اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

نازك الملائكة في ميزان يوسف الخال النقدي دراسة نقدية ...*بقلم : لامية مراكشي

مقدمة :
الحمد لله الذي أودع خزائن الصدور جواهر الكلام ، وذللها للألسنة فانتظمت أي انتظام ، وفتق أغشية الأفئدة لإفهام الأفهام ، وأشرقت بفضله شمس العلوم بعد أن كانت في الظلام ، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله ، سيدنا محمد خاتم أنبيائه ومبلغ أنبائه ، وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ، ومصابيح الدجى . ومن سار على دربه إلى يوم الدين وبعد : اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا إنك على كل شيء قدير .
قفز مشروع الحداثة من إطاره الأدبي الذي ولج به إلى المشهد العربي نهايات القرن التاسع عشر ، إذ تزامن مع نهوض الإيديولوجية القومية ، ليطرح رؤية أعلى تتناول مجمل نواحي الحياة العربية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وإن تأسس بداية على الخطاب الثقافي discours culturel.

لقد راوح النقد الجانب النظري والحقل التطبيقي مع بداية الستينيات ؛ فظهرت من خلال ذلك إشكاليات الأصالة والمعاصرة ، أو ثنائية التجريب في النقد العربي . نحن والآخر ، الداخل والخارج ، إلى ما هنالك من الثنائيات التي تكاد تكون متكافئة الدلالات . وكانت ثنائية " الشرق والغرب " من أكثر العبارات تداولا في الخطاب العربي الحديث والمعاصر .

وإذا كان من الطبيعي أن كل موجة يقابلها وجهان ؛ وجه يرفضها ووجه يؤيدها ، فالشعر الحديث واحد منها ، فقد كان هناك طائفة تؤيد هذا اللون الجديد من الشعر ، وكان بمقابل ذلك طائفة أخرى ترفضه . أما الذين يدافعون عنه فلأسباب كثيرة . أهمها دعواهم إلى ضرورة مسايرة الحياة في تجددها ، وبخصوص الذين يعارضون هذا الشعر فلأسباب كثيرة أيضا ؛ أبرزها رؤيتهم أن هذا الشعر قد تنكر للعمود القديم ولغته .
وعليه فقد ظهر اتجاه يدعو إلى عدم التسرع في الحكم سلبا على التراث ، ومن هؤلاء : عبد العزيز حمودة
( 1937 -2006 م ) ، وهناك من كان يوفق بين أدواته وآليات النقد الغربي كمصطفى ناصف (1922 - 2008 م ) ، لكن هناك اتجاها آخر يدافع عن الحداثةmodernité ، وذلك بالدعوة إلى ضرورة الاستفادة من كل ما هو مستجد في الساحة النقدية الغربية كما نجد ذلك عند محمد مفتاح ( 1942 م - ....) .

ويبرز اسم الناقدة العراقية المعاصرة نازك الملائكة ضمن هذه الأسماء على رأس مشروع نقدي تشتغل عليه بالنظر والتطبيق هو مشروع الحداثة الشعرية العربية ، وبذلك تعد من النقاد العرب المعاصرين الذين حاولوا ربط الحداثة بالشعر والنقد ، ويظهر ذلك جليا في كتابها " قضايا الشعر المعاصر " .

إذ يمثل هذا الكتاب المحاولة الأولى لإعطاء الشعر المعاصر صبغة علمية واضحة وفق قواعد ثابتة ترتبط بالشكل الموسيقي للقصيدة ، وبعدد التفعيلات في الشطر وطريقة ترتيبها ، ودعوة إلى تطوير أساليب النقد العربي بحيث يساير الحياة المعاصرة ، وغير ذلك من القضايا البارزة في تقنين هذا الشعر وبنائه بناء سليما من العيوب .

بالرغم من أن المؤلفة ركزت على الفهم العروضي للشعر ، فإنها تناولت قضايا شعرية لا تقل أهمية في فهم الشعر المعاصر على الظاهرة العروضية ، وقسمت كتابها إلى قسمين ، عرضت في القسم الأول بدايات الشعر الحر وظروفه ، وأرخت لهذه البدايات بقصيدة " الكوليرا " التي نشرتها عام 1947 م ، وبديوان بدر شاكر السياب

" أزهار ذابلة " الذي صدر في نفس السنة .

أما القسم الثاني من الكتاب فهو دراسة في فن الشعر من حيث العناصر الرئيسة فيه ، وهي الموضوع - الهيكل - الأساليب - الوزن ، وقد تخللت هذه الدراسة وقفات لها قيمتها في الميدان النقدي المعاصر ، فالموضوع مثلا في نظر نازك هو أتفه عناصر القصيدة ، " لأن كل موضوع يصلح للشعر . وتخرج من ذلك إلى أن المهم في العمل الشعري هو أسلوب الشاعر الفني في معالجة الموضوع .

تحت عنوان " رواسب الجمود في حركة الشعر " تناول يوسف الخال كتاب " قضايا الشعر المعاصر "

لنازك الملائكة في كتابه " الحداثة في الشعر "، ناقش من خلاله محاور هي كالآتي :

أ - الخلاف حول أولى المحاولات التجريبية للشعر الحر :

يقول يوسف الخال : « لنازك الملائكة نصيب محترم في حركة ما تسميه هي بالشعر الحر ، حتى لتنافس بدر شاكر السياب في دعوى " اكتشافه " . هل هي التي " اكتشفته " في قصيدتها " الكوليرا " التي نظمتها في 27 تشرين الأول 1947 م ، ونشرتها لها مجلة بيروتية في أول كانون الأول ، أم بدر شاكر السياب في قصيدته

" هل كان حبا " من ديوانه " أزهار ذابلة " الصادر في بغداد في منتصف الشهر ذاته ؟ » .

وأشارت نازك الملائكة إلى أن قصيدتها " الكوليرا " هي العمل الافتتاحي الأول لحركة الشعر الحر ، فتبعها بعد ذلك بدر شاكر السياب في قصيدته " هل كان حبا "، وبعدها ديوان " ملائكة وشياطين " للشاعر عبد الوهاب البياتي الذي احتوى على عدد من القصائد الحرة . وتثبت في كتابها أنها قد سبقت بدر شاكر السياب بمدة لا تزيد عن نصف شهر .

وتلجأ نازك إلى وسيلة أخرى لإثبات أوليتها في كتابة الشعر الحر ، فتنفي تأثرها بأي نمط شعري سابق لها بأن تزعم عدم معرفتها بتلك الأنماط الشعرية فلا أثر للموشحات عليها ، أما البند فلم تعلم به إلا سنة 1953 م وتعطي نفسها أعذارا تبرر بها جهلها لهذا الفن الشعري السائد في بلدها . إلا أنها تبخل بأعذارها هذه على شاعر عراقي آخر هو الرصافي ، فهي حينما تحدثت عن عدم ذكر العروضيين العرب للبند في كتبهم أوجدت لهم عذرا بأنهم لم يعرفوا البند .

إذ أنه فن شعري اقتصر عليه شعراء العراق ، واستثنت من ذلك الرصافي لأنه عراقي فلا يشمله العذر ، وكأنها بذلك تحاج نفسها . فلئن قبلنا بحجتها على الرصافي ، فإنه أولى بنا أن نرد الحجة على صاحبتها فنوجب عليها ما أوجبت هي على ابن بلدها ، فنازك الملائكة والرصافي والبند عراقيون والحجة حجتها . كما تنكر معرفتها بتجارب أبي شادي في الشعر الحر وتحدد زمن اطلاعها على دعوته ، وتقول أن ذلك كان في سنة 1963 م .

والإعلان عن ريادة نازك الملائكة الأولى المتعلق بالمحاولات التجريبية للشعر الحر ، رفضه الشاعر العراقي بدر شاكر السياب ، وذهب إلى أن محاولة نازك الملائكة أبعد ما تكون عن الشعر الحر ، فهي شكل من أشكال الموشح ، لكن المحاولات الشعرية التي قامت بها نازك الملائكة وبدر شاكر السياب كانت متزامنة وتظللها ظروف متشابهة ، فهما من جيل واحد .

لقد وقع كلا الشاعرين الناشئين معا تحت تأثير دراسة الشعر الإنجليزي المعاصر في كلية الآداب ببغداد من جهة ، وقرآ الترجمات التي أخذت تنشر لشعراء معاصرين كإليوت وإزرا باوند والشاعرة الإنجليزية أدث ستويل

( 1887 - 1964 م ) ، وشعراء شيوعيين كالشاعر التركي ناظم حكمت Nazim Hikmet

( 1902 - 1963 م ) ، والشاعر الإسباني لوركا ( 1898 - 1936 ) .

هذه المحاولات تفتقر إلى تجديد يمس الشكل والمضمون معا ، ومن أجل ذلك لا يمكن أن تعد مثالا للشعر الحر ، من هنا وإن كان من فضل يسجل " لنازك والسياب والبياتي والحيدري ( 1926 - 1996 م ) " ،

فإنه لا يعدو كونه فضل الاستجابة الأولى . وإن كان الخال قد أشار إلى تقدم تجربة جبرا إبراهيم جبرا على معاصريه ، إلا أن هذه المحاولات بمجملها حسب رأي الخال لا تقدم رؤية متكاملة لحداثة حقيقية .

يقول يوسف الخال : « وفي أية حال ، يبقى للملائكة والسياب والحيدري والبياتي ، وقبلهم لويس عوض وجبرا إبراهيم جبرا ، فضل الاستجابة الأولى إلى المفهوم الحديث ( منذ أدغر ألن بو وبودلير ) في كتابة الشعر بحرية فرضها اعتباره فنا جماليا يتوسله الشاعر للتعبير عن حدسه ورؤياه للمطلق والكلي في الوجود من خلال الجزئي والشخصي في التجربة الإنسانية » .

يتابع القول : « وظلت هذه الاستجابة الأولى حائرة مترددة مذعورة أمام رواسب القديم في نفوس أصحابها كما في نفس القارئ العربي ، إلى أن شد أزرها ولحق بها شعراء موهوبون في سائر أقطار العالم العربي . ثم صدرت مجلة شعر في مطلع 1957 م لتحمل لواء الحركة الجديدة ، فتخرجها من حيرتها وترددها وذعرها وتوسع مفهومها وتعمقه وتجعلها بالفعل مظهرا ثوريا حقيقيا من مظاهر نهضة العقل العربي الراهنة » .
ب - اتهام نازك بالانكفاء والرجعية والتناقض :
قدم يوسف الخال وصفه لكتاب نازك الملائكة " قضايا الشعر المعاصر" ، ورأى أنه يتردى بالانكفاء والرجعية والضيق وإساءة فهم وزن الشعر عموما ، وفهم اللغة العربية وإمكاناتها ، وفهم الإنسان ، وخصوصا العربي ، على أنه قادر على التغير والتكيف والتخطي .
كما يصفها بالسلفية والمتزمتة : « ثم إن اتجاه المؤلفة السلفي المتزمت يتضح في محاولتها البائسة أن تقيد

" الشعر الحر " بأسلوب الشطر الواحد الذي تتقلص حريته إزاء الشعر القديم " المقيد " إلى كونه " ليس له طول ثابت ، وإنما يصح أن يتغير عدد التفعيلات فيه من شطر إلى شطر ، ويكون هذا التغير وفق قانون عروضي تتحكم فيه » .

فنازك عندما أصدرت ديوانها " شظايا ورماد " ﻋﺎم 1949 م ، وشرحت فيه أسلوبها الجديد في تنظيم الأوزان والقوافي ، جوبهت بكثير من النقد على هذا القالب الجديد ، فعادت في كتابها " قضايا الشعر المعاصر" لتسجل جانبا من أوجه الرفض الذي كان يصيب الحركة الشعرية التي قابلها الأدباء والجمهور مقابلة غير مرحبة . وقد كان لابد للجمهور العربي أن يتماسك في وجه هذا الطلب المفاجئ ويرفضه ريثما يدرسه .

وإن كان من تناقض في الموقف بين ديوان نازك " شظايا ورماد " وكتابها " قضايا الشعر المعاصر " ، فهذا

" الكتاب نفسه يسجل فيه الباحث عددا من نقاط متضاربة " في المواقف الصادرة عن الصفة الانطباعية

التي سادت العديد من صفحاته لدى عرض الكاتبة للبنى الوزنية للشعر الحر ، فالكاتبة تتبنى منهجا في التحليل يقوم على تطبيق معايير سلفية على ظاهرة بدا أنها تتخذ الوجهة المعاكسة للأنماط التي نظمتها القواعد التقليدية.

ومن نماذج تناقضها أيضا قوله : « في كلامها على عيوب الوزن الحر ، تعتبر أن أحد هذه العيوب اقتصار الشعر الحر ، بالضرورة ، على ثمانية بحور من بحور الشعر العربي الستة عشر " » . تقول : « " وفي هذا غبن يضيق مجال إبداعه ". ولكنها تقول في موضع آخر " والواقع أن ملخص ما فعلته حركة الشعر الحر ؛ أنها نظرت متأملة في علم العروض القديم ، واستعانت ببعض تفاصيله على إحداث تجديد يساعد الشاعر المعاصر على حرية التعبير وإطالة العبارة وتقصيرها بحسب مقتضى الحال " » .

تتابع القول : « " ولم تصدر الحركة عن إهمال للعروض كما يزعم الذين لا معرفة لهم به ، وإنما صدرت عن عناية بالغة به ، جعلت الشعر الحديث يلتفت إلى خاصية رائعة في ستة بحور من العروض العربي تجعلها قابلة لأن ينبثق عنها أسلوب جديد في الوزن ، يقوم على القديم ويضيف إليه جديدا من روح العصر" » .

كما يمكن التمثيل لهذا التناقض بإشارتها إلى أن حركة الشعر الحر تستمد مشروعيتها من كونها ضرورة اجتماعية ، وأنها ما قامت إلا تلبية لحاجة روحية تبهظ كيان أفرادها ، وتناديهم إلى سد الفراغ الذي يحسونه . ولا ينشأ إلا من وقوع تصدع في بعض جهات المجال الذي تعيش فيه . ويغلب أن يكون المبدع غير واع لهذا التصدع ، ومع ذلك ، يندفع إلى التجديد الذي يعوض عما يتصدع ، وهو في هذا مقود بمحتمات بيئية .
يشير يوسف الخال إلى أنه لا يمكن التوفيق بين هذه الشرعية الاجتماعية التي أضفتها الملائكة على الشعر الحر ، وبين نبوءتها بأن هذه حركة ؛ كما تقول : " ستصل إلى نقطة الجزر في السنين القادمة - ولسوف يرتد عنها أكثر الذين استجابوا لها خلال السنين العشر الماضية . على أن ذلك لا يعني أنها ستموت . وإنما سيبقى الشعر الحر قائما ما قام الشعر العربي وما لبثت العواطف الإنسانية " .
يقول يوسف الخال : « فكيف نوفق بين هذا القول وبين نبوءتها أن " حركة الشعر الحر ستصل إلى نقطة الجزر في السنين القادمة ، ولسوف يرتد عنها أكثر الذين استجابوا لها خلال السنين العشر الماضية " ؟ ألـأن الجذور الاجتماعية لم تعد تحتم استمرارها ؟ أم لأنها ما عادت تلبي حاجة روحية ؟ أم لأن الأمة العربية أقلعت عن أن تعيد ذهنها العريق المكتنز على أساس حديث ؟ » .

في نفس السياق قامت الملائكة بتقديم مقال وسمته بـ " الشعر والمجتمع " ، ثم تراجعت عن دعاويها في مقال آخر عنونته بـ " مزالق النقد المعاصر " ، وقد أثنى الخال عليها لمقالها الأول . فهو يظهر حسب تعبيره إخلاصها للشعر من حيث هو فن جمالي يجب أن يكون اجتماعيا ، لكنها تسلحت في دعوتها تلك بتعابير مبهمة وأبرز مواطن الضعف فيها ، أنها لا ترتكز إلى أسس فنية ، بل تجعل الموضوع الغاية المقصودة في كل شعر .

بالمقابل نجدها في موضع آخر من الكتاب ؛ وبالتحديد في مقال " مزالق النقد المعاصر " تحذر الناقد من الاتجاه إلى العناية بما في القصيدة من عواطف وأفكار وجعلها الأساس في نقده ... فالمهم بالنسبة له هو القصيدة لا نوعية الآراء التي تحملها .

يرد يوسف الخال عنها قائلا : « حبذا لو أخذ بهذا الرأي أولئك الذين لا ينقدون الشعر أو النتاج الفني إجمالا إلا من زاوية مضمونه ، كأنما الشعر ، كما قالت الملائكة ، " لا يملك قيمة ذاتية في المجتمع ، بل هو واسطة لغايات أخرى ". يتابع القول : « " وقد لا يخفى على الدعاة أن الموقف الوعظي ينطوي على تجاهل تام لقيمة العناصر اللاشعورية في كل أدب ، وهي عناصر ضرورية مصاحبة للإبداع والأصالة والاكتمال " » .

كما يمكن في هذا المقام عرض رأيين متباعدين عن هذا الشعر نفسه ؛ أولهما لنازك التي كانت من أول رواد هذه الحركة وأشدهم في البداية تحمسا ، ورأيها ذو طرفين .

الطرف الأول : يمثل موقفها من ذلك الشعر لعام 1962 م ، تقول فيه : « مؤدى القول في الشعر الحر أنه ينبغي ألا يطغى على شعرنا المعاصر كل الطغيان ، لأن أوزانه لا تصلح للموضوعات كلها ، بسبب القيود التي

تفرضها عليه وحدة التفعيلة وانعدام الوقفات وقابلية التدفق والموسيقية . ولسنا ندعو بهذا إلى نكس الحركة ، وإنما نحب أن نحذر من الاستسلام المطلق لها » .

وثانيهما : هو أشد اتصالا بمستقبل ذلك الشعر جملة ؛ يمثل عام 1967 م ، وفيه تشعر الملائكة أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد ؛ وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشعرية بعد أن خاضوا في الخروج عليها وليس معنى هذا أن الشعر الحر سيموت ، وإنما سيبقى قائما يستعمله الشاعر ليغطي أغراضه دون أن يتعصب له ويترك الأوزان العربية الجميلة .

هذا التناقض في الموقفين لم يجد معه استدراك المؤلفة بأن ذلك لا يعني أن حركة الشعر الحر ستموت ، وهي عبارة في رأي يوسف الخال ماتت بالفعل في كتابها ، وذلك لأنها ربطت استمرار الحركة بشرط انتهائها " إلى اتزان رصين " ، حين تنبأت بأن الحركة ستصل إلى نقطة الجزر في السنين القادمة ، ولسوف ينتهي التطرف إلى اتزان رصين ، وهو شرط إذا أخذنا بمضمون قيودها الخليلية الجديدة لا ينتهي بالحركة إلى الجمود بل إلى الموت .

يقول الخال : « وهكذا اختنقت " حركة الشعر الحر " تحت ضغط أنامل خليلنا الجديد الناعمة » .

ورغم انتقال نازك في طرفي هذا الرأي من النصيحة إلى التنبؤ ، فإن ثمة شبها قويا بين الموقفين ، هو إيمانها بأن هذا اللون من الشعر سيتعايش مع ألوان أخرى من الشعر المشطر ، كل ذلك يصدر عن شاعر واحد في آن واحد ولا تعني تعايشا بين تيارين ، لأن الشاعر الواحد بحاجة إلى أن ينوع في شعره بين الشعر الحر والمشطر بحسب تنوع الموضوعات وصلاحية شكل الموضوع دون آخر .

وربما كان معنى قولها : " سيتوقف " ، ثم قولها بأنه " لن يموت " ، فبين التوقف وعدم الموت مرحلة وجود أشبه بالموت ، لأنها حال من " التجمد " ، ولو قالت " سيتحدد " لكان ذلك أقرب إلى الدقة فيما تحاول أن تصدره من نبوءة أو حكم .

وتبين الملائكة أن الشعر الحر شأنه شأن أية حركة جديدة قد بدأ مترددا ، مدركا أنه لابد أن يحتوي على فجاجة البداية ، لأنه تجربة ، فهو كغيره من الحركات التي تنبع فجأة بمقتضى ظروف بيئية وزمنية لابد أن تمر سنين

طويلة قبل أن تستكمل أسباب النضج ، هذا يعني أن عيوب هذه الحركات ستبدو كلما أوغلنا في الزمن الحديث موقفا معارضا داعية إلى الابتعاد عن استعمال القواعد التي لا ينجم عنها إلا تجميد الاندفاع الثوري .

يقول يوسف الخال : « وكم يستغرب القارئ ما في الكتاب من تناقض في الآراء والمواقف . ففي كلام المؤلفة على الظروف المعرقلة التي جابهها " الشعر الحر " ، تقول عن الظروف العامة أنها تكمن " في أن الشعر الحر ، شأنه شأن أية حركة جديدة في ميادين الفكر والحضارة ، قد بدأ لونا حييا ، مترددا ، مدركا أنه لابد أن يحتوي على فجاجة البداية ، فلابد له من ذلك ، لأنه ، على كل حال ،" تجربة " » .

هذا يعني أن عيوب هذه الحركات " ستبدو كلما أوغلنا في الزمن باختياراتنا الجديدة ونضج ثقافتنا واتساع آفاقنا " وهذا قول يتناقض مع موقف المؤلفة ، ويؤكد نفاذ صبرها واستعجالها في استقراء قوانين جديدة لهذه الحركة فقد حاولت الملائكة من خلال كتابها تقديم قواعد وقوانين لضبط تحولات القصيدة الجديدة وتطوراتها ليجري وفق هذه القوانين " كل شعر حر سليم " .

وهو بصدد مناقشتها حول تسمية الشعر الجديد يتساءل : « لماذا آثرت المؤلفة أن تسمي هذه الحركة التطويرية في الشعر العربي حركة " الشعر الحر " ؟ لماذا لم تسمها ، كما فعل العباسيون ، " الشعر المحدث " أو " الحديث " ؟ أيكون في مؤخرة ذهن المؤلفة أن العقل العربي ينبغي أن لا " يحدث " أو " يستحدث " شيئا ؟

أيمكن أن يكون بلغ بها التزمت والسلفية ( وأكاد أقول عبادة القديم ) هذا الحد ؟ » .

لذلك فهو يرى أن هذه التسمية غير صالحة ؛ لأنها لازالت تحتفظ بالقيود الشكلية التي حكمت القصيدة التقليدية في العصور السابقة ، وهي في ذات الوقت ترمي إلى تحرير الشعر ، لذا يقوم يوسف الخال بالاستشهاد بكاتب مقدمة كتاب " قضايا الشعر المعاصر" عبد الهادي محبوبة ( ت 2005 م ) - زوج نازك الملائكة - الذي قام بدوره بدراسة الكتاب كما الشعر الذي نظمته .

يقول الخال : « فما من عجب ، إذن ، أن يجد كاتب مقدمة الكتاب ، الدكتور عبد الهادي محبوبة ، مفارقة في " مصطلح الشعر الحر " وهي أن هذا الاصطلاح " ينطوي على تجديد في الشعر ، ولكننا إذا أمعنا النظر فيه نجده لم يزل يحتفظ بتعريفه عند نقاد الأدب منذ الناقد البغدادي قدامة بن جعفر ( 889 – 948 م ) بأنه القول الموزون المقفى الذي يدل على معنى .. وأنه تجديد نحو الحرية في الشعر » .

لم يرفض هذا المصطلح من قبل يوسف الخال فقط ؛ بل نجده قد رفض من قبل كثير من الشعراء والدارسين ، فقد تنوعت المحاولات في إضفاء مصطلح آخر على هذا الفن الشعري منذ عهد مبكر ، فنشر المازني قصيدة من هذا النمط الشعري في سنة 1923 م في العراق وأسماها الشعر الطلق ، ومنذ صدور كتاب نازك الملائكة ( قضايا الشعر المعاصر ) والمصطلح موضوع نقاش واسع عند النقاد .

والخال إبان مناقشته لفصل آخر من فصول الملائكة وهو " الناقد العربي والمسؤولية اللغوية " الذي تقر فيه أن النقد العربي المعاصر تشيع فيه ظاهرة خطيرة تتجلى في أن النقاد يتغاضون عن الأخطاء اللغوية والنحوية

والإملائية ، وأصبح هذا التغافل هو القانون النافذ في كل نقد تنشره الصحف الأدبية حتى وصل الأمر بالناقد

العربي عندما يتصدر إلى نقد ديوان شعر مشحون بالأغلاط إلى مدح الشاعر على إبداعه ، مهملا التعليق .

. لذا ترى أنه من الواجب على الناقد العربي الاعتراف بأنه بات يشعر بكثير من الحرج والاستحياء إذا ما هم بتنبيه شاعر إلى كلمة مغلوطة أو قاعدة مخروقة في شعره . ليس ذلك كما تقول المؤلفة لأن الناقد يقر الخطأ وإنما لأنه يخشى أن يقال عنه إنه ناقد رجعي لم يتصل بالتيارات الحديثة في النقد ، ولم يسمع بعد بأن المضمون أهم من الشكل أو أنه العنصر الأوحد في القصيدة التي ينقدها .

يرد عليها الخال قائلا : « صحيح أن الناقد العربي المثقف لابد له بحكم ثقافته من التأثر بنظريات النقد المعاصر في الغرب . وهي نظريات تخطت اللغة إلى المضمون : ماذا يريد الكاتب أو الشاعر أن يقول ، وهل نجح في قوله فنيا ؟ فنحن في عصر نبحث فيه عن سبيل الخروج من الأزمة التي نعانيها من جراء فقدان إيماننا بالأسس القديمة التي كان يقوم عليها مجتمعنا الإنساني أمام هذا البحث ألا يكون من الطبيعي أن نتلهف للمضمون ؟ » .

يتابع القول : « كان النقد العربي منصرفا إلى اللغة والأسلوب ، حين ركن أسلافنا إلى إيمانهم بالأسس التي قام عليها مجتمعهم ، فما بقي لهم إلا الاجترار وابتكار الأساليب التي تعينهم على إتقان هذا الاجترار . ألا يكون من الطبيعي أيضا أن نتلهف ، نحن أبناء هذا الجيل الثائر الباحث ، للمضمون هذا التلهف الذي تنكره علينا المؤلفة ؟ إنها تهيب بنا إلى الاعتدال ( وهي تعشق الاعتدال في كل شيء حتى في التحرر من القيود !) » .وفي الثلث الأخير من كتاب" قضايا الشعر المعاصر" تفرد المؤلفة فصلا مستفيضا في قصيدة النثر باعتبارها مع " البند " الذي هو" شكل من أشكال الشعر نشأ في عصور متأخرة " ، " ملحقا بقضايا الشعر الحر " ؛ وأبرز الزوايا التي واجهتها إبان مناقشتها لهذا الشكل الشعري جانب الموسيقى في قصيدة النثر .

يقول يوسف الخال : « تبدأ المؤلفة كلامها بالقول إن قصيدة النثر بدعة غريبة شاعت في الجو الأدبي في لبنان في السنوات العشر الأخيرة ، وأن طائفة من أدباء لبنان يدعون اليوم إلى تسمية النثر شعرا » .

لقد حملت نازك حملة شعواء على إطلاق كلمة " شعر" على أي كلام غير موزون ، واشتدت حملتها على تلك الدعوة الغريبة التي تبنتها مجلة ( شعر ) التي راحت تدعو إليها " ، وكان للمضمون الأساس لهذه الدعوة أن الوزن ليس مشروطا في الشعر ، وإنما يمكن أن يسمى النثر شعرا لمجرد أن يتوافر فيه مضمون معين . وعلى هذا الأساس راحوا يكتبون النثر مقطعا على أسطر ، وكأنه شعر حر ؟

ثم تشير نازك إلى ما أحدثه هذا الاتجاه من اللبس في أذهان القراء الذين أصبحوا يخلطون بينه وبين الشعر الحر الذي يبدو ظاهريا وكأنه مثله ؛ لو خيل إليهم أن الشعر الحر نثر عادي لا وزن له . قالت : " ولعل الحق مع

القارئ ، فكيف يتاح لإنسان لم يمنحه الله هبة الشعر أن يميز بين الشعر الحر الموزون وبين " قصيدة النثر " التي تكتب ، وهي نثر ، مقطعة وكأنها موزونة ، وتمثلت بقول محمد الماغوط ، وهو نموذج لما قد أسموه ( قصيدة النثر )

ليتني وردة جورية في حديقة ما
يقطفني شاعر كئيب في أواخر النهار
أو حانة من الخشب الأحمر
يرتادها المطر والغرباء
ومن شبابيكي الملطخة بالخمر والذباب
تخرج الضوضاء الكسول*
إلى زقاقنا الذي ينتج الكآبة والعبيون الخضر
حيث الأقدام الهزيلة ترتفع دونما غاية في الظلام .
أشتهي أن أكون صفصافة خضراء قرب الكنيسة
أو صليبا من الذهب على صدر عذراء .

فهذا نثر لا يختلف عن النثر في شيء ، وقد أصبح القارئ يقرأ الشعر الحر وهو موزون ، فيخلط بينه وبين نثر تترجم به قصائد أجنبية ، ونثر عربي عادي يكتبه الأدباء مقطعا ، ويسمونه في جرأة غير علمية شعرا .

وقد أصبحت " قصيدة النثر " موجة أدبية رائجة في لبنان ، بل إن في لبنان ثلاث مجلات أدبية على الأقل تعتبر هذه الموجة هي حركة التجديد الرئيسة في الشعر العربي .

وقبل أن يظهر أصحاب هذه الموجة ، نجد أن حركة الشعر الجديد قد خرجت على القافية ووحدة البيت ، وتمسكت تمسكا تاما بالوزن . لكن الموجة الجديدة الواردة من بيروت ؛ والتي تسمي نفسها باسم " قصيدة النثر " تخلت تماما عن القافية والوزن ، ولم تعطنا أي شيء بدلا من الأشياء التي فقدناها .

يقول يوسف الخال : « ثم تمضي المؤلفة في مناقشة هذا الموضوع ، وهي لا تعرف عنه شيئا ، على أساس اللغة ، وعلى أساس النقد الأدبي ، فتزعم أن أنصار الدعوة إلى قصيدة النثر يلغون الفرق بين الموزون وغير الموزون إلغاء تاما وتتساءل : لماذا إذن ميزت لغات العالم كلها بين الشعر والنثر ؟ وما الفرق بين الشعر والنثر إن لم يكن الوزن هو العنصر المميز ؟ » .

يرد يوسف الخال عن تساؤلها الاستنكاري قائلا : « على أنني أود أن أطمئن بالها بالقول أن الموسيقى والإيقاع ( على نحو ما ) ضرورة في الشعر ، وأن المضمون مهما عمق وعظم لا يجعل الشعر ناجحا إلا بقدر ما تتوفر فيه العناصر الفنية التي عالجتها - أو عالجت أهمها - في فصلها الرائع عن " هيكل القصيدة " » .

كما اتهمت نازك الملائكة مجلة شعر واعتبرتها مصدر هذه البدعة ؛ فرأت أن " الأساس النفسي في هذه الدعوة أن هؤلاء الأفاضل الذين يحسنون إبداع نثر جميل أحيانا ، يزدرون ما يمتلكون من موهبة ويتطلعون إلى ما لا يملكون إنهم ، باختصار ، لا يحترمون النثر ..." .

فيرد عليها يوسف الخال مدافعا عن أصحاب مجلة شعر قائلا : ( أينطبق هذا الأساس النفسي على كبار الشعراء العالميين الذين كتبوا بهذا الشكل الشعر ؟ ) ؛ وأن للنثر " قيمته الذاتية التي تتميز عن قيمة الشعر ( وهذا صحيح ) ولا يغني نثر عن شعر ولا شعر عن نثر ، لكل حقيقته ومعناه ومكانه ( صحيح ) ، فلماذا جاء هذا الناثر المعاصر ليزدري النثر ويحاول رفعه بتسميته شعرا ؟ " ( هذا غير صحيح . وهو يدل على جهل مطبق من جانب المؤلفة ) .

إن هذا الوعي التجديدي الذي تميزت به الشاعرة ، شهد تراجعا عما فيه من ثورة تجديدية ، ونكوصا نحو إحياء العناصر العروضية التقليدية ، كما بدا ذلك واضحا في كتابها " قضايا الشعر المعاصر" ؛ حيث خصصت نازك الملائكة الجزء الأكبر في الحديث عن قضية الشكل في الشعر الحر على خلاف العنوان الذي وضعته لكتابها قضايا الشعر .

يقول يوسف الخال : « فحين سمعنا من نازك الملائكة ، ثم قرأنا عنها ، أنها تضع دراسة في " الشعر الحر" بتنا في منتهى الشوق إلى صدور هذه الدراسة ، واعتبرناها بحد ذاتها جهدا إضافيا مشكورا تقدمه هذه الشاعرة

" الحرة " لحركة الشعر الحر ". وضعت لدراستها عنوان " قضايا الشعر المعاصر" ، وكم كانت خيبتنا مريرة حين أخذنا الكتاب وكدنا لا نعثر فيه على قضية جوهرية واحدة من قضايا الشعر العربي المعاصر » .

كما قام يوسف الخال بإحصاء الصفحات وما تضمنته ، ففي الصفحات الثلاث مائة التي يحتويها الكتاب تسعة وأربعون صفحة في نشوء " الشعر الحر " ، ومائة وخمسون في قضية عرضية واحدة هي قضية الشكل في القصيدة العربية " الحرة " ، وستون صفحة في " فن الشعر " ، وعشرون في " الصلة بين الشعر والحياة " حيث اقتصرت فيها على موضوعي " الشعر و المجتمع " و" الشعر والموت " ، وعشرون صفحة في نقد الشعر.

إذن فأطروحة نازك الأساسية في مجال الشعر الحر تدور حول دعوتها إلى كسر نظام البيت الشعري التقليدي في الوقت الذي تحافظ فيه على وحدة التفعيلة ، ذلك أن تجربة الشعر الحر في نظرها خرجت بالكلام من إطار البيت التقليدي خروجا مرتبطا بنظام التفعيلة ، مع تشديدات صارمة على ما تراه في نطاق التجربة العروضية العربية .
فقد عاب يوسف الخال عليها هذه النزعة إلى القيود في محاولتها وضع قواعد للشعر الحر قبل أن ينضج على يدها وعلى يد غيرها من الشعراء الرواد ، وهي بهذا نصبت من نفسها خليلا جديدا يجب اتباعه . ولذا نجده يستهزئ من هذا الإبداع الذي ادعته هذه الناقدة
يقول : « فمرحى بخليل الشعر المعاصر . على أن خليل الشعر القديم جاءنا يستقرئ القوانين ويضبط
" البحور والسقطات في زمانه " بعد مئات السنين على نشوء القريض العربي وتطوره ؛ أما خليلنا الجديد فاستعجل المجيء . وما مر على تجارب " حركة الشعر الحر " إلا عشر سنوات ، ولولا هذا الاستعجال لوفر على نفسه وعلينا عندئذ " استقراء قوانين جديدة على أساس الخطوط الكبرى التي رصفها ذلك العالم الفذ "» .

« فنازك الملائكة في دعوتها إلى الشعر الحر تشدد على أنه " ظاهرة عروضية قبل كل شيء " ، وهو وإن كان يرمي إلى " تطوير الشكل الموسيقي للقصيدة العربية " ، إلا أنه لا يعد " خروجا عن قوانين الأذن العربية والعروض العربي" . فكل قصيدة ينبغي أن " تجري تمام الجريان على تلك القوانين ، وإن أي قصيدة حرة لا تقبل التقطيع الكامل على أساس العروض القديم ، لهي قصيدة ركيكة الموسيقى » .
هذه الدعوات التي شددت فيها الناقدة على ضرورة العودة إلى علم العروض ، وقف منها يوسف الخال موقف الرفض ، وأخذ عليها رغبتها في استقراء القواعد لهذا الشعر وإلزام الآخرين بها متناسية ما قالته من قبل : « إنه لطبيعي تماما أن تظهر الأنماط أولا ، ثم تعقبها القواعد التي بها يقاس الفاسد منها . وهذا لأن النمط خلق تندفع به طبيعة فنان تلهمه روح العصر ، وأما القواعد فهي مجرد استقراء واع » .

« وبالرغم من قولها هذا ، إلا أنها تنزع نحو محاكمة القصائد الجديدة حسب قوانين تجري تمام الجريان على العروض القديم . وقد ذهب يوسف الخال إلى أن هذه الدعوات الشكلية التي تنادي بها نازك الملائكة تضر

بالحركة الشعرية الحديثة ، فهي من حيث تشديدها الشكلي قد تدخل في الأذهان أن " التجديد الشعري ينحصر في إحلال التفعيلة في الوزن الشعري محل البيت القديم ؛ بزيادة عددها أو تقليله وفقا لمقتضى المعنى " » .

ومن حيث أن دعوات نازك تصدر عن عقلية سلفية ؛ فإنها لا تستطيع أن تتقن كتابة الشكل الشعري

الحديث . فالمؤلفة بهذا وضعت حجاب التزمت والسلفية ، فتجاهلت كل ما حدث من تطورات وتجارب شعرية وفنية في العالم . وما هذا بمستغرب منها ، وهي التي تقول ، أن " موقف نقادنا من الفكر الأوروبي يكاد يكون

موقف استخذاء " بالجيل الناشئ من النقاد أن يتجهوا إلى أنفسهم حين يكتبون لينبت الذهن العربي أثماره .

يواصل القول : « وكان من نتائج هذا الاتجاه المغلق ، المتزمت ، السلفي ، اللاحر اللامنفتح إلى النفس أن نبت ذهنها العربي الخصيب هذه الثمرة الجاهلة بموضوع يعرفه طلبة المدارس في جميع أنحاء العالم المتحضر » .

وعليه فإن يوسف الخال يرفض موقف نازك الملائكة النقدي رفضا تاما ، فمن حيث هو من جانب يتنافى مع حداثة المضمون التي ما انفكت المجلة التشديد عليها ، فإنه من الجانب الآخر ، يتعارض مع اندفاع الحركة في التحرر من كل الأشكال الشعرية ، فالخال يدعو إلى الابتعاد في هذه المرحلة التجريبية عن استعمال الأنظمة التي لا ينجم عنها إلا تجميد الاندفاع الثوري الحقيقي .

3 - موقف نازك الملائكة من قصيدة النثر :

رفضت نازك الملائكة تماما ما سمي بقصيدة النثر حين ذهبت إلى مقاربة قصيدة محمد الماغوط على أساس أنها الشكل الشعري النثري الأول المكتوب على شكل أسطر كما لو أنه كان شعرا حرا ، ووجهت نقدا شديدا لجماعة شعر ، على أساس أنها الجماعة التي تبنت وشجعت هذا النوع الجديد من الكتابة التي تفتقد حسب رأيها لكل مقومات الشعرية ، وقارنت بين مشروع الشعر الحر الذي أرست قواعده وقصيدة النثر .

فهي ترى « بأن هذه الحركة هي عودة بالشعر العربي إلى أوزانه العروضية ؛ حيث جعلت من - التفعيلة -أساسا تعتمد عليه في بناء البيت بعد أن نزع فريق من الشبان إلى التطرف في التحلل منها ، وظن الشعر نثرا ، ونظم المقطوعات المنثورة ودعاها شعرا ، وأضاع بذلك عنصرا أساسيا من أول خصائص الشعر ، وهو موسيقى التفعيلة ، لأن الوزن والقافية ليسا قيدين في الشعر من حق الشاعر أن ينطلق ويتحرر منها » .

الغريب في موقف الملائكة من قصيدة النثر ، أنها تناقضت في الكثير مع ما جاء في مقدمة ديوانها " شظايا ورماد " ، بحيث تجاوز خطابها حدود النقد الأدبي المسؤول والوعي الذي يضع الظاهرة في حدودها الموضوعية ، ويخلط - عن قصد أو غير قصد - أوراق المشروع الإبداعي بهدف قمع التجديد بكل الوسائل إلى درجة وصف قصيدة النثر بأنها خيانة للغة العربية وللعرب
والحق أن لغتنا العربية لن تحمينا بعد اليوم حسب رأي نازك الملائكة . ذلك أن هنالك اليوم أناسا يكتبون النثر ويسمونه ، في جرأة عجيبة ، شعرا ، حتى فقدت كلمة شعر صراحتها ونصاعتها . ولسوف يتشكك الجمهور في أي شعر نقدمه له باسم ( الشعر ) ، لأن لفظ شعر قد تبلبل معناه واختلط وضاع . وأن هذه الكذبة وكل كذبة مثلها ، خيانة للغة العربية .

انطلقت نازك الملائكة في حكمها على قصيدة النثر بأنها خاطرة ، وهي قصيدة " مسافر" للشاعر محمد الماغوط ؛ لقد قامت الملائكة بإدخال العديد من التغييرات على النص الأصلي ، كإضافة واو العطف للفعل سأرحل ، وقلب النقطتين المتتابعتين بعد ( في ليلة ما ) إلى نقطتي تفسير ، وتحريك التاء في الكلمات الآتية في النص : الطويلة ، الحزينة ... وقد أدى ذلك إلى تغيير في السياق الدلالي للقصيدة ، ومما جاء في النص الأصلي للماغوط :

بلا أمل .
وبقلبي الذي يخفق كوردة صغيرة
سأودع أشيائي الحزينة في ليلة ما ..
بقع حبر
أثار الخمرة الباردة على المشمع اللزج
وصمت الشهور الطويلة
والناموس الذي يمص دمي
هي أشيائي الحزينة
سأرحل عنها بعيدا .. بعيدا
وراء المدينة الغارقة في مجاري السل والدخان
بعيدا عن المرأة العاهرة
التي تغسل ثيابي بماء النهر
وآلاف العيون في الظلمة
تحدق في ساقيها الهزيلين ،
وسعالها البارد ، يأتي ذليلا يائسا .
عبر النافذة المحطمة .
والزقاق الملتوي كحبل من جثث العبيد .

لقد نقلت نازك الملائكة قصيدة محمد الماغوط على أساس أنها خاطرة على الشكل التالي :

" بلا أمل . بقلبي الذي يخفق كوردة حمراء صغيرة ، سأودع أشيائي الحزينة في ليلة ما : بقع الحبر آثار الخمرة الباردة على المشمع اللزج ، وصمت الشهور الطويلة ، والناموس الذي يمص دمي هي أشيائي الحزينة ، وسأرحل عنها بعيدا ، وراء المدينة الغارقة في مجاري السل والدخان بعيدا عن المرأة العاهرة التي تغسل ثيابي بماء النهر وآلاف العيون في الظلمة تحدق في ساقيها الهزيلين ، وسعالها البارد يأتي ذليلا يائسا عبر النافذة ، والزقاق الملتوي كحبل من جثث العبيد " .

إن نازك الملائكة خلال ردها على هؤلاء الذين يسمون النثر شعرا ، انطلقت من أسس عدة :

فمن الأساس النفسي ترى الأديبة أن سبب تسميتهم للنثر شعرا أنهم يزدرون ما يمتلكون من موهبة ويتطلعون إلى شيء لا يملكونه ، إنهم لا يحترمون النثر ، وذلك هو أساس الإشكال الذي وقعوا فيه . ولأنهم يرون وضاعة النثر ، أرادوا الارتقاء فسموه شعرا ، والناثر شاعرا ، وترى الحال في أن يعرف هؤلاء قيمة النثر الذاتية ، فلا يمكن أن يغني الشعر عن النثر ولا النثر عن الشعر .

ومن الأساس اللغوي ؛ ترى أن دعوة قصيدة النثر وقعت في خطأ ؛ إذ أطلقت كلمة "شعر" على الشعر والنثر معا ، فإذا كتب شاعر قصيدة ذات شطرين وقافية موحدة ، كانت لديهم شعرا ، وإذا كتب ناثر فقرة نثرية خالية من الوزن والقافية تمام الخلو ، كان ذلك في حسابهم شعرا أيضا . ثم توجه لأصحاب الدعوة تساؤلا إنكاريا فتقول : " ما الفرق بين الشعر والنثر إن لم يكن الوزن هو العنصر المميز ؟ " .

أما من الأساس النقدي فأصحاب قصيدة النثر ينطلقون من المضمون في وصف الكلام بالشعر فالشعر في نظرهم تجمع معان جميلة موحية يعتمد على الخيال والعاطفة والصور .

فلا يهم بعد ذلك أن يكون موزونا أو غير موزون . إذن فالوزن عندهم ليس شرطا في الشعر . وحين الرجوع إلى صوت النقد يظهر أن الشعر له ركنان :

- الشكل الجيد " الوزن " .

- المضمون " المحتوى" الجميل الموحي .



ترى نازك الملائكة أن قصيدة النثر ليست من الشعر في شيء ، لعدم توفرها على الوزن الموسيقي ، لأن الوزن حسب رأيها هو " الروح التي تكهرب المادة الأدبية وتصيرها شعرا ، فلا شعر من دونه مهما حشد الشاعر من صور وعواطف ، لا بل إن الصور والعواطف لا تصبح شعرية بالمعنى الحق ، إلا إذا لمستها أصابع الموسيقى ، ونبض في عروقها الوزن " .

طرح الخال موقفا من أشكال الشعر الحديثة رد فيه على المواقف المتقلبة لنازك فقال : « وماذا يعرف هؤلاء الطلبة الصغار عن قصيدة النثر ؟ يعرفون أن النثر نثر والشعر شعر ، وأن الفارق بينهما أن للشعر خصائص ليست للنثر ، وأن أهم هذه الخصائص الإيقاع ، وهو يجري على وزن تقليدي في القصائد التي يتوخى أصحابها نظما على الوزن التقليدي ، كما يجري على وزن ذاتي مستحدث ينبع من عبقرية الشاعر وموهبته الفنية » .

يتابع القول : « وأن هذا الوزن الذاتي المستحدث قد يكون على أشكال إذا شئنا تصنيفها وقعت في ثلاثة : أولا - الشعر المتحرر من القافية وهو ما يسمونه بالـ blank verse ( وهو ما حاول الزهاوي ، مثلا ، استحداثه في الشعر العربي كما ذكرت المؤلفة . وثانيا - الشعر الحر ، وهو ترجمة ما يسمونه libre ver

بالفرنسية أوfree verse بالإنجليزية » .

يضيف : « وهو أيضا ما اقتبسته المؤلفة وأنكرت على جبرا إبراهيم جبرا استعماله استعمالا صحيحا ، أي بتحريره من أي وزن تقليدي ، لا استعمالا مزيفا كما استعملته هي ؛ وهو أيضا الأسلوب الذي انتهجه محمد الماغوط مثلا ، في ديوانه " حزن في ضوء القمر " الذي تعتبره المؤلفة نثرا لا شعر فيه . وثالثا قصيدة النثر ، أو ما يسمونه بالفرنسيةpoème en prose وبالإنجليزيةprose poème » .

« وهي شكل يختلف عن الشعر الحر في آداب العالم بأنه يستند إلى النثر ويسمو به إلى مصاف الشعر

( فيما يستند الشعر الحر إلى الشعر التقليدي ، ومن هنا التزامه الأشطر شكلا ) مكتسبا من النثر العادي عفويته وبساطته وحريته في التعبير وبعده عن الخطابية والبهلوانية البلاغية والبيانية ، وكل ذلك مع الحفاظ ، كالشعر الحر

على إيقاع ذاتي يحدث التوتر المرجو من الوزن التقليدي » .

وعلى صعيد اللغة تغرق المؤلفة على نحو دقيق بين ما يسـمى شعرا وما يسـمى نثرا . فترى أن أغلب القراء مازالوا يجهلون الأساس العروضي للشعر الحر . وأن طائفة منهم تحسبه نثرا لا وزن له مرصوصا على أسطر متتالية وأن الجمهور غير ملوم في فكرته هذه . فإنما روج لها بعض الشعراء من الجيل الماضي ، وقد راحوا يصرحون في لذة لا تخلو من التشفي ، إن الشعر الحر ليس موزونا وإنما هو نثر .

يورد يوسف الخال ردا على الملائكة في هذا الشأن فيقول : « ( وهذا غير صحيح لأن قصيدة النثر شكل من أشكال التعبير الشعري ) » . وتصف نازك هذه الفئة التي كان يوسف الخال يمثل أحد أهم أقطابها بالعصبية ، فهم برأيها لا يرفضون القديم لذاته ، وإنما يرفضون أن تتحكم قوانين القديم في إبداع الحديث ، إنها فئة تبحث عن هوية ثقافية معاصرة بين بعدين مختلفين : التراث القديم ، والثقافة الغربية التي تطلع كل يوم بجديد .

كما يدافع يوسف الخال عن مجلة شعر فيقول : « ليس هنالك من دعوة ابتدعتها مجلة شعر لإحلال النثر محل الشعر ، أو لخلط الشعر بالنثر ، بل إن هنالك شكلا معروفا معترفا به من أشكال التعبير الشعري يسمى

" قصيدة النثر " ، حرصت مجلة شعر ، وهي المجلة العربية الطليعية المنفتحة على تراثنا العربي الأصيل بقدر انفتاحها على التراث الإنساني جملة » .

يضيف يوسف الخال : « ولو أزاحت المؤلفة عن ذهنها العربي حجاب التزمت والسلفية ومركب النقص هذا ، لأدركت بالأدلة والشواهد المحسوسة ، في المجلة وفي منشوراتها ، أن مجلة شعر تصدر بلغة عربية في بيروت ، بالفعل ، ولكنها لا تصدر" أوروبية " » .

ويقول : « وكانت المؤلفة ، وهي الشاعرة التي أدت خدمة كبرى لشعرنا العربي المعاصر ، من أشد أنصار هذه المجلة ، فنشرت فيها خيرة قصائدها ، وحضرت عدة مرات اجتماعات " خميسها " ، كان ذلك لسنتين خلتا ، قبل أن يسقط عليها ، ويا للأسف ، ذلك الحجاب » .

بالرغم من صعوبة الكتابة الجديدة ، غير أن ضرورة التماشي مع العصر جعلت منها عملية مستسهلة . لذا نجد بعضا من النقاد العرب المعاصرين راحوا يعيدون النظر في ذلك الوزن الخليلي ، وانقسموا على إثره بين قسمين ، قسم لا يزال يؤمن بشرعيته لكن ضرورة تطور الحياة اقتضت التنويع عليه ، وقسم آخر يذهب مذهبا مخالفا فيرفضه رفضا كاملا ، وكلاهما يبقي شكل الشعر الجديد .

من أجل هذه الفكرة أعلنت هذه الحركة ثورتها على الرومانسية roman ( 1820 - 1850 م ) داعية إلى المذهب الواقعي doctrine Réaliste . ومن اللافت للنظر أن نازك الملائكة حين شاءت أن تعلل ضرورة التحرر من قيود الشكل القديم ، اتهمت اللغة العربية بأنها لم تكتسب بعد قوة الإيحاء ، ولا تعمل إلا في

إطار إيقاع الشاعر الذي ينبغي له أن يجسد إحساسا حادا لشيئين معا ؛ موسيقى الألفاظ ومضموناتها المتنوعة .

لقد دافعت السيدة الأديبة نازك الملائكة عن الإبهام لأنه جزء أساس من حياة النفس البشرية ، فكانت بهذا الموقف تقرر نهجا شعريا يتجاوز التغييرات الشكلية الخالصة ، لتتبنى المؤثرات الرمزية التي تمثلها قصيدتها " إلى زائرة ". وحين شاءت الملائكة أيضا أن تصيغ في كتابها " قضايا الشعر المعاصر " بعض القواعد النقدية ، عانت الموجة أقوى من أن تصدها أناة النقد ورزانة الفكر .

غير أن ظهور بدايات هذه الانطلاقة الشعرية على يد شاعرة - لا شاعر - تتقن العروض وتستمد بعض الإيحاءات من اطلاعها على أدب أجنبي ، كل ذلك يشير إلى أمور يحسن الانتباه لها ، فمن الواضح أن الدافع إلى ارتياد تجربة جديدة لم يتعود صراحة على المرأة في التعبير عن مشاعرها ، حيث تريد أن تحلل مشاعر خاصة بها طالما ظن الرجل أنه يحسن التعبير ؛ وللمرأة في تقبل البدعة حظ كبير .

بالرغم من أن المتقدمين من أصحاب الشعر الحر كنازك والسياب والبياتي وغيرهم كان لهم بضاعة كافية ، غير أنهم ضاقوا ذرعا في الموزون المقفى ، ووجدوا فيما قرؤوه من الشعر العربي زادا لا يمكنهم احتواءه إلا في حيز

هذه الحرية الجديدة ؛ لأن المقاربات النظرية لهذه الظاهرة لم تتخذ طبيعة جدية ومنهجية إلا في إطار نشاطات تجمع شعر .

لكن بيان يوسف الخال لم يقدم شيئا جديدا فيما يتصل بإيضاح التحويل العروضي الذي شرع به الشعراء العراقيون ، لقد اقتصر همه فيه على رفض البنية العروضية المتمثلة في انتظام الأوزان القديمة ووحدة القافية واستقلالية البيت الشعري . كما أن بيانه لا يقترح إلا تطور الإيقاعات العروضية والقافية بحسب مقتضيات

المحتوى الشعري الجديد ، وفي النهاية بناء القصيدة بمقتضى وحدة التجربة والمناخ الشعوري العام .

ففيما بعد كان تجمع شعر مدعوا للإجابة على التساؤلات الملحة حول دواعي هذا الإصلاح ، وكانت

الإجابات ترد وجيزة طوال المرحلة الأولى من تطور الحركة عبر المقابلات والتعليقات ، ولم يكن مجموع هذه الإجابات ليتجاوز إطار التعليلات . كالتعليل الذي يقول فيه يوسف الخال : « القافية التقليدية ماتت على صخب الحياة وضجيجها . الوزن الخليلي الرتيب مات بفعل تشابك حياتنا وتشعبها وتغير سيرها » .

وإذا كان الشاعر المصري عبد المعطي حجازي ( 1935 م - .... ) وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي ، يركزون على الوزن في تحديد الشعر ، فإن يوسف الخال وأدونيس يركزان على الإيقاع دون الوزن . والإيقاع أعم من الوزن من حيث أنه موجود في الفنون المختلفة ، ولكنه خاص من حيث أن لكل فن إيقاعه الخاص . فللشعر إيقاعه وللنثر إيقاعه ، ثم ينفرد كل نص داخل الجنس الأدبي بإيقاعه الخاص .

وإذا كان أدونيس ويوسف الخال يركزان على الإيقاع بمفهومه العام ، فكيف نميز بين إيقاع الشعر وإيقاع النثر ؟ إن إيقاع الشعر منضبط يقوم على تناسب الحركات والسكون ، في حين يبقى إيقاع النثر منفلتا لا ضابط لـه . إن الإيقاع في الشعر يختلف من قصيدة إلى أخرى في الوزن الواحد ولكن يبقى منضبطا ، لكنه في النثر لا يخضع لحدود معينة . ومن ثم فإن الإيقاع لا يمكن أن يكون معيارا لتحديد الشعر وحده .

لقد انطلق يوسف الخال في تحديد الشعر من الإيقاع ، وهو يريد أن يكون نابعا من القصيدة لا تقليدا لإيقاع موروث يقول : " إذا كان الإيقاع ضرورة في الشعر ، فضرورته لا تعني أن يكون مفروضا على الشاعر .

فللشاعر ملء الحرية في إيجاد إيقاعه الخاص به . وللشاعر الحديث أن يستخدم الوزن التقليدي ، ولكن كإيقاع بين غيره من الإيقاعات الشعرية ، وله أن يتلاعب في الوزن الموسيقي التقليدي كما يشاء لخدمة القصيدة " .

ويوسف الخال هنا يخلط بين الوزن والإيقاع ، لأن الإيقاع يختلف من قصيدة إلى أخرى في الوزن الواحد لدى الشاعر الواحد ، أما في الوزن فيبقى ثابتا . والإيقاع في هذه الحال يندرج في إطار الوزن ، أي هو خاص في إطار العام ، ثم نجده أيضا يستعمل مصطلح الإيقاع بالمفهوم العام ؛ بحيث يشمل الوزن كإيقاع بين إيقاعات كثيرة يمكن الاستغناء عنه أو استبداله بإيقاع جديد .

إن الوزن لا يدخل النظم إلى الشعر ، والتعبير الشعري لا يدخل قصيدة النثر إلى الشعر ، ذلك أن الكلام الشعري موجود في القصة القصيرة وفي المسرحية والرواية والسيرة الذاتية وغيرها . فهل تكفي اللغة الشعرية فاصلا بين هذه الأنواع الأدبية وبين الشعر ؟ ثم إن كون النظم موزونا ليس مبررا لإلغاء الوزن مقياسا للتمييز بين الشعر والنثر لأنه في الشعر داخلي وفي النظم خارجي . واللغة الشعرية في الشعر موزونة ولكنها في النثر ليست كذلك .

إذا كانت اللغة الشعرية تصلح فارقا بين العلم والشعر ، فهي لا تفرق بين الشعر وغيره من الأنواع الأدبية . ووقوف يوسف الخال عند التعبير الشعري مقياسا للتمييز بين الشعر والنثر يعني أنه يميز بين النثر والنثر العلمي ولا يميز بين الشعر من جهة والنثر الفني من جهة أخرى . فهل يرى كل تعبير شعري شعرا سواء أكان موزونا أم غير موزون ؟
أما فيما يخص الفرق بين الكلام الشعري والكلام النثري فيقول : " أما الكلام المشعور ( كذا ) فهو ما تناولته صناعة الشعر فجعلته فنا جميلا تماما كما يتناول النحات الحجر أو الرسام اللون أو الموسيقي اللحن . ولهذه الصناعة كما لكل صناعة أصول وقواعد هي عد الموهبة من جوهرها وطبيعتها ، لكن الوزن والقافية ليسا بالضرورة منها " .

فالكلام الشعري هنا مادة خام وليس شعرا في ذاته ، وهو لا يصبح شعرا إلا بعد تناول صناعة الشعر له . أما الوزن فهو ليس ضروريا في الشعر عند يوسف الخال . على هذا الأساس يمكن اعتبار قصيدة النثر شعرا ، بل يصبح كل نثر فني شعرا عند الخال . ولهذا نجده يستنكر تسمية الشعر والشعر المنثور والنثر الشعري التي أطلقها النقاد على النثر الذي يستعمل اللغة استعمالا شعريا دون تقيد بوزن معين ويرى ذلك شعرا .

" فالشعر عند يوسف الخال مفهوم عام يشمل التعبير الشعري الموزون وغير الموزون ، من هنا كان شعراء هذا الجيل مدعوين إلى إبداع أشكال جديدة مستمدة من عبقرية اللغة العربية وتراثها الشعري ، ومستفيدة إلى أقصى حد من تجارب الشعراء في العالم المتحضر " .

وكما فعل الشعر الحر مع سابقه الخليلي ، رأى البعض العودة إلى المنبع ، ومن هؤلاء الشاعر السوري سليمان العيسى ( 1946 - 2012 م ) حيث يقول : « إن منابع النهر لا تزال أقوى وأغنى من مصبه حتى الآن .. وإن شعرنا الجاهلي ما يزال النموذج الرائع الجدير بأن نعود إليه ونغترف منه ونتتلمذ عليه إذا أردنا حقا أن نكون كتابا أو شعراء مجيدين » .

بالمقابل فقد كان موقف يوسف الخال مناقضا للاستنتاج الذي ذهب إليه سليمان العيسى ؛ فقد تحقق للخال أن شعر التفعيلة لم يستطع إنقاذ الشعر من الخطابية . لذلك يقول : « لماذا لا تستقرئ المؤلفة القواعد والقوانين من الأنماط الجديدة التي خلقتها طبيعة الشاعر العربي الحر ، بدل أن تعمد إلى تطبيق القواعد والقوانين القديمة على الأنماط الجديدة متمسكة بالعروض والضرب والوتد والزحاف وما إلى ذلك ؟ » .

يضيف يوسف الخال : « وكيف يبرر لها هذا القول ، قولها " ولذلك نجدهم ( أي الشعراء الأحرار ) خلطوا بين بحور الشعر نفسها ، فنظموا قصائد حرة تجاورت فيها أشطر من البحر السريع وأخرى من الرجز " . وتأتي على مثل من قصيدة لسعدي يوسف :

يا طائرا أضناه طول السفر
قلبي هنا في المطر
يرقب ما تأتي به الأسفار
ثم تنتقد الشطر الثالث من هذه الفقرة ، لأنه خارج على البحر السريع الذي كان منه الشطران الأولان .
مستفعلن مستفعلن فاعلن
مستفعلن فاعلن
مستفعلن مستفعلن " مفعولن " » .

وإذا كانت ظاهرة الغموض mystère من أبرز الميزات التي انفرد بها الشعر المعاصر بصفة عامة ؛ فإن قصيدة النثر قد وجهت لها مآخذ أخرى من قبل مهاجمي الشعر الحديث - ومنهم نازك الملائكة - تتمثل في

" الابتذال " و" البدعة الشكلية " و" الأجنبية " .

فتحت عنوان " مآخذهم على الشعر الحديث " من كتاب " الحداثة في الشعر" يقول يوسف الخال مدافعا عنه : « يأخذون على الشعر الحديث الابتذال . فهم يحسبون أن حرية الشاعر في التصرف بالأوزان والقوافي التقليدية تستبيح صناعة الشعر ، فينفتح المجال أمام الأدعياء ، هذا المأخذ مردود » .

فاستخدام الحرية برأي يوسف الخال أصعب من السير على نظام مفروض . ذلك أن الحرية تتطلب المقدرة على تحمل المسؤولية ، أما النظام المفروض فلا يتطلب غير الانقياد . يوضح ذلك قائلا : « فإذا خلا الشاعر التقليدي من المضمون ، لجأ إلى القوالب الجاهزة يزخرفها وينمقها بالألفاظ الطنانة والتعابير البيانية الماهرة . ولكن الشاعر الحديث لا وسيلة له يلجأ إليها إلا الفشل أو السكوت » .

يتابع القول : « ويأخذون على الشعر الحديث أنه بدعة شكلية غايتها تحطيم العمود الشعري والقضاء على النغم الشعري وإشراق العبارة » . فيرد عليهم يوسف الخال قائلا : « الحقيقة أن الشاعر الحديث لا غاية

له إلا التعبير بحرية ، مع الحفاظ على جميع خصائص الشعر ، عن تجاربه الكيانية . فالعمل الشعري في نظره عمل شخصي فني يهدف إلى خلق ما يراه واجب الوجود . وحريته يحدها الفن الذي يفترض الانتظام والانسجام » .

على أن العقلية الجامدة برأيه لا ترتاح إلا في مناخ العبودية للمعروف . فالمغامرة بعيدة عن طبعها . وهي لا تعي ما يجري حولها ، فتصبح مرتعا للفراغ . يهزها الزمن ، فتفتح عيونها البلهاء ثم تعاود الشخير ، إلى أن يجيء يوم تجد فيه من يجرها إلى الهلاك . فالشعر الحديث عند الخال ليس شكل فحسب حتى وإن خرج على النمط

التقليدي ، فحداثة التجربة وحضورها يكون في اللحضة التي انتج فيها لا في زمن مضى من عصور التاريخ .

يضيف يوسف الخال : « ويأخذون على الشعر الحديث أجنبيته أو شعوبيته ، ومناقضته لعقلية القارئ العربي » . فيرد عليهم قائلا : « وهم لو وعوا هذا ، لأدركوا أنه حكم ظالم على هذه العقلية لا على الشعر الحديث . ويرى أن الشعر الحديث هو شعر هذه الآونة من تطور الشعر في العالم ، ومن تطور الحياة فيه ، ومن مفهوم الإنسان المعاصر لطبيعة الخلق الشعري . ثم يتساءل عن مدى مناقضة كلامهم هذا لعقلية القارئ .

فيجيب : « يقولون إنها طبيعة اللغة العربية ، ويعنون أن للغة العربية صفات لا تشارك فيها سائر اللغات . فلو عقلوا لأدركوا أن اللغة لا تنفصل عن الإنسان ، وأنها أداة تتطور بتطوره ، وأن صفاتها الأساسية واحدة في اللغات جميعا . فالادعاء بأن اللغة العربية نسيج وحدها يعني أن صاحبها نسيج وحده أيضا . وفي هذا جهل فاضح لا يعرفون أنهم ينتهون إليه » .

في الختام يمكن القول إن كتاب قضايا الشعر المعاصر لنازك الملائكة كتاب نقدي يستحق النظر والمناقشة والبحث قد أصاب الناقد في بعض الملاحظات والانتقادات التي قدمها لهذه الدراسة لكنه بالغ في كثير من النقاط والمواقف ونأمل من هذه الدراسة أن تكون محطة اهتمام من قبل القراء تغني بوتقتهم ، وبحثا مساعدا ولو بالنزر اليسير في الدراسات التي قد تضيف زادا معرفيا للدراسات التالية له 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قائمة المصادر والمراجع :
1 - إبراهيم السامرائي : البنية اللغوية في الشعر العربي المعاصر ، دار الشروق ، ط 1 ، 2002 م .
2 - أحمد بزون : قصيدة النثر العربية الإطار النظري ، دار الفكر الجديد ، بيروت - لبنان ، ط 1 ، 1996 م
3 - أحمد سليمان الأحمد : الشعر الحديث بين التقليد والتجديد ، الدار العربية للكتاب ، د ط ، 1983 م .
4 - إحسان عباس : اتجاهات الشعر العربي المعاصر ، المجلة الوطنية للثقافة والفنون والآداب ، عالم المعرفة ، الكويت ، د ط ، 1998 م .
5 - بدوي طبانة : التيارات المعاصرة في النقد الأدبي ، دار المريخ للنشر الرياض ، ط 3 ، 1406 هـ - 1986 م
6 - حبيب بوهرر : تشكل الموقف النقدي عند أدونيس ونزار قباني قراءة في آليات بناء الموقف النقدي والأدبي عند الشاعر العربي المعاصر ، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع ، أربد - الأردن ، ط 1 ، 1429 هـ - 2008 م
7 - محمد صابر عبيد : القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية حساسية الانبثاقة الشعرية الأولى جيل الرواد والستينات ، من منشورات اتحاد الكتاب العرب - دمشق ، د ط ، 2001 م .
ساندي سالم أبو سيف : قضايا النقد والحداثة دراسة في التجربة النقدية لمجلة شعر اللبنانية ، المؤسسة العربية ، ط 1 ، 2005 م .
8 - نازك الملائكة : قضايا الشعر المعاصر ، منشورات مكتبة النهضة - مطبعة دار التضامن ، ط 1 ، 1962 م
9 - عبد الله محمد الغذامي : الصوت القديم الجديد دراسات في الجذور العربية لموسيقى الشعر الحديث دراسات أدبية الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1987 م .
10 - عز الدين منصور : دراسات نقدية ونماذج حول بعض قضايا الشعر المعاصر ، مؤسسة المعارف للطباعة والنشر ، بيروت - لبنان ، ط 1 ، 1405 هـ - 1985 م .
11 - فاتح علاق : مفهوم الشعر عند رواد الشعر العربي الحر دراسة ، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق د ط ، 2005 م .
12 - علي حداد : الخطاب الآخر مقاربة لأبجدية الشاعر ناقدا دراسة ، منشورات اتحاد الكتّاب العرب ، دمشق - 2000 م .
13 - يوسف الخال : الحداثة في الشعر ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت ، ط 1 ، 1978 م .

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...