كتبت الكاتبة :حكيمة شكروبة ــ الجزائر |:ــ الجمال جوهر قائم بذاته قابل للفناء تحت مؤثرات خارجية أو داخلية، و إذا أستوفى شروطه أخذ في التألق، وزيادة القوة مادام هناك جمال روحي وحسي يملأ الكون. فكل فرد يمتلك قسطا منه، والبعض يستحسن بقائه، ويبحث عنه في الموجودات ويراه الملائم لها وكلما زاد حبنا للجمال ازدادت مساحة الجمالية في ذواتنا ،ومن حولنا وازدادا عشقنا للخير، وجميع المكنونات مستفاضة من فيض الكامل بالذات فما كان من الجمال مضبوطا في النفس مستقرا في الوجدان يبرز أثره مرتسم في الفعل ،والقول ارتساما قويا. أما النقاط السوداء تجعل أجزاء الورقة البيضاء تسود ،
والجمال لا يدركه التناقض بين قطبيه لذلك أحبته الفنانة بتينا، واعتنقت الإبداع مذهبا واتخذت الرسم محراب تمارس فيه طقوسها بحب ووفاء. ممتثلة لموهبتها توفيقية في غايتها وأهدافها بعدما سخرت كل قدراتها للرسم الذي تراه مصدرا للإلهام، وتهذيب النفس واستكمالها لتحصل السعادة .
تنحدرا لفنانة العالمية بتينا هاينن عياش من عرق الجرمان الذي يعتبر منبع الإبداع تميزت طفولتها بحبها المولع للريشة ،فعشقتها لحد النخاع، واعتمدتها وسيلة التعبير والمخاطبة ،فنقلت ما يجول في خاطرها ويتدفق من عمق شعورها ،ويختمر في ذهنها وجسدته في لوحاتها الفنية .فأناملها تلاعب الريشة باحترافية ، وغذى نبوغها نشأتها في وسط عائلي مولع بكل ما هو جميل وراقي كالموسيقى والأدب والفنون ، فوالدها هانس هاينن عالما لغويا واقتصاديا وصحفيا وشاعر غنائيا كبير ،و أمها إرنا هاينن شتانهوف مثقفة جدا ما جعل الفنانون يستوحون منها إلهامهم وتشجعيهم ،كما خدمها تعدد مواهبها الذي ساهم في تألقها . فكانت أولى بدايتها مع الكتابة التي تبنتها في سن الثامنة من عمرها واستبدلتها بالرسم في سن الثانية عشر.
الفنان أرفين بوفين لمس نبوغها في الرسم. فأشرف شخصيا على صقل موهبتها والتكفل بتربيتها فنيا ،و لبلوغ الاحترافية قصدت عدة مدارس ومعاهد بداية مشوارها التعليمي مدرسة الفنون التطبيقية بكولونيا عام 1954 لغاية 1957 تتلمذت على يد الأستاذ أوتو جرستر الذي أخذت منه فن الرسم على الحيطان والصور العارية ،وخلال صيف 1957 بأكاديمية ميونيخ تدربت على يد الأستاذ هرمان كاسبر تقنية رسم الصور الشخصية ،وإبتداءا من عام 1957 لغاية 1958 التحقت بالأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بكوبناهنغ تحت إشراف الأستاذ بول زفتران بالنرويج .
نذرت الفنانة بتينا عمرها للفن وسعت من خلال تجاربها ،وما نهلته من معارف وتقنيات في المدارس بتوظيفه في صقل موهبتها ، و مجيئها للجزائر رفقة زوجها عياش عبد الحميد أضاف الكثير لرصيدها الفني،فالطبيعة الخلابة وتفوق مناظرها الساحرة المتباينة والمتفاوتة في الجاذبية من سواحل تضاريس سهول، وصحراء شاسعة وكذلك المناخ القاري والمعتدل، والموقع الجغرافي الاستراتجي بإشرافها من الشمال على البحر الأبيض المتوسط كل هذه العوامل، والمقومات استثمرتها في صنع النموذجية للوحاتها ، وتفوقها يرجع لاكتسابها كاريزما خاصة ونهلها المستمر من مصدر يمتلك كل مفاتيح الإبداع الراقي والعطاء اللامتناهي ألا وهو الطبيعة ،فتناولت الجمال من مصدره كمادة خامة وأسقطته على لواحتها.ويعتبر الرسم بالنسبة لبتينا متنفس وعالمها الخاص الذي تمارس فيه طقوسها وجنونها. وعملت على تدوين التاريخ من خلال ما أنجزته من لوحات فنية، وأقامته من معارض الذي قارب 100 معرض ساهمت من خلال لوحاتها بنشر الثقافة الجزائرية والترويج للسياحة ،فالمعرض الذي أقامته في برلين يومي 23/24/25/26 نوفمبر 2012 كانت بطاقة الدعوة تحمل منظر طبيعي " لماونةـ قالمة " الجزائر وقد نال إقبالا كبير، و تجاوب من قبل الزوار هذه اللؤلؤة تدنو تدريجيا نحو الأفضل بخطى ثابتة ،ووعيها بالمسؤولية جعلها تنحت الجمال من عمق شعورها، وهي مكسب للمبدعين ومدرسة قائمة بذاتها ،ويمكن اعتمادها كمرجع للأجيال القادمة والمعاصرة لينهلوا منها القواعد السليمة والأفكار الناضجة، وأخلاقيات الفن الراقي لأنها تحب بصدق كل ما تقوم به وتنجزه بمنتهى الدقة ، فتعتبر نفسها جزء لا يتجزأ من الطبيعة فتمزج قدراتها مع خيالها الواسع لتحدث بذلك حيثيات جديدة في الإبداع. والنجومية لم تأتي من العدم أو الفراغ بل حاصل تحصيل للسنوات الطويلة التي قضتها في تطوير إبداعها ،و استمرار علاقتها الحميمية مع الطبيعة العذراء التي كانت مصدر نبوغها، ومنبع لأفكارها ما جعل العقل والروح عندها صنوان لا يفترقان لان عالم الطبيعة قائم بذاته وكل من يولج فيه يواجه مفارقات متداخلة لا تدركها الأبصار وإنما تدركها البصائر.
تحقيق الوجود مقرون باكتشاف النور الموجود بداخلنا ،و الإنسان ولد لأجل تحقيق أهدافه المنشودة،و بلوغ الجمال بدليل الحدس الحسي والإبداع .لذلك عشقت الفنانة الشمس وهي تهبها الضوء ولون السماء الذي لا يخلع ثوبه الأزرق رغم تعاقب الفصول والسنون،و من تناسق هذه الألوان وتمازجها أعطى انسجام في الجمال المطلق غنيا نقيا من كل زيف، وانبثقت سعادة من باطن النفس مصدرها من الخارج بإخضاع المحسوس للعقل والحياة السعيدة هي التي تجمع بين الحس والعقل بنسبة معينة، والعقل هو الذي تكون له الغلبة والفن مهذب للنفس والإحساس بالجمال جعلها تتأثر باللون الأحمر ،فراحت تجسده في قرميد المنازل وشقائق النعمان في الحقول وغروب الشمس ، كما تعلقت بلون التربة البني وشكلها المثير بعد حرثها من قبل المزارعين ، ووجه الحقول والروابي والمساحات الخضراء في فصل الربيع كل هذه العناصر أثارت مخيلتها الإبداعية ، إذ هذه المقومات تتساوى فيها جميع الاعتبارات للقيم الباطنية التي تثير فيها الأفكار وطرق التعبير ،وبعض الخصائص الأخرى كالأحاسيس والدلالات التي تنطوي عليها بتعبير أوضح ما دفع بنفسها للإبداع الفني الذي يعتبر مدخله منعرج غير مباشر إلى تألق العقل ويقضه الوجدان وإشراق الروح. وإن الفكر والحس الباطني لا يختلفان في المعطيات بقدر التوفيق بين الوجدان ،والعقل، والروح ولا نجد نشوز بينهم أو اختلاف في كلياتهم أو جزئياتهم .فالعقل ينير الروح وإن استنار بضوء الحكمة توطدت دعائم الوجدان والخطوط العريضة تؤيد الحق، وإن كانت هناك اختلافات في التركيبة فهذا لا يلغي جوهر العلاقة الترابطية.
ونجد ألوان لوحاتها تحتوي على تدرجات متفاوتة ،ونلمس تناسق عبقري في تقاطع الخطوط المحكم حيث ينقلك التدرج من السهل إلى الأقل سهولة، ومن البسيط إلى المعقد وكلما أمعنت في لوحاتها أدركت عمق تفكيرها ،فالطبيعة عندها مستقلة بذاتها متقدمة على وجود الجزئيات ،فهي متفوقة في جانب المعرفة الحسية و العقلية،ويتم إسقاطها للأنوار انطلاقا من حبها للحياة وإدراكها ما وراء الطبيعة ،فتدون التاريخ من خلال اعتكافها على التأمل ،و تقف حيث يقف المنطق واليقين.وإزاء هذا الارتباط الوثيق بين الإدراك والشعور تكمن قوة أعمالها الإبداعية التي تنقلك لعمق الحقيقة واستدامة وجود الشيء الذي ليس وجوده لذاته وأن سره لا يكمن فيه بقدر ما ينتسب إلى جميع الأشياء، وسبب ديمومته هو جوهره الذي يشترك فيه الظاهر والباطن ويمكن التميز فيه بين الجميل والقبيح من الأفعال والأخلاق.
عبقرية الفنانة بتينا تكمن في انتقائها للمواضيع وذوبانها في التفاصيل ،وتوفيقها في تناسق الألوان وانسجامها مع المرئي واحترافيتها للريشة، فأعمالها أكثر جودة وأقل غموضا وتعقيدا، فأسلوبها المتميز مصدره الإلهام واستيعابها للمفارقات بين الألوان والمناظر،وهذا لا يوجد على درجة واحدة في جميع الناس وإنما يتقارب ويتفاوت حسب المستويات الثقافية والأذواق ،وكذا المواهب ودرجة الذكاء والنبوغ.
إن التشاؤم ناذرا ما يقترن بشخصها فقد منحت قلبها وروحها للريشة ،وتعمقت في حيثيات الطبيعة ،ومقصدها من ذلك هو الحرية وانفلاتها من القيود ،وإقبالها على الإبداع وترى مالا يراه الآخرون وتحس أشياء قد يمر بها غيرها ولا يلتف إليها وملكة الحس عندها لا تأخذ المحسوس المجرد تجريدا تاما عن مادته، ولاعن لواحقه المادية بل ينقل حسها صورة الأشياء بكل جزئياته ،وهذا ما جعل تصورها صحيحا فكان مؤشرا قوي لنجاحها وزاد حضها في تألق اسمها حين تفاعلت مع الطبيعة وشعرت بتفاصيلها ،ونفذت إلى عمق الحقيقة لأنه قليلا من الناس فقط من يبحثون عن اليقين، ويستخلصون المفاهيم الصحيحة ويستنبطون الأفكار السليمة.
المجتمع يؤثر على الأفراد لكون الجماعة متشاركة في القواعد الأخلاقية والضمائر فردية فيحدث تداخل، وتمازج مما يؤدي إلى نشأة الحياة الاجتماعية ،ولمعرفة طبيعة المجتمع علينا بدراسة طبيعة هذه الفردية ،وفهم التناسق والترابط بين الأفراد لفهم ما يقع في الجماعة ،وفهم العلاقة الترابطية بين علم النفس وعلم الاجتماع لأن الإنسان بطبعه نجده أكثر قابلية للاجتماع ، والمعرفة العلمية والانتباه واستحضار الذكريات ،واللذة الفنية والشعور الأخلاقي والشعور الديني كل هذه الأمور من الطبيعة لاجتماعية. ونشأة الفنانة بتينا في وسط عائلي مثقف وأرستقراطي كان حافزا قوي في تعزيز قدراتها و محيطها العائلي بمثابة الأرض الخصبة التي احتوت إحساسها بالجمال وساهمت في صقل شخصيتها الفنية وتهذيب ذوقها . فنجدها تتذوق الموسيقى والفنون الجميلة ،والكتابة ما عزز توجيه رغبتها في الرسم بالإضافة إلى الدعم المعنوي والمادي الذي تلقته من قبل والديها المتشبعان ثقافيا وأخلاقيا وعلميا ،وأسدت علاقة والدها بالرسام العالمي أرفين بوفين نقلة نوعية وفريدة في حياة ابنته بوضعها في الطريق الصحيح حين اكتشفا موهبتها في الرسم.فالرسام أرفين بوفين بالنسبة لها شخصية جديدة كونه يملك الخاصية وروح فنان واعي مثقف فانجذبت إليه بعفوية لأنهما يملكان الإحساس المشترك بالجمال ما جعلهما يعيشان طبقا لمواهبهما، فانساقت خلف إبداعها وذابت في حيثيات الحس الظاهري الذي تفاعل معه الحس الباطني.
بلوغ الوعي الجماعي يكمن في تربية الذوق وترسيخ روح التسامح، وحب الطبيعة والتأمل والتدبر في هذا الكون المترامي الأطراف ،وتطبيق القواعد السليمة أثناء الغوص في رحم أي ظاهرة خارجية باستخلاص المحاولات حيث تبدأ من أول وهلة استكشاف رغم أنه ليس هناك أي استكشاف، والهدف الخفي هو تثقيف الذاكرة ومحاربة الفتور والتشتت.والمبدع من يتبنى أحسن ما يوجد عند من سبقوه، والوعي يقظة مثمرة تتجسد في استخلاص العبر من التجارب، والتعايش مع الواقعية ،والتأمل في العائق الذي يفرض علينا التساؤل وتجاوز الصراع الوجداني ،والبحث المتميز من أجل إنجاز أهدافنا التي تضمن لنا الاستمرار في محاولتنا لتجاوز الحدود المظلمة التي تحيط بنا، فالاصطدام بالخطأ هو الحافز الذي يجعل رغبتنا في الحقيقة تتعاظم.وهذا يصب في قالب التجربة الذي جعل الفنانة بتينا لا تكتفي من نهل المعارف بل تعدى طموحها إلى تثقيف عقلها ،وتهذيب ذوقها على يد الفنان أرفين بوفين و سعت جاهدة لتوسيع أفاق مستقبلها بطموحها في الاحترافية وحفاظها على الملكات وذلك من خلال ترددها على المدارس التطبيقية والأكاديمية الملكية للفنون الجميلة أين تعلمت رسم المناظر الطبيعية الخلابة والحيطان والصور العارية ،ومن خلال جولاتها المتكررة في الطبيعة الواسعة النطاق اكتشفت نبات استوائي في تاسين.
لقد تمكنت الفنانة بتينا هاينن من وصف وجه الطبيعة باحترافية عالية حين أدركت
العلاقة بين الكلي والجزئي ،وتوجيه مشاعرها نحو واجهة العقل والذهن والذاكرة والانتباه والخيال الواسع والتكيف الحسي. لان الفن وجوب إحساس يحول الشيء الغامض والمبهم إلى صورة واضحة جلية تشمل الإحاطة بالجزئيات التي يمكن أن تصل بالفكر والوجدان إلى النموذجية ، فالفنان تجده دائما يبحث عن الجمال الكلي ويعبر عنه بأسلوبه الخاص مثلما يبحث العالم عن الحقيقة العلمية ، ويعبر عنها بطريقته الخاصة لإيصالها للناس، ولكن كل واحد منهما مطلوب منه أن يمنح كل ما لديه للقيام بالواجب وبلوغ أسمى كمال ممكن بالنسبة إليه، والابتعاد قدر المستطاع عن الجدليات العقيمة والفلسفة الفارغة التي تقود إلى الاستسلام والذبول.
إن الإيمان الذي يملأ القلب يحرك الخيال ،ويبث فينا الطموح إلى الارتقاء وإدراك قيمة التخيل الوجداني ،فيزداد المرء تفتحا وارتقاء في مراتب الكمال والسمو بالروح التي تمنح الطاقة العميقة التي يحتاجها الفنان للانتصار على كل عائق.
لقد أدركت الفنانة بتينا منذ بداية البدايات أنه من المهم كل الأهمية أن تدرك الإبداع وتتقن تأمل جمال الطبيعة، وأن تملأ وقتها بالانشغال في إنجاز لوحاتها لتحقيق أهدافها التي رأتها أمام عينيها، وهذا ما دفع بها للسفر إلى باريس الذي أضاف إلى شخصها الكثير وكذلك زيارتها للمصر جعلت موهبتها تكتمل، وتتخلص من كل النقائص والتناقض الذي يصير فيه الإبداع مستحيل.واستطاعت أن تضمن تواصلها مع العالم ،وتحافظ على علاقتها التضامنية مع أرفين بوفين الذي زارها في الجزائر عدة مرات رغم تقدمه في السن، ولأنها تدرك بأن الرسالة بين البشر متوارثة وكل جيل من الفنانين مجبر على القيام بتربية الجيل اللاحق ،وهذا ما سعت إلى تحقيقه مع الفنانين وخصت بذلك أصدقائها المقربون وهم كل من حكيم بن عبدة وبوخاتم رضا، سعدان محمد، و خالد عبد الوهاب خوجة ، فهي تريد أن تعبد لهم الطريق وأن تدرك حواسهم الباطنية مدركاتها للوصول إلى نقاط مشتركة، وخطوط متقاطعة في الإبداع،فحرصت على إسدائها النصائح والتوجيهات، وتصحيح أفكارهم وتهذيب أذواقهم وصقل موهبتهم، وهذا ليتسنى لهم قطع المسافات اللازمة لوصولهم إلى الواجب المطلق المقرون بأحوال الفن ،وتسعى جاهدة بحمايتهم من التعصب الذهني الذي يحول القيمة المختارة إلى قيمة سلبية ،وهكذا تكون في نهاية المطاف قد وجهتم نحو غايتهم .فالفنان حكيم بن عبدة يملك التفاؤل الذي يؤهله إلى النجاح لأنه يقدس الرسم ، وهو متجدد دائما في إبداعاته ويستفيد من تجارب الماضي، فيربطها بالمستقبل لأن التجربة تبدي لنا تطلعا دائما إلى حياة أكثر استقرارا، وأكثر قوة من العقبات ، وجمعها لأصدقائها في لوحة فنية قصدت منه محاكاة الروح الفاضلة والقيمة الإنسانية،و من خلال ذلك يتم مخاطبة روحهم الباطنية بأنهم قوة يصعب إضعافها أو تبديد طموحاتهم، وسحق ميولا تهم للرسم الذي كان ملازما لهم منذ الطفولة كما أرادت أن تسقط أفكارها التي استنبطتها من خلاصة استنتاجها الذي دعمه عقلها وحسها من استنباط الجمال المستوحى من الاستعدادات الفطرية ويكتمل بتربية العقل وضبط الإرادة، وحين نبدأ بالحرية يكون مجالها الأخلاق والعقل وضبطها على مقاييس تضمن الاتزان والاستمرارية، فأرادت الرسامة بتنينا من خلال عملها هذا أن تشرح لنا الجانب الروحي دون أن ترهقنا بتفوقها،وسيطرتها ولم تقصد هنا التباهي والإدعاء ولكنها أرادت الغوص في الأعماق الباطنية لثبت الاختلاف بين الأصدقاء الأربع في طباعهم،وحسهم الباطني والظاهري لكن هذا لا ينفي من وجود نقاط مشتركة بينهم، وهو حبهم العميق لفن الرسم والقدرة على استفادتهم من صداقتهم وفق النمط الاجتماعي الذي يضمن لهم البقاء ،والاستمرارية ويحقق هدفهم المنشود لأنهم مشتركون في الجوهر.
نلمس التسامح في تقاسيم وجوهم وانسجامهم في النقاط المركزية كالبعد الميتافيزيقي والذهن المدرك و الخطوط العريضة في ارتباطهم بين الذات والموضوع والإدراك الحسي .وتكمن قوة التناسق التام الذي أحاطت به الرسامة بتينا في الألوان التي اخترتها وإحاطتها بالجزئيات ،وكل هذا تم بإحكام وتقنية عالية توحي من أول وهلة يقع فيها بصرك على اللوحة بأنها تعود للفنان محترف وأكاديمي، فشرح ملامح وجوهم هو امتداد لحسهم الباطني الذي يترجمه تفاعل حسهم الظاهري، وهذه اللوحة تستحق منا الوقوف عند أصغر جزيئاتها لبراعة الفنانة وقدرتها الفائقة في اهتدائها إلى البناء الفكري والعقلي والروحي والوجداني التي أرادت أن تبرزه، ويعتبر الإنجاز تفجير لعبقريتها الإبداعية .
الفنانة بتينا تعشق الطبيعة لأنها تراها منبع الإبداع والسلام، وتساهم بشكل جلي في تدريب المرء على التفكير العقلي ،ومن خلال ولوجنا لعالمها نلاحظ طغيان المناظر الطبيعية على لوحاتها رغم تناولها عدة مواضيع أخرى كرسمها للمنازل والأحياء والشخصيات ،وإن أمعنا فيما ترسمه بنظرة واحدة نجد غياب التناقض في نصوصها حيث نلمس اتفاق كلي بين العقل والروح والوجدان، وهذا التوافق حفظ شخصيتها من الانقسام والانشقاق لأنها أكثر واقعية .كما تملك وحدة روحية جعلتها توفق في الجانب الفني لالتهاب أحاسيسها ،وتشارك ذلك الشعور مع الطبيعة وتترجم أفكارها في لوحاتها ،ولن تجد عندها فجوة فيما تشعر وتفكر فيه وما ترسمه فلا تلمس انقساما ولا انشقاقا بل توافق تام وهذا نتاج عبقريتها.
صفاء مزاجها جعلها تخلد في السكينة ومنهجها العقلي الصارم لم يتجاوز المنطق والواقعية ،فلقد أحبت الطبيعة بعمق ولم تنفصل عنها يوما ،وظلت ترسمها باستمرار وهذا نزولا لرغبتها الكبيرة في الغوص في حيثياتها ،وصيغ ارتباطها في انتعاش قلبها بهذا الشعور الوجداني وسعة مخيلتها التي لامست أبعاد شعورها ،وهذا من خلال التأمل الذي حفظ توازن الأعضاء الحيوية ،واعتمادها الرسم كوسيلة فعالة ولغة التعبير المباشرة، فأقحمت كل الحواس الخارجية والباطنية لاحتواء دروب الصمت الموجود في الطبيعة. واستلهمت الحقيقة في رؤيتها الداخلية ،وإعادة تشكيلها لمفهوم الحقيقة والبعد الجمالي من خلال فهمها لماهية الأشياء.
الجمال ليس ذو طبيعة جسمانية خالصة فقط ،وإنما هو أيضا ذو طبيعة روحية خالصة، وأثره يختلف كل الاختلاف قي الجانبين، وكل خلل يعترض الجمال أمر عارض على طبيعته وليس له علاقة في جوهر وجوده ،وهكذا فإن الجمال خالد مادام مسير من قبل قوة لا تزول بزوال الموجودات من العالم المعقول التي تتحطم فيها المؤثرات العارضة وتنتصر القوة الواحدة.
بقلم الكاتية :حكيمة شكروبة
والجمال لا يدركه التناقض بين قطبيه لذلك أحبته الفنانة بتينا، واعتنقت الإبداع مذهبا واتخذت الرسم محراب تمارس فيه طقوسها بحب ووفاء. ممتثلة لموهبتها توفيقية في غايتها وأهدافها بعدما سخرت كل قدراتها للرسم الذي تراه مصدرا للإلهام، وتهذيب النفس واستكمالها لتحصل السعادة .
تنحدرا لفنانة العالمية بتينا هاينن عياش من عرق الجرمان الذي يعتبر منبع الإبداع تميزت طفولتها بحبها المولع للريشة ،فعشقتها لحد النخاع، واعتمدتها وسيلة التعبير والمخاطبة ،فنقلت ما يجول في خاطرها ويتدفق من عمق شعورها ،ويختمر في ذهنها وجسدته في لوحاتها الفنية .فأناملها تلاعب الريشة باحترافية ، وغذى نبوغها نشأتها في وسط عائلي مولع بكل ما هو جميل وراقي كالموسيقى والأدب والفنون ، فوالدها هانس هاينن عالما لغويا واقتصاديا وصحفيا وشاعر غنائيا كبير ،و أمها إرنا هاينن شتانهوف مثقفة جدا ما جعل الفنانون يستوحون منها إلهامهم وتشجعيهم ،كما خدمها تعدد مواهبها الذي ساهم في تألقها . فكانت أولى بدايتها مع الكتابة التي تبنتها في سن الثامنة من عمرها واستبدلتها بالرسم في سن الثانية عشر.
الفنان أرفين بوفين لمس نبوغها في الرسم. فأشرف شخصيا على صقل موهبتها والتكفل بتربيتها فنيا ،و لبلوغ الاحترافية قصدت عدة مدارس ومعاهد بداية مشوارها التعليمي مدرسة الفنون التطبيقية بكولونيا عام 1954 لغاية 1957 تتلمذت على يد الأستاذ أوتو جرستر الذي أخذت منه فن الرسم على الحيطان والصور العارية ،وخلال صيف 1957 بأكاديمية ميونيخ تدربت على يد الأستاذ هرمان كاسبر تقنية رسم الصور الشخصية ،وإبتداءا من عام 1957 لغاية 1958 التحقت بالأكاديمية الملكية للفنون الجميلة بكوبناهنغ تحت إشراف الأستاذ بول زفتران بالنرويج .
نذرت الفنانة بتينا عمرها للفن وسعت من خلال تجاربها ،وما نهلته من معارف وتقنيات في المدارس بتوظيفه في صقل موهبتها ، و مجيئها للجزائر رفقة زوجها عياش عبد الحميد أضاف الكثير لرصيدها الفني،فالطبيعة الخلابة وتفوق مناظرها الساحرة المتباينة والمتفاوتة في الجاذبية من سواحل تضاريس سهول، وصحراء شاسعة وكذلك المناخ القاري والمعتدل، والموقع الجغرافي الاستراتجي بإشرافها من الشمال على البحر الأبيض المتوسط كل هذه العوامل، والمقومات استثمرتها في صنع النموذجية للوحاتها ، وتفوقها يرجع لاكتسابها كاريزما خاصة ونهلها المستمر من مصدر يمتلك كل مفاتيح الإبداع الراقي والعطاء اللامتناهي ألا وهو الطبيعة ،فتناولت الجمال من مصدره كمادة خامة وأسقطته على لواحتها.ويعتبر الرسم بالنسبة لبتينا متنفس وعالمها الخاص الذي تمارس فيه طقوسها وجنونها. وعملت على تدوين التاريخ من خلال ما أنجزته من لوحات فنية، وأقامته من معارض الذي قارب 100 معرض ساهمت من خلال لوحاتها بنشر الثقافة الجزائرية والترويج للسياحة ،فالمعرض الذي أقامته في برلين يومي 23/24/25/26 نوفمبر 2012 كانت بطاقة الدعوة تحمل منظر طبيعي " لماونةـ قالمة " الجزائر وقد نال إقبالا كبير، و تجاوب من قبل الزوار هذه اللؤلؤة تدنو تدريجيا نحو الأفضل بخطى ثابتة ،ووعيها بالمسؤولية جعلها تنحت الجمال من عمق شعورها، وهي مكسب للمبدعين ومدرسة قائمة بذاتها ،ويمكن اعتمادها كمرجع للأجيال القادمة والمعاصرة لينهلوا منها القواعد السليمة والأفكار الناضجة، وأخلاقيات الفن الراقي لأنها تحب بصدق كل ما تقوم به وتنجزه بمنتهى الدقة ، فتعتبر نفسها جزء لا يتجزأ من الطبيعة فتمزج قدراتها مع خيالها الواسع لتحدث بذلك حيثيات جديدة في الإبداع. والنجومية لم تأتي من العدم أو الفراغ بل حاصل تحصيل للسنوات الطويلة التي قضتها في تطوير إبداعها ،و استمرار علاقتها الحميمية مع الطبيعة العذراء التي كانت مصدر نبوغها، ومنبع لأفكارها ما جعل العقل والروح عندها صنوان لا يفترقان لان عالم الطبيعة قائم بذاته وكل من يولج فيه يواجه مفارقات متداخلة لا تدركها الأبصار وإنما تدركها البصائر.
تحقيق الوجود مقرون باكتشاف النور الموجود بداخلنا ،و الإنسان ولد لأجل تحقيق أهدافه المنشودة،و بلوغ الجمال بدليل الحدس الحسي والإبداع .لذلك عشقت الفنانة الشمس وهي تهبها الضوء ولون السماء الذي لا يخلع ثوبه الأزرق رغم تعاقب الفصول والسنون،و من تناسق هذه الألوان وتمازجها أعطى انسجام في الجمال المطلق غنيا نقيا من كل زيف، وانبثقت سعادة من باطن النفس مصدرها من الخارج بإخضاع المحسوس للعقل والحياة السعيدة هي التي تجمع بين الحس والعقل بنسبة معينة، والعقل هو الذي تكون له الغلبة والفن مهذب للنفس والإحساس بالجمال جعلها تتأثر باللون الأحمر ،فراحت تجسده في قرميد المنازل وشقائق النعمان في الحقول وغروب الشمس ، كما تعلقت بلون التربة البني وشكلها المثير بعد حرثها من قبل المزارعين ، ووجه الحقول والروابي والمساحات الخضراء في فصل الربيع كل هذه العناصر أثارت مخيلتها الإبداعية ، إذ هذه المقومات تتساوى فيها جميع الاعتبارات للقيم الباطنية التي تثير فيها الأفكار وطرق التعبير ،وبعض الخصائص الأخرى كالأحاسيس والدلالات التي تنطوي عليها بتعبير أوضح ما دفع بنفسها للإبداع الفني الذي يعتبر مدخله منعرج غير مباشر إلى تألق العقل ويقضه الوجدان وإشراق الروح. وإن الفكر والحس الباطني لا يختلفان في المعطيات بقدر التوفيق بين الوجدان ،والعقل، والروح ولا نجد نشوز بينهم أو اختلاف في كلياتهم أو جزئياتهم .فالعقل ينير الروح وإن استنار بضوء الحكمة توطدت دعائم الوجدان والخطوط العريضة تؤيد الحق، وإن كانت هناك اختلافات في التركيبة فهذا لا يلغي جوهر العلاقة الترابطية.
ونجد ألوان لوحاتها تحتوي على تدرجات متفاوتة ،ونلمس تناسق عبقري في تقاطع الخطوط المحكم حيث ينقلك التدرج من السهل إلى الأقل سهولة، ومن البسيط إلى المعقد وكلما أمعنت في لوحاتها أدركت عمق تفكيرها ،فالطبيعة عندها مستقلة بذاتها متقدمة على وجود الجزئيات ،فهي متفوقة في جانب المعرفة الحسية و العقلية،ويتم إسقاطها للأنوار انطلاقا من حبها للحياة وإدراكها ما وراء الطبيعة ،فتدون التاريخ من خلال اعتكافها على التأمل ،و تقف حيث يقف المنطق واليقين.وإزاء هذا الارتباط الوثيق بين الإدراك والشعور تكمن قوة أعمالها الإبداعية التي تنقلك لعمق الحقيقة واستدامة وجود الشيء الذي ليس وجوده لذاته وأن سره لا يكمن فيه بقدر ما ينتسب إلى جميع الأشياء، وسبب ديمومته هو جوهره الذي يشترك فيه الظاهر والباطن ويمكن التميز فيه بين الجميل والقبيح من الأفعال والأخلاق.
عبقرية الفنانة بتينا تكمن في انتقائها للمواضيع وذوبانها في التفاصيل ،وتوفيقها في تناسق الألوان وانسجامها مع المرئي واحترافيتها للريشة، فأعمالها أكثر جودة وأقل غموضا وتعقيدا، فأسلوبها المتميز مصدره الإلهام واستيعابها للمفارقات بين الألوان والمناظر،وهذا لا يوجد على درجة واحدة في جميع الناس وإنما يتقارب ويتفاوت حسب المستويات الثقافية والأذواق ،وكذا المواهب ودرجة الذكاء والنبوغ.
إن التشاؤم ناذرا ما يقترن بشخصها فقد منحت قلبها وروحها للريشة ،وتعمقت في حيثيات الطبيعة ،ومقصدها من ذلك هو الحرية وانفلاتها من القيود ،وإقبالها على الإبداع وترى مالا يراه الآخرون وتحس أشياء قد يمر بها غيرها ولا يلتف إليها وملكة الحس عندها لا تأخذ المحسوس المجرد تجريدا تاما عن مادته، ولاعن لواحقه المادية بل ينقل حسها صورة الأشياء بكل جزئياته ،وهذا ما جعل تصورها صحيحا فكان مؤشرا قوي لنجاحها وزاد حضها في تألق اسمها حين تفاعلت مع الطبيعة وشعرت بتفاصيلها ،ونفذت إلى عمق الحقيقة لأنه قليلا من الناس فقط من يبحثون عن اليقين، ويستخلصون المفاهيم الصحيحة ويستنبطون الأفكار السليمة.
المجتمع يؤثر على الأفراد لكون الجماعة متشاركة في القواعد الأخلاقية والضمائر فردية فيحدث تداخل، وتمازج مما يؤدي إلى نشأة الحياة الاجتماعية ،ولمعرفة طبيعة المجتمع علينا بدراسة طبيعة هذه الفردية ،وفهم التناسق والترابط بين الأفراد لفهم ما يقع في الجماعة ،وفهم العلاقة الترابطية بين علم النفس وعلم الاجتماع لأن الإنسان بطبعه نجده أكثر قابلية للاجتماع ، والمعرفة العلمية والانتباه واستحضار الذكريات ،واللذة الفنية والشعور الأخلاقي والشعور الديني كل هذه الأمور من الطبيعة لاجتماعية. ونشأة الفنانة بتينا في وسط عائلي مثقف وأرستقراطي كان حافزا قوي في تعزيز قدراتها و محيطها العائلي بمثابة الأرض الخصبة التي احتوت إحساسها بالجمال وساهمت في صقل شخصيتها الفنية وتهذيب ذوقها . فنجدها تتذوق الموسيقى والفنون الجميلة ،والكتابة ما عزز توجيه رغبتها في الرسم بالإضافة إلى الدعم المعنوي والمادي الذي تلقته من قبل والديها المتشبعان ثقافيا وأخلاقيا وعلميا ،وأسدت علاقة والدها بالرسام العالمي أرفين بوفين نقلة نوعية وفريدة في حياة ابنته بوضعها في الطريق الصحيح حين اكتشفا موهبتها في الرسم.فالرسام أرفين بوفين بالنسبة لها شخصية جديدة كونه يملك الخاصية وروح فنان واعي مثقف فانجذبت إليه بعفوية لأنهما يملكان الإحساس المشترك بالجمال ما جعلهما يعيشان طبقا لمواهبهما، فانساقت خلف إبداعها وذابت في حيثيات الحس الظاهري الذي تفاعل معه الحس الباطني.
بلوغ الوعي الجماعي يكمن في تربية الذوق وترسيخ روح التسامح، وحب الطبيعة والتأمل والتدبر في هذا الكون المترامي الأطراف ،وتطبيق القواعد السليمة أثناء الغوص في رحم أي ظاهرة خارجية باستخلاص المحاولات حيث تبدأ من أول وهلة استكشاف رغم أنه ليس هناك أي استكشاف، والهدف الخفي هو تثقيف الذاكرة ومحاربة الفتور والتشتت.والمبدع من يتبنى أحسن ما يوجد عند من سبقوه، والوعي يقظة مثمرة تتجسد في استخلاص العبر من التجارب، والتعايش مع الواقعية ،والتأمل في العائق الذي يفرض علينا التساؤل وتجاوز الصراع الوجداني ،والبحث المتميز من أجل إنجاز أهدافنا التي تضمن لنا الاستمرار في محاولتنا لتجاوز الحدود المظلمة التي تحيط بنا، فالاصطدام بالخطأ هو الحافز الذي يجعل رغبتنا في الحقيقة تتعاظم.وهذا يصب في قالب التجربة الذي جعل الفنانة بتينا لا تكتفي من نهل المعارف بل تعدى طموحها إلى تثقيف عقلها ،وتهذيب ذوقها على يد الفنان أرفين بوفين و سعت جاهدة لتوسيع أفاق مستقبلها بطموحها في الاحترافية وحفاظها على الملكات وذلك من خلال ترددها على المدارس التطبيقية والأكاديمية الملكية للفنون الجميلة أين تعلمت رسم المناظر الطبيعية الخلابة والحيطان والصور العارية ،ومن خلال جولاتها المتكررة في الطبيعة الواسعة النطاق اكتشفت نبات استوائي في تاسين.
لقد تمكنت الفنانة بتينا هاينن من وصف وجه الطبيعة باحترافية عالية حين أدركت
العلاقة بين الكلي والجزئي ،وتوجيه مشاعرها نحو واجهة العقل والذهن والذاكرة والانتباه والخيال الواسع والتكيف الحسي. لان الفن وجوب إحساس يحول الشيء الغامض والمبهم إلى صورة واضحة جلية تشمل الإحاطة بالجزئيات التي يمكن أن تصل بالفكر والوجدان إلى النموذجية ، فالفنان تجده دائما يبحث عن الجمال الكلي ويعبر عنه بأسلوبه الخاص مثلما يبحث العالم عن الحقيقة العلمية ، ويعبر عنها بطريقته الخاصة لإيصالها للناس، ولكن كل واحد منهما مطلوب منه أن يمنح كل ما لديه للقيام بالواجب وبلوغ أسمى كمال ممكن بالنسبة إليه، والابتعاد قدر المستطاع عن الجدليات العقيمة والفلسفة الفارغة التي تقود إلى الاستسلام والذبول.
إن الإيمان الذي يملأ القلب يحرك الخيال ،ويبث فينا الطموح إلى الارتقاء وإدراك قيمة التخيل الوجداني ،فيزداد المرء تفتحا وارتقاء في مراتب الكمال والسمو بالروح التي تمنح الطاقة العميقة التي يحتاجها الفنان للانتصار على كل عائق.
لقد أدركت الفنانة بتينا منذ بداية البدايات أنه من المهم كل الأهمية أن تدرك الإبداع وتتقن تأمل جمال الطبيعة، وأن تملأ وقتها بالانشغال في إنجاز لوحاتها لتحقيق أهدافها التي رأتها أمام عينيها، وهذا ما دفع بها للسفر إلى باريس الذي أضاف إلى شخصها الكثير وكذلك زيارتها للمصر جعلت موهبتها تكتمل، وتتخلص من كل النقائص والتناقض الذي يصير فيه الإبداع مستحيل.واستطاعت أن تضمن تواصلها مع العالم ،وتحافظ على علاقتها التضامنية مع أرفين بوفين الذي زارها في الجزائر عدة مرات رغم تقدمه في السن، ولأنها تدرك بأن الرسالة بين البشر متوارثة وكل جيل من الفنانين مجبر على القيام بتربية الجيل اللاحق ،وهذا ما سعت إلى تحقيقه مع الفنانين وخصت بذلك أصدقائها المقربون وهم كل من حكيم بن عبدة وبوخاتم رضا، سعدان محمد، و خالد عبد الوهاب خوجة ، فهي تريد أن تعبد لهم الطريق وأن تدرك حواسهم الباطنية مدركاتها للوصول إلى نقاط مشتركة، وخطوط متقاطعة في الإبداع،فحرصت على إسدائها النصائح والتوجيهات، وتصحيح أفكارهم وتهذيب أذواقهم وصقل موهبتهم، وهذا ليتسنى لهم قطع المسافات اللازمة لوصولهم إلى الواجب المطلق المقرون بأحوال الفن ،وتسعى جاهدة بحمايتهم من التعصب الذهني الذي يحول القيمة المختارة إلى قيمة سلبية ،وهكذا تكون في نهاية المطاف قد وجهتم نحو غايتهم .فالفنان حكيم بن عبدة يملك التفاؤل الذي يؤهله إلى النجاح لأنه يقدس الرسم ، وهو متجدد دائما في إبداعاته ويستفيد من تجارب الماضي، فيربطها بالمستقبل لأن التجربة تبدي لنا تطلعا دائما إلى حياة أكثر استقرارا، وأكثر قوة من العقبات ، وجمعها لأصدقائها في لوحة فنية قصدت منه محاكاة الروح الفاضلة والقيمة الإنسانية،و من خلال ذلك يتم مخاطبة روحهم الباطنية بأنهم قوة يصعب إضعافها أو تبديد طموحاتهم، وسحق ميولا تهم للرسم الذي كان ملازما لهم منذ الطفولة كما أرادت أن تسقط أفكارها التي استنبطتها من خلاصة استنتاجها الذي دعمه عقلها وحسها من استنباط الجمال المستوحى من الاستعدادات الفطرية ويكتمل بتربية العقل وضبط الإرادة، وحين نبدأ بالحرية يكون مجالها الأخلاق والعقل وضبطها على مقاييس تضمن الاتزان والاستمرارية، فأرادت الرسامة بتنينا من خلال عملها هذا أن تشرح لنا الجانب الروحي دون أن ترهقنا بتفوقها،وسيطرتها ولم تقصد هنا التباهي والإدعاء ولكنها أرادت الغوص في الأعماق الباطنية لثبت الاختلاف بين الأصدقاء الأربع في طباعهم،وحسهم الباطني والظاهري لكن هذا لا ينفي من وجود نقاط مشتركة بينهم، وهو حبهم العميق لفن الرسم والقدرة على استفادتهم من صداقتهم وفق النمط الاجتماعي الذي يضمن لهم البقاء ،والاستمرارية ويحقق هدفهم المنشود لأنهم مشتركون في الجوهر.
نلمس التسامح في تقاسيم وجوهم وانسجامهم في النقاط المركزية كالبعد الميتافيزيقي والذهن المدرك و الخطوط العريضة في ارتباطهم بين الذات والموضوع والإدراك الحسي .وتكمن قوة التناسق التام الذي أحاطت به الرسامة بتينا في الألوان التي اخترتها وإحاطتها بالجزئيات ،وكل هذا تم بإحكام وتقنية عالية توحي من أول وهلة يقع فيها بصرك على اللوحة بأنها تعود للفنان محترف وأكاديمي، فشرح ملامح وجوهم هو امتداد لحسهم الباطني الذي يترجمه تفاعل حسهم الظاهري، وهذه اللوحة تستحق منا الوقوف عند أصغر جزيئاتها لبراعة الفنانة وقدرتها الفائقة في اهتدائها إلى البناء الفكري والعقلي والروحي والوجداني التي أرادت أن تبرزه، ويعتبر الإنجاز تفجير لعبقريتها الإبداعية .
الفنانة بتينا تعشق الطبيعة لأنها تراها منبع الإبداع والسلام، وتساهم بشكل جلي في تدريب المرء على التفكير العقلي ،ومن خلال ولوجنا لعالمها نلاحظ طغيان المناظر الطبيعية على لوحاتها رغم تناولها عدة مواضيع أخرى كرسمها للمنازل والأحياء والشخصيات ،وإن أمعنا فيما ترسمه بنظرة واحدة نجد غياب التناقض في نصوصها حيث نلمس اتفاق كلي بين العقل والروح والوجدان، وهذا التوافق حفظ شخصيتها من الانقسام والانشقاق لأنها أكثر واقعية .كما تملك وحدة روحية جعلتها توفق في الجانب الفني لالتهاب أحاسيسها ،وتشارك ذلك الشعور مع الطبيعة وتترجم أفكارها في لوحاتها ،ولن تجد عندها فجوة فيما تشعر وتفكر فيه وما ترسمه فلا تلمس انقساما ولا انشقاقا بل توافق تام وهذا نتاج عبقريتها.
صفاء مزاجها جعلها تخلد في السكينة ومنهجها العقلي الصارم لم يتجاوز المنطق والواقعية ،فلقد أحبت الطبيعة بعمق ولم تنفصل عنها يوما ،وظلت ترسمها باستمرار وهذا نزولا لرغبتها الكبيرة في الغوص في حيثياتها ،وصيغ ارتباطها في انتعاش قلبها بهذا الشعور الوجداني وسعة مخيلتها التي لامست أبعاد شعورها ،وهذا من خلال التأمل الذي حفظ توازن الأعضاء الحيوية ،واعتمادها الرسم كوسيلة فعالة ولغة التعبير المباشرة، فأقحمت كل الحواس الخارجية والباطنية لاحتواء دروب الصمت الموجود في الطبيعة. واستلهمت الحقيقة في رؤيتها الداخلية ،وإعادة تشكيلها لمفهوم الحقيقة والبعد الجمالي من خلال فهمها لماهية الأشياء.
الجمال ليس ذو طبيعة جسمانية خالصة فقط ،وإنما هو أيضا ذو طبيعة روحية خالصة، وأثره يختلف كل الاختلاف قي الجانبين، وكل خلل يعترض الجمال أمر عارض على طبيعته وليس له علاقة في جوهر وجوده ،وهكذا فإن الجمال خالد مادام مسير من قبل قوة لا تزول بزوال الموجودات من العالم المعقول التي تتحطم فيها المؤثرات العارضة وتنتصر القوة الواحدة.
بقلم الكاتية :حكيمة شكروبة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق