عمت مساء وبعد…
فلنفترض أننا لا نعرف بعضنا البعض… سأقدم نفسي أولا . اسمي… جبرت أن أحمله غصبا… لم أختره يوما ولم أبدي رأيي فيه
أبدا… صفاء… سميت قسرا. اسم طالما أحسسته غريبا… لا يمثلني… فأنا التي منذ أن قدمت العالم وهي تصارع أعاصير الحياة… غيوم الآلام تكدست في صدرها… سحب كثيفة تغطي سماء روحها… رعد يبطش بجسدها وبرق ينهش فؤادها… أين الصفاء من هذا؟ تعب ووهن جسدي وأرق وملل شديدين…
أن تؤجل أحلامك لتحقق أحلام أمك وأختك و أخيك… أن تعمل ليلا نهارا لتوفر ثمن فاتورة الغاز والكهرباء وتحافظ على مرتبتك بين أنجب النجباء… أن تتقن الإختباء وتتوهج قويا من الأقوياء… أن لا تستلم للإنحناء حين يفتؤ بك الجوع ويكثر العواء…
كيف لهم أن يسمونني صفاء؟ كان حريا بهم أن يطلقوا علي اسم تيهاء…أرض عاقر… أرض شقاء. عمري… عمري ثقيل لا يقوى على الحراك كعجوز قد خرت عظامها ووهنت… كيف نحدد سننا؟ آحقا بعدد السنوات التي نعيشها؟ لا أظن ذلك صوابا…
عمري هو تلك الندبات على صدري… جراح قد أصابت عقلي… خدوش قد نخرت نفسي… خيانة قد أهلكتني . عمري… جرح لم يلتئم وصرخة قلب من الحياة قد سئم. عمرنا تحدده تجاربنا… أظنني في سن المائة والسبعين . مائة وسبعون انكسارا وخيبة… صديقة قد أمست حية… أب قد غادرنا ليغازل فتاة و صبية ليسابق الشيب ويظل برعما يحتاج ريا…حبيب قد سحرته الحياة والفتيات فكل ليلة هو كالغزاة… يخترق صفوف العدو ويطيح بهم عراة… حتى أصبح في عداد الأموات… وأقمنا له حفل وفاة… غادرني وتوقف نزيف خيانته… أتراه يتظاهر يذلك؟ ربما… فهذه سمة من سماته. اللعب على حبلين… مهارة رياضي محترف متميز.
صوتك لازال حيا… لازال يطوي أرضي طيّا …يلامسني و يقطع أنفاسي. صوتك كان الأجمل… كان فاتنا آسرا. لازلت أبحث في صورك عن ملامح تشبه قوتي… عزوتي… عن ملامح تشبه نصري… لكنني لا أهتدي. كنت على الشاطئ أنتظرُ … سفنًا أحلامًا تحمِلُ… سفنًا يملؤها ماس، زُمرّدٌ و ياقوتٌ ؛ لكن الموج تابوتٌ … ممقوتٌ موقوتُ… سلب منّا أحلام الصِّبَا وقت الدّجى …سَرق منا الشذى وعنّا توارى … ذات لقاء لم يجمعنا لبست أجمل ثيابي… حملت ابتسامتي وأحلامي… اتجهت نحو محطة اللواج بباب عليوة مع الساعة السابعة صباحا… يومها استيقضت باكرا… أظنني لم أنم أصلا ليلتها… فلقد ضربت لنا موعدا مفاجئا… موعد لم يجمعنا… لم أكن مدركة لمدى جرأتي حتى ذلك اليوم. أن أفاجئك و أن نلتقي… أن نتعانق وان نتصالح…أن تخبرني لم غادرتني… الشمس مشرقة… تتوسط كبد السماء تغمرني فرحة وغبطة… السماء أزرق لونها تحاكي صفاء روحي يومها… وكأن الطبيعة تحتفي بقدومي إليك..
في سيارة اللواج ذهلت عندما علمت أن جميع المسافرين يقصدون الروحية لحضور جنائز لأقربائهم… أحدهم فقد ابن عمه.. الآخر جده وامرأة توفي خالها وكل يبكي فقيده. كانوا يتجهون إلى اجتماع للموت وأنا كنت قد اتخذت قلبك وجهتي… سألقى حبيب قلبي وفرحة عمري… كنت ذاهبة لأحتفل بحبنا…لألقاك بعد غياب قد طال… لكننا لم نلتقي…
ثلاثة ساعات أمضيتها أترقب وصولي لبلدتك… بلدة لا أعرف منها سوى اسمها… كنت قد أخبرتني أنك أصيل هذه البلدة الجميلة منذ أن حادثتني ذات ربيع قد ولى… الفرحة بلقائنا امتزجت بخوف كان يعتريني… هذه أول مرة أقصد مكانا دون علم أمي… خطيئتي الأولى وكذبتي الصغيرة المنمقة… قد كادتا تهويان بي في مهب الخيبة و الإحباط… كنت أعد الدقائق والساعات… أراقب ساعتي بعينين حالمتين… جمال لم تره عيني من قبل… خضرة قد اكتسحت الأرض… جبال شامخة لا تهتز ولا تخر… صامدة مثلي أمام الوقت الذي لا يمر…
لم نصل بعد… كنت أرسم في مخيلتي حوارا دار بيننا… أخذت أتخيل مهاتفتي لك وعناقا كان قد تراكم في صدري… كنت قد انتظرته مطولا… أخذت أختار أجمل كلماتي و أحسنها… تخيل أنني تدربت على ابتسامتي ومشيتي وضحكتي ونظراتي.. تدربت على وقفتي و همساتي… كنت جاهزة للقائك. جلست بجانبي امرأة أربعينية طريفة… تجاذبنا أطراف الحديث حول غلاء الأسعار والموت المفاجئ و ضغط الحياة… أخبرتها أنها أول زيارة لي للروحية… فسألتني ومكر غريب يعلو محياها: فما شكون بش يعرضك؟ أجبتها بنعم… نعم سينتظرني حلمي عند نزولي من السيارة… حلم تمنيت أن لا أستفيق منه… هو حلم لأنه لم يرد أن يتحقق… لم يلامس الواقع وأراد أن نفترق… هو حلم لأنه مثالي وقد بلغ فعلا درجة الكمال… هو حلم لأنه إذا عبرناه تبخر واندثر… حلم ناديتني لألقاك به… فغادرتني وتعلقت أنا به.
توقفت السيارة و على يميننا محطة للبنزين. لم أدرك بعد أننا قد وصلنا… رأيت الجميع ينزل فتبعتهم… أخرجت هاتفي مسرعة لأخبرك أنني هنا و أنني بهذا الكم أشتاقك…ولا تهمني المسافات بيننا ولا المدن… وهذه الفرصة سأغتنم… سأنتقم وأسرق قبلة لذيذة بل قبلات… سأنتقم وآخذك بعيدا لنتوه في متاهات…
دونت مسرعة رقم هاتفك وهاتفتك…كان هاتفك مغلقا… ارتعبت لفكرة أنك لن تعلم أنني قدمت لرؤيتك… وجزعت لأننا لن نلتقي… اتخذت لي مكانا محاذيا لمحطة البنزين ولم أنفك أهاتفك… صرت أتوق لسماع صوتك أكثر فأكثر… كل ممنوع منشود…. الساعة الواحدة بعد الزوال… رن هاتفي فجأة بعد أن رميته في حقيبتي وبعد أن يئست من مكالمتك. وصلتني رسالة منك… تقول فيها أنك ستهاتفني بعد حين… وانفجر سيل من الرسائل النصية بيننا… أخبرتني في جلها أنك لن تأتي… لملمت ماتبقى مني وركبت سيارة اللواج لتعيدني من حيث أتيت… لتعيدني غريبة عنك ولتغادرك في سلام… لتعيد توزيع أدوار المسرحية علينا فنستمر في الحياة نلعب أدوارا أخرى… أدوار سنتقنها كغيرها. كنت أتضور جوعا… أخذ التعب مني مأخذه… جلست على كرسي و أخذت أبكي… نعم بكيت يومها… بكيت حتى تورمت وجنتاي و جحظت عيناي… كنت أنتظر رسالة واحدة تقول انتظريني لا تذهبي قادم أنا إليك… لكنك لم تأتي. عندما شغل سائق السيارة المحرك تمنيت أن تهاتفني وتقول لي.. انتظريني انا آت… لاتغادريني. لكننا اتجهنا نحو تونس العاصمة ولم نتوقف لأنك لم تأتي… لم تشأ أن تطمئن على صغيرتك وإن وصلت منزلها سالمة معافاة… إكتفيت بتجاهلي وأنا إكتفيت بالبكاء وطأطأت قلبي لأنه انكسر.
تخيل أن نعود بالزمن إلى ماقبل الخلق… لاخترتك قبل أن تطأ قدمانا هذي الأرض… لاخترتك من بين العالمين، لخبأتك في أحضاني و أهديتك الياسمين… لرسمت لك شطآنا و بساتين…
أشتاقك… أريدك. أريد أن أحكي لك عن مشاكل شعري المتقصف، عن أبي المتعسف… أريد أن أحكي لك عن ثيابي التي أهملتها منتظرة لقائك، عن عرس صديقتي المقربة و عن ثوب زفافها المطرز… أريد أن أحكي لك عن اضطرابي في نومي و عن أرقي… عن شوقي و عن حسرتي…أريد أن أحادثك عن “الخرشف” والبطاطا و كيف ينادونني صفصف… أريد أن أشكو لك مللي و تعبي… أن أعانقك إلى أن ينصهر أحدنا في الآخر… إلى أن ننتهي…
الساعة العاشرة و ربع… مضت ساعة و لم يأتي… حبيبتي هلا تريثت… قادم أنا إليك… منذ أن عرفها وهو يتوعدها بالإنتقام… إنتقام حلو ممتزج بدلالها في ليلة حب دافئة. كانت ترقص له على ألحان المزود شبه عارية؛ خصر نحيف يتمايل يمنة ويسرة… فيتمايل معه… ينصهر كالزبدة في ظهيرة صيف حارقة. عيون الناس تطالنا و أنا أخاف أن نحسد… قلبي يخفق و يرقص حبا… أعلم أنه لن يصمد… إبتسامتك جنة… أنت الحياة حلما و يقظة… الفرحة اخترقت سمائنا ونار حبنا لن تخمد… كيف لي أن أنسى فحبك كان الأعمق… كان الأقسى. نائيا… مستحيلا قد أمسى .
ذات شعر التقينا والتقت عينانا وتلامست أرواحنا و تعانقت أفئدتنا… نظرة حب هي أم جفاء… بعد سنة قد طالت و نفس قد بالبعد قد جارت… بعد أن افترقنا التقينا… الساعة السابعة والنصف مساء… استيقضت فوجدتني في سيارة اللواج في طريقنا إلى تونس… فتحت عيناي فأدركت أننا لم نلتقي… كان هذا ذات ثلاثاء… ذات لقاء لم يجمعنا.
*صفاء المي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق