اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

الهارب من الموت ... للأديب عبد السلام العجيلي

بدأ الأستاذ بدر الدين يومه بداية سعيدة. فقد ألقى عند نهوضه من النوم نظرة على المرآة ثم بصق عليها فجرّ ذلك شجاراً بينه وبين الست فلومينا صاحبة البنسيون الذي يسكنه. فهي تزعم أنه رجل قذر لوّث مرآتها ببصقة صفراء مما خالطها من بقايا التبغ الرخيص وآثار البلغم. أما هو فيدعي أنه لم يبصق على مرآتها بل بصق في وجهه هو حين طالعه في المرآة.. أليس من حقه أن يبصق في وجهه، ولا سيما اذا استصبح بمثل هذا الوجه من يوم يريد له أن يكون يوماً سعيداً؟
وكان الأستاذ بدر الدين قد عين أن يكون هذا اليوم أسعد أيام حياته بأن يتخلص من كل همومه دفعة واحدة. لذلك فقد كان هناؤه يفوق الوصف وهو يردد بينه وبين نفسه الخطة التي قرر أن يطوق بها حياته الشقية حتى لا تفلت من المصير الذي أراده لها. ولم يتمالك نفسه من اعجابه باحكام خطته فوضع اصبعه في أحد الخروق التي كانت تزين قميصه البالي فوسعه حتى أتى على آخر القميص، ثم لبس القميص كذلك كأنه يتحدى به الحاجة التي كانت تضطره إلى ستر هذه الخروق بألف وسيلة ووسيلة. وكانت فكرة التخلص من الحياة قد راودته مرات عديدة ولكن أساليب الخروج من الدنيا لم تكن تعجبه، إذ كانت تافهة في أنواعها وغير مضمونة في نتائجها. وما كان يعدل به عن الانتحار بالرصاص إلا خوفه من أن تطيش يده عن المقتل، ولا عن شنق نفسه بحبل إلا خوفه من انقطاع الحبل تحت ثقله الذي لم يزل رغم صيام الفاقة مرموزاً إليه برقم محترم، ولا من القاء نفسه في الماء إلا خوفه ان يتغلب عليه حب الحياة فيصيح ويستنجد، فيصيبه من كل ذلك ما هرب منه، وينضاف إلى شقائه بحياته شقاؤه بالسائلين والمستفسرين والقائلين والمؤولين. على أنه في هذه المرة قد أعمل فكره وأحكم أمره فوجد أن أقرب طريق إلى الموت وأضمنها أن يجمع طرق الانتحار الثلاث هذه: يضع رقبته في أنشوطة معلقة بتلك الدوحة الضخمة النامية على جرف النهر الصخري، وفي اللحظة التي يرفع بها رجليه عن الجرف ليتدلى بالحبل، يطلق الرصاص على رأسه. وهكذا يموت مضروباً بالرصاص ومشنوقاً بالحبل، واذا كان غصن الدوحة دون ما يحتمل جثته فسيموت بحمد الله وفوق ذلك غريقاً بماء النهر البعيد الغور السريع الجريان!
وخرج الأستاذ بدر الدين من منزل الست فلومينا يحمل في حقيبته البالية الأدوات التي أعدها في الليلة السابقة ليموت ميتته المثلثة: حبلاً غليظاً ومسدساً محشواً بالرصاص هو كل ما بقي لديه من آثار زعامته البائدة. وكان وهو في طريقه إلى الجرف الصخري والدوحة المطلة منه على النهر يفكر بالحياة التي سيقهرها بعد لحظات وفيما ينتظره بعد الحياة. وكانت فضيلة الأستاذ بدر الدين الوحيدة الباقية له من مجموعة فضائله السابقة أنه رجل مؤمن فكان واثقاً أن ما اقترفه في حياته من ذنوب سيجعل مصيره النار. وكان في قرارة نفسه راضيا بهذا المصير لأمرين: أولهما أنه ذاق من البرد في سنوات عديدة ما جعله يرى في جهنم نعيماً، والثاني أنه كان يعتقد أن الست فلومينا امرأة صالحة سيكون مصيرها إلى الجنة، ولا يريد أن يجتمع بالست فلومينا مرة أخرى ولو في الجنة…
وعندما أصبح الأستاذ بدر الدين خارج المدينة وبلغ الجرف الصخري فتح حقيبته وبدأ يعد أدواته. ولاحت له على مسافة قريبة جماعة من المتنزهين بين رجال ونساء قد افترشوا الأرض قرب الضفة وأخذوا يمرحون ويلعبون، بينما انصرف بعضهم إلى تهيئة ما يشبه أن يكون غداء لهم. وأخذ وهو على الشجرة يربط الحبل الغليظ في أحد الفروع القوية، أخذ يفكر بما سوف يصيب هؤلاء القوم حين يبصرون جثته متدلية بعد دقائق من الشجرة فوق الجرف الصخري. ونزل عن الشجرة وجاء بصخرة وقف فوقها، وبعد أن أحكم وضع الأنشوطة في عنقه قبض بيده اليمنى مسدسه وقربه من صدغه ورفع الأخرى محيياً فيها جماعة المتنزهين. وفي لحظة واحدة رفع قدميه عن الصخرة فتدلى منها جسمه فوق النهر، وأطلق الرصاص على صدغه، فدوى صوته في أذنه اليمنى كأنه الأذن بدخول بدر الدين في الحياة الآخرة.
وفي اللحظة التي انطلقت فيها الرصاصة أحس بدر الدين بأن الضغط الذي شعر به في جزء من الثانية حول عنقه قد انقطع وأحس بأنه قد هوى من مكان حالق، فأيقن بأن ما حلم به في حياته قد تحقق، وأنه، بعد أن مات، في طريقه إلى جهنم..

2
– اح ، ما أبرد جهنم!..
قالها بدر الدين لنفسه – نفسه الميتة بعد الانتحار – فقد شعر بأن قشعريرة قد تناولت جسده من القمة إلى الأخمص، وأن رطوبة مثلجة قد تسربت إلى جسمه فتسأل ترى هل سقط في قدر من قدور الحميم في الجحيم؟ ولكنه يعرف أن الحميم سائل ناري، أم لعل النيران التي خاضها في الحياة الدنيا تفوق كل نار في جهنم؟ وقال لنفسه – نفسه الميتة – ما لي وللتفكير، ماذا أفادني التفكير في الأولى؟ أولى لي أن أسأل الملكين عما أريده حين يأتيان..
وشعر بدر الدين بضيق في أنفاسه وثقل أخذ يجثم على صدره حتى يكاد يحطم أضلاعه، فقال لنفسه – نفسه الميتة – لا بد أن هذه ضغطة القبر لحقتني وأن معلق في حبل في الفضاء، تبارك الله وصدق المرسلون!.. ثم سمع لغطاً وأصواتاً حوله فبشر نفسه بقدوم الملكين. وكان في كل هذا لا يرى شيئاً فقد كان أغمض عينيه في الحياة الدنيا قبل أن يطلق الرصاص على رأسه، ولم يحاول أن يفتحهما في الآخرة التي انتقل إليها. وشعر بأن هناك أيدياً تجذبه وتجره إليها، وسمع أصواتا مختلفة بعضها بعيد وبعضها قريب، ولكنه لم يفهم منها شيئاً اذ كان سمعه مشوشا، أم لعلها اللغة السريانية التي يتكلمها الملائكة؟ انه لا يدري ولا يهمه أن يدري. ولكن ما كان يعرفه أنه شعر بأن هناك من يحمل جسده، ومن يرفع رجليه إلى أعلى ويخفض رأسه إلى أسفل، ومن يضغط بذراعيه على صدره في حركات متتابعة، ومن يمدد جسده في النهاية ويتركه ممدداً. لا بد أن كل هذه تقاليد الملائكة في تلقي الأموات الجدد، بل لعلها تقاليدهم في تلقي المنتحرين؟!. وانتظر بعد أن هدأت الحركات أن يبدأوه بالسؤال والاستجواب.
وانتظر طويلاً. فلم يسمع إلا اللغط الذي حوله فحرك رأسه متململاً، فتناهى إليه صوت رقيق يقول:
– من أنت يا مسكين؟
ففتح عينيه في تململ، فهاله أن يرى بدل الوجه المنكر الذي كان ينتظره محياً جميلاً على جسم فتاة. ماذا، هل خابت ظنونه فدخل الجنة؟ وأدار عينيه، وهو ممدد، فيما حوله فلاح له ما أقنعه بذلك أول الأول، فقد كانت هناك أشجار ونهر جار، وخضرة وزرع، ورجال ونساء ولكن شيئا واحدا أيقظه من حلمه، ذلك هو رائحة شواء نفذت إلى خيشومه، فقد كان قد شم هذه الرائحة وهو يضع ربقة الحبل في عنقه في الحياة الدنيا، أفلا تختلف رائحة الشواء في الدنيا عنها في الآخرى، يعني في الجنة؟ وتذكر لذلك شيئا فمد يده إلى عنقه فوجد الربقة حوله، وتقصاها بيده فاذا لها ذيل قربه من عينيه فاذا هو الحبل الذي علقه في عنقه قبل لحظات، مقطوعا!
أغمض عينيه مرات ثم فتحهما، وتطلع فيما حوله بذهن قد انجلى ما كان قد ران عليه من شواش وحواس ذهب تبلدها وغدت مرهفة. ان ما يراه الآن حوله هو ما كان رآه قبل أن يطلق الرصاص على نفسه: فهؤلاء هم جماعة المتنزهين، وهذا هو الجرف على بعد رمية حجر، وتلك هي الشجرة التي علق نفسه بها، وأما الربقة التي في عنقه فما هي حبل من مسد، ولكنها بقية الحبل الذي علقه في رقبته لينتحر به!… اذا فهو لا يزال في الحياة الدنيا، لم يمت ولم يسقط في قدر من حميم، بل سقط في النهر!
وكان قد تحامل على نفسه وعلى أيدي من حوله من الناس وهو يدير في أسرع من البرق خواطر جمة في رأسه. كيف بعد كل هذا الاحكام في تدبير الخطة يعود حياً؟! ألم يشنق نفسه بحبل؟ ألم يطلق على رأسه الرصاص؟ ألم يغرق في النهر؟ وبعد كل هذا يظل حياً؟ وفجأة لمع الحل في رأسه فكاد يتهاوى على الأرض من الجزع، وكاد ينفجر صدره من الغيظ، وكاد ينقطع نفسه من الضحك. الآن عرف كيف ظل حيا. ففي اللحظة التي أطلق الرصاص فيها على رأسه ودفع الصخرة من تحت قدميه انحرفت يده مقدار شعرة، فبدلا من أن تنقذ الرصاصة في يافوخه أصابت الحبل فانقطع، فوقع في النهر، فانتشله المتنزهون.
– يرحم الله أبا القاسم الطنبوري ويرحم حذاءه. ما أشبه حياتي بذلك الحذاء، كلما حاول التخلص منه ارتد إليه مرفقا بالمزعجات، حتى المجرى الذي القاه فيه رده عليه…
هكذا قال بدر الدين لنفسه – نفسه التي عادت حية – وهو يفكر في الحياة التي عاد إليها وإلى التفكير فيها…

3
ولكن بدر الدين لم يفكر بعد ذلك طويلاً. فقد شغله ما حوله عن التفكير بالتأمل والتطلع، كان هناك شواء ونساء وعناية فائقة بشخصه. وكانت العناية بأكثرها من الفتاة ذات المحيا الجميل التي فتح عينيه عليها بعد صحوته. كانت فتاة صغيرة القد مكتنزة الجسم كأنه بوجهها المورد وعينيها الدورتين دمية دبّت فيها الحياة. وخيل إلى بدر الدين وهو يصغي إلى حديثها الهادئ اللين ويرى تقلب عينيها الحوراوين كلما بدأت الحديث أنها فتاة طبعة على اعتزال الناس، ولكن هذا الحادث الذي فاجأها اليوم أخرجها عن طبعها فتخطت حدودها في حدبها عليه وعنايتها به. ورآها وهي تدور على الحاضرين واحدا واحدا تنزع من كل منهم جزءا من ثيابه لتلبسه اياه، فضحك في سره وخطر له أن يناديها ويطلب إليها أن لا تتوهم فتحسب أن حياة الاستاذ بدر الدين تستحق كل هذا العناء، واذا شاءت تفصيلا فلتسأل الست فلومينا فتنبؤها بمعلوماتها التي من هذا القبيل. الا أنه لم يتمالك ان نظر إلى نفسه وهو متدثر بسجادة بالية آثرت نجوى، وهي الفتاة الدمية، أن تلفه بها خوفا عليه من برد الربيع، لم يتمالك نفسه أن شعر بشيء من الزهو، ولأول مرة بعد عدد من السنين لا يذكره، رضي عن نفسه واغتبط بها.
قال لها، وقد مد يده من خرق في السجادة البالية:
– هات قليلا من هذا الفجل لأعينك في تقشيره.
فلم ترفع عينيها عن كومة الفجل وهمست:
– هش!
– هل تخافين أن آكل منه شيئاً؟
– هشش !
– ما معنى هش بالسريانية؟
فرفعت رأسها ورمقته بنظرة متعجبة وهي تقول:
– سريانية؟
– نعم، فقد كنت أظنني عدت إلى الحياة الدنيا، ولكلن يظهر أني مت حقا، وأن هذه هي الجنة التي أعدت لأمثالي من الصالحين، وأنت واحدة من الحور العين..
فانفجرت ضاحكة، ولكن الاستاذ بدر الدين استمر في الكلام وقد عقد ما بين حاجبيه ليكسب كلامه هيئة الجد:
– في الحياة الدنيا كنا نضحك فنقول هاء.. هاء.. أما الذين يتكلمون السريانية فيقولون هيء .. هيء.. اليست السريانية لغتكم أيها الملائكة؟
وكان نجوى قد استلقت على الأرض من ضحكها، وانتثرت حزمة الفجل من بين يديها. فلما سكت قليلاً قالت له:
– ما دمت خفيف الروح هكذا فلماذا أقدمت على الانتحار؟
فاصطنع هيئة المهموم وزفر زفرة طويلة وقال:
– اسألي فلومينا..
– فلومينا من؟ هل هي حبيبتك؟ هل هجرتك؟
فهز رأسه أن لا.
– هل .. هل ماتت؟
فكرر الاشارة برأسه أن لا.
– اذن ماذا جرى بينكما.
– لا شيء. قالت اغسل ملابسك بنفسك، فوجدت أن أحسن طريقة لذلك أن أنزل بها إلى النهر فاكسب لنفسي مع غسيل الملابس حماما كاملا.
فنظرت إليه نجوى بطرف عينها نظرة عاتبة، وقالت له:
– ألا تجدّ مرة واحدة؟ هل تدري أني حين سمعت صوت الرصاص شعرت دون أن أدري بك أو أراك أن أحدا ، أحدا عزيزا، ذهب ضحية تلك الرصاصة، فصحت من كل قلبي وبكل صوتي: يا مسكين.
– انت التي صحت بهذا؟
– نعم. لماذا تسأل بهذه الدهشة؟
– خيل إلي وأنا غريق أن أحدا ناداني: يابدر الدين! وهذا ماجعلني أعدل عن الموت وأعود إلى الحياة. اذن فأنت لم تناديني بل ناديت المسكين، يا ستي الوداع!
ونهض بدر الدين يجر ذيل السجادة البالية وراءه متجهاً نحو النهر كأنه يهم بأن يلقي بنفسه فيه. فلحقته نجوى وتشبثت بأطراف السجادة حتى أجلسته وهو يتظاهر بأنه لن يجلس، وهي لا تتمالك نفسها من الضحك.
وكانت الجماعة قد هيأت الغداء وقام كل من افرادها بقسطه من العمل الذي وكل إليه. فالتفوا حول بدر الدين ووضعوا أمامه الشواء وحوله الفتيات ونجوى بجانبه. فتطلع في عطفيه الملفوفين بالسجادة وفي من حوله من الجماعة، فتنحنح وذكر في سره بيتاً لامرئ القيس كان من منسياته، فتمتم به:
كان ثبيراً في عرانين وبله …. كبير أناسٍ في بجاد مزمل
فتبعته الجماعة بالبسملة، وهم يظنونه فيما قرأه هامساً قد حمد الله وسمى باسمه!

4
انتهت الجماعة من غدائها وانتهى معها بدر الدين فقام بعد أن ألقى عن ظهره السجادة البالية، ونفض بقايا الشواء من حجره وتفرق الجميع عنه إلا نجوى التي بقيت بجانبه. قالت له:
– هل أغسل يديك على الضفة؟
فضحك وقال وهو يسبقها في طريق النهر:
– في بلادي يقولون: الذي تلدغه الحية يخاف من أثرها على التراب. نذرت لله أن أبقى دسم الكفين أربعين عاما، أو على الأقل ما بقي من حياتي. ولكن لا بأس، ما قيمة النذر اذا لم يخرق، فلنبدأ اليوم.
قالت بصوت يفيض حنانا:
– أجبني جادا مرة واحدة. ما الذي دفعك إلى الانتحار؟ انظر إلى ما حولك؟ ألا ترى جمال الحياة، ألم تشعر به؟
– بلى، شعرت بهذا الجمال مرة واحدة.
– متى كان ذلك؟
فتوقف بدر الدين حتى صارت نجوى في محاذاته، وتطلع إليها، ثم قال:
– اليوم، بل الآن.
فأطرقت برأسها ، وسبقته ساكتة إلى النهر حتى انحدرت من الجرف إلى الضفة وأخذت تغسل يديها بقطعة من الصابون. أما هو فقد جثم قريبا منها وتطلع وهو واجم، وجوما صحيحا في هذه المرة لا متصنعا، إلى شعرها الكستنائي الذي يدور في حلقات كانت تنوس حول جيدها، وتنسدل خصلة منه على جبينها كلما داعبها نسيم الربيع العليل على شاطئ النهر رفت أمام عينيها في دعة ونعومة. في هذه اللحظة شعر بدر الدين حقاً بجمال الحياة وعجب من نفسه كيف رضي أن يفارق هذه الحياة الجميلة مختاراً إلى عالم كل ما فيه ظلام ورؤى مفزعة. وراح يسأل نفسه كيف عميت عيناه قبل الآن فلم ير في الدنيا نساء غير الست فلومينا. أوَ لم تكن نجوى ولداتها من بنات هذه المدينة؟ بلى كانت وكن، ولكنه هو كان أعمى القلب. ونذر في نفسه، نذراً صحيحاً هذه المرة لا دعابة، ان يتمسك بحبال الحياة التي انتشى بجمالها اليوم، فلا يتركها أو يتنازل عنها لمخلوق لا مختارا ولا مضطرا، ومن يضطره إلى ترك الحياة؟ انه يشعر الآن بعد أن دفئ وشبع وأسكرته نظرات نجوى وما تظهره من عاطفتها وما تخفيه، انه يشعر أن بمقدوره مصارعة ملائكة الموت ومغالبة قوى الكون.
وتناول بدر الدين قطعة الصابون من يد نجوى وتقدم إلى الشاطئ. ويظهر ان أثر الصابون من يد نجوى على طين الضفة الأملس جعل منه مزلقا ناعما، فزلقت عليه قدم بدر الدين وانحدر جسمه وراء قدمه حتى غمره الماء. فلم يبال وهو في بحران نشوته بما أصابه بل استسلم فيما يشبه الغبطة إلى الماء الذي ضمه. وانحدر، انحدر عميقا، فقد كانت في محل ما انزلق من النهر دوامة عاتية لا يظهر على سطحه منها اثر والقوة كل القوة فيها في أعماقه. وظل بدر الدين في انحداره لا ترى نجوى منه شيئاً، وخيل إليه وهو في انحداره ذاك أن صوتا قد اخترق اليه الأعماق يصيح به:
– بدر الدين، يا بدر الدين!..
ولهذا الصوت وحده حرك بدر الدين يديه كمن ينتفض من حلم، ولكن تلك الانتفاضة ثلاشت في الأعماق، ولم يبد منها على السطح سوى فقاعة، فقاعة ضئيلة، سرعان ما انفجرت، وبعد الانفجار تلاشت واستمر النهر في جريانه وكأن الساعات التي انطلقت حينذاك لم تتلاش بعد اصداؤها من جنبات ذلك الوادي الهادئ حيث نوّر الزهر وهب النسيم وضحك الربيع.
أما على الضفة فقد كانت نجوى، نجوى المسكينة، دافنة وجهها في كفيها، تبلل خصلة شعرها المتناثرة بدموعها الحارة وهي تردد لنفسها .ولماء النهر الجاري:
– مسكين، مسكين أنت يا بدر الدين.

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

  • فيلم (كال وكمبريدج).. هموم الجيل الثاني من المغتربين العراقيين
  • ⏪⏬ا: (اختبار سياقة) عام 1991 و (ساعتا تأخير) 2001 و (عينان مفتوحتان على ... اكمل القراءة
  • المكتبة المسرحية: ثلاثة أعمال مسرحية للكاتب أحمد إبراهيم الدسوقي
  • ⏪⏬صدرت للكاتب والشاعر والرسام أحمد إبراهيم الدسوقي.. ثلاثة مسرحيات.. هم ... اكمل القراءة
  • فيلم "بين الجنة والأرض" يختتم عروض "أيام فلسطين السينمائية"
  • ✋✋اختتم مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"، دورته السابعة والاستثنائية بالفيلم ... اكمل القراءة

    قصص قصيرة جدا

  • عناد | قصص قصيرة جدا ...*على حسن بغداى
  • ⏬⏪اشاعاتاقتنع بمقولة أن وراء كل عظيم امراة.. تزوج أربعة.. وضعوه فى مستشفى ... اكمل القراءة
  • حنين | قصص قصيرة جدا...*على حسن بغداى
  • ⏬⏪تعليماتنزل القبر.. استقبلوه بالترحيب.. طلبوا منه أربعة صور وشهادة وفاته لضمه ... اكمل القراءة
  • الحسناءوالحصان | قصة قصيرة جدا ...*رائد العمري
  • ⏪⏬في الاسطبل كان يصهلُ كعاشقٍ أضناه الاشتياق، هي لم تكن تفهم صهيله جيدا، جاءت ... اكمل القراءة

    قصص قصيرة

  • ابن جلَّا | قصة قصيرة ...*حسان الجودي
  • ⏪⏬رفضت بعض خلايا الدماغ المشاركة في عملية التفكير التي همَّ بها ابن جلاّ .فقد ... اكمل القراءة
  • أطول مما يتخيل العمر | قصة فصيرة..!.. * عبده حقي
  • ⏪⏬فجأة وجد رأسه معلقا بحبل بين أغصان الشجرة وعيناه جاحظتان إلى السماء .كان جسده ... اكمل القراءة
  • مسافر في الليل | قصة قصيرة ...*على السيد محمد حزين
  • ⏪⏬ارتدى آخر قطار متجه إلي القاهرة , حشر نفسه وسط الكتل البشرية المعتركة الأجسام ... اكمل القراءة

    قراءات أدبية

  • قراءة لنص "ميلاد تحت الطاولة" ...* لـ حيدر غراس ...*عبير صفوت حيدر غراس
  • "الدارسة المعمقة والجزيلة للأديبة الكبيرة (عبير صفوت) لنص ميلاد تحت ... اكمل القراءة
  • الرواية التاريخية في الأدب الفلسطيني ...*جواد لؤي العقاد
  • رإن أفخم وأهم الرويات في الأدب العربي تلك التي تقدم لنا معلومات تاريخية موثوقة ... اكمل القراءة
  • الأهازيج الشعبية في رواية “ظلال القطمون” لإبراهيم السعافين
  • *د. مخلد شاكر تدور أحداث رواية “ظلال القطمون” حول الأدب الفلسطيني, وحول ... اكمل القراءة

    أدب عالمي

  • إعتذار .. مسرحية قصيرة : وودي آلان - Woody Allen: My Opology
  • ترجمة:د.إقبال محمدعلي*"من بين مشاهير الرجال الذين خلدهم التاريخ،كان "سقراط" هو ... اكمل القراءة
  • الأسطورة والتنوير ...* فريدريك دولان ..*ترجمة: د.رحيم محمد الساعدي
  • ⏪⏬الأسطورة هي بالفعل )تنوير( لأن الأسطورة والتنوير لديهما شيئا مشتركا هو الرغبة ... اكمل القراءة
  • أدب عالمي | الموت يَدُق الباب.. مسرحية لـ وودي آلان
  • ⏪بقلم: وودي آلان،1968⏪ترجمة: د.إقبال محمدعلي(تجري أحداث المسرحية في غرفة نوم ... اكمل القراءة

    كتاب للقراءة

  • صدر كتاب "الفُصحى والعامية والإبداع الشعبي" ...*د.مصطفى عطية جمعة
  •  ⏪⏬عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة ؛ صدر كتاب « الفُصحى والعامية ... اكمل القراءة
  • رواية"أنا من الديار المُقدَّسة والغربة" للأديب المقدسي جميل السلحوت
  • *نمر القدومي:صدرت رواية الفتيات والفتيان “أنا من الديار المقدسة” للأديب المقدسي ... اكمل القراءة
  • صدور كتاب “أمريكا وجرائم استخدام أسلحة الدمار الشامل- الجزء الثاني”
  • * للباحث “حسين سرمك حسن”صدور كتاب “أمريكا وجرائم استخدام أسلحة الدمار الشامل- ... اكمل القراءة

    الأعلى مشاهدة

    دروب المبدعين

    Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...