⏪⏬
لطالما جلس على الكرسي المتطرف القريب من المطبخ يصيخ السمع لمن ينده عليه من المدراء أو الموظفين فجواله الذي يحمله في جيبه قديم جداً ، وبالكاد يسمع رنينه إذا فعل.
بدا متعباً وهو يسند ركبتيه إلى صينية فارغة ، يعتصر ألماً غيَّب لون عينيه التي ماأن تلتقي بأحد المدراء حتى يبتسم له عن أسنان نخرها الهم .
ثلاثةَ عقودٍ خرساء حملها على ظهره حتى عرج زمانُه ومال . لم يكن ليشتكي أبداً فهو فقط صبي القهوة على رغم الشيب الذي انسكب على رأسه ففاحت منه رائحةُ الهرم .
كان خروجه من المخيم مع عائلته يوازي الموت حرقاً بنارٍ لن يطفئها إلا أمل.
ساعتان بالكاد تكفيه ليصل إلى بيته الذي استأجره بأربعين ألفاً اقتسم نصفها من راتب ابنه الأسبوعي الذي تزوج يافعاً ليرى أباه سعيداً بأولادٍ خلفها ليفاخر بهم .
كاملٌ هذا كان يسقي ساعات يومه من عرق جبينه كي تنمو وتنبت ساعة أو ساعتين أطول ليعمل بثمن أوقية لحمة أو قنينة زيت لقلي البطاطا فالراتب المقطوع كان أعرجاً كزمان أبيه لايكفي إلا الكفاف .
لقد امتطى أبو كامل صهوة غيمةٍ عاقر لم تنجب ، فَصُلب على صدر الرجاء مئة ألف وجع .
لمعت عيناه حين رآنا فعرفت لتوي أنها دموع تحاول الاختباء لتداري سوءة انكسارها .اقتربنا منه مسلمين فمدَّ كفاً نظيفةً كروحه ، ارتجف غطاء السرير بقوة من جانبه الأيسر ،وهو يحاول النهوض تأدباً . أمسك بفخذه المتبقي من ساق وربت عليه حتى هدأ ثم التفت كمن يتفقد عيوننا وقال : فقر المال انكسار ياأولادي ثم استطرد مبحوحاً لكن فقر الوطن موت .
تحلقنا واجمين حول مائدة من رجاء بهتَ لكنه لم يته قبل أن تقبل علينا رحمة ابنة الثماني سنوات.
دخلت بابتسام بريء تحمل لعبةً وقصة للأطفال مرت بها علينا جميعاً لنراها ونثني عليها.
قالت لنا وقد فاض الفرح من عينيها : هذه أول مرة يحضر فيها ضيوف إلى بيتنا ثم تابعت : أنتم أصدقاء جدي أعلم ذلك قاطعتها السيدة وداد : كيف عرفت ذلك ياحلوتي ؟
ـ عرفته لوحدي فجدي فرحٌ بكم وهو لم يصرخ من الألم من حين دخلتم عليه
ضحك أبو كامل وقال لها : نادي أمك يارحمة لتصنع القهوة للضيوف .
خرجت لتفعل وفي البهو الخارجي كانت تبدو لنا جميعاً إلا جدها فنادتنا همساً لنأتيها فاكتشف أبو كامل براءة تصرفها ادعينا رؤية الجبل الذي يطل قبالة البيت لنخرج إليها ، فاقتربت منا لترينا شيئاً أخفته عن جدها وقالت : لقد اشتريت هذه الحصالة بخمسين ليرة ووضعت داخلها خمس وثلاثين ليرة وغدا سأضع عشرين وبعد غدٍ سأضع عشرين وهكذا إلى يوم العيد وسأذهب إلى السوق لأشتري لجدي عكازاً . قالتها همساً كي لاينتبه إليها فتحرق المفاجأة . ثم تابعت ببراءة : لن أشتري الحلوى بعد الآن سأدخر ثمنها لذلك .
أخرج كل منا شيئاً وطلبنا مستأنسين أن نساهم بمشروعها فرفضت واتفقنا أن نكون شركاء باسم صداقتنا لجدها فعاد لها البشر وحضنت رجاءها وغادرت .
شربنا قهوةً كما لم نذقها يوماً ثم بدأ يحكي لنا قصة الخطأ الطبي الذي أودى بساقه وركبته . كان الأمر مؤسفاً جداً وبخاصة أن أحداً لم يعترف بهذا الخطأ الذي كان من الممكن تلافيه لكن أبو كامل فقيراً معدماً كما أمثاله . فوصف لنا شعوره عندما خرج بعد ساعتين ونصف من غرفة العمليات وهو لا يدري إن كان حياً أم أن الموت سهلٌ هكذا كما التخدير .
خيم العتم على صحراء حزننا فأخذنا نثرثر لنفتح طريقاً تسلكه السيارة علها تعثر على أملٍ سقط في جبِّ الرجاء .
وكأنه لم يسمع لغونا فقد غيبته الذاكرة ليس بعيداً عن ساقه التي سبقته إلى قبرٍ بعيداً عن مدفن المخيم . فتابع حديثه وقد غص حلقه بمرارة الذكرى . قال:
ـ صحوت ولم أجدها تحملني فصرخت كطفل اغتالوا أمه أمام عينيه . أحسست بمرارة الفقد . تذكرت المخيم ليلة هروبنا . أجل هروبنا من موتٍ قد يغدرنا من ظهورنا . تناول الجميع ليلتها عشاء الخيبة والحسرة وأخذت زوجتي المكلومة تعض على شفةِ القهر ولأول مرة لم أستطع أن أواسي ضعفها ، هنا صمت والتفت إلى شرفة على يمينه ونظر بعيداً حيثُ قاسيون ولكأنه يتبين أمراً .. اقترب منه أبو زيد وكان موظفاً في الدائرة ذاتها ومسح عن خديه دمعةً قد جمدها المشهد الأخير،وسأله بصوتٍ مبحوح : ألم يحضر الأستاذ عادل لزيارتك ؟
ـ لقد أرسلَ لي مع المستخدم الجديد مظروفاً فيه ورقةً بأسماء المتبرعين والمبلغ المدفوع
ـ كرر عليه السؤال بعجبٍ : ألم يحضر الأستاذ عادل إليك
ـ باب بيتي عالٍ يا ولدي تسعون درجةً لن يقدر على صعودها وهو يشكو من ألم في ظهره وفي عينيه . ثم التفت إلى تلك النافذة وقد وقف في محجره أبو هولٍ كبير.
جال صمتنا في الغرفةِ النظيفة وخبى عندما صرخ كمن استفرغ قيء روحه دفعةً واحدة وقال : أم كامل حضري الغداء لضيوفنا فنحن من طينةٍ واحدة وسيحبون طعامنا . لاتنسي الباذنجان المقلي والصلطة . ثم التفت إلينا وهو يحاول أن يسحبَ مابقي من ساقه من تحت الغطاء وقال مدارياً قهر قلبه : إن الفقر هو آفةُ الإنسانية وذلها ونحن قومٌ فقراء ..هل تفهموني ياأحبتي ؟
لم نجهد أنفسنا كثيراً لفهم ماعناه لكننا جلسنا مجتمعين على أريكة الذهول قبالة رجل حكيم بدا أنه يتقن الكثير غير عمل القهوة.
قاربت زيارتنا على الوداع وكان الجميع متحلقين حولنا يغبطهم وجودنا فهم لم يعتادوا إلا زيارة القطط اللاهثة
لم يزل أبو كامل ينظر عبر النافذة إلى قمة قاسيون حين غفا من تأثير المسكن، وقد فتح الألم فمهُ فابتلع ألوان الفرح . سقطت دمعتان باردتان على وجنتين من تعب وبدأ يهذي كالمحموم:
لاتطارد الريح يا كامل. اسق حاكورة القمح وضع الماء لصغار النسر الجريح.
*سوسن عبد الجواد رضوان
سورية
لطالما جلس على الكرسي المتطرف القريب من المطبخ يصيخ السمع لمن ينده عليه من المدراء أو الموظفين فجواله الذي يحمله في جيبه قديم جداً ، وبالكاد يسمع رنينه إذا فعل.
بدا متعباً وهو يسند ركبتيه إلى صينية فارغة ، يعتصر ألماً غيَّب لون عينيه التي ماأن تلتقي بأحد المدراء حتى يبتسم له عن أسنان نخرها الهم .
ثلاثةَ عقودٍ خرساء حملها على ظهره حتى عرج زمانُه ومال . لم يكن ليشتكي أبداً فهو فقط صبي القهوة على رغم الشيب الذي انسكب على رأسه ففاحت منه رائحةُ الهرم .
كان خروجه من المخيم مع عائلته يوازي الموت حرقاً بنارٍ لن يطفئها إلا أمل.
ساعتان بالكاد تكفيه ليصل إلى بيته الذي استأجره بأربعين ألفاً اقتسم نصفها من راتب ابنه الأسبوعي الذي تزوج يافعاً ليرى أباه سعيداً بأولادٍ خلفها ليفاخر بهم .
كاملٌ هذا كان يسقي ساعات يومه من عرق جبينه كي تنمو وتنبت ساعة أو ساعتين أطول ليعمل بثمن أوقية لحمة أو قنينة زيت لقلي البطاطا فالراتب المقطوع كان أعرجاً كزمان أبيه لايكفي إلا الكفاف .
لقد امتطى أبو كامل صهوة غيمةٍ عاقر لم تنجب ، فَصُلب على صدر الرجاء مئة ألف وجع .
لمعت عيناه حين رآنا فعرفت لتوي أنها دموع تحاول الاختباء لتداري سوءة انكسارها .اقتربنا منه مسلمين فمدَّ كفاً نظيفةً كروحه ، ارتجف غطاء السرير بقوة من جانبه الأيسر ،وهو يحاول النهوض تأدباً . أمسك بفخذه المتبقي من ساق وربت عليه حتى هدأ ثم التفت كمن يتفقد عيوننا وقال : فقر المال انكسار ياأولادي ثم استطرد مبحوحاً لكن فقر الوطن موت .
تحلقنا واجمين حول مائدة من رجاء بهتَ لكنه لم يته قبل أن تقبل علينا رحمة ابنة الثماني سنوات.
دخلت بابتسام بريء تحمل لعبةً وقصة للأطفال مرت بها علينا جميعاً لنراها ونثني عليها.
قالت لنا وقد فاض الفرح من عينيها : هذه أول مرة يحضر فيها ضيوف إلى بيتنا ثم تابعت : أنتم أصدقاء جدي أعلم ذلك قاطعتها السيدة وداد : كيف عرفت ذلك ياحلوتي ؟
ـ عرفته لوحدي فجدي فرحٌ بكم وهو لم يصرخ من الألم من حين دخلتم عليه
ضحك أبو كامل وقال لها : نادي أمك يارحمة لتصنع القهوة للضيوف .
خرجت لتفعل وفي البهو الخارجي كانت تبدو لنا جميعاً إلا جدها فنادتنا همساً لنأتيها فاكتشف أبو كامل براءة تصرفها ادعينا رؤية الجبل الذي يطل قبالة البيت لنخرج إليها ، فاقتربت منا لترينا شيئاً أخفته عن جدها وقالت : لقد اشتريت هذه الحصالة بخمسين ليرة ووضعت داخلها خمس وثلاثين ليرة وغدا سأضع عشرين وبعد غدٍ سأضع عشرين وهكذا إلى يوم العيد وسأذهب إلى السوق لأشتري لجدي عكازاً . قالتها همساً كي لاينتبه إليها فتحرق المفاجأة . ثم تابعت ببراءة : لن أشتري الحلوى بعد الآن سأدخر ثمنها لذلك .
أخرج كل منا شيئاً وطلبنا مستأنسين أن نساهم بمشروعها فرفضت واتفقنا أن نكون شركاء باسم صداقتنا لجدها فعاد لها البشر وحضنت رجاءها وغادرت .
شربنا قهوةً كما لم نذقها يوماً ثم بدأ يحكي لنا قصة الخطأ الطبي الذي أودى بساقه وركبته . كان الأمر مؤسفاً جداً وبخاصة أن أحداً لم يعترف بهذا الخطأ الذي كان من الممكن تلافيه لكن أبو كامل فقيراً معدماً كما أمثاله . فوصف لنا شعوره عندما خرج بعد ساعتين ونصف من غرفة العمليات وهو لا يدري إن كان حياً أم أن الموت سهلٌ هكذا كما التخدير .
خيم العتم على صحراء حزننا فأخذنا نثرثر لنفتح طريقاً تسلكه السيارة علها تعثر على أملٍ سقط في جبِّ الرجاء .
وكأنه لم يسمع لغونا فقد غيبته الذاكرة ليس بعيداً عن ساقه التي سبقته إلى قبرٍ بعيداً عن مدفن المخيم . فتابع حديثه وقد غص حلقه بمرارة الذكرى . قال:
ـ صحوت ولم أجدها تحملني فصرخت كطفل اغتالوا أمه أمام عينيه . أحسست بمرارة الفقد . تذكرت المخيم ليلة هروبنا . أجل هروبنا من موتٍ قد يغدرنا من ظهورنا . تناول الجميع ليلتها عشاء الخيبة والحسرة وأخذت زوجتي المكلومة تعض على شفةِ القهر ولأول مرة لم أستطع أن أواسي ضعفها ، هنا صمت والتفت إلى شرفة على يمينه ونظر بعيداً حيثُ قاسيون ولكأنه يتبين أمراً .. اقترب منه أبو زيد وكان موظفاً في الدائرة ذاتها ومسح عن خديه دمعةً قد جمدها المشهد الأخير،وسأله بصوتٍ مبحوح : ألم يحضر الأستاذ عادل لزيارتك ؟
ـ لقد أرسلَ لي مع المستخدم الجديد مظروفاً فيه ورقةً بأسماء المتبرعين والمبلغ المدفوع
ـ كرر عليه السؤال بعجبٍ : ألم يحضر الأستاذ عادل إليك
ـ باب بيتي عالٍ يا ولدي تسعون درجةً لن يقدر على صعودها وهو يشكو من ألم في ظهره وفي عينيه . ثم التفت إلى تلك النافذة وقد وقف في محجره أبو هولٍ كبير.
جال صمتنا في الغرفةِ النظيفة وخبى عندما صرخ كمن استفرغ قيء روحه دفعةً واحدة وقال : أم كامل حضري الغداء لضيوفنا فنحن من طينةٍ واحدة وسيحبون طعامنا . لاتنسي الباذنجان المقلي والصلطة . ثم التفت إلينا وهو يحاول أن يسحبَ مابقي من ساقه من تحت الغطاء وقال مدارياً قهر قلبه : إن الفقر هو آفةُ الإنسانية وذلها ونحن قومٌ فقراء ..هل تفهموني ياأحبتي ؟
لم نجهد أنفسنا كثيراً لفهم ماعناه لكننا جلسنا مجتمعين على أريكة الذهول قبالة رجل حكيم بدا أنه يتقن الكثير غير عمل القهوة.
قاربت زيارتنا على الوداع وكان الجميع متحلقين حولنا يغبطهم وجودنا فهم لم يعتادوا إلا زيارة القطط اللاهثة
لم يزل أبو كامل ينظر عبر النافذة إلى قمة قاسيون حين غفا من تأثير المسكن، وقد فتح الألم فمهُ فابتلع ألوان الفرح . سقطت دمعتان باردتان على وجنتين من تعب وبدأ يهذي كالمحموم:
لاتطارد الريح يا كامل. اسق حاكورة القمح وضع الماء لصغار النسر الجريح.
*سوسن عبد الجواد رضوان
سورية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق