اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

مقاربة تطبيقية في قصيدة محمود درويش "أبد الصبار" || فداء العايدي

تتناول هذه الدراسة قصيدة محمود درويش المعنونة بـ “أبد الصبار” من مجموعته “لماذا تركت الحصان وحيداً؟” برصد مظاهرها الأسلوبية من إيقاع وبنية ومعجم وتراكيب، والوقوف على احتمالات التعالق النصي لهذه المظاهر مع الأسلوبيات الموظفة في نصوص أخر. وذلك بغية الوصول إلى فهم عميق المدارك للنص، يتجاوز حدود القراءة البنيوية. وتلتفت الدراسة إلى البنيات ذات السياقات الثقافية الممتدة خارج النص بوصفها شكلاً من أشكال التناص. وتناقش الأبعاد الثقافية المرتبطة بممارسة مبدع النص للفعل
فداء العايدي - باحثة في الأدب والنقد العربي الحديث من الأردن التناصي؛ أي نسق الاختيار الذي يدفع المؤلف للتفاعل مع نصوص بعينها بما تحمله من خصوصية الأسلوب والموضوع، فضلاً عن قوانين التناص التي تعامل المبدع وفقها مع مادة التناص اجتراراً أو تضميناً أو تحويراً مما يومئ إلى حضور نسق ما. وبذا تتوضح ملامح النص بالإفادة من الآفاق التي يقدمها التحليل الثقافي. اتبعت الدراسة المنهج الأسلوبي في دراسة العناصر الفنية في النص. ووظفت التحليل الثقافي في قراءة الأنساق المحتملة التي تتضمنها هذه العناصر. خلصت الدراسة إلى احتمال التناص الداخلي للنص مع نصوص أخر لمحمود درويش. واحتمال التناص الخارجي للنص مع القرآن الكريم والثقافة المسيحية وتاريخ القصية الفلسطينية وروميات أبي فراس الحمداني وقصيدة إرادة الحياة لأبي القاسم الشابي.

المقدمة

تعرف جوليا كريستيفا ( Julia Kristiva  ولدت 1941 ) التناص بقولها: “أن يتشكل كل نص من فسيفساء من الشواهد. أي إن كل نص هو امتصاص لنص آخر أو تحويل عنه” (1). ويقول ليون إس روديز Leon S Roudiz) 1918-2004م): التناص تبادل النصوص لنظام الإشارة أو استخدام أحد الأنظمة الأسلوبية بدلاً من الآخر (2).
وللتناص تصنيفات عديدة تختلف منظوراتها، اصطلح عليها بتعابير مثل صور التناص أو أشكال التناص أو أنواع التناص. وستوظف هذه الدراسة التصنيف الأكثر شيوعاً لأنواع التناص الذي يضم التناص الخارجي حين يحدث التفاعل بين نص لكاتب مع نص لكاتب آخر، والتناص الداخلي الذي يكون فيه التفاعل بين نصوص لنفس الكاتب (3).
وفي سياق التنظيرات السابقة تتناول هذه الدراسة عناصر البنية الأسلوبية في قصيدة “أبد الصبار” لمحمود درويش بالدراسة، من إيقاع وبنية ومعجم وتراكيب. وتستند إليها لتتلمَّس حضور التناص في النص. ثم تتوجه الدراسة لمحاولة قراءة التناص ثقافياً مستعينةً بالاحتمالات النسقية التي تطرحها البنية، مما يربط التناص بمفهوم النقد الثقافي الذي هو أحد فروع النقد النصوصي وأحد حقول الألسنية الذي يهتم بنقد الأنساق التي تنطوي عليها الخطابات (4).
سعت الدراسة لإنجاز غايتها بالاستناد إلى مجموعة من المصادر والمراجع. أما أهم مصادرها؛ فالقرآن الكريم وديوان أبي فراس الحمداني (5) وكتاب حازم القرطاجني “منهاج البلغاء وسراج الأدباء” (6) وديوان أبي القاسم الشابي “أغاني الحياة” (7) ومجموعات محمود درويش الشعرية “لماذا تركت الحصان وحيداً” و” لا تعتذر عما فعلت” (8) و” كزهر اللوز أو أبعد” (9).  وأهم مراجعها كتاب عبدالله الغذامي “النقد الثقافي” وكتاب تزيفتان تودوروف ” ميخائيل باختين: المبدأ الحواري” (10).
كان توجه الدراسة لمعالجة نص ” أبد الصبار” لمحمود درويش مبرراً بثراء النص بالسياقات الثقافية التي يمكن أن تعد ممثلة لظاهرة التناص، وأرضية لتطبيق النقد الثقافي في محاولة لفهم عميق للنص.
إن المقاربة التطبيقية التي تسعى هذه الدراسة لصياغة تصورها تعزز واقع النقد اليوم بتمرده على انغلاق القراءة البنيوية للنص. فالتناص تعالق بين النصوص مما يعني أنه تأكيد على انفتاح النص، والنقد الثقافي توجه لقراءة النصوص بالالتفات للسياقات الثقافية الخارجية المحيطة بالنص لكن انطلاقاً من البنية النصية أولاً.

العناصر الأسلوبية ومظاهر التناص والنقد الثقافي.

أولا: الإيقاع الخارجي والإيقاع الداخلي.

أ. الإيقاع الخارجي.

يتمثل الإيقاع الخارجي في الموسيقى الظاهرة التي يحدثها كل من الوزن والقافية. ويسمى أيضا موسيقى الإطار (11).
بنى محمود درويش قصيدته ( أبد الصبار ) على تفعيلات البحر المتقارب على صورة: فعولن فعولن فعولن فعو. وهو وزن بنى عليه درويش بالذات قصائد أخر في مجموعته ( لماذا تركت الحصان وحيداً) – التي تضم القصيدة موضع الدراسة (أبد الصبار)- كقصيدة (أرى شبحي قادماً من بعيد)  (12) ومنها: ” أُطِلُّ, كَشُرْفة بَيْتٍ, على ما أُريد”، وقصيدة ( سنونو التتار) (13) ومنها: ” على قَدْرِ خَيْلي تكونُ السماءُ” وقصيدة ( أمشاط عاجية) (14) ومنها: ” مِنَ القَلْعَةِ انحدَرَ الغيمُ أَزرقَ”، في تناص داخلي مع موسيقى الإطار لهذه القصائد.
ولعل شرارة توظيف هذا الإيقاع عند درويش اشتعلت من الاتصال بتراث شعري كبير من القصائد بني إيقاعها على تفعيلات البحر المتقارب، قد يكون من أشهرها: روميات أبي فراس الحمداني، التي ظهر جلياً احتمال استحضار درويش لإيقاعها وبنيتها وتراكيبها في ذات الديوان (لماذا تركت الحصان وحيداً) الذي وردت فيه القصيدة موضع الدراسة (أبد الصبار) في فعل تناص خارجي مع روميات أبي فراس تجسد في قصيدة درويش (من روميات أبي فراس الحمداني) (15). وتنفتح الاحتمالات على إفادة درويش من قصيدة أبي القاسم الشابي (إرادة الحياة) (16)، لا سيما أن القصيدتين تشتبكان في فضاءات البنية الثقافية المحيطة بالنص والمتمثلة في خطاب الأمل البازغ من تحت ركام الخيبات.
 وتعزز المقابلة الإيقاع الخارجي للقصيدة  مثل المقابلة بين أبي وولدي: ” إلى أين تأخذني يا أبي؟”
 ” إلى جهة الريح يا ولدي”..و:” ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبي؟”
“سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي”.
وقوله مقابلاً السهل و التل: ” وهما يخرجان من السهل حيث أقام جنود بونابرت تلاً..”. وفي بناء موسيقى النص بالاعتماد على المقابلة تناص مع نصوص شعرية عديدة توظف المقابلة لإكساب النص إيقاعاً موسيقياً، منها نصوص لدرويش نفسه مثل المقابلة بين لفظتي أبي وولدي تحديداً، في (إلى آخري وإلى آخره) (17) وفي (كم مرة ينتهي أمرنا) (18)، والمقابلة بين أمسي وغدي في (أمشاط عاجية)  (19)
وشرق وغرب في ( في يدي غيمةٌ) (20) وليل ونهار وأرض وسماء في (عود إسماعيل) (21) والأرض والسماء كذلك في (تدابير شعرية) (22).
 و أسهم التكرار في إبراز موسيقى الإطار في النص، مثل: “لا تخف لا تخف”. “والتصق بالتراب لتنجو، سننجو”. “وتحسس مفتاحه، تحسس أعضاءه”. فضلاً عن الوقع الموسيقي لتكرار أبي وولدي وابني.
 ويمكن القول-استناداً إلى افتراض الدراسة استحضار درويش لإيقاع كل من روميات أبي فراس وقصيدة الشابي إرادة الحياة- إن التكرار في قصيدة أبي فراس مثل قوله مكرراً ” كنت”:
وكنت الحبيب وكنت القريب    
       ليالي أدعوك من عن كثب  (23)
و تكراره لـ” أيا أم الأسير سقاك غيثٌ” (24) و” ليبككِ” (25)، والتكرار في قصيدة الشابي مثل تكراره لتركيب لابد ولفظة الحياة، قد زارا ذاكرة درويش في كتابته لنص (أبد الصبار) في تناص خارجي. فضلاً عن التناص الداخلي مع التكرار أسلوباً في نصوص درويش ذاته، مثل التكرار في قصيدة ( أيام الحب السبعة): ” للحياة حياةٌ لا تجددها إلا على جسد يصغي إلى جسد” و” اقتربي كالغيمة اقتربي…انحدري كالنجمة انحدري…انتشري كالعتمة انتشري” (26).

ب. الإيقاع الداخلي.

عملت عناصر الصورة من استعارة وكناية على بناء الإيقاع الداخلي للنص. ولعدد من هذه العناصر امتدادات تناصية إلى فضاءات أدبية وثقافية. يقول درويش: ” هنا مر سيدنا ذات يوم. هنا جعل الماء خمراً. وقال كلاماً كثيراً عن الحب” في كناية عن إرث السلام الذي تركه السيد المسيح على هذه الأرض، وهي كناية تشكل تناصاً دينياً مع الثقافة المسيحية. ويقول: ” هنا وقع الانكشاري عن بغلة الحرب” في كناية عن الهزيمة نتيجةً حتمية للمعتدي، وهي كناية تحيل للتناص التاريخي مع الانكشارية وهي فرقة المشاة في الجيش العثماني في مهماتها الاحتلالية. وفي قوله: ” تذكر قلاعاً صليبيةً قضمتها حشائش نيسان”  كناية عن الأمل بانتصار الحق والإرادة، إضافةً إلى الاستعارة المكنية في تشبيه حشائش نيسان بالكائن الذي يقضم القلاع. وهذه الصورة تؤكد احتمال التناص الداخلي إذ تعيد الذاكرة إلى حديث صحفي لمحمود درويش يقول فيه: ” للشعر هشاشة العشب، فالعشب غير معصوم من الجرح لكن حسبه قليل من الماء وشعاع من الشمس لينبعث من جديد” (27). فيما يلتقي مع فكرة القوة المعنوية للأمل. ويقول درويش في النص: ” سننجو ونعلو على جبل في الشمال”كناية عن الأمل بعودة الحق واستكناه المستقبل الأفضل، في تناص خارجي مع قصة النبي نوح في القرآن الكريم إذ تنجو سفينته وتستوي على جبل الجودي.
ويوظف درويش الالتفات من الحوار إلى السرد في نصه. والالتفات يمثل شكلاً من أشكال التناص من خلال تعدد الرواة وتعدد الذوات الكاتبة الذي عبر عنه باختين(Mikhail Bakhtine 1895 – 1975 ) بـ “تعدد الأصوات”، وأفادت منه جوليا كريستيفا في بنائها لمصطلح التناص (28).

   ثانياً: البنية.

النص رابض تحت ضغط الحكاية خارج اللغة. إنه نص يوثق لتفاصيل التغريبة بالشعر وهنا يتبدى الحضور الأكبر لتناص البنية الخارجي مع القضية الواقعية.
البداية من العنوان ” أبد الصبار”، حيث الصبار وارتباطه بالحكاية الفلسطينية من البيئة إلى قيمة الصبر في المأساة ووخز الألم ووعد اللذة.
ثم تقدم صورة أب وابنه في طريق النزوح يفتضان الغيب ويستحثان حلم العودة بحوار من سؤال وجواب واعد: ” إلى أين تأخذني يا أبي؟ إلى جهة الريح يا ولدي”.
 السرد يؤثث المشهد بعناصر الأمكنة والبشر والأحداث حيث يحال القارئ إلى صورة جنود نابليون وقد بنوا تلاً لمراقبة سور عكا، في تناص تاريخي مع حدث حملة نابليون على عكا. ويكون الالتفات للحوار انتزاعاً من الذكريات وتأكيداً على الحلم المحوري؛ العودة: ” لا تخف من أزيز الرصاص”…..”ونرجع حين يعود الجنود”. الالتفات فيما سلف مناقشته يعبر عن تعددية الأصوات في النص مما يقارب معنى الحوارية التي تؤسس لفكرة التناص. ويعود للسرد يلف بطلي الحوار برؤية المراقب الأعلى لمصير مهاجرَيْن نحو غربة أبدية واقعية تجعل من اتصال النص بالواقع شكلاً للتناص الخارجي. وما زال الأب متمسكاً بالماضي إذ يأمر ابنه بأن يكون قوياً مثل جده ويبشره بالتاريخ والذكرى!: ” هنا وقع الانكشاري عن بغلة الحرب”، في تفاعل نصي مع مفردة تاريخية صيّرها درويش رمزاً للغزاة؛ وهي الانكشارية. وكذلك وظّف ” جنود يوشع بن نون”رمزاً أسطورياً يقود القراءة إلى أسطورة يوشع بن نون اليهودية. فالرمز يلم مشتركات الزمن والأحداث، وغموض الرمز يضمر تعالقات نصية مع فضاءات تاريخية أو أسطورية.

تصفح العدد السادس من مجلة رسائل الشعر


 ثالثاً: المعجم.

وردت في النص مجموعة من المفردات ذات الدلالة على العائلة مثل: أبي وأب وولدي وابن وجد. في تناص خارجي  مع معجم مفردات العائلة في سورة يوسف: أبيه، أبتِ، بنيّ، إخوتك، أبويك (29).ابنه، بنيّ، والديه، أمه (30).
 ووظف درويش في النص مجموعةَ مفردات تعبر عن دلالة الزمن مثل: غداً، بعد يومين، ليلتين، ليالي الشتاء، متى، غداً، نيسان، بعد، حين، ذات يوم. وضمت قصيدة لدرويش في ذات المجموعة بعنوان” قرويون من غير سوء” مجموعة من المفردات الدالة على الزمن مثل: عندما، الأبدية، منذ، بعدُ، الظهيرة، إبريل، غدنا، زمان، حاضر، وقت، أمس، تاريخه (31). في تناص داخلي بين نصوص درويش نفسه قد يكون تناصاً واعياً أو غير واعٍ.
ويلحظ حضور معجم من المفردات التي تجمعها دلالة البيئة مثل: البراري، جبل، سور، عكا، الشمال، التراب، حجارة، قلاع، حشائش، البيت، السهل، سياج، صبارة، مفتاحه، أبوابها.  في تعالق واقعي مع مكونات البيئة الفلسطينية والتاريخ والحدث الفلسطيني. وفي تناص داخلي مع العديد من نصوص درويش العامرة بعناصر البيئة والحكاية الفلسطينية مثل “قصيدة الأرض” (32) وفيها من مفردات البيئة الفلسطينية: الزعتر البلدي، البنفسج، الانتفاضة، الجليل، لوز، تين، السفرجل، القدس، حيفا، أريحا، زيتونة، البرتقال، يافا (33).

رابعاً: التركيب.

التراكيب التي وظفها درويش في النص تتناص مع تراكيب في فضاءات نصية أخر. فقد استعمل درويش تراكيب الأمر أو النهي بمعنى الأمر مثل: التصق، تذكر، كن ، اصعد، لا تخف. وتركيب لا تخف يعيد الذاكرة إلى التركيب القرآني:” لا تحزن إن الله معنا” (34) خاصة أنه مسبوق بتركيب: “وهما يخرجان من السهل”، الذي يحيل إلى التركيب القرآني: “إذ هما في الغار” (35) الوارد في ذات سياق التركيب القرآني الأول. وكذلك تركيب: اصعد يتناص مع التركيب القرآني: ” يا بني اركب معنا” (36) في قصة النبي نوح وابنه.
 والتراكيب من الضمير المنفصل الغائب والفعل المضارع مثل: “وهما يعبران سياجاً من الشوك”، و “وهما يخرجان من السهل”، و“هما يلهثان على درب قانا”، تعيد القارئ إلى الجملة القرآنية: ” وهي تجري بهم في موج كالجبال” (37) في سياق قصة نوح، وهي قصة سبق استحضارها في دراسة الصورة والبنية.

محمود درويش (1941- 2008)


التراكيب من سوف والفعل المضارع أو سين الاستقبال والفعل المضارع حاضرة في أسلوب درويش؛ “سننجو.. ونعلو..ونرجع.. وسيبقى على حاله.. وسوف تكبر”. وفي إطار استحضار قصة النبي نوح، نجد التراكيب من سين الاستقبال والفعل مثل: ” سآوي إلى جبل يعصمني من الماء” (38) و ” فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه” (39).
واستثمر درويش الاستفهام مثل: “إلى أين تأخذني يا أبي؟”، “ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبي؟”، و”لماذا تركت الحصان وحيداً؟”، “ومتى يا أبي؟”، في تناص داخلي مع نص له في نفس المجموعة بعنوان ( كم مرة سينتهي أمرنا) إذ يرد الاستفهام:“هل تكلمني يا أبي؟” (40) … وفي نص بعنوان (إلى آخري وإلى آخره) يقول: “هل تعبت من المشي يا ولدي”؟. (41)
و نعثر على تركيب ظرف المكان مع الفعل أو الاسم مثل: “هنا صلب”، “وحيث أقام”، “وفوق الحديد”، “وهنا وقع الانكشاري”، “وهنا جعل الماء خمراً”، “وهنا مر سيدنا”. في تناص داخلي مع نصه ( أيام الحب السبعة)؛ “هنا أضاء لك الليمون ملح دمي”، “وهاهنا وقعت ريح عن الفرس”.
ويحضر النداء؛ “يا ولدي”، “يا أبي”، “يا ابني”. والنداء مع مفردة ولدي أو أبي أو ابني استعمله درويش في نصه (كم مرة سينتهي أمرنا) ونصه ( إلى آخري وإلى آخره).
 وعلى صعيد التناص الخارجي، فإن تركيب النداء بالياء ومفردات ولدي وأبي وابني وبنيّ وأبتِ موجودة في القرآن الكريم؛ مثل وروده في سورة لقمان: “يا بني لا تشرك بالله” (42)، “ويا بنيّ أقم الصلاة” (43)، وفي سورة يوسف: ” يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكباً..” (44)، و” يا بني لا تقصص رؤياك على أخوتك”(45)، وفي سورة هود: ” يا بني اركب معنا” (46).

التحليل الثقافي للتناص في قصيدة محمود درويش ”أبد الصبار“.

إيقاع قصيدة درويش يقوم على أوزان البحر المتقارب. ويقول القرطاجني في منهاج البلغاء عن البحر المتقارب: ” للمتقارب بساطة وسهولة” (47)، وبنية القصيدة تستند إلى ما في إمكانية الحلم من سهولة وإلى بساطة الإيمان بالعودة ورجوع الحق، حد التسليم المنطقي. والقصيدتان اللتان افترضت الدراسة احتمال تناص إيقاع نص درويش مع إيقاعهما وهما ” روميات أبي فراس الحمداني” و”إرادة الحياة” لأبي القاسم الشابي، تلتقيان مع قصيدة درويش في رؤى الحلم بالحرية وحب الوطن والحنين إليه. والتوجه إلى مافي المقابلة من موسيقى قد يعكس رغبة في التوازن الداخلي وضبط إيقاع النفس الكاتبة الحائرة. وموسيقى التكرار تعبر عن روح غير واثقة لا تشعر بالأمان فتلجأ للتأكيد بالتكرار. والتناص مع العناصر الإيقاعية السابقة هو إفادة ثقافية خدمت وجود النص. وأيضاً تناص عناصر الصورة من استعارة وكناية مع حقول دلالية خارج النص مثل القرآن الكريم والثقافة المسيحية والتاريخ، هو فعل ثقافي خدم الأدب. والالتفات يشي بتعدد الذوات الكاتبة، وهو أمر قد يفسر فيض الرؤى متعددة الزوايا حول المأساة الواقعية الواحدة التي عاشها الكاتب نفسه مع غيره من الفلسطينيين فحملت ذاكرته فيضاً من الحكايا.
بنية النص موضوعها يرتبط بحدث واقعي، فالتناص الخارجي للبنية هنا مع سيرة النكبة الفلسطينية هو تعبير آخر عن الاتصال الثقافي للنص بحدث تاريخي واجتماعي وثقافي. العنوان يذكر الصبار وهو رمز ثقافي يمتد ليلامس واقع المأساة الفلسطينية بما تتاشبه به لفظته مع لفظة الصبر وبما يحمله وجوده من ألم الوخز، فالرمز غدا جزءاً من ثقافة المأساة التي عاشها الفلسطيني. واعتمدت البنية على السرد. فزادُ الفلسطيني الحكي، عامرةٌ به ذاكرته ويوثق به هويته ووجوده. فمحور حديث الأب والابن في طريق النزوح هو حديث واقعي يحيل إلى مشاهد واقعية شكلت ثقافة التغريبة.
وثمة بعد ثقافي لتوظيف درويش لمعاجم دلالات العائلة والبيئة والزمان. فما الذي وجه درويش للتعبير بهذه الألفاظ؟ لعله حنين شاعرِ مَنافٍ و تغريبات استعان بالبنية اللغوية ثم انفلت من قيدها إلى الطفولة ودفء المكان الأول، دفء الرحم وحنان العائلة. أما معجم الزمان فلعله ينبئ بضغط الزمان على حلم درويش الإنسان واستحثاثه للقادم الأجمل.
وفي جانب التراكيب؛ يعرِّي الاستفهام روح السؤال وإشاراته الثقافية في رؤيا درويش الإنسانية والشعرية وهو الباحث غير المتيقن من حتمية أي شيء. وقد يوصل تركيب ظرف المكان مع الاسم أو الفعل حضورَ المكان في ذاكرة الشاعر الإنسان، فكأنما المكان حضن الحدث وشاهده. وقد يكون في تركيب أداة النداء مع ولدي وأبي وابني إشارة إلى تتبع حنان الجذور ودفء العائلة، تعضّده ياء النداء تعبيراً عن الاحتياج. وقد تبين أن أكثر الأفعال التي استعملها درويش في نصه هي الأفعال المضارعة، وهذا لا يبتعد عن رؤيته التي تسكن مشروعه الشعري، التي تتضمنها مقولته التي تقارب الحكمة: أنا ما أكون غداً (48) أو أنا ما أكون و ما سأكون(49). إنها رؤية درويش الفكرية التي انطبعت في تجربته الشعرية الأخيرة إذ يوفق بين حكمة الأمل وواقعية العمل لخلق الوجود الذاتي. وفي تعالق نص درويش مع تراكيب النص القرآني اطمئنان واعٍ للتراث، وللروحانيات، لأقوى البيان وفق التقييم الثقافي المألوف.
فالتناص يتقاطع مع النقد الثقافي في الانفتاح على عناصر ومكونات ثقافية بالامتداد إليها لتعزيز فنية التعبير اللغوي، ويهتم النقد الثقافي بفهم وتفسير ما وراء عمليات الإفادة الثقافية ومن ضمنها التناص.

الخاتمة

عنيت هذه الدراسة بتحري أبعادٍ ثقافية محتملة للتناص بمختلف مظاهره في قصيدة محمود درويش ” أبد الصبار”.
وتمت مقاربة هذا المرمى عبر تناول العناصر الأسلوبية في القصيدة آنفة الذكر، ودراسة مظاهر التناص ومفردات النقد الثقافي فيها.
وكان البدء بدراسة الإيقاع الخارجي. حيث لوحظ تناص إيقاع القصيدة مع إيقاعات قصائد أخر للشاعر نفسه في المجموعة ذاتها فيما يجسد مفهوم التناص الداخلي. ووقفت الدراسة على احتمال تناص القصيدة الخارجي مع إيقاع روميات أبي فراس الحمداني وإيقاع قصيدة إرادة الحياة لأبي القاسم الشابي.
وفي التعريج على عناصر الإيقاع الداخلي، ظهر احتمال تناص درويش خارجياً مع القرآن الكريم والثقافة المسيحية وأحداث التاريخ.
في بحث البنية، بدا تناص القصيدة الخارجي مع تاريخ المأساة الفلسطينية وواقعها.
ولمست الدراسة في المعجم تناصاً خارجياً للقصيدة مع سورة يوسف، وتناصاً داخلياً مع معجم ألفاظ الزمن والبيئة الفلسطينية في قصائد لنفس الشاعر.
في التركيب، ناقشت الدراسة أسئلة التناص الخارجي للقصيدة مع التراكيب القرآنية، والتناص الداخلي مع تراكيب في نصوص أخر لدرويش في ذات المجموعة تحديداً.
ثم توجهت الدراسة إلى تحليل التناص في المظاهر الأسلوبية ثقافياً، ومناقشة أنساقه.
     إن تأثر الكاتب الواعي أو غيره بنصوص سابقة له أو لسواه والذي يمثله التناص بصوره المختلفة، يكشف جوانب مبهمة في فهم النص لا تستطيع القراءة البنيوية وحدها أن تضطلع بها. ويطرح التحليل الثقافي احتمالات تأويلية عميقة لدافع التناص لدى الكاتب الإنسان، الأمر الذي يجعل من تلقي النص عمليةً تتطلب إدراكاً أبعد من مستوى الدلالة اللغوية الواضحة.
~*~


1- ليون سمفيل، التناصية والنقد الجديد، ترجمة: وائل بركات، مجلة علامات، جدة، عدد أيلول 1996، 236
2- انظر: أحمد حسين خليل، نظريات الأدب المقارن الحديثة، 2005، دار الثقافة العربية، القاهرة، 50.
3- انظر : شجاع العاني، الليث والخراف المهضومة دراسة في بلاغة التناص الأدبي ، مجلة الموقف الثقافي، ع 17، السنة الثالثة، 1997، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 83، 84.
4- انظر: عبد الله الغذامي، النقد الثقافي، ط3، 2005، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 83، 84.
5- ديوان أبي فراس الحمداني، الحارث بن سعيد الحمداني (357ه)، رواية أبي عبد لله بن الحسين بن خالويه، 1979، دار بيروت للطباعة و النشر، بيروت.
6- القرطاجني، حازم، أبو الحسن الأنصاري (684ه)، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، ط2، 1982، تحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
7- أبو القاسم الشابي، أغاني الحياة، 1970، الدار التونسية للنشر، تونس.
8- محمود درويش، لا تعتذر عما فعلت، 2003، دار رياض الريس، بيروت.
9- محمود درويش، كزهر اللوز أو أبعد، 2005، دار رياض الريس، بيروت.
10- تزيفتان تودوروف، ميخائيل باختين: المبدأ الحواري، ترجمة: فخري صالح، ط2، 1996، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمان.
11- انظر: محمد لطفي اليوسفي، في بنية الشعر العربي المعاصر، 1985، دار سراس للنشر، تونس، 142.
12- محمود درويش، لماذا تركت الحصان وحيداً، 11.
13- المصدر السابق، 58.
14- المصدر نفسه، 82.
15- محمود درويش، لماذا تركت الحصان وحيداً، 103
16- أبو القاسم الشابي، أغاني الحياة، 240.
17- محمود درويش، لماذا تركت الحصان وحيداً، 40
18- المصدر السابق، 37، 39.
19- المصدر نفسه، 84
20- المصدر نفسه، 19
21- المصدر نفسه، 45، 47.
22- المصدر نفسه، 99.
23- ديوان أبي فراس الحمداني، 22.
24 – المصدر السابق، 162.
25- المصدر نفسه، 162.
26- محمود درويش، لماذا تركت الحصان وحيداً، 146،147.
27- جريدة الدستور ، الملحق الثقافي، عمَّان، ع 13865، 24 شباط 2006،  ص 2.
28- انظر: تزيفتان تودوروف، ميخائيل باختين: المبدأ الحواري، المقدمة.
29- انظر: سورة يوسف، الآيات 4-6
30- انظر: سورة لقمان، الآيات 13- 14
31- انظر: محمود درويش، لماذا تركت الحصان وحيداً؟، قصيدة قرويون من غير سوء، 24-31.
http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=64871- 32
33- المرجع السابق.
34- التوبة، 40.
35- التوبة، 40.
36- هود، 42.
37- هود، 42.
38- هود، 43.
39-  هود، 36.
40- انظر: محمود درويش، لماذا تركت الحصان وحيداً، قصيدة كم مرة سينتهي أمرنا، 37
41- انظر المصدر السابق، قصيدة إلى آخري وإلى آخره، 40.
42-  لقمان، 13.
43-  لقمان، 17.
44-  يوسف، 4.
45-  يوسف، 5.
46-  هود، 42.
47- القرطاجني، حازم، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، 64.
48- محمود درويش، لا تعتذر عما فعلت، قصيدة لا شيء إلا الضوء، 44.
49- محمود درويش، كزهر اللوز أو أبعد، قصيدة منفى(4)، 187.

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...