⏫⏬
تقديم :يعد جبران خليل جبران رائد الرومانسية في الأدب العربي الحديث ، ومن يطالع شعره يحس بنبرة رومانسية يتكرر صداه في كل
قصيدة بنظرة سوداوية لهذا الوجود ومثالية مطلقة للغاية ، حيث لا تقاليد ولا عقائد ولا طبقات تؤدي إلى الإختلاف ، إنام يسودها عدل وجمال، وسعادة تولدها الحرية والإنطلاق .
فسعى جاهدا على إخراج الأدب العربي من الجمود الذي تتخبط فيه عصورا طويلة ، فأوجد اللغة الإيحائية بعد أن كانت إيضاحية، وروحية بعد أن كانت معجمية . فهاجس التجديد الذي تغلغل في أعماق جبران ، كان الدافع الذي يحركه نحو الإنطلاق والثورة على المألوف ، ومن ثمة التفرد وإبداع ما هو جديد ، فحملت جل قصائده لواء الثورة والتحرر من القيود المكبلة للطاقات الفكرية.
وقد بين أدونيس الصور التي أتى عليها الشعر في النصف الأول من القرن الماضي . فحصرها في ثلاثة صور الأولى : هي التقليد والسلفية، والثانية كانت متنكرة بدفعة ثورية تجديدية في المضمون والشكل معا . أما الصورة الثالثة فتتأرجح بين رومنطقية الكآبة حينا والغضب حينا آخر من جهة ، ورومنطيقية التآلف الشكلي التجميلي من جهة ثانية .
وقد اتجه الشعر في الصورة الثانية في نتاج جبران في مناخ ثوري أخلاقي صوفي يحوله إلى فعل حياة وفيه قشعريرة غنائية متشبعة بلهب التمرد على الواقع ، التطلع إلى واقع أكثر سموا ، فجبران من بدايته مسحور بهاجس التجديد والتفرد ، هاجس أن يبدع أعظم أثر غربي في وقته (2) .
وقد بدت ملامح الرومانسية متجلية في شعره فتمخضت عنها :
النزعة العاطفية :
وما احتوته من حب وألم ، حب الحياة والحرية والأمل ، والألم من وخزات هذا الوجود الظالم المستبد فاحتوى شعره : الحب : بمعانيه المتميزة ، ومن يتصفح قصائده يلمح أن الحب في قاموسه له مدلولات جديدة تفرد بها عن غيره فكان عنده : - وهم لا يدوم ، فهو كحلم يزول بحضور العقل . وهذا ما تقوله قصيدة "بالأمس" (2) :
إنـما الـحب كـنـجـم فـي الـفـضــاء نــوره يـمـحى بـأنـوار الـصـبـاح
وســرور الــحب وهــم لا يــطـول وجــمـال الـحـب ظـل لا يـقـيـم (3)
– الحزن والألم :
" وقد انتابته مشاعر سوداوية كثيرة ما دعته لنشدان الموت والرغبة في احتوائه "() ، فشاخت نفسه وهو في عز شبابه ، فعظمت أحزانه ونسجت على آماله خيوط اليأس والحزن فيقول متحسرا على روحه في قصيدة " بالأمس" :
شاخت الروح في جسمي وغدت لا ترى غير خيالات السنين
فإذا الأميال في صدري فشت فبعكازها اصطباري تستعين
هذه المشاعر السوداوية الداخلية في أعماقه جعلته يتجاوز ويقفز بفترة الشباب ليعيش آلام ويأس الشيوخ .
إضافة إلى معاني الحزن والألم التي غطت قصائد جبران ، نلمح نبرة الغربة ، فتمنى الموت للخلاص من هذا العالم العجيب ، يقول أيضا في قصيدة " بالأمس " :
تلك حالي فإذا قالت رحيل ما عسى حل به ؟ قولوا : الجنون
وإذا قالت : أيشفى ويزول ما به ؟ قولوا : سيشفيه المنون () .
وفي قصيدة " حرقة الشباب " عنوان لبوابة الحزن والألم وما فيها من وجع ، ووجع لكن ، هذه الفترة الحاملة لمعاني الفرح والمفعمة بالآمال المطلقة ، هذه الفترة التي التي لا ترى غير الجميل ، تضع لنفسها عالما تسوده السعادة إلا أن جبران أضفى معنى جديدا بجمعه لهذه الضدية في ثنائية معبرة تحمل دلالات كثيرة ، دلالة الحزن والأمل وما نتج عنها من أمل وقلبه وجع ، فيقع أسير العذاب يتخبط في الالام بوجود المسرات .
يتحدث بلسان جيله في قصيدة " حرقة الشباب " فيقول :
وغدت ايامنا قيد العذاب في وجود بالمسرات بخيل ().
وفي قصيدة " البلاد المحجوبة " أين ينتقي الكلمات الدالة على معاني الحزن ويزاوجها مع معاني الفرح ، فيقترن السقم وبشاعته بماء الغدير وحلاوته والسم ومرارته بلذة الكروم وسكرها ، والصبر وجماله بنيران اللهب المشتعلة ، فيقول :
قد أقمنا العمر في واد تسير بين ضلعيه خيالات الهموم
وشهدنا اليأس أسرابا تطير فوق متنيه كقبان ويــوم () .
هكذا كانت قصائد جبران معبرة عن معاني اليأس والحزن ، فبرع في نسيج قصائده خيوطها من فرح وأمل وألوانها أسى ، وألما فكان قويا جميلا بمفرداته وحزينا بمعانيه .
تشخيص الطبيعة :
في قصيدة " المواكب " أين فك قيوده من طقوس المدينة وفر محلقا في فضاء الحرية والعفوية في الغابة مقر الروح والجسد فلم يجد ما يجذبه في هذا المجتمع ويقربه إليه فوجد الطبيعة المكان الأمثل الذي بإمكانه أن يواسيه ويخفف عليه قساوة الحياة ، فكان مؤمنا بحقيقة واحدة هي هيامه بالطبيعة بكل ما فيها من توافق وانسجام فكانت الغابة عنده خالية من القطيع والرعاة يسودها نظام في تعاقب فصولها .
ويرى أن انسان الغابة يرفض الخضوع والأسر ، يسعى جاهدا لعتق عبوديته والتحليق مرفرفا في سماء الحرية يتحدث عن الطبيعة وجمال الغابة في قصيدة " المواكب " فيقول :
ليس في الغابة راع لا ولا فيها القطيع
فالشتاء يمشي ولكن لا يجاريه الربيع () .
وهذه الغابة التي يرسمها جبران في قصيدة " المواكب " يضفي عليها معنى الوفاء والإخلاص للحب فهو يدوم بزوال فترة الشباب هذه الفترة الحاملة لقوة الدفع نحو الحب وتنشيط خلجات النفس فينفي معاني الخداع والزور والحب الزائف عن غايته فيقول :
ليس في الغابات خليع يدّعي نبل الغرام
فإذا الثيران خارت لم تقل هذا الهيام () .
– الثورة :
كان هذا نتيجة لطبيعة جبران التواقة للحرية فجعلته يثور ويسعى لتكسير جميع القيود المكتملة لطاقاته وخير ما يوضح ثورة جبران وتطلعه إلى المستقبل من أجل الحرية ، رسالة إلى ماري هاسكل في ربيع 1913م حول الفن والحرية حيث يقول : إنّي سعيد جدّا إعجابك بالمعرض الدولي للفنّ الحديث ، إنّه ثورة واحتجاج وإعلان استقلال إنّ الصور في حد ذاتها ليست عظيمة ، بل إن الجميل منها قليل جدا ، غير أن روح المعرض بوجه عام جميلة وعظيمة معًا "() .
فقد شبه نفسه بكوكب لا يعرف الرجوع إلى الوراء فهو يستمر في اتجاهه نحو الأمام حاولوا إخماد ناره المشتعلة بداخله ، فلن يستطيعوا فوقودها يزداد يوم بعد يوم .
يرد على من يكن له العدوى في قصيدة " يا من يعاديني " بأن يتحداهم و يقف في وجههم فيقول : فنحن نحن ككوكب لا يسير إلى الوراء في النور أو في الظلام
إن تحبسوا ثلمة في الأثير لن تستطيعوا رتقها بالكلام ()
وفي قصيدة " يا نفس " يناجي نفسه بأنه لولم يذق طعم المرارة وينفض غبار الألم لعاش في حفر الذل والخضوع ، فمهر بصيرته غالي دفعه لتجرع السم فيقول :
يا نفس لولم أغتسل بالدمع أو لم يكتحل
جفني بأشباح السقام
لعشت أعمى بصيرتي ظفرا فلا
أرى سوى وجه الظلام ()
ولم يكتفي جبران بالثورة على التقاليد والشرائع المقيدة لحرية البشر وإنما على كل قيد يلجم لسانه أو أفكاره ، فثار على الأوزان الخليلية والتقيد بالبحور – الستة عشر – ونظام الأشطر في الأبيات ، وهذا ما نلمحه في قصائده حيث حاول الخروج على نظام القافية محاولا التجديد في شكل القصيدة العمودية ، فنحى منحى الموشحات في بعض كتاباته ، وهذا ما يتجلى في قصيدة " المواكب " وقصيدة " يا نفس " و" بالله ياقلبي " حيث يقول في هذه الأخيرة :
بالله يا قلبي استر جواك
ما الذي يضنيك غلا دواك ، فاعلم
الحب في الأرواح
قفل كخمرة في الكأس
ما بن منها ماء
و ما خفي أنفاس
بالله يا قلبي احبس عناك
إن ضخت الأبحار أو هدت الفلاك – سلم – ()
نلاحظ أنه ينتقل إلى البيت الموالي ولم يكمل معناه في البيت الأول ،كما حاول التجديد من خلال التنويع في القافية ، وهذا ما يلاحظ على جل قصائده ، ففي قصيدة " الجبار . " مثلا يقول :
في ظلام الليل ، يمشي مبطئا و هو مثل الليل هولا قد بدا
وحده يمشي كأن الأرض لم تبر غلاه عظيما سيدا
ثم يقول :
ويدوس التراب مرفوعا كما تلمس الأطلال أطراف السحاب
فكأن الجسم في أثوابه من شعاع و سديم و ضباب() .
الحرية :
ويرى في قصيدة " المواكب " أن الحر يقع أسيرا نتيجة لأفعاله وهو لا يدري فيكبل ويحبس في سجن حبك قضبانه بنفسه فإذا ما حاول الانحلال والانسلاخ عن أنباء بلدته يقع أسيرا تحت رحمة من يقلده ويراه مثاله الأعلى فهو حر الجسد لكنه أسير الفكر والرأي ()وهذا ما نجده في قوله :
والحر في الأرض يبني في منازله سجنا وهو لا يدري فيؤسر
فإن تحرر من زبناء بجدته يظل عبدا لمن يهوى ويفتكر
فهو الأديب ولكن في تصلبه حتى وللحق بطل لمن هو البطل ()
وفي قصيدة " الشحرور " يتمنى لو كان مثله يغرد محلقا في فضاء الحرية بلا قيد وسجون فينادي الشحرور قائلا :
أيها الشحرور غرد فالغنا سر الوجود
ليتني مثلك حرا من سجون و قيود ()
فكانت الثورة هي الوابل الغزير الذي سقى بذرة الحرية في أرض جافة فانفلقت ونمت وحلت ظاهرة فوق سطح الأرض معلنة شعار الحرية بعدما عتقت نفسها من قيود التربة المظلمة .
هكذا كانت قصائد جبران ممسوحة بمسحة رومانسية يسودها شعار الثورة ونشدان الحرية ويرى جبران أن الشاعر لا بد أن يكون حرا ليعبر بكل تلقائية عن أفكاره و" الشاعر ليس إلا فنانا وحسب له حريته الكاملة ، لأن الانسان قد يتمتع بالحرية دون أن يوصف بالعظمة ولكن بمقدوره أن يكون عظيما إذا لم يكن حرا"() .
– في النثر :
بدت ملامح الرومنسية متجلية في أعمال جبران الشعرية فكان له مفهوما خاصا للشعر ، وانفردت آراؤه لتمييز مفاهيمه الجيدة التي أضافها على كل من الحب والألم و الثورة والحرية والطبيعة والغربة .
وهذا ما ستجده في كتاباته النثرية أين برع قلمه في رسم شخصياته المتميزة والتي يغلب على طابعها :
النزعة العاطفية :
تجلت من خلال الحب والألم " فمن يطالع نتاج الأدباء الرومنطقيين يخرج بخلاصة لا تشوبها شائبة وهو أ، الحب عندهم أقوى العناصر الذاتية والمشاعر . على الإطلاق () .
ويعد جبران مثال الأديب الذي ملأ الحب قلبه ، وفاض عنه إلى جمنيع الكائنات التي حوله ، فكان في جميع كتاباته متدفق العاطفة ، فجّر في شخصياته من مفاسد المجتمع ، فالحب كما يقول : " لا يفسد المرأة ولا الرجل وإنما يضيء النفس بشعلته المقدسة ، شعلة الحنان إلى المطلق والشوق إلى اللانهائي " .
فهو على حد تعبير جبران : " حب لا يعرف الحسد لأنه غني ولا يوجع الجسد لأنه في داخل الروح ، ميل قوي يعمر النفس بالقناعة مجاعة عميقة تملأ القلب بالاكتفاء " () .
فرسم شخصيات رومانسية عاطفية تميزت بمناشداتها للحب كمبدأ سامي طاهر عفيف من دناسة وحل الواقع القاسي فبلغ تقديس الحب ذروته ، حيث ارتقى إلى درجة المتصوفين ، وهذا ما بدا في قصته " الأجنحة المتكسرة " حيث أعتق الحب لسانه فتكلم ومزق أجفانه فبكى ، وفتح فتنهد واشتكى .
فكان جبران يذهب لزيارة سلمى ، مثل متصوف تجذبه السماء إلى مسارح الرؤيا وكان عندما بيلتقيها يخلد ساعات طويلة إلى الصمت ، أبدا لذة فائقة في الهيام بالنظر وتأمل ذلك الوجه الذي يراه كانه السماء بآفاقها الساحرات " ()
من هنا أضفى جبران مفهوما جديدا للحب فلم يعد ذلك الحب الذي يرى المرأة جسدا فقط إنما الحب الروحي ، حيث تعانق الأرواح لا الأجساد ، وهذا ما يقوله العاشق لسلمى في " الأجنحة المنكسرة " عندما تطلب منه أن لا يتوقف عن حبها تقول سلمى : " أريدك أن تحبني ، أريدك أن تحبني إلى نهاية أيامي أريدك أن تحبني مثلما يحب الشاعر أفكاره المحزنة " .
فيجيبها بقوله : سأفعل كل ذلك يا سلمى ، سوف أجعل روحي غلافا لروحك ، قلبي بيتا لجمالك وصدري قبرا لأحزانك ، سوف أحبك يا سلمى محبة الحقول للربيع () .
إلا أن تجربة الحب في " الأجنحة المنكسرة " كانت تتويجا لمحاولات سابقة في هذا الشأن وقد استهلها بكتاب " عرائس المروج " فبدت ملامح الحب الصوفي " الحب الروحي " ظاهرة في شخصيات هذه القصة التي انصهر فيها جسد الحبيبين وأصبحا يلتقيان روحا لروح .
يقول : " مشى الحبيبان بين أشجار الصفصاف وحدانية كليهما لسان مانطق بتوحيدهما ، ومسمع منحت لوحي المحبة ، وعيني مبصرة مجمد السعادة تتبعها الخراف مرتعية رؤوس الأعشاب والزهور ، وتقابلهما العصافير من كل ناحية مرتلة أغاني السحر ! " () .
فأخذ الحب في مفهوم جبران مدلولا جديدا ارتقى فيه من الحب العادي المعهود في قاموس البشر الذي ينتهي لا محالة للجسد ، على الحب روحي فيفيض القلب حينها فيكون به وجدان العاشق فيتوجع ويتألم على من وقع في شباك قلبه ، فأثرت شخصياته السواء وشاحا والكآبة فراشا والحدة خليلا ، فتمنى الموت ليخلصها من مرارة العذاب وهذا ما تجده في " دمعة الابتسامة " حتى يناشد الموت قائلا :
" تعال يا موت وأنقذيني فالأرض التي تخنق أشواكها أزهارها لا تصلح للسكن معلم وخلصني من أيام الحب عن كرسي مجده وتقيم الشرف الغالي مكانه خلصني يا موت فالأدبية أجدر المحبين من هذا العالم هناك يا موت انتظر حبيبتي وهناك أجتمع بها " () .
فكان الموت بالنسبة له الخلاص أو المنقذ الذي يطل من وراء نافذته على عالم الحب عالم اللقاء بالحبيبة المفقودة في هذا العالم المظلم الموجع بأشواكه السامة .
1 – الألم :
ساهم الألم في بناء موضوعات قصص جبران فأفرد له عنوانا في كتابه " النبي " يقول واصفا الألم ، إن ما نشعر به من الألم هو انكسار القشرة التي تغلق إدراككم ، وكما أن القشرة الصلبة التي تحجب الثمرة يجب أن تتحطم حتى يبرد قلبها من ظلمة الأرض إلى نور الشمس " () .
فيرى في الألم بداية للظهور فالوجع الذي نحس به نقطة انطلاق لرفع هذا الواقع والثورة عليه ، ومن ثم نشدان الحرية وعتق القيود المكبلة لأفكارنا ، وقد اتخذت شخصياته الألم وشاحا مرصعا بجواهر الحزن والأسى ، متوجعة بلدغات الجور وسهام الفراق فبدا في نبرات صوتها صدى اليأس ومرارة الظلم فيقول على لسان مارتا " : نعن أنا مظلومة أنا شهيدة الحيوان المختبئ في الإنسان أنا زهرة مسحوقة تحت الأقدام " () .
كما تصاعدت من وجدان شخصياته تنهيدات ملتهبة بنار الفراق فيقول في " دمعة وابتسامة " ثم سمعت صوتا رقيقا تقاطعه زفرات أنفاس ملتهبة ، صوت عذراء لطيفة أودعته كل ما في جوارها من حرارة الحب ومرارة الفرق وحلاوة التجلد تقول الوداع يا حبيبي و في الموسيقى يقول . يمثل تعريف الحبيبين " () .
فكانت نار . مشتعلة في قلب العاشقين عندما أعلنت سلمى الفراق في " الأجنحة المنكسرة " ليقول على لسانها " فأجابت و الدمع يراود أجفانها لا ياحبيبتي إذا روحي لم تطلب فراقك لأنك شطرها ، ولا ملت عيناي النظر إليك لأنك نورها ، لكن إذا كان القضاء قد حكم علي أن أسير على عقبات الحياة مثقلة بالقيود وبالسلاسل فهل أرضى أن يكون نصيبك من القضاء مثل نصيبي () .
– تشخيص الطبيعة :
إذا كانت الطبيعة خرساء صماء فإن الأديب الرومانسي حاول جاهدا أن ينطقها ويتحاور معها فنجده مرتميا في أحضانها شاكيا إليها همومه وظروف دهره وذلك بعد أن لاذ بالفرار من ضوضاء المجتمع فرمى بأثقاله إليها وهو واثق بأنها ستحتضنها لأنها لا تعرف لغة الرفض .
وهذا ما حاول أن يبرزه جبران من خلال مؤلفاته فعشق وطنه حتى الهيام ن فجعله يتغنى بمفاتن الطبيعة وجمالها فانتقى ما في جعبته أزهى الألوان وابهاها لرسم أحلى لوحته لأطهر أرض في هذا الوجود ، الأرض النقية التي لم تطأها دناسة يدر الأشرار فكانت بالنسبة له ملجأ ، براءة وطهر تتجلى فيها معاني الوفاء والإخلاص والحب والأمل وتنتقي عنها معاني الظلم والقيد والألم في كتابة " البدائع والطرائف " يصف الأرض فيقول " ()
ما أجملك أيتها الأرض وما أبهاك
ما أثمن امتثالك للنور وأنبل خضوعك للشمس
فكانت الأرض عروسا حسناء فاتنة بمحاسنها الرائعة جذابة بانسجام مظاهرها داعية إلى التجوال بين كلاها فكانت دعوة للعشاق والمحبين ليظفوا على حبهم عقدا جواهره الطبيعة الخلابة فيقول في كتابه " دمعة ابتسامة " في حياة الحب .
هلمي يا محبوبتي نمش بين التلال فقد ذابت الثلوج هبت الحياة من مراقدها وتمايلت في الأودية والمنحدرات ، يسري معي لتتبع آثار أقدام الربيع في الحقل البعيد ن تعالي لنصعد إلى أعلي . ونتأمل تموجات اخضرار السهول حولها () .
كما حاول استنطاق الجماد وإيجاد لغة شعرية حاملة في ثنايا خطابها لمعاني الحس والجمال ، فيقول في الحديث الذي دار بين وريقة عشب ووريقة خريف في كتابه المجنون : " وعندما جاء الربيع أفاقت من نومها فإذا بها ورقة عشب ثم أقبل الخريف ووافقتها هجة الشتاء فنشر الهواء حواليها أوراق الأشجار الذابلة فتلملمت في ذاتها قائلة : أؤمن أوراق الخريف الثقيلة ، إنها تحدث بسقوطها جلبة وضجيجا فيتعثر أحلام شتائي () .
فكان الحديث الذي دار على لسان الأوراق شيقا فيه مدعاة لعتق صراح الخيال في فضاء المجردات لنرى عشبة تتحدث وتشعر هذا كسر للمالوف بأسلوب جديد وذلك بألسنة مظاهر الطبيعة وهذا ما يراه جورج غريب حيث يقول : " ثار جبران على التقليد والتكلف في المجتمع ، هكذا ثار على التقليد والتكلف في الكتابة ، على اللغة وأساليبها العتيقة ، أراد من الأدب أن يشاركنا الحياة أن تخطي المحنطات من الأساليب إلى الرحابة والصفاء فالمعجمات والقواميس وكتب اللغة لا تصنع الأديب بقدر ما تصنعه الطاقات الفاعلة والنواميس الخيرة ، جبران تحرر من المألوف ودمر المتاحف على رؤوس أصحابها " () .
وقد سلك جبران طريق لم تعرفها الكتابة العربية في أنه هدم الذاكرة وبقا الاشارة فكان بذلك بداية ولذلك فإن المسـألة ماهي الالحاح على نوعية هذه البداية وجبران من هذه الشرفة لا يتحدد إلا بالطموح الكامن في نتاجها إنه يتحدد بتغيرلته لا ببناءاته ، فهذه المتغيرات لا توحي كذلك بتجديد الأسس ذاتها فلم تعد الكتابة العربية بدء منه تتأمل ذاتها في المرايا اللفظية ، بل أصبحت تنغمس في العذاب والبحث والتطلع ومن هنا امتلأت بالحيوية وأصبح القراء الذين كانوا يتغنون بالألفاظ يتغنون بقوة التجديد والتغيير " () .
هكذا حاول جبران الخروج من قوقعته النمط الذي ساد الأدب العربي حقبة طويلة ، فعمل على جمود الفكر ولم يخلق ما هو جديد ، فكان جبران شمعة مضيئة أنارت الأدب العربي من الظلمات المخيمة عليه .
وقد اجتهد جبران في خلق عالم شخصياته بأن أوجد لها حبكة تتلائم وتنسجم مع أفكاره فكان الانتقاء أحدث قصصه صلة مباشرة مع نفسيات شخصياته الثائرة الرافعة لشعار الحرية والمجنة الميالة في اختصاصات الطبيعة فكانت مواضيع كتاباته قاموسا للمجنة ودستورا في الثورة ومرجعا للحرية .
فتلمحه يقدس الحب ، فينسخ قصص توافق هاته العاصفة الجياشة المفعمة بمعاني العشق والهيام فينتهي أحلى واعذب ماجاءت به خواطره من كلمات مرهفة حساسة تفدي موضوعة فيزداد حيوية ونشاط وهذا ما حاولت قصة رماد الأجيال والنار الخالدة " في عرائس المروج " أن تؤكده بعرض أحداثها والتي تمحورها موضوعها عاصفة الحب وناره المنشعلة في وجدان العاشق حين فقد حبيبته فظل حبها جمرة مشتعلة عبر العصور .
كما سعى لزرع بذور الثورة فعمل على إصلاح تربيته بان أوجد مواضيع تساهم في تسميد أرض البور فكانت قصة " خليل الكافر " حيث تدور أحداثها حول بطل تغذت أفكاره من تعاليم يسوع فصب نقمته على الرهبان الذي تنكروا للمسيحية فوقفوا له بالمرصاد فعذبوه وطردوه .
وفي " دمعة الابتسامة " أين اتخذ من الطبيعة مادة لتشكيل مواضيع قصته فكان يحن إلى ذكرياته بشمال لبنان وهو يمشي بين الحقول وقد ذاب الثلج عنها وهو يفترش الأعشاب في الصيف ويقترب بجانب حبيبته فتصفوا حياة الحب وينسى مآسي الوجود " () .
– الثورة :
كانت موضوعات جبران حاملة للواء الثورة ورفض النمط والنهوض بهذه الأمة من الخمول الذي حجب أفكارها فتجمدت آراؤها فنهضت شخصياتها ضد سلطة رجال الدين والاقطاع لتهديم شرائعهم التي تغلغلت في شرايين الأمة فقد ثارت على قومها ومجتمعها و تحولت ثورتها مع شعور قاس بالمرارة والأسى حتى كانت تنتمي لو لم تكن شيئا يذكر في هذا المجتمع كي لا تعيش ، الصدام المرير مع أبناء مجتمعاتها كما ثارت على إقطاعية الأشراف وامتيازات الحكام وسيطرة رجال الدين وتقاليد المجتمع وقيمه ، " وأدبه حافل بهذا المعاني ومثال ذلك حكاية يوحنا المجنون في كتابه " عرائس المروج " فقد صب نقمته على رسل المسيح () .
وقد اتخذوا من الأرواح المتمردة " قصة " وردة الهاني ، هذه لشخصيته التي يثور ويندد من وراء لسانها على القيود الاجتماعية السالبة لحقوق الأبرياء فيقول : " فويل لمن يقضي وويل لمن يدين أنا كنت زانية وخائنة في منزل رشيد نعمان لأنه جعلني رفيقة مضجعه بحكم العادات والتقاليد قبل أن تخيرني السماء قريتة له بشريعة الروح والعواطف وكنت دنسة ودنيئة أمام نفسي وأمام الله عندما كنت أشبع جوفي من خيراته ليشبع ميوله من جسدي ، أما الآن فصرت طاهرة نقية لأن الحب قد حررني " () .
فكانت سعادة المرأة مبنية على الحب وحده ىفعليها أن لا تعيش تلك الماساة الأيمة المكتوبة بالدماء عندما تكون بين رجل تحبه بارادة السماء ورجل تلتصق به بشريعة الأرض ، عليها أن تخرج من جحيم هذه الحرب المائلة بين شرائع الناس وعواطف القلب المقدسة وأن تلتحق بحبيبها وليس التحاقها بحبيبها خيانة أو زنى وإنما بقاؤها في كنف رجل لا تحبه هو الخيانة والزنى بكل مافي الكلمتين من معنى " () .
فيقول على لسان وردة : " هذه هي العقبة التي سرت عليها حتى بلغت قمة سعادتي ، لولا جاء الموت واختطفني ، الآن لوقعت روحي أمام العرش الأعلى بلا خوف ولا وجل بل بفرح وأمل ، وانحلت لفائق ضميري ، أمام الديان الأعظم وبانت نقية كالثلج لأنني لم أفعل غير مشيئة النفس التي فصلها الله عن ذاته ولم أتبع نداء القلب وصدى أغاني الملائكة "() ، هكذا كانت كتابات جبران تطالعنا صورة مشرفة لشخصيات صافية صفاء ندى الفجر وطاهرة تواقة للحب إلى ما لا نهاية .
وفي هذه الصورة تبدو شخصياته ثائرة متمددة فيرفع صوت المظلومين ويدافع عن الضعفاء ويهاجم مؤسسات الاستغلال والفساد . فالمحبة عنده محور الشريعة الصحيحة وقاعدة لكل صلاح وخير وجمال أحلق على أجنحتها إلى عالم فوق المادة والطمع ، حيث يجد متعة ولذة في العطاء والإيثار أو كان يعطيه دم قلبه – شرفه وقيمته بين أفراد المجتمع – كما و قف جبران مدافعا عن المرأة وحقها ونصرتها من وحي العبودية وقساوة ، لتثور شخصياته على مستعبديها ومهيني كرامتها وساليبيها انسانيتها فكانت أفصوحاته تندد بالظلم الاجتماعي الذي يلحق بالمرأة الفقيرة مثل ( مرتا البانية ) والظلم الذي لا يرحم المرأة الغنية ( سلمى كرامة ) فندد بالظروف القاهرة التي تضع جسد المرأة أكلا شهيا للذئاب الجائعة .
كما وقف بجتنب المرأة التي تجنح إلى حبها وتتبع من يهواه قلبها وتترك من يعاشر جسدها ، فكانت قصة ( وردة الهاني ) خير مثال على المرأة التي تضحي بشرفها ومكانتها في المجتمع في سبيل المحافظة على حبها ومن سكن قلبها .
هذا ما حول أن يؤكده في أقصوصة " مضجع العروس " فتمرد العروس على شريعة الزواج لتهرب من عرسها وتعود إلى أحضان حبيبها فتفر من سلطة المجتمع وشرائعه بقتل من سكن وجدانها وقتل نفسها حيث تقول : ثم صرخت من هي التي تتمتع بحبك من بعدي وأي قلب يسكن غير قلبي !
لفضت هذه الكلمات وانتشلت من بين اثوابها خنجرا سنينا وأغمدته بصدره بسرعة البرق فهوى وسقط على الأرض كغصن قصفته العاصفة ، حينئذ رفعت العروس خنجرها نحو العلا ، ونظير ظامئي يقرب حافة الكأس إلى شفتيه اغمدته بعزم في صدرها " () .
ويجعل جبران من خليل الكافر نبيا يخلع عليه وشاح الفكر والتأمل محببا في اضطهاده كالشهداء كبير في إيمانه كالقديسين ثائرا قادرا على تحقيق مجتمع المساواة والعدالة فهو ينقل تلك القرية التاعسة من الفقر على الكفاية ومن العبودية على الحرية ومن الشقاء إلى السعادة () .
وجبران في هذه القصة لا يكتفي بمهاجمة رجال الدين ومحاربة سلطتهم في المجتمع بل تتجاوز رؤاه على أن الفساد لا يقتصر على الأعمال الشنيعة لرجال الدين ، بل هناك تآمر وتحالف قائم بينهم ورجال السلطة ( الحكم ، الإقطاعيون ) في البلاد فيعمل على توجيه سهامه إلى هؤلاء المتحالفين المتخادعين الذين يتآمرون مع رجال الذين لتخريب مستقبل الأمة فيقول : " الأمير يقبض على ذراعي الفلاح ، المسكين والكاهن يمد يده إلى جيب ، والحاكم ينظر إلى أبناء الحقول عابسا والمطران يبتسم نحوهم مبتسما وبين عبوس النمر وابتسامة الذئب يفر القطيع " () .
فيشبه الصورة التي يتآمر فيها الحاكم مع المطران لسلب الرعية حقها بالوحوش في الغابة وكيف تستولي على القطيع المسلوب الإدارة بصورة همجية فيها من الوحشية ما يعجز اللسان عن التعبير ، كما يثور جبران على قساوة الرهبان والأمير إذ يقول بسخط وألم عميقين وهو يتألم حيث الضحايا في " صراخ القبور " : وقفت متنهدا ولولا مست شعلات تنهيدات أشجار ذلك الحقل لتحركت وتركت أماكنها وزحفت كتائب وحاربت الأمير وجنوده وهدمت بجذوعها جدران الدير على رؤوس رهبانه " () .
إلا أن الثورة الجبرانية ليست إلا انفعالات هوجاء لم تطلق من أرضية واقعية ، ورؤية واضحة في العلاقات الاجتماعية كعلاقات تناقض لا تحل إلا بالقوة الصداع الطبقي ، وأن هذا الكلام لا يخرج عن نطاق الميتافيزيقيا لا يمكن حل مشكلاتها إلا حلا وهيما ، سواء اتخذ هذا الحل شكل الحد أو النبوءة أو غيرها () .
هذا ما أراد جبران الثائر على التسلط والفساد والمدافع عن المظلومين والضعفاء من وراء صدى أصوات شخصياته الثائرة أن يعيد للمظلومين حقوقهم المسلوبة ويقف في وجه السلطة الغاشمة .
*د لامية مراكشي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- قائمة المراجع :
40- ياسين الأيوبي : مذاهب الأدب معالم وانعكسات ، ص 283 .
- أحمد خليل : المعرفة الاجتماعية في أدب جبران ، ط1 ، دار ابن خلدون ، بيروت ، 1981 م .
أونيس علي أمحمد سعيد : الثابت والمتحول ، بحث في الأتباع والإبداع عند العرب صدمة الحداثة ، ط4 ، دار العودة ،بيروت 1993.
- أونيس علي أمحمد سعيد : مقدمة الشعر العربي .
- إيليا الحاوي : الرومانسية في الشعر الغربي والعربي .
- جبران خليل جبران : المؤلفات الكاملة عن الإنجليزية ، تقديم جميل حير ، ط1 ، دار الجيل ، بيروت ، 1994 .
- جبران خليل جبران : المؤلفات العربية الكاملة .
- جورج غريب : لحظات جمالية .
- واصف أبو الشباب : القديم والجديد في الشعر العربي الحديث .
- طنسي زكا : بين نعيمة وجبران ، ط1 ، مكتبة المعارف ، بيروت ، 1971 .
- ياسين الأيوبي : مذاهب الأدب معالم وانعكسات.
- خليل أبو جهجه : السورية العربية بين الابداع والنقد والتنظير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق