⏪⏬
منذ فترة غير قصيرة، بدأ التشكيلي المغربي رشيد بكار ينفذ لوحات صباغية تجريدية، أحدوثية بمعنى ما، ملأى بآثار ورشمات وتخطيطات سريعة، تغني مساحات وكتلا لونية عابقة بحضور بصماتي وغرافيكي مؤسَّس على إمكانية تعدُّد القراءات والتأويلات
المرئية. في أعماله الصباغية آثار لونية محجوبة، وأخرى شفيفة وضَّاءة تتبادل المواقع على إيقاع غرافيكي لا يخلو من تخطيطات شاعرية، تطمح إلى المطلق وبلوغ النهايات، إذ لا حدود تحصرها. فهي خطوط متحرِّرة، مندفعة ومتدفقة بدينامية لونية تفتح أمام المتلقي خيارات متعدِّدة من الإدراك الحسِّي والبصري.. هذه هي لعبة الفنان بكار وأفقه التعبيري، الذي يسعى بواسطته لأن تكون لوحاته مفعمة بتوليفات صباغية شبه منفعلة، يحيا فيها الأثر بأنفاس لونية تستعير طابعها الجمالي من حدس الفنان وفهمه لسرائر المواد والخامات، التي يستعملها في تشكيل اللوحة، مع ما يرافق ذلك من أشكال العمل المكثف داخل المرسم.
وبمجرَّد ما يضع الفنان يده على القماش، يشرع في التشكيل، لكنه لا يدري كيف ومتى سينتهي، المهم أنه يشعر بالبداية، أليس «كل شيء يبدأ من نقطة صغيرة»، كما يقول فاسيللي كاندانسكي. ففي أعماله الفنية، الجديدة كما القديمة، تتحرَّك اليد والفكر وبينهما السند، قماش وورق وأحياناً خشب مسطح، في تلاؤم إبداعي يرسم مسارات التجريد الذي يُراهن عليه الفنان في التعبير والتشكيل.. بهذا الأسلوب التجريدي التعبيري، نجده يتبني الأثر ويتعقب ترسباته التي تتنوَّع فيها القيم البصرية الناتجة عن استعمال صبغات طبيعية ومصنَّعة، مطحونة ومعجونة، سميكة وخفيفة، كمسحوق الجوز، الحناء، دقيق الرخام، الأحبار، الأكريليك.. بما يمنح الأثر روحاً وحضوراً مدويّين في اللوحة، مع ملاحظة هي أن العنصر النباتي Floral ظلَّ يأخذ حيِّزاً وافراً ولفترات معيَّنة في هذه التجربة، لكن بهوية تشكيلية وليس تزيينية، إلى جانب خطوطيات مبهمة وكتابات غير مقروءة، في شكل تواقيع سريعة عصية على الفهم والاستيعاب. ويغذي هذه العناصر التعبيرية مَلْوَنَة الفنان Palette التي تتكثف فيها ألوان كثيرة، يتمُّ اختيارها بناءً على ما توحي به الذاكرة والمخيِّلة، ووفق التكوينات التجريدية المصمَّمة في الذهن، ومنها الأبيض، الأسود، الأزرق، الأخضر، الأحمر الياجوري، الرمادي.. إلى جانب ألوان ترابية لا تنفصل كثيراً عن البيئة المحلية، فضلاً عن استعمال كولاجات خفيفة، حسب الحتمية الإبداعية، وبعض التبقيعات والتبصيمات اللونية، اصطلاحية وأحادية، التي تترك حضورها في اللوحة في هيئة أشكال ظلية لعناصر عضوية، وأخرى ذائبة، في حضرة ألوان متدفقة بفعل السكب والرش..

هو ذا الفنان رشيد بكار حركيّ لا يهدأ، نجده تارة يوقع لمسات لونية عريضة تحتل مركز العمل الفني..وتارة أخرى يترك العنان لليد لتتحرَّك ولترسم خطوطاً سابحة بشكل فعلاني (أفقي في الغالب) ينتج عنه تدفق الألوان وانسيابها لتشترك مع باقي المفردات الأخرى في صناعة المعنى. فضلاً عن ذلك، فهو يسعى إلى تحرير اللون من سطوته وكثافته ليكون أشدَّ مرونة في تعزيز الرسم من خلال استثمار متروكات الصباغة والمواد التلوينية وتطويعها على نحو إبداعي لا يؤمن بالضيق والسكونية..
هكذا أقرأ لوحات هذا الفنان الذي يراهن على التجديد ومواصلة البحث والتجريب، معزَّزاً بخبرة فنية وافية وبمهارة إبداعية متقدة تجد صداها في التعبير الصباغي بميسميه الحديث والمعاصر، القريب من التجريد والبعيد عن التشخيص..
*ناقد تشكيلي من المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق