ضوء القمر وكمن يكون تحرر الذات العربيه ككل ،وكخطوة متناسقة مع بقية الخطوات التحرر فتحول إلى أفيون جنسي ،
وبمجتمع انفلت العقد منه وبمحاولة يائسة من ذلك الجسد فيها السباحة خارج نطاق التيار هو أمر رائع كردة فعل أولي، ولكن الخلاص الفردي أمر غير ممكن ولهذا بدأ الركض المسعور بالبراري كالطريده المذبوحة التي اغتصبت تحت شعاع القمر، وبمحاولة يائسة منها كانت تهرب بذلك الجسد ، هنا إشارة إلى محاولة للنضال بالجسد اخذ أبعادا جديده وغير فردية وليست بذات الوقت محصورة داخل حدود جسد امرأة واحدة بل تمتد لتشمل جسد الوطن .
ولحظة دق الأجراس تأخذنا الى دق ناقوس الخطر كالدق على خزان الوعي الذي لم نمارسه جيدا لنتعلم أن نسمع أصواتنا .
وفي ذات الليلة وذات جرح اغتصبت وتناثرت دمائها أمام مشهدية موجعة يرسمها لنا الكاتب . وكأنه يقول لنا البيت تكسرت نوافذه وأصبح جسد وطننا مزروع بين المسافة والزلزال ،فتحررت الأنوثة الطاغية من تحت سطوة يدي مغتصبها كان رفضا منها أن تخضع فيها للعبة مبتذلة وكأنها تقول إن المقاومة ما هي إلا رفض باطن وظاهر ثمنا لأي شيء مهما أحببته ولن أوقع بدمي صكا لأحد فالحب يكون علاقة متبادلة مع (رجل-مع مجتمع-مع صديقة-او حتى مؤسسة).
وفي ذات ليلة تقطعت الحبال وانهارت الجسور.
ورغم الحزن بزغ الصباح شبه معتم ولمطر الرمادي لنتعلم فيه أن ننزف بصمت وأن كنت تتقلب على فوق خنجرك في رقصة الموت المتفجرة بالحياة .
ومع انبلاج الفجر تعلمت جاسمين أن تلملم ثنايا الثوب الأحمر الممزق هاربة بما بقي فيه وهي تنزف كل إنسانيتها باحثة عن تلك المرآيا الصدئة والجرح بعيد الغور،تهرب لتصير بريةشرسة،غير صالحة لعلاقات البيوت المهترئة، تحت ظل قصرها المهمش تائهة ضائعة تبحث خبز الحنان فتعود كما مدن السراب تنوس بهدوء كمدينةوهم موحشه وقاسية تعاني كأي جسد بعد الصلب ،فصلبت لتعود إلى العالم الداجن وهي كمن تصلب في ليل المخدرين.
و في قفلة مدهشة. كأن الكاتب يغلق هذا الحلم المزعج ليقول لنا سنبقى نحب الليل والطبيعة وما بعد هذا الظلام إلا فجر جديد .
والليل كان خيمة محارب خاض معركة كبيرة أصيب فيها ولكنه حلم بلمسة محبة وعطاء وكان يا ما كان ويالهول ما كان وهاهو أشرق الصباح ويا لضياء الصباح.
إنه الأمل الذي ينبثق من جرحنا لنخرج كطير العنقاء الخرافي .
ا.احمد العامود أحببت أن أقف على هذه القصة الرائعة لأكتب بالجمر معك فوق أفق الحريق ،فوق مستنقعات الحزن والفوضى، لنقول ومن الموت تولد الحياة .
تحياتي لك ولحرفك الراقي .دام نزف القلم .وسيبقى الأمل فعلا فينا موجود .
كلُّ عشبة في المرج المجاور كانت تنتظرها، شقائق النعمان تنحني ندية لمرورها السريع نحو كوخها، الذي بناه والدها في أعلى شجرة السنديان-الوحيدة المتبقية في القرية- بناه بعد وفاة والدتها أثناء ولادتها.
تصعد الكوخ كسنجاب اعتاد تسلق الأشجار، تتنفس الصباح كأنها- ولأول مرَّة- تشعر بنسيمات المكان.
قبل يومين كانت منكبَّة في غرفتها، بطاقات الدعوة تملأ سريرها المطرَّز بزهور الربيع، تلفحها هواءات النافذة المطلّة على بيت رفيقة طفولتها روزا وأخيها باولو، اللذين في كلِّ يوم ، يرافقانها نحو المدرسة عبر ذلك الطريق الترابي، ويفترقان عند الجسر الخشبي في آخر القرية.
تعود جاسمين إلى غرفتها في الدور العلوي، تراجع قوائم المدعوين، تهبط مسرعةً تجاه زوجة أبيها التي غادرت فراشها قبل مغادرة القمر سماء تلك الليلة، بعد معركة كلامية مع أبيها، اعتادت على سماعها كلَّ فترة.
منهكمة زوجة أبيها بتوضيب المنزل على مضض:
- خالتي، أليس من المناسب أن أضع شريط الإضاءة عبر مدخل الحديقة؟
- جاسمين، بربك افعلي ما تريدين، لديّ الكثير من الأعمال، لا أعلم كيف سينتهي هذا اليوم!
- أعتقد أن البالونات يجب أن تكون عند حائط المدفأة.
- جاسمين!
- أو ربما! حسناً يا خالتي، سأجد حلّاً بنفسي.
تزفر الزوجة زفرة كادت أن تملأ بها بالونات الحبل كلّها، تقاسيم وجهها تصرخ ممتعضة غير راضية عما يحدث.
اليوم سيكون حدثاً عظيماً في حياة جاسمين، ابنة زوجها الوحيدة، سوف تصبح أصغر سيدة في القرية، ستكون جاسمين في الثامنة عشر من عمرها عند منتصف ليل هذا اليوم.
عند ولادتها العسيرة، تشاءم أهل القرية، كان يوم كسوف على غير العادة، وسنة لم تكن المحاصيل فيها وافرة، ولأول مرّة لم تستطع قابلة القرية أن تنقذ الأم، بعد مخاض دام ليلتين كاملتين، صراخها عَبَرَ جنبات الجبال المحيطة للقرية، فاضطر الزوج لنقلها إلى المشفى، حيث استعان بجرّار مختار القرية لنقلها سريعاً، وهناك أجبر الأطباء على القيام بعمل جراحي لإنقاذ الجنين، كانت مقعدية، نزفت على أثره أمُّ جاسمين الكثير من الدماء، فارقت الحياة، معلنة ولادة جاسمين.
كانت زوجة الأب تحبُّ والد جاسمين، استغلت الفرصة والموقف حينها لتغرس سهام عشقها في قلبه، فأظهرت حبَّها ورعايتها للمولودة اليتيمة، آملةً أن تنجب منه، بعدما خُزلت بزواجها الأول، لكنَّ الأقدار لم تستجب لطلبها.
بدأ المدعوون يتوافدون، الجميع ينتظر أن تُطلَّ شمس الزمان، بهية الحضور، جاسمين.
كثيراً ما تلقت عبارات الحسد ونظرات الدهشة والذهول من نساء القرية وفتياتها لفرط جمالها، يقولون أنها فاقت أمها سحراً وجمالاً، أكثرهم شغفاً وولهاً بها باولو:
- لقد أتت!، يا الله ما أجملها!
همسٌ وتمتمات غير مفهومة، علامات الاستغراب والدهشة تملأ وجوه الحاضرين. تمسك بيدها عند آخر السلم وصيفتها روزا، الليدي جاسمين ذات الشعر الأسود المسدول، شلال ينحدر من أعلى كتفيها، عيناها الواسعتان كالمدى يُبرقان كدرَّتين تحت قوسيّ حاجبيها العريضين، ابتسامة ملاك لاتفارق شفتيها الرقيقتين، يشدُّ جسدها ثوبها الأحمر ليرسم الإله لوحته بريشة تجمع مشاهير العالم جميعاً من جون سنفر وفريدريك ليتون وسلفادور دالي وغيرهم .. هي ليست موناليزا دافنشي ولا موناليزا فيرمير، إنها موناليزا الآلهة.
الجميع يتقدم لتهنئتها وتقديم الهدايا، تعمُّ الفوضى المكان، أصوات الموسيقا تعلو صاخبة، ينتظر باولو رقصته الأولى معها، وزوجة أبيها تركن أردافها العريضة عند زاوية الصالة، وتتابع الجميع بابتسامة كاذبة:
- تأخر والدي كثيراً، لقد وعدني أنه سيأتي في الموعد، هو يعلم أهمية هذا اليوم بالنسبة لي.
- وما أدراني، لا أعتقد أنه سيكون راضياً بهكذا فوضى.
تحاول جاسمين تدارك قسمات وجهها الحزينة، تُقبل نحو باولو وتباغته بطلبها للخروج نحو الحديقة، دون أي اعتراض يخرج معها وكأنه نُوِّم تنويماً مغناطيسياً.
ينطلقان عبر ذلك الطريق الترابي، يقفان عند الجسر الخشبي، كان القمر رفيقهما، يفضح ظلهما على سطح ماء النهر الراكد.
حالة من الوله والشغف المفاجئ أصابت باولو، يسيل لعابه، تقترب يده لمعانقتها. دون أن تنظر إليه تجيبه:
- أعلم ما يجول بقلبك، ولكن ليس الآن، لم يأتِ أبي، ولم ينتهِ اليوم بعد!
- كلُّ واحد منّا يحمل ناراً مقدَّسة في قلبه، وأنتِ تلك النار في داخلي.
- عليك أن تحافظ على نارك كي لا تحرقك.
أخذت يداه تشدانها نحوه بقوة، اقترب لاثماً شفتيها، تمنعت وأفلتت منه :
- قلتُ لك أريد انتظار أبي ليس إلا.
لكن تلك النار في داخله جعلته يقترب منها مفترساً إياها، تهرب منه بين الأشجار، يطاردها، لم يستطع كبت غريزته، كأن الحمل الوديع تحوَّل إلى ثورٍ هائج.
أسقطها عنوة تحت شجرة السنديان، وأصلب يديها في رطوبة التراب، صرخاتها ضاعت عبثاً في فراغ المكان، إلا من ذلك البوم العالق في أعلى قمة الشجرة.
امتطاها كفرس تُروَّض لأول مرّة. مزَّق ثوبها الأحمر، واختلط بلون دمائها الحمراء، ودموعها السوداء. تجمدت كلُّ الحيوات، ما عدا صوت أجراس ساعة البلدة تعلن عن بدء منتصف الليل.
تمزقّت جاسمين مع كلِّ دقة، وتبخَّر حلمها بالنقاء قبل دقيقة واحدة.
تصعد حابية كوخها، تغطي جسدها بما تبقى من ذلك الثوب، هاربة من ذاتها، بعدما هرب باولو عائداً إلى الحفلة التي- على مايبدو- بدأت تنفك أواصرها شيئاً فشيئاً.
تلحظ سيارةً قادمة من بعيد، عند منعطف ذلك الجسر تضرب أضواءها قصرها الخشبي المهمَّش هناك، كاشفة قبح تلك اللحظة في حياة جاسمين، كانت تحاول الصراخ، تتعثر بطرف ثوبها، لتسقط في تمام ذلك المكان والموعد حين وصول والدها.
لم تكن شام تنهي مشاهدة الفيلم حتى أصابها شؤم مغمور بتحدٍّ للبقاء، لن تغادر دمشق ولن تركب أمواج التغيير. أصرت على الالتزام بما علمها إياه والدها الذي توفي قبيل يومين:" يا بنيتي، الوطن مثل الأم حين تلد وليدها، تتحمل آلام المخاض والولادة، لكنها تنجب في النهاية روحاً جديدة".
أحمد العامود
توطئة
_______
القصة القصيرة تُعرف القصة القصيرة تعرف بحسب آرسكين كالدويل بأنّها عبارة عن حكاية من الخيال، ذات معنى معين، وتكون ممتعة وشيقة؛ لتجذب انتباه القارئ إليها، كما يجب أن تكون مكتوبة بشكلٍ عميق لتعبر عن طبيعة الإنسان.
ومن قصة اكتملت فيها جميع عناصر القق...
من حدث
اجتمعت فيه الوقائع السردية التي كانت موجهة نحو هدف معين .
إلى سرد
نقل إلينا الوقائع والأحداث بلغة سلسلة وألفاظ واضحة تعبر عنها.
إلى بناء
كان الشكل فيها مشوقا ومتلاحم الأحداث ومترابط المضمون .
وجاء لنا النص كوحدة فنية رائعة ركز فيها على البطلة...جاسمين . بإسقاطاتها الدلالية التي أرادها أن تصل إلينا
والشخوص
كانت في القصة حاضرة وبداية بالبطلة إلى عائلتها أبناء قريتها وكانت القصة تقوم عليهم ليتم التفاعل معهم ومع الأحداث التي كانت تتطور لتحدث تغيرا في القصة .
ومن مكان وزمان
وتلك كانت الفكرة التي كان يريدها الكاتب أن يوصلها لنا من خلال ذلك السرد السلس والشخوص التي كانت تتهادى أمامنا .
العنوان
الثامنة عشر ودقيقة
________________
ومن قصة وقفت بين حدود الوهم والحقيقة أخذنا الكاتب على عاتقه ليشعل شمعة وكأنه يقول لنا إشعال شمعة خير لنا من أن نلعن الظلام ألف مرة ،ولكن أمام إعصار الحكاية في ليل القهر كانت الدقيقةالفاصلة فيها وهي الفارق الزمني الذي كان يلفنا ،وصارت فيه الشمعة هي فعل التخدير الحقيقي بالنص،وكمن يعطينا جرعة زائدة من التخدير لينجح بتخديرنا جميعا ،وبجعلنا ننزف قبل أن نصحو دون أن يضمد لنا الجراح أو يحدد موضعها على الأمل في الثامنه عشر ودقيقه رصد فيها بمهارة هذا الظلام وظلاله التي كان الليل فيها الستارة المسدلة فوق مسرح الجريمه ليرصد فينا تلك اللحظة التي سيطلق بعدها وابل رصاصه أو وابل جراده على أرضنا لتأكل بعدها خبز أحلامنا .
قراءة في النص
________________
من نص تقف فيه أمام دهاليز تعتقد أنها مستقيمة، ولكن أمام السرد وكلما دخلت مرحلة بالنص تكتشف أن للنص دهاليز تقود إلى دهاليز، والشخوص فيها ناطقة بطريقه تشحذ همتك للمضي معها بتفاصيلها،وأنت تقرأ فيها في الخارج تشعر أنه ليس فيه الكثير من الكلام عما حدث وأنما أحداث مترابطة تؤدي إلى بديهيات.
وفي العمق وبالإسقاطات لا يجوز أن تمر الحادثه مرورا عابرا ، فكأنك تسمع دوي وقع حجر في بركة ساكنة.
ومع أول شروق يكون المخاض الأول لجاسمين (بلاد) تكونت بجسد ممشوق فيها كل مقومات الانوثه الطاغية القادرة على أن تدير الرؤوس وتفتن العيون،وتكون مطمع الشباب أجمعين.
ومن بيت آمن إلى أسرة هادئة إلى حياة تحسد عليها فهي مزجت العمق مع البساطة،كلوحة رائعة مبهرة ومن المخاض الأول الذي طال زمن حملها لم تكن فيه الولادة يسيرة كما يتخيل البعض فكأن الحلم يتكاثر بنا ليغطي تلك المساحة من الكابوس الدموي ومن الولادة الأولى كأن الكاتب يقول لنا أن العالم يضيق بقدر توهمنا وأن الجدران التي هدمت من حولنا قد تكون سببا لأن نحدق من جديد في المدى ،الفضاء العالم الشاسع وبالأفق.
حين يتزوج الحلم والعمل لابد أن يثمر خلقا إنسانيا جديدا فينا فيه من الفكر السياسي و الاجتماعي والإنساني،وعرابها لن يكون إلا بالمحبة فالولادة من عنق الزجاجة تصير رغم النزف والدماء تكون ثورة محبة وحب والثائر فيها كبيرا اسمه عاشق حقيقي .
ومن قلب الموت دائما تولد الحياة، ومن صورة صورها لنا الكاتب بلحظة الميلاد كان يحاول أن يبحث عن الخلاص نظريا وسلوكيا فكانت السباحة ضد التيار معمدة بالدم والموت ورغم ذلك كان هناك حياة ، وكانت أم البطلة تفاجئنا بالولادة وتخليص روح من روح.
وبما أن الأم كانت الشهيدة الأولى تكتشف أن لا مجال للخلاص الفردي ضمن المجموعة المضطهدة و محاولة تحررها الفردي وانما هو إنعكاسا غير إرادي لعملية التحرر الجماعي .
ولهذا رسم لنا الكاتب الشخصيات بهذه السردية بشكل دقيق وحركهم لنا على أرض الواقع بشكل ديناميكي وربطهم بايديولجيات شاملة منظمة لمجتمع صغير بناه لنا بحيث نسقط عليهم الواقع الأكبر .
ومن اللحظة التي بدأ التربص بها من باولو إلى نظرات جيرانها إلى زوجة الأب غير مكترثة لما يدور حولها ومع بدء الفوضى التي كانت تعم المكان كان الارتباك سيد الموقف .
وتصوير تحرر الجسد من ظل الفوضى تحت ضوء القمر وكمن يكون تحرر الذات العربيه ككل ،وكخطوة متناسقة مع بقية الخطوات التحرر فتحول إلى أفيون جنسي ،
وبمجتمع انفلت العقد منه وبمحاولة يائسة من ذلك الجسد فيها السباحة خارج نطاق التيار هو أمر رائع كردة فعل أولي، ولكن الخلاص الفردي أمر غير ممكن ولهذا بدأ الركض المسعور بالبراري كالطريده المذبوحة التي اغتصبت تحت شعاع القمر، وبمحاولة يائسة منها كانت تهرب بذلك الجسد ، هنا إشارة إلى محاولة للنضال بالجسد اخذ أبعادا جديده وغير فردية وليست بذات الوقت محصورة داخل حدود جسد امرأة واحدة بل تمتد لتشمل جسد الوطن .
ولحظة دق الأجراس تأخذنا الى دق ناقوس الخطر كالدق على خزان الوعي الذي لم نمارسه جيدا لنتعلم أن نسمع أصواتنا .
وفي ذات الليلة وذات جرح اغتصبت وتناثرت دمائها أمام مشهدية موجعة يرسمها لنا الكاتب . وكأنه يقول لنا البيت تكسرت نوافذه وأصبح جسد وطننا مزروع بين المسافة والزلزال ،فتحررت الأنوثة الطاغية من تحت سطوة يدي مغتصبها كان رفضا منها أن تخضع فيها للعبة مبتذلة وكأنها تقول إن المقاومة ما هي إلا رفض باطن وظاهر ثمنا لأي شيء مهما أحببته ولن أوقع بدمي صكا لأحد فالحب يكون علاقة متبادلة مع (رجل-مع مجتمع-مع صديقة-او حتى مؤسسة).
وفي ذات ليلة تقطعت الحبال وانهارت الجسور.
ورغم الحزن بزغ الصباح شبه معتم ولمطر الرمادي لنتعلم فيه أن ننزف بصمت وأن كنت تتقلب على فوق خنجرك في رقصة الموت المتفجرة بالحياة .
ومع انبلاج الفجر تعلمت جاسمين أن تلملم ثنايا الثوب الأحمر الممزق هاربة بما بقي فيه وهي تنزف كل إنسانيتها باحثة عن تلك المرآيا الصدئة والجرح بعيد الغور،تهرب لتصير بريةشرسة،غير صالحة لعلاقات البيوت المهترئة، تحت ظل قصرها المهمش تائهة ضائعة تبحث خبز الحنان فتعود كما مدن السراب تنوس بهدوء كمدينةوهم موحشه وقاسية تعاني كأي جسد بعد الصلب ،فصلبت لتعود إلى العالم الداجن وهي كمن تصلب في ليل المخدرين.
و في قفلة مدهشة. كأن الكاتب يغلق هذا الحلم المزعج ليقول لنا سنبقى نحب الليل والطبيعة وما بعد هذا الظلام إلا فجر جديد .
والليل كان خيمة محارب خاض معركة كبيرة أصيب فيها ولكنه حلم بلمسة محبة وعطاء وكان يا ما كان ويالهول ما كان وهاهو أشرق الصباح ويا لضياء الصباح.
إنه الأمل الذي ينبثق من جرحنا لنخرج كطير العنقاء الخرافي .
ا.احمد العامود أحببت أن أقف على هذه القصة الرائعة لأكتب بالجمر معك فوق أفق الحريق ،فوق مستنقعات الحزن والفوضى، لنقول ومن الموت تولد الحياة .
تحياتي لك ولحرفك الراقي .دام نزف القلم .وسيبقى الأمل فعلا فينا موجود .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق