1
الطريقة السهروردية، أحد الطرق الصوفية الاسلامية، تأسست على يد شهاب الدين عمر السهروردي المتوفى سنة 632 هـ.
هو شهاب الدين عمر بن محمد السهرورد الشيخ الإمام العالم القدوة الزاهد العارف المحدث أوحد الصوفية شهاب الدين أبو حفص
وأبو عبد الله عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله – وهو عمويه – بن سعد بن حسين بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله ابن فقيه المدينة وابن فقيهها عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري السهروردي الصوفي ثم البغدادي .أما شهاب الدين السهروردي فنشأته بالقرب من العارفين والمتعبدين كفيلة بتحقيق زيادته ومكانته بين أقطاب الصوفية ، فلقد صحب عمه أبا نجيب السهروردي وهو صاحب الكتاب الشهير والمعنون بـ ” آداب المريدين ” ، ثم صحب الشيخ عبد القادر الجيلاني وهو أحد أساطين التصوف في الإسلام ومؤسس الطريقة القادرية المعروفة ، وبلغ السهروردي شأناً كبيراً في ميدان الوعظ والدعوة والإرشاد حتى التمس خطاه الخليفة الناصر من أجل مساعدته في تأييد الدولة العباسية التي كانت على وشك سقوطها التاريخي. بالإضافة إلى أن شهاب الدين السهروردي كما يشير جوزيبي سكاتولين قام بمقام دبلوماسية لدى حكام الدول المجاورة لفصاحة لسانه وقوة حجته ونصاعة نيته وسريرته، ولعل أشهر المقابلات التي أجراها شهاب الدين السهروردي هي المقابلة التي التقى فيها أثناء حجه إلى بيت الله الحرام مع سلطان العاشقين عمر بن الفارض.ويختلف شهاب الدين السهروردي عن بقية أقرانه من أقطاب الصوفية في كتاباته، حيث نلمح أنه كثير الاهتمام بالجوانب العملية في حياة العبد بخلاف معظم الصوفيين الذين غرقوا في مجاهل التنظير وأدبيات الزهد، لذا فنجده في كتابه الماتع ” عوارف المعارف ” يقدم إرشادات للسالكين في حياتهم العملية، لذا اجتهد السهروردي في كتابه بشرح وتأويل الرياضات العملية كالاستماع والخلوة، بجانب تفصيل دقيق للأحوال والمقامات. واستمد كلامه من الكتب الصوفية المعروفة عند حديثه عن الخلوة والتي قصد بها ما أشار إليه نجم الدين كبرى بقوله: ” انقطاع من الخلق إلى الخالق، لأنه سفر النفس إلى القلب، ومن القلب إلى الروح، ومن الروح إلى السر، ومن السر إلى خالق الكل، ومسافة هذا بعيدة جدا إلى النفس، وقريبة جدا بالنسبة إلى الله ”.وما امتاز به شهاب الدين السهروردي في كتابه ” عوارف المعارف ” أنه انتهج المنحى العلمي والتوثيق في سرده لأخبار وأقوال الصوفيين، ولم يتبع الطريقة السائدة في كتب المتقدمين من حيث القول بحدثنا فلان أو ذكر لنا أحد الصالحين، بل يتعمد ذكر توثيق النقل عن طريق التواتر والتتابع لناقلي القول، كذلك امتاز شهاب الدين السهروردي بأنه من أقطاب الصوفيين الذين أجادوا في توثيق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتبع رواته، من مثل ذلك ما أورده حينما قال: ” أخبرنا الشيخ أبو زرعة طاهر بن أبي الفضل في كتابه قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف الشيرازي إجازة قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: أخبرنا إبراهيم بن أحمد بن محمد بن رجاء قال: حدثنا عبد الله بن أحمد البغدادي قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا عمر بن راشد عن مالك بن أنس عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): ” لكل شئ مفتاح ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء والصبر ، هم جلساء الله يوم القيامة ”، ثم يعقب على حديث أشرف الخلق بقوله: ” فالفقر كائن في ماهية التصوف ، وهو أساسه ، وبه قوامه ”.
التصوف عند السهروردي :
ولعل انفراد شهاب الدين السهروردي بإمامة الصوفيين جاء أيضاً من قوة علمه وقدرته على مناقشة القضايا الرئيسة في التصوف ومنها قضية ماهية التصوف، ولعل أغلب أقطاب المتصوفين قاموا بخط أحوالهم ومقاماتهم بغير تعرض للموضوعات الأساسية في اتجاه التصوف الإسلامي، لكن السهروردي نجده يجوب هنا وهناك ليجمع كل ثمين في كل قضية يتناولها ثم يقوم بعرض رأيه وتجربته الخاصة. مثل لذلك ما عرضه السهروردي في مجمل حديثه عن التصوف والفقر، فنجده يعرض لبعض أقوال الصوفية عن التصوف والفقر مثل أبي الحسن النوري، ومعروف الكرخي، و رويم، والشبلي، وأبي محمد الجريري، ثم يردف تلك الإلماعات بنتائج تشير إلى رأيه، يقول: ” الفقير في فقره متمسك به، متحقق بفضله، يؤثره على الغنى، متطلع إلى ما تحقق من العوض عند الله حيث يقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): ” يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم: وهو خمسمائة عام ” ( رواه الترمذي وقال حسن صحيح ) .
ويكمل السهرودي حديثه عن ماهية التصوف واقترانه بالفقر بقوله: ” فكلما لاحظ العوض الباقي أمسك عن الحاصل الفاني، وعانق الفقر والقلة وخشي زوال الفقر لفوات الفضيلة والعوض، وهذا عين الاعتلال في طريق الصوفية لأنه تطلع إلى الأعواض، وترك لأجلها، والصوفي يترك الأشياء، لا للأعواض الموعودة، بل للأحوال الموجودة، فإنه ابن وقته ” .
ولعل شهاب الدين السهروردي هو أفضل من صاغ تعريفاً رائعاً للصوفي، وجاءت مواضعته حول التعريف كونه مستقرئاً جيداً لما سطره السابقون عليه من تعريفات، وهو دائم الذكر لكل التعريفات المتضمنة بقضايا التصوف ويشبه في ذلك الباحث المجتهد الذي لا ينطلق إلى من خلال أساس متين وقوي، ويستهدف التراكم المعرفي، فيقول عن الصوفي: ” الصوفي هو الذي يكون دائم التصفية لا يزال يصفي الأوقات عن شوب الأكدار بتصفية القلب عن شوائب النفس، ويعينه على هذه التصفية دوام افتقاره إلى مولاه، فبدوام الافتقار ينقى من الكدر، وكلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها إلى ربه ” .
أحوال ومقامات :
التصوف في مجمله تجربة ذاتية استثنائية لا تتكرر أو تتشابه، وهذه التجربة تعتمد على القلب والبصيرة النافذة أو الحدس باختصار، وها هو أبو حامد الغزالي حجة الإسلام يعطي للقلب والحدس أهمية كبيرة في تحقيق المعرفة الصوفية، وشبه الغزالي المعرفة الصوفية بالحوض، وهذا الحوض يمكن أن يأتيه الماء من على سطحه بواسطة الأنهار والأمطار وفي هذه الحالة لا يكون نقيا، وقد نسعى إلى حفر أعماق هذا الحوض ( البئر ) حتى نصل إلى الماء الصافي الموجود في عمق هذا البئر، عندئذ يكون الماء صافياً نقياً.
وحديث الحال والمقام يطول، فالحال باختصار شديد هو معنى يرد على القلب من غير تعمد من الصوفية ولا اجتلاب ولا اكتساب لهم، من طرب وحزن أو قبض أو شوق أو انزعاج، فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب، والأحوال كما يشير فيصل عون تأتي من عين الوجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود، وصاحب المقام ممكن في مقامه وصاحب الحال مترق عن حاله. والقاشاني يقول عن الأحوال: ” إن الأحوال هي المواهب الفائضة على العبد من ربه، إما واردة عليه ميراثاً للعمل الصالح المزكي للنفس، المصفى للقلب، وإما نازلة من الحق امتناناً محضاً، وإنما سميت أحوالاً لتحول العبد بها من الرسوم الخلقية ودركات البعد إلى الصفات الحقِّيَّةِ ودرجات القرب ”.
وحينما وجد شهاب الدين السهروردي لغطاً واسعاً بين المريدين في فهم أوجه الفرق بين الحال والمقام شرع إلى تبسيط الفروق بينهما، موضحاً اختلاف الشيوخ وأقطاب الصوفية في التلميح بهما وصعوبة التفريق بينهما لتشابهما في النفس، وكان من أوائل الذين أدركوا وجود ضوابط ومحكات حاكمة للتفرقة بين الثنائيات لاسيما التي تتعلق بالتصوف، وشدد على وجود ضابط يفرق بينهما، ويشير إلى ذلك بقوله: ” فالحال سمي حالاً لتحوله، والمقام مقاماً لثبوته واستقراره، وقد يكون الشئ بعينه حالاً ثم يصير مقاماً، مثل أن ينبعث من باطن العبد داعية المحاسبة، ثم تزول الداعية بغلبة صفات النفس ثم تعود ثم تزول، فلا يزال العبد حال المحاسبة يتعاهد الحال، ثم يحول الحال بظهور صفات النفس إلى أن تتداركه المعونة من الله الكريم، ويغلب عليه حال المحاسبة، وتنقهر النفس وتنضبط وتتملكها المحاسبة، فتصير المحاسبة وطنه ومستقره ومقامه ” .
ثم يعرج شهاب الدين السهروردي إلى ما تداوله الصوفيون من الحديث عن أن المقامات مكاسب والأحوال مواهب وهو الحديث الأشهر في مجال التصوف، فيقول برأيه في هذا بقوله: ” المكاسب محفوفة بالمواهب، والمواهب محفوفة بالمكاسب، فالأحوال مواجيد، والمقامات طرق المواجيد ” . ويشير السهروردي كثيراً إلى أن الأحوال مواهب سماوية علوية، وأن المقامات هي طرقها.
2
تعريف بالحركة السنوسية
عرفت السنوسية بأنها حركة دعوية اسلامية سنية مالكية، منهجها الإصلاح، صوفية الملامح، نشأت فى الثلث الأول من القرن التاسع عشر (1240 هجري ، 1825 ميلادى) تؤمن بالصوفية الموافقة للكتاب والسنة، وكما يقول حفيد الإمام السيد احمد الشريف فى كتابه: (الأنوار القدسية فى معالم الطريقة السنوسية) هى متابعة السنة فى الأقوال والأفعال والأحوال والإشتغال بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فى عموم الأوقات ، وأيضاً كما قال الإمام الســيد محمد بن على السنوسى: (فاعلم أن ســـبيل القوم اتباع النبي صلى الله عليه وآله وســلم فى الجليل والحقير وأعمالهم موزونة بميزان الشـــريعة).
وللطرق الصوفية سبيلان، سبيل الإشراقية وسبيل البرهانية، فالإشراقية كما يقول السيد أحمد الشريف، دأبهم تصفية النفوس من الأكدار وتوجيهها نحو الحق لنهج المعارف والأســــــرار. بدون تعلم وتعليم، ( من بـاب : اتقوا الله ويعلمكم الله).
أما البرهانية : فدأبها اتباع الأوامر واجتناب النواهي، واقتباس العلوم الأربعة: علوم الذات والصفات والفقه والحديــث والدلات، وسبيلها هو تعمير الظواهر بالآداب على متابعة أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتعمير البواطن بمراقبة الله فى جميع الحركات والسكنات على السنن النبوي، والنهج المصطفوي، و السنوســـية تفضل سبيــــل البرهــانية .
وكان الإمام يأمر الأتباع والمريدين بقراءة صحيح البخارى وموطأ الإمام مالك وبلوغ المرام فى الحديث، ورسالة ابن أبى زيد القيروانى فى الفقه، والرسائل السبع فى التصوف.
فالسنوسية هى حركة سلمية شعارها الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وهى حركة علمية جددت فى الإســلام وفتحت باب الإجتهاد، وخلصت الصوفية من الشــوائب التى علقت بهــا، وعملت على نشــر العلم والكتـــاب، وكان منهجها يقوم على قواعد ثلاث :
تعلم العلم وتعليمه .
ارشاد العباد الى الله ودعوتهم اليه .
الجهاد فى سبيل الله لإعلاء كلمته .
فكان برنامج الحركة يهدف الى بناء الشخصية المتكاملة بشقيها الروحى والمادى وبناء مجتمع متكامل يتم فيه صقل الأفراد وإعدادهم لكل تكاليف الحياة المتعددة. فيبدأ من تهذيب النفس بروح الدين الحنيف، فيذكرون الله صباحاً ومســاءاً لقوله تعــالى: والذاكرون الله كثيراً والذاكرات.
وتمر بتغذية العقل بالعلم والمعرفة، وتعمق بالكد والعمل وكسـب القوت لقوله تعــالى: فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور.
وتتوج بالقدرة على صد الأعداء (الإستعمار الغازى) وكان هذا واضحاً جلياً فى حربهم ضد الفرنسيين فى السودان والإنجليز فى مصر والإيطاليين فى ليـبيــا، امتثالاً لقوله تعالى: واعدوا لهم ما استطعتم من قوةِ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم, ولقوله تعالى أيضاً: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم صدق الله العظيم.
فكانت أهدافها تتلخص فى الآتى :
التشدد فى أمور العبادة والزهد فى المأكل والملبس.
الدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
الدعوة الى الاجتهاد ومحاربة التقليد.
الاهتمام بالعمل اليدوى.
الجهاد الدائم فى سبيل الله.
وكانت حكمة مؤسس الحركة الإمام السيد محمد بن على السنوسى فى الحيــاة :
اعمل لدنيــاك كأنك تعيــش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، واعتماد قول الله في محكم التنزيل : ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحســن كمـا أحســن الّلـــه إليــك.
ومن أبرز شخصياتها :
ـ الشيخ محمد بن علي السنوسي 1202هـ ـ 1276هـ (1787 ـ 1859م) وهو المؤسس للدعوة السنوسية، وتنسب السنوسية لجده الرابع.
وُلد في مستغانم في الجزائر، ونشأ في بيت علم وتُقىً. وعندما بلغ سن الرشد تابع دراسته في جامعة مسجد القرويين بالمغرب، ثم أخذ يجول في البلاد العربية يزداد علماً فزار تونس وليبيا ومصر والحجاز واليمن ثم رجع إلى مكة وأسس فيها أول زاوية لما عُرِف فيما بعد بالحركة السنوسية.
وله نحو أربعين كتاباً ورسالة منها: الدرر السنية في أخبار السلالة الإدريسية وإيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن.
ـ الشيخ المهدي محمد بن علي السنوسي 1261 ـ 1319هـ (1844 ـ 1902م) خلف والده في قيادة الدعوة السنوسية وعمره اثنا عشر عاماً.
ـ الشيخ أحمد الشريف السنوسي ابن عم المهدي ـ ولد سنة 1290هـ (1873م) تلقى تعليمه على يد عمه شخصيًّا، وعاصر هجمة الاستعمار الأوروبي على شمال إفريقيا وهجوم إيطاليا على ليبيا فاستنجد في عام 1917م بالحكومة العثمانية، فلم تنجده خوفاً من على مركزها الديني. وقد وقف مع (مصطفى كمال أتاتورك) ظناً منه أنه حامي الدين ـ كما كان يطلق عليه ـ ولصد الهجمة الغربيَّة على تركيا.. ولما تبين له مقاصده الحقيقية المعادية للإسلام غادر الشيخ أحمد تركيا إلى دمشق عام 1923م، وعندما شعرت فرنسا بخطره على حكومة الانتداب طلبته فهرب بسيارة عبر الصحراء إلى الجزيرة العربية.
ـ الشيخ عمر المختار 1275 ـ 1350هـ (1856 ـ 1931م) وهو البطل المجاهد، أسد القيروان، الذي لم تحل السنوات السبعون من عمره بينه وبين الجهاد ضد الإيطاليين المستعمرين لليبيا، حيث بقي عشر سنوات يقاتل قوى الاستعمار أكبر منه بعشرات المرات، ومجهزة بأضخم الأسلحة في ذلك العصر، إلى أن تمكن منه الاستعمار الإيطالي الغاشم، ونفَّذ فيه حكم الإعدام وذلك في يوم الأربعاء السادس عشر من أيلول (سبتمبر) 1931م ويرجى أن يكون شهيداً في سبيل الله.
3
هو سيدي أبو العباس أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن محمد بن سالم بن العيد بن سالم بن أحمد بن أحمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد الجبار بن إدريس بن إدريس بن إسحاق بن علي زين العابدين بن أحمد بن محمد بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، من السيدة فاطمة الزهراء ، سيدة نساء أهل الجنة ، ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهو الشريف الأصل ، صاحب الفتح الأكبر ، والمقام الأفخم ، القطب المكتوم رضي الله عنه.
قيل له : أَيُكذَبُ عليك ؟
قال : ﴿نعم ، إذا سمعتم عني شيئا ؛ فزنوه بميزان الشرع . فإن وافق ؛ فاعملوا به, وإن خالف؛ فاتركوه﴾ .
فلولا إتباع الشرع ما وصل من وصل ، ومن ترك الأصول حرم الوصول .
فهو الذي لم يشم له الأولياء رائحةً أصلاً . لأنهم دخلوا وخرجوا من باب القدرة، ومن دخل من باب القدرة لا يرى من هو في المخدع، يدخل ويخرج من باب السر.
وإن كان رضي الله عنه قد جَوَّع الجوع، وعَطَّش العطش، ونَوَّم النوم، وسَهَّر السهر، وخَوَّف الخوف، إلا أن طريقته هي التفويض مع التبري من الحول والقوة، وتجريد التوحيد، وتوحيد التفريد مع الحضرة، في موقف العبودية، لسر خاص، مستمد من لحظ كمال الربوبية، لا بشيء، ولا لشيء .
كانت طريقته التوحيد وصفاً ، وحكماً ، وحالاً ، تحقيقاً للشرع، ظاهراً وباطناً، بقلبٍ فارغٍ، وكون غائب، ومشاهدة رب خاص، بسريرة لا تجاذبها الشكوك، وسر لا تنازعه الأغيار.
فهو رضي الله عنه، ذو اللسانين والبيانين، وصاحب البرهانين والسلطانين، وذي السراجين والمنهاجين، وإمام الفريقين والطريقين، له في كل أرض خيل لا تُسبق، وفي كل جيش سلطان لا يُخالف، وفي كل منصب خليفة لا يُعزل، ما رفع المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- قدماً إلا وضع سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه قدمه في الموضع الذي رفعه منه المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- إلا أن يكون قدماً من أقدام النبوة، فإنه لا سبيل أن يناله غير نبي.
واعلم أن للإنس مشايخ، وللجن مشايخ، وللملائكة مشايخ، وأما سيدي أحمد التجاني فشيخا للكل.
ملَّكَهُ الله تعالى الأرض، شرقها وغربها، قفرها وعمرانها، برها وبحرها, سهلها وجبلها، إنسها وجنها، تصريفاً وتمكيناً، فتركها واختار العبودية الخالصة، التي ليس فيها شائبة ربوبية ؛ يُنْطِقُهُ اللهُ فينطق، يعطيه الله فيفـرق، يأمره فيفعل، الناس عنده كالقوارير، بواطنهم كظواهرهم.
جعل الله له أربعة وجوه :
– وجه ينظر به إلى الدنيا,
– ووجه ينظر به إلى الآخرة,
– ووجه ينظر به إلى الخلق,
– ووجه ينظر به إلى الحق,
وصَيَّرَهُ الله تعالى خليفة على أرضه وسمائه وعوالمه ، وقال له : إنك لدينا مكين أمين .كانت الخوارق تظهر أحياناً فيه، وتارة منه. مارآه غيره في منامه ؛ رآه هو في يقظته .
وإن كان – تعالى – قد قال: ﴿ويخلق مالا تعلمون﴾ {النحل : 8} . فهو -رضي الله عنه – مما لا علم لنا به وممن ترجم للشيخ رضي الله عنه – من غير أهل طريقته – الشيخ محمد البشير ظافر في كتـابه الشـهير : «اليواقيت الثمينة في أعيان مذهب عالم المدينة» فقال : ” سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه بن المختار بن أحمد بن محمد بن سالم الشريف التجاني الشهير ، القدوة الكامل ، العارف الراسخ ، جبل السنة والدين ، والعلَّامة الدرَّاكة الفهَّامة ، الجامع بين الشريعة والحقيقة ، نادرة الزمان ، ومصباح الأوان “.
قال عنه الشيخ العلَّامة ، حافظ المغرب ، الشيخ الكتاني : ” كان رحمه الله أحد العلماء العاملين ، والأئمة المجتهدين ، ممن جمع بين شرف الجرثومة والدين، وشرف العلم والعمل واليقين، والأحوال الربانية الشريفة، والمقامات العلية المنيفة، قوي الظاهر والباطن، كامل المحاسن، بهي المنظر، جميل المظهر، منور الشيبة، عظيم الهيبة، جليل القدر، شهير الذكر، ذو صيت بعيد، وحال مفيد، وكلمـة نافذة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اشتغل في بدايته بطلب العلوم الأصولية والفرعية والأدبية، حتى رأس فيها، وحصَّل فيها أسرار معانيها. أذن له النبي صلى الله عليه وسلم في تلقين الخلق، سنة ستة وتسعين ومائة وألف، ومناقبه رضي الله عنه وأحواله كثيرة، وتوفي صبيحة الخميس السابع عشر من شوال سنة ثلاثين ومائتين وألف، وحضر جنازته من لا يُحصى من علماء فاس وصلحائها، وأعيانها وفضلائها وأمرائها، ودفن بزاويته المشهورة بحومة البليدة ” .
أما من ترجم له من أهل طريقته ؛ فلا يكاد يحصيهم العاد .
وُلِدَ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه عام خمسين ومائة وألف 1150هـ . 1737م .. ببلدة عين ماضي بالجزائر مقر أسلافه، فجده الرابع سيدي محمد بن سالم، انتقل من قبيلة عبدة مع أسرته، وموطنها المغرب الأقصى إلى بني تجانة، وتزوج منهم، وصار أولاده وأحفاده يُعرفون بالتجانيين. وسيدي أحمد التجاني رضي الله عنه – وهو الشريف الحسني الأصيل -لم يعر لمسألة هذا النسب أي اهتمام، حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم – يقظة ، لا مناماً : ﴿ أنت ولدي حقاً ، ونسبك إلى الحسن بن عليّ صحيح ﴾ .
كانت لعين ماضي أهمية علمية كبيرة، إذ قام العلماء الأشراف الوافدين من المغرب بفتح الزوايا والرباطات العلمية ، وكان لآباء وأجداد الشيخ التجاني رضي الله عنه، باع طويل في نشر الإسلام، وتعاليمه الروحية والعلمية في هذه البلاد، ومنها إلى بلاد شمال إفريقيا والصحراء ووسط إفريقيا.
ومما يؤكد علو كعب أسرته رضي الله عنه في العلم والمعرفة ؛ ما ذكره التاريخ من أن السيد محمد ابن المختار -أبا سيدي أحمد التجاني رضى الله عنهما- كان شيخاً كبيراً لزاوية عظيمة في عين ماضي، وصفه سيدي علي حرازم برادة رضي الله عنه بأنه شيخ الإسلام وملاذ الأنام, أما أمه رضى الله عنهما: فهي السيدة عائشة بنت الولي الجليل سيدي محمد السنوسي التجاني الماضوي، يذكر لها من الصلاح والولاية والمكانة العالية والمرتبة السنية .
أما أخوه السيد محمد رضي الله عنه المكنَّى بابن عمر، فكان عالماً حافظاً للقرآن ، مشاركاً في علوم الشريعة, متقناً لعلوم الفرائض.
أما جده الثالث؛ فهو أحمد بن محمد رضى الله عنهما، العلامة عالم العلماء، وأمير الأمراء، صاحب الحال القوي، والنور السني. أما الرابع؛ فهو محمد بن سالم رضي الله عنه، الشيخ الولي، المكين العلي، ذو النور اللائح، والجذب الواضح، حتى كان إذا خرج من داره للمسجد يتبرقع، ولا يُرى وجهه إلا إذا دخل المسـجد، ثم إذا رجع إلى داره عاد إلى ستر وجهه حتى يدخل لخلوته، ولما سُئل سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه عن ذلك، قال: إنه بلغ مرتبة الولاية، ومن بلغها يصير كل من رأى وجهه رضي الله عنه لا يقدر على مفارقته طرفة عين، وإن فارقه وانحجب عنه مات لحينه.
وكان سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه أوسط الأبناء لأمه وأبيه، ونشأ بين أبوين صالحين شريفين، نشأة عفاف وصلاح، وكان رضي الله عنه أعجوبة الزمان في الذكاء ورجاحة العقل، وكان رضي الله عنه شديد الحزم، لا يريد أمراً إلا بدأه، ولا يبتدئ شيئا إلا أتمه .
وكان رضي الله عنه كريم الأخلاق والخلال، طيب النفس والفعال، كثير الحياء والأدب، حسن السمت، طويل الصمت، كثير القراءة، معتاداً للتلاوة، يعلوه الوقار إذا سكت، والهيبة إذا نطق، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين برواية ورش، على يد العلَّامة المقريء سيدي محمد بن حمو التجاني الماضوي، والذي تتلمذ على شيخه العارف بالله سيدي عيسى بو عكاز الماضوي التجاني .
وكان مع صغر سنه قوي الظاهر والباطن، كامل الأنوار والمحاسن، وقد توفي أبوه وأمه في يوم واحد، رضي الله عنهم أجمعين، ودفنا بعين ماضي، وكان سيدنا آنذاك لم يتجاوز الحادية عشر. أما هيئته رضي الله عنه فكان أبيضاً مشرباً بحمرة، معتدل القامـة، أقنى الأنف، أزج الحاجب، أجلى الجبهة، منور الشيبة، ذو صوت جهوري، وسمت بهي، فصيح اللسان، حلو البيان.
ظل رضي الله عنه يتعلم العلوم الأصولية والفرعية والأدبية، واستمر في طلب العلم ببلاده، حتى بلغ مرتبة أهلته للتدريس والإفتاء، قبل أن يرحل رحلته الأولى إلى فاس، ثم ما لبث وهو في عين ماضي أن مال إلى الزهد والإنعزال والتأمل، وحُبِّب إليه التعبد وقيام الليل، حتى إذا بلغ سن الرشد صار يدل على الله، وينصح عباده، وينصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لُقِّب بمحيي الدين ثم صار خليفة لوالده على الزاوية، رغم صغر سنه، إذ كان في السادسة عشر من عمره، فأخذ يُدرِّس القرآن وعلوم السنة، في زاوية والده، خمس سنوات.
لما بلغ من عمره المديد إحدى وعشرين سنة 1171هـ / 1758م رحل إلى فاس (المدينة الإدريسية) أول مرة، فأخذ يحضر مجالس العلم من تفسير وحديث وفقه، وحصل فيها على إجازات، وصار يدخل في مساجلات ومناظرات مع كبار علماء فاس، ودرس القراءات السبع المتواترة في جبل العلم.
– والتقى في مدينة وزَّان بالعارف بالله مولاي الطيب بن سيدي محمد بن مولاي عبد الله بن إبراهيم العلمي الوزَّاني ، وكان شيخـاً للطريقة الوزَّانية ، وأذن له مولاي الطيب في تلقين طريقته، ولكنه امتنع.
– كما التقى في جبل الزبيب بالعارف بالله سيدي محمد بن الحسن الونجلي، وأخبره بأنه سيدرك مقام القطب الكبير أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، وأشار إليه بالرجوع إلى بلده .
– وفى مدينة فاس التقى بالولي الصالح سيدي عبد الله بن سيدي العربي المعنى الأندلسي، وتكلم معه في عدة أمور، ودعا له دعاءاً كثيراً .
– وفي تارة أخذ عن الولي الصالح الملامتي سيدي أحمد الطواش، ولَقَّنَهُ اسماً، وطلب منه لزوم الخلوة والوحدة والصبر حتى يفتح الله عليه، فداوم سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه على هذه الأوراد ثم تركها.
– ثم أخذ الطريقة القادرية بفاس ، ولكنه مالبث أن تخلى عنها.
– تعرَّف على تعاليم الطريقة الناصرية، عند لقائه بالولي الصالح سيدي أحمد بن عبد الله التزاني، ثم تركها بعد حين .
– أخذ الطريقة الصديقية المنسوبة للقطب الشهير سيدي أحمد الحبيب بن محمد الغماري السلجماسي الصديقي. – ثم عاد إلى بلدته عين ماضي، ومرَّ في طريقه بالبلد الأبيض، وهي قريبة من عين ماضي، حيث التقى بالقطب الشهير سيدي عبد القادر بن محمد الأبيض، فاختارها منزلاً وقراراً، وانقطع فيها للعبادة والتدريس والإفادة لمدة خمس سنوات, وهو بين زاوية سيدي عبد القادر، وبين بلدته عين ماضي.
– ثم رحل إلى تلمسان 1186هـ / 1772م وغادرها في نفس السنة قاصداً زيارة بيت الله الحرام، وزيارة نبيه عليه الصلاة والسلام، وقد قارب عمره الأربعين .
– فلما وصل إلى بلاد زواوه وهو في طريقه من الجزائر إلى تونس، زار الشيخ سيدي محمد بن عبد الرحمن الأزهري، ذو الصيت الواسع والزوايا الكبيرة والأتباع الكثيرين، وأخذ عنه الطريقة الخلوتية.
– ولما وصل إلى تونس في نفس السنة، تعرَّف على بعض الأولياء، منهم سيدي عبد الصمد الرحوي ، أحد مريدي قطب البلد الذي لا يسمح بأن يراه أحد، وأبلغ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه عن طريق رسول خاص أنه محبوب. ومكث سيدي أحمد التجاني ضي الله عنه بتونس سنة، بعضها بمدينة سوسة، وبعضها بتونس العاصمة، حيث قام بالإفتاء وتدريس عدة كتب، منها كتاب « الحِكَم » لابن عطاء الله رضي الله عنه، فذاع صيته، وبلغ خبره إلى أمير البلاد الذي طلب منه الإقامة بتونس للتدريس والإفادة، إلا أن سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه اعتذر عن ذلك، وغادر البلاد.
– ثم وصل إلى مصر القاهرة بحراً، وبمجرد وصوله؛ شرع يبحث عن شيخها الأكبر في ذلك الوقت؛ سيدي محمود الكردي المصري داراً وقراراً، العراقي أصلاً ومنشأً، لرؤيا رآها له في تونس, وعند لقائه به قال له الشيخ الكبير والولي الشهير: أنت محبوب عند الله في الدنيا وفي الآخرة، فقال له سيدنا رضي الله عنه: من أين لك هذا؟ قال له :من الله، ثم قص عليه سيدنا رضي الله عنه الرؤيا التي رآها في تونس.
وكان يقول فيها لسيدي محمود الكردي: إني نحاس كل ذاتي. فقال له سيدي محمود فيها: وأنا أقلب نحاسك ذهباً. فلما قصها عليه قال له الشيخ الكردي: هو كما رأيت، فما مطلبك؟ فقال له سيدنا رضي الله عنه: القطبانية العظمى. قال : ولك أكثر منها. قال له:عليك؟قال :نعم.
– ثم توجه بحراً إلى البلد الحرام، وكان وصوله إلى مكة المشرفة شهر شوال سنة سبع وثمانين ومائة وألف 1187هـ/1773م، فسمع بالشيخ أبي العباس سيدي أحمد عبد الله الهندي، الذي لم يكن له أيضاً إذن بملاقـاة أحد، ورغم ذلك أخذ عنه سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه علوماً وأسراراً وأنواراً بدون ملاقاة له، إنما كان يراسله مع خادمه، وهو الواسطة بينهما، وقال له في رسائله: أنت وارث علمي وسري ومواهبي وأنواري، فقال له خادمه: هذه مدة ثمانية عشر عاماً وأنا أخدمك، ثم يأتي رجل من ناحية المغرب، تقول: هو وارثي !
فقال له: [يختص برحمته من يشاء] {ال عمرن:74} – لو كان لي بذلك اختيار؛ لنفعت بذلك ولدي قبلك.
– ثم توجه رضي الله عنه إلى المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، لزيارة جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبعد الزيارة الشريفة؛ تلاقى مع القطب الشهير والعالم الكبير: أبي عبد الله سيدي محمد عبد الكريم الشهير بالسمان رضي الله عنه، وأذن له الشيخ السمان في جميع الأسماء، وأخبره بما سيؤول إليه حاله، وأنه هو القطب الجامع.
– وبعد أن أتم مناسك الحج والزيارة؛ رجع بسلامة الله تعالى إلى مصر القاهرة، حيث نزل عند الولي الكبير سيدي محمود الكردي، وأراد الشيخ الكردي أن يلقن سيدنا الطريقة الخلوتية، وإرشاد العباد بها، والتربية بأورادها، فامتنع سيدنا رضي الله عنه، فقال له الشيخ: لقِّن الناس والضمان علي. فقال له: نعم. ثم دعا له الشيخ الكردي رضي الله عنه. وقفل سيدنا عائداً إلى تونس.
– انتقل سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه عام1188هـ / 1774م من تونس إلى تلمسان، أمضى بها ثلاث سنوات في العبادة والمجاهدات، وفي هذا العام التقى سيدنا بكاتب وخازن أسراره: سيدي محمد بن المشري الحسني السباعي السائحي التكرتي، ولقنه الطريقة الخلوتية، ومنذ التقائه به صار يؤمه في الصلاة وبأهله، ويقوم مقامه في كتابة الأجوبة، حتى سنة 1208هـ / 1794م وهي السنة التي بدأ فيها سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه يقوم بالإمامة بنفسه، امتثالاً لأمر جده المصطفى صلى الله عليه وسلم.
– وفي سنة 1191هـ / 1777م شد سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه الرحال من تلمسان إلى فاس -وهذه رحلته الثانية إليها- حيث قصد سيدنا زيارة مولانا إدريس الأزهر، وفي الطريق التقى بسيدي علي حرازم برادة الفاسي لأول مرة، ولقنه الطريقة الخلوتية، وتوجها معاً إلى مدينة فاس، حرسها الله من كل باس.
– وبعد زيارة ضريح سيدي إدريس؛ ودَّع سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه خليفته بفاس، وقفل هو إلى تلمسان، ثم غادرها سنة1196هـ / 1781م إلى قصر الشلالة، وأقام هناك ثلاث سنوات، توجه بعدها للإقامة بأبي سمغون، واستقر بقصر أبي سمغون، حيث ضريح الولي الكامل الذي سمي القصر باسمه، وأقام بأبي سمغون أربع عشرة سنة، حيث حصل فيها الفتح الكبير، والولاية العظمى، التي صبر وصابر من أجل الحصول عليها، وفي خلال إقامته في أبي سمغون؛ توجه مرة إلى توات الغربية، لزيارة العارف بالله سيدي محمد بن الفضيل، وتبادل معه بعض الأسرار .
– وتوجه- للمرة الثانية – إلى مدينة تازة وبها التقى بتلميذه وصاحبه العارف بالله سيدي محمد بن العربي الدمراوي التازي .
– وفي السنة الأولى من رحيله رضي الله عنه إلى أبي سمغون حصل الفتح للشيخ التجاني رضي الله عنه سنة1196هـ .فأذن له سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، في تلقين الخلق على العموم والإطلاق، وعَيَّنَ له الورد الذي يلقنه، في سنة ست وتسعين ومائة وألف 1196هـ : عيَّن له مائة من الإستغفار، ومائة من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي رأس المائة وهو عام 1200هـ .زاده صلى الله عليه وآله وسلم الكلمة المشرفة لا إله إلا الله .
– وأخبره سيد الوجود صلى الله عليه وآله وسلم، سنة ست وتسعين ومائة وألف، بأنه هو مربيه وكافله، وأنه لا يصله شيء من الله إلا على يديه، وبواسطته صلى الله عليه وسلم، وقال له: لا مِنَّة لمخلوق عليك من الأشياخ، فأنا ممدك على التحقيق، فاترك جميع ما أخذت منهم، والزم هذه الطريقة، من غير خلوة، ولا اعتزال عن الناس، حتي تصل مقامك الذي وُعِدت به، وأنت على حالك، من غير ضيق ولا حرج، ولا كثرة مجاهدة .
– وبعد تمكنه رضي الله عنه من الولاية؛ توجه إلى عين ماضي، حيث أسس الزاوية الأم بها، وظل يتنقل بينها وبين أبي سمغون وتوات .
– ولقد زار سيدي علي حرازم برادة شيخه – رضي الله عنه – بأبي سمغون عام 1203هـ / 1789م .
– ولما زاد الإقبال على الطريقة التجانية، إقبالاً لا مثيل له، وبدأ انتشار الطريقة انتشاراً كبيراً، جعل من التجانية قوة حقيقية، منذ سنة 1198هـ /1783م، بدأ يقلق الحكومة التركية، بل أدى بها إلى شن حملات عسكرية على عين ماضي، وفرض إتاوة على الشيخ التجاني رضي الله عنه وأتباعه، مرة سنة 1199هـ/1784م ، وأخرى سنة -1202هـ/1787م، مما سبب الضيق للشيخ التجاني رضي الله عنه، وحمله على الرحيل إلى فاس مرة أخرى، في 17 ربيع الأول سنة 1213هـ/1798م.
– حيث رحب به سلطانها؛ السلطان سليمان، وجميع رجال دولته وكبرائها، وانخرطوا جميعا في سلك طريقته المباركة. حيث وجد السلطان سليمان أن روح وتعاليم الطريقة التجانية متمشية تماماً مع تعاليم الكتاب والسنة، والرافضة لكل أشكال البدع .
وانظر إلى تأدبه الشديد مع الشيخ التجاني رضي الله عنه، حيث يبعث إليه رسالة فيقول فيها ….بعد البسملة والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: « …..عوض والدنا ، سيدنا وشيخنا وقدوتنا المحمدي: أبو العباس سيدي أحمد، أَحمدُ الله، وأُصلي وأُسلِّم على نبيه الكريم. بلغنا مسطوركم الأبرك، وحمدنا الله تعالى على ما خصنا به من رضى …..». في يوم الإثنين السادس من ربيع الثاني ، سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف 1213هـ/1798م. وصل سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه إلى مدينة فاس، التي أسس بها زاويته، واتخذها مقراً لإقامته مقراً نهائياً، وكان بصحبته سيدي علي حرازم رضي الله عنه، بحيث أشرقت بمقدمه الكريم بقاع الأرض، وعمت بركاته القطر المغربي بالطول والعرض، واستقر به المقام، وأخذ يعرج في المقامات، ويترقى في الدرجات، حتى انتهى إلى مقام الختمية، وحصَّل الكتمية، فرضي الله تبارك وتعالي عنه، إذ أصبح هو مجدد القرن الثالث عشر الهجري بلا مراء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: [إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ ، عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ ، مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا] (1). وفي رواية لأبي داود: [المجَدِّدُ مِنَّا أَهْل البَيْتِ] .
وهناك انخرط في طريقته الكثير من المريدين من علماء وفقهاء ووزراء وعامة الناس، ومن مدينة فاس انطلق إشعاع الطريقة التجانية، ليعم باقي أنحاء المغرب من أقصاه إلى أقصاه، وكذا تونس والصحراء، والسودان الغربي.
1. رواه أبو داود والحاكم في المستدرك والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي في المعرفة والتبريزي في مشكاة المصابيح وابن عساكر في تاريخه والخطيب في تاريخ بغداد ونزل – أولاً – سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه، بدار آباء وأجداد سيدي علي حرازم رضي الله عنه، بحي درب الطويل رقم 20، وكان يلقي الدروس العلمية بمسجد الديوان، وبدأ نجمه رضي الله عنه يسطع، ويذيع صيته، حتى وصل إلى حضرة السلطان سليمان، فأثنى عليه في حضرته كل من الشيخ عبد القادر بن شقرون، وكان أجلّ علماء وقته وقاضي قضاة عصره، والشيخ العلامة العباس بن كيران، أحد علماء الحضرة السليمانية، وكان قاضياً بمكناس،فقرر السلطان سليمان دعوة الشيخ التجاني رضي الله عنه، ليحضر مجالسه السلطانية، والكلام بين يديه، فامتثل الشيخ رضي الله عنه لأمر السلطان، وأظهر من العلوم العقلية والنقلية واللدنية ما أبهر الحضور، وجعل المنكرين عليه يتراجعون عما هم فيه من الغرور .
ومما يدل على سعة علم سيدنا رضي الله عنه، وتبحره في علم الظاهر، وبلوغه درجة الإجتهاد فيه؛ هو أن مولانا سليمان -قدس الله روحه في الجنان- كان يجتمع بحضرته العلماء الأجلّة من فحول عصره، للمذاكرة في العلوم وتدريسها وقراءة التفسير، وكان في جملة من يحضر معه لذلك من الشيوخ الكبار، الذين أخذ عنهم الأمير المذكور؛ الشيخ الطيب بن كيران، المتوفي في 14 فاتح عام 1227 هـ . والشيخ سيدي عبد القادر بن أحمد بن العربي بن شقروني، المتوفى 11 شعبان عام 1219 هـ . والشيخ السيد العباسي الشراييبـي من جملة الساردين المقرئين، فاتفق أن حضر سيدنا رضي الله عنه معهم لما قدم لحضرة فاس، وكان في ذلك اليوم لهم نصاب في سورة الناس من التفسير، فشرع الشيخ الطيب بن كيران يتكلم على عادته بحضرة الأمير في ذلك المجمع الحفيل، لمكانته في العلم الظاهر وعلم المعقول، فأبدى وأعاد، وظن أنه بما أبداه ليس له في العلم مثيل، وأذعن له في ذلك الحاضرين، ثم التفت الأمير إلى الشيخ رضي الله عنه، وقال له: ماذا يقول الشيخ في هذه الآية؟ فشرع سيدنا رضي الله عنه يتكلم في الآية الشريفة بما أبهر العقول، في منقول ومعقول، إلى أن قال سيدنا رضي الله عنه في مسألة أطنب فيها الشيخ بن كيران، وأرعد فيها وأبرق، وظن أن شأنه فيها لا يلحق ما حصله: ( ما ذكره هذا المفسر ليس بصواب، وليس عليه معوَّل عند ذوي الألباب ).
فقال الشيخ الطيب: أتعترض علينا، وقائل هذا فلان وفلان من المفسرين؟ وأغلظ في القول, فقال له سيدنا رضي الله عنه بذلك المجلس الحفيل: (ليس الكلام معك أنت، ولا تكن كمن يحمل الأثقال، وحمَّلوك ما لا تحمله وإنما الكلام مع هؤلاء المفسرين).
ثم شرع سيدنا رضي الله عنه يبين وجه الصواب بالأدلة النقلية والعقلية، إلى أن ظهر الحق لكل مرتاب، وحصحص الحق وزهق الباطل، وأقر بالتحقيق له كل مناضل, وقال كل من بالمجلس: والله إن هذا لهوالحق المبين، وذلك كله بمرأى من الأمير ومسمع، ثم انفض المجلس، ولسان الشكر من المنصفين على سيدنا رضي الله عنه لاهج، ثم تكلم الأمير مع من بقى معه من الحاضرين؛ وقال: أنتم تعلمون مقام سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه، وجلالته في علم الظاهر، أما علم الباطن؛ فهو أبوه وأمه، وهو ابنهما، فماذا تقولون؟ فقالوا: والله إن قوله الصواب، وقد حصحص الحق .
وقد قال علامة تونس سيدي الشيخ محمد بن سليمان المناعي رضي الله عنه، بعد اجتماعه بسيدنا رضي الله عنه: فالموفق الكامل يلتمس الأعذار لرعاع الناس، فضلاً عن إمام مثل هذا، فإنه بحر في علوم الشرع الظاهر لامثيل له فيما رأت عيني:
– يحفظ من كتب الفقه (مختصر ابن حاجب) ، و(مختصر الشيخ خليل) ، و(تهذيب البراذعي) ، عن ظهر قلب , حكى لي أنه يحفظ جميع ما سمع من سماع واحد . على مثل هذا يعترض من لا خبرة له بفرائض الوضوء !
– وأما كتب الحديث ؛ فيحفظ (صحيح البخاري) و(صحيح مسلم) و(الموطأ)عن ظهر قلبه
– وأما كتب التوحيد ؛ فهو نظير الغزالي في هذا الوقت . والقلوب بيد الله ، يصرِّفها كيف يشاء.
ولم تطل إقامة الشيخ التجاني رضي الله عنه عند أقارب الشيخ علي حرازم رضي الله عنه، فقد أهدى مولاي سليمان، دار المرايا -وهي دار معتبرة، أنفق عليها السلطان نفقة عظيمة- أهداها إلى الشيخ التجاني رضي الله عنه، ليسكنها مع أسرته، ورتب له ما يكفيه .
وامتنع الشيخ رضي الله عنه في باديء الأمر حتى بيَّن له السلطان أنها ليست ملكاً للدولة، ولكنها من ماله الخاص، ولكنه لم يشعر بالراحة التامة إلا بعد أن وافقه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على سكناها، شريطة أن يتصدق بقدر كرائها على الضعفاء والمساكين، ففعل .
وظل سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه يجتمع مع أصحابه، لذكر الوظيفة، ببـاب داره، وتارة في بعض مساجد المدينة، إلى أن أمره صلى الله عليه وآله وسلم ببناءالزاوية، فاشترى قطعة أرض بحي البليدة، بفاس القديمة، من ماله الخاص، وهذه الأرض -قبل بناء الزاوية فيها- كانت مُهابة، لا يستطيع أحد أن يدخلها وحده من الهيبة، وكان يُسمع فيها في بعض الأحيان ذكر جماعي، يقصده عدد كبير من مجاذيب فاس .
كما اشترى الشيخ رضي الله عنه ما جاورها من الأرض، ليصبح في الإمكان الزيادة في مساحة الزاوية إن لزم الأمر. ووقف الحاسدون والمنكرون أمام الشيخ رضي الله عنه رافضين لبناء الزاوية.
ففكر الشيخ رضي الله عنه في مغادرة فاس والتوجه إلى الشام، ولما علم السلطان سليمان بموقف هؤلاء المنكرين، واعتراضهم على بناء الزاوية، أصدر أوامره ببنائها رغم أنف المنكرين، كما بعث قدراً كبيراً من المال ليساعد في بناء الزاوية، فردها سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه بلطف، وقال: إن الزاوية أمرها قائم بإذن الله. وتم بناء الزاوية وتشييدها خلال سنة 1215هـ/1800م. وأخبر الشيخ رضي الله عنه بأهمية هذا الإنجاز وبركته :
فقال: (لو علم أكابر العارفين ما في الزاوية من الفضل لضربوا عليها خيامهم) وكان يقول رضي الله عنه: ( الصلاة في الزاوية مقبولة قطعاً ).
الطريقة السهروردية، أحد الطرق الصوفية الاسلامية، تأسست على يد شهاب الدين عمر السهروردي المتوفى سنة 632 هـ.
هو شهاب الدين عمر بن محمد السهرورد الشيخ الإمام العالم القدوة الزاهد العارف المحدث أوحد الصوفية شهاب الدين أبو حفص
وأبو عبد الله عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله – وهو عمويه – بن سعد بن حسين بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله ابن فقيه المدينة وابن فقيهها عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري السهروردي الصوفي ثم البغدادي .أما شهاب الدين السهروردي فنشأته بالقرب من العارفين والمتعبدين كفيلة بتحقيق زيادته ومكانته بين أقطاب الصوفية ، فلقد صحب عمه أبا نجيب السهروردي وهو صاحب الكتاب الشهير والمعنون بـ ” آداب المريدين ” ، ثم صحب الشيخ عبد القادر الجيلاني وهو أحد أساطين التصوف في الإسلام ومؤسس الطريقة القادرية المعروفة ، وبلغ السهروردي شأناً كبيراً في ميدان الوعظ والدعوة والإرشاد حتى التمس خطاه الخليفة الناصر من أجل مساعدته في تأييد الدولة العباسية التي كانت على وشك سقوطها التاريخي. بالإضافة إلى أن شهاب الدين السهروردي كما يشير جوزيبي سكاتولين قام بمقام دبلوماسية لدى حكام الدول المجاورة لفصاحة لسانه وقوة حجته ونصاعة نيته وسريرته، ولعل أشهر المقابلات التي أجراها شهاب الدين السهروردي هي المقابلة التي التقى فيها أثناء حجه إلى بيت الله الحرام مع سلطان العاشقين عمر بن الفارض.ويختلف شهاب الدين السهروردي عن بقية أقرانه من أقطاب الصوفية في كتاباته، حيث نلمح أنه كثير الاهتمام بالجوانب العملية في حياة العبد بخلاف معظم الصوفيين الذين غرقوا في مجاهل التنظير وأدبيات الزهد، لذا فنجده في كتابه الماتع ” عوارف المعارف ” يقدم إرشادات للسالكين في حياتهم العملية، لذا اجتهد السهروردي في كتابه بشرح وتأويل الرياضات العملية كالاستماع والخلوة، بجانب تفصيل دقيق للأحوال والمقامات. واستمد كلامه من الكتب الصوفية المعروفة عند حديثه عن الخلوة والتي قصد بها ما أشار إليه نجم الدين كبرى بقوله: ” انقطاع من الخلق إلى الخالق، لأنه سفر النفس إلى القلب، ومن القلب إلى الروح، ومن الروح إلى السر، ومن السر إلى خالق الكل، ومسافة هذا بعيدة جدا إلى النفس، وقريبة جدا بالنسبة إلى الله ”.وما امتاز به شهاب الدين السهروردي في كتابه ” عوارف المعارف ” أنه انتهج المنحى العلمي والتوثيق في سرده لأخبار وأقوال الصوفيين، ولم يتبع الطريقة السائدة في كتب المتقدمين من حيث القول بحدثنا فلان أو ذكر لنا أحد الصالحين، بل يتعمد ذكر توثيق النقل عن طريق التواتر والتتابع لناقلي القول، كذلك امتاز شهاب الدين السهروردي بأنه من أقطاب الصوفيين الذين أجادوا في توثيق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتبع رواته، من مثل ذلك ما أورده حينما قال: ” أخبرنا الشيخ أبو زرعة طاهر بن أبي الفضل في كتابه قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن خلف الشيرازي إجازة قال: أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: أخبرنا إبراهيم بن أحمد بن محمد بن رجاء قال: حدثنا عبد الله بن أحمد البغدادي قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا عمر بن راشد عن مالك بن أنس عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): ” لكل شئ مفتاح ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء والصبر ، هم جلساء الله يوم القيامة ”، ثم يعقب على حديث أشرف الخلق بقوله: ” فالفقر كائن في ماهية التصوف ، وهو أساسه ، وبه قوامه ”.
التصوف عند السهروردي :
ولعل انفراد شهاب الدين السهروردي بإمامة الصوفيين جاء أيضاً من قوة علمه وقدرته على مناقشة القضايا الرئيسة في التصوف ومنها قضية ماهية التصوف، ولعل أغلب أقطاب المتصوفين قاموا بخط أحوالهم ومقاماتهم بغير تعرض للموضوعات الأساسية في اتجاه التصوف الإسلامي، لكن السهروردي نجده يجوب هنا وهناك ليجمع كل ثمين في كل قضية يتناولها ثم يقوم بعرض رأيه وتجربته الخاصة. مثل لذلك ما عرضه السهروردي في مجمل حديثه عن التصوف والفقر، فنجده يعرض لبعض أقوال الصوفية عن التصوف والفقر مثل أبي الحسن النوري، ومعروف الكرخي، و رويم، والشبلي، وأبي محمد الجريري، ثم يردف تلك الإلماعات بنتائج تشير إلى رأيه، يقول: ” الفقير في فقره متمسك به، متحقق بفضله، يؤثره على الغنى، متطلع إلى ما تحقق من العوض عند الله حيث يقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ): ” يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم: وهو خمسمائة عام ” ( رواه الترمذي وقال حسن صحيح ) .
ويكمل السهرودي حديثه عن ماهية التصوف واقترانه بالفقر بقوله: ” فكلما لاحظ العوض الباقي أمسك عن الحاصل الفاني، وعانق الفقر والقلة وخشي زوال الفقر لفوات الفضيلة والعوض، وهذا عين الاعتلال في طريق الصوفية لأنه تطلع إلى الأعواض، وترك لأجلها، والصوفي يترك الأشياء، لا للأعواض الموعودة، بل للأحوال الموجودة، فإنه ابن وقته ” .
ولعل شهاب الدين السهروردي هو أفضل من صاغ تعريفاً رائعاً للصوفي، وجاءت مواضعته حول التعريف كونه مستقرئاً جيداً لما سطره السابقون عليه من تعريفات، وهو دائم الذكر لكل التعريفات المتضمنة بقضايا التصوف ويشبه في ذلك الباحث المجتهد الذي لا ينطلق إلى من خلال أساس متين وقوي، ويستهدف التراكم المعرفي، فيقول عن الصوفي: ” الصوفي هو الذي يكون دائم التصفية لا يزال يصفي الأوقات عن شوب الأكدار بتصفية القلب عن شوائب النفس، ويعينه على هذه التصفية دوام افتقاره إلى مولاه، فبدوام الافتقار ينقى من الكدر، وكلما تحركت النفس وظهرت بصفة من صفاتها أدركها ببصيرته النافذة وفر منها إلى ربه ” .
أحوال ومقامات :
التصوف في مجمله تجربة ذاتية استثنائية لا تتكرر أو تتشابه، وهذه التجربة تعتمد على القلب والبصيرة النافذة أو الحدس باختصار، وها هو أبو حامد الغزالي حجة الإسلام يعطي للقلب والحدس أهمية كبيرة في تحقيق المعرفة الصوفية، وشبه الغزالي المعرفة الصوفية بالحوض، وهذا الحوض يمكن أن يأتيه الماء من على سطحه بواسطة الأنهار والأمطار وفي هذه الحالة لا يكون نقيا، وقد نسعى إلى حفر أعماق هذا الحوض ( البئر ) حتى نصل إلى الماء الصافي الموجود في عمق هذا البئر، عندئذ يكون الماء صافياً نقياً.
وحديث الحال والمقام يطول، فالحال باختصار شديد هو معنى يرد على القلب من غير تعمد من الصوفية ولا اجتلاب ولا اكتساب لهم، من طرب وحزن أو قبض أو شوق أو انزعاج، فالأحوال مواهب والمقامات مكاسب، والأحوال كما يشير فيصل عون تأتي من عين الوجود، والمقامات تحصل ببذل المجهود، وصاحب المقام ممكن في مقامه وصاحب الحال مترق عن حاله. والقاشاني يقول عن الأحوال: ” إن الأحوال هي المواهب الفائضة على العبد من ربه، إما واردة عليه ميراثاً للعمل الصالح المزكي للنفس، المصفى للقلب، وإما نازلة من الحق امتناناً محضاً، وإنما سميت أحوالاً لتحول العبد بها من الرسوم الخلقية ودركات البعد إلى الصفات الحقِّيَّةِ ودرجات القرب ”.
وحينما وجد شهاب الدين السهروردي لغطاً واسعاً بين المريدين في فهم أوجه الفرق بين الحال والمقام شرع إلى تبسيط الفروق بينهما، موضحاً اختلاف الشيوخ وأقطاب الصوفية في التلميح بهما وصعوبة التفريق بينهما لتشابهما في النفس، وكان من أوائل الذين أدركوا وجود ضوابط ومحكات حاكمة للتفرقة بين الثنائيات لاسيما التي تتعلق بالتصوف، وشدد على وجود ضابط يفرق بينهما، ويشير إلى ذلك بقوله: ” فالحال سمي حالاً لتحوله، والمقام مقاماً لثبوته واستقراره، وقد يكون الشئ بعينه حالاً ثم يصير مقاماً، مثل أن ينبعث من باطن العبد داعية المحاسبة، ثم تزول الداعية بغلبة صفات النفس ثم تعود ثم تزول، فلا يزال العبد حال المحاسبة يتعاهد الحال، ثم يحول الحال بظهور صفات النفس إلى أن تتداركه المعونة من الله الكريم، ويغلب عليه حال المحاسبة، وتنقهر النفس وتنضبط وتتملكها المحاسبة، فتصير المحاسبة وطنه ومستقره ومقامه ” .
ثم يعرج شهاب الدين السهروردي إلى ما تداوله الصوفيون من الحديث عن أن المقامات مكاسب والأحوال مواهب وهو الحديث الأشهر في مجال التصوف، فيقول برأيه في هذا بقوله: ” المكاسب محفوفة بالمواهب، والمواهب محفوفة بالمكاسب، فالأحوال مواجيد، والمقامات طرق المواجيد ” . ويشير السهروردي كثيراً إلى أن الأحوال مواهب سماوية علوية، وأن المقامات هي طرقها.
2
تعريف بالحركة السنوسية
عرفت السنوسية بأنها حركة دعوية اسلامية سنية مالكية، منهجها الإصلاح، صوفية الملامح، نشأت فى الثلث الأول من القرن التاسع عشر (1240 هجري ، 1825 ميلادى) تؤمن بالصوفية الموافقة للكتاب والسنة، وكما يقول حفيد الإمام السيد احمد الشريف فى كتابه: (الأنوار القدسية فى معالم الطريقة السنوسية) هى متابعة السنة فى الأقوال والأفعال والأحوال والإشتغال بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فى عموم الأوقات ، وأيضاً كما قال الإمام الســيد محمد بن على السنوسى: (فاعلم أن ســـبيل القوم اتباع النبي صلى الله عليه وآله وســلم فى الجليل والحقير وأعمالهم موزونة بميزان الشـــريعة).
وللطرق الصوفية سبيلان، سبيل الإشراقية وسبيل البرهانية، فالإشراقية كما يقول السيد أحمد الشريف، دأبهم تصفية النفوس من الأكدار وتوجيهها نحو الحق لنهج المعارف والأســــــرار. بدون تعلم وتعليم، ( من بـاب : اتقوا الله ويعلمكم الله).
أما البرهانية : فدأبها اتباع الأوامر واجتناب النواهي، واقتباس العلوم الأربعة: علوم الذات والصفات والفقه والحديــث والدلات، وسبيلها هو تعمير الظواهر بالآداب على متابعة أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتعمير البواطن بمراقبة الله فى جميع الحركات والسكنات على السنن النبوي، والنهج المصطفوي، و السنوســـية تفضل سبيــــل البرهــانية .
وكان الإمام يأمر الأتباع والمريدين بقراءة صحيح البخارى وموطأ الإمام مالك وبلوغ المرام فى الحديث، ورسالة ابن أبى زيد القيروانى فى الفقه، والرسائل السبع فى التصوف.
فالسنوسية هى حركة سلمية شعارها الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وهى حركة علمية جددت فى الإســلام وفتحت باب الإجتهاد، وخلصت الصوفية من الشــوائب التى علقت بهــا، وعملت على نشــر العلم والكتـــاب، وكان منهجها يقوم على قواعد ثلاث :
تعلم العلم وتعليمه .
ارشاد العباد الى الله ودعوتهم اليه .
الجهاد فى سبيل الله لإعلاء كلمته .
فكان برنامج الحركة يهدف الى بناء الشخصية المتكاملة بشقيها الروحى والمادى وبناء مجتمع متكامل يتم فيه صقل الأفراد وإعدادهم لكل تكاليف الحياة المتعددة. فيبدأ من تهذيب النفس بروح الدين الحنيف، فيذكرون الله صباحاً ومســاءاً لقوله تعــالى: والذاكرون الله كثيراً والذاكرات.
وتمر بتغذية العقل بالعلم والمعرفة، وتعمق بالكد والعمل وكسـب القوت لقوله تعــالى: فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور.
وتتوج بالقدرة على صد الأعداء (الإستعمار الغازى) وكان هذا واضحاً جلياً فى حربهم ضد الفرنسيين فى السودان والإنجليز فى مصر والإيطاليين فى ليـبيــا، امتثالاً لقوله تعالى: واعدوا لهم ما استطعتم من قوةِ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم, ولقوله تعالى أيضاً: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم صدق الله العظيم.
فكانت أهدافها تتلخص فى الآتى :
التشدد فى أمور العبادة والزهد فى المأكل والملبس.
الدعوة الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
الدعوة الى الاجتهاد ومحاربة التقليد.
الاهتمام بالعمل اليدوى.
الجهاد الدائم فى سبيل الله.
وكانت حكمة مؤسس الحركة الإمام السيد محمد بن على السنوسى فى الحيــاة :
اعمل لدنيــاك كأنك تعيــش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، واعتماد قول الله في محكم التنزيل : ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحســن كمـا أحســن الّلـــه إليــك.
ومن أبرز شخصياتها :
ـ الشيخ محمد بن علي السنوسي 1202هـ ـ 1276هـ (1787 ـ 1859م) وهو المؤسس للدعوة السنوسية، وتنسب السنوسية لجده الرابع.
وُلد في مستغانم في الجزائر، ونشأ في بيت علم وتُقىً. وعندما بلغ سن الرشد تابع دراسته في جامعة مسجد القرويين بالمغرب، ثم أخذ يجول في البلاد العربية يزداد علماً فزار تونس وليبيا ومصر والحجاز واليمن ثم رجع إلى مكة وأسس فيها أول زاوية لما عُرِف فيما بعد بالحركة السنوسية.
وله نحو أربعين كتاباً ورسالة منها: الدرر السنية في أخبار السلالة الإدريسية وإيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن.
ـ الشيخ المهدي محمد بن علي السنوسي 1261 ـ 1319هـ (1844 ـ 1902م) خلف والده في قيادة الدعوة السنوسية وعمره اثنا عشر عاماً.
ـ الشيخ أحمد الشريف السنوسي ابن عم المهدي ـ ولد سنة 1290هـ (1873م) تلقى تعليمه على يد عمه شخصيًّا، وعاصر هجمة الاستعمار الأوروبي على شمال إفريقيا وهجوم إيطاليا على ليبيا فاستنجد في عام 1917م بالحكومة العثمانية، فلم تنجده خوفاً من على مركزها الديني. وقد وقف مع (مصطفى كمال أتاتورك) ظناً منه أنه حامي الدين ـ كما كان يطلق عليه ـ ولصد الهجمة الغربيَّة على تركيا.. ولما تبين له مقاصده الحقيقية المعادية للإسلام غادر الشيخ أحمد تركيا إلى دمشق عام 1923م، وعندما شعرت فرنسا بخطره على حكومة الانتداب طلبته فهرب بسيارة عبر الصحراء إلى الجزيرة العربية.
ـ الشيخ عمر المختار 1275 ـ 1350هـ (1856 ـ 1931م) وهو البطل المجاهد، أسد القيروان، الذي لم تحل السنوات السبعون من عمره بينه وبين الجهاد ضد الإيطاليين المستعمرين لليبيا، حيث بقي عشر سنوات يقاتل قوى الاستعمار أكبر منه بعشرات المرات، ومجهزة بأضخم الأسلحة في ذلك العصر، إلى أن تمكن منه الاستعمار الإيطالي الغاشم، ونفَّذ فيه حكم الإعدام وذلك في يوم الأربعاء السادس عشر من أيلول (سبتمبر) 1931م ويرجى أن يكون شهيداً في سبيل الله.
3
القطب المكتوم سيدي أبي العباس أحمد التجاني
هو سيدي أبو العباس أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن محمد بن سالم بن العيد بن سالم بن أحمد بن أحمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد الجبار بن إدريس بن إدريس بن إسحاق بن علي زين العابدين بن أحمد بن محمد بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، من السيدة فاطمة الزهراء ، سيدة نساء أهل الجنة ، ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهو الشريف الأصل ، صاحب الفتح الأكبر ، والمقام الأفخم ، القطب المكتوم رضي الله عنه.
قيل له : أَيُكذَبُ عليك ؟
قال : ﴿نعم ، إذا سمعتم عني شيئا ؛ فزنوه بميزان الشرع . فإن وافق ؛ فاعملوا به, وإن خالف؛ فاتركوه﴾ .
فلولا إتباع الشرع ما وصل من وصل ، ومن ترك الأصول حرم الوصول .
فهو الذي لم يشم له الأولياء رائحةً أصلاً . لأنهم دخلوا وخرجوا من باب القدرة، ومن دخل من باب القدرة لا يرى من هو في المخدع، يدخل ويخرج من باب السر.
وإن كان رضي الله عنه قد جَوَّع الجوع، وعَطَّش العطش، ونَوَّم النوم، وسَهَّر السهر، وخَوَّف الخوف، إلا أن طريقته هي التفويض مع التبري من الحول والقوة، وتجريد التوحيد، وتوحيد التفريد مع الحضرة، في موقف العبودية، لسر خاص، مستمد من لحظ كمال الربوبية، لا بشيء، ولا لشيء .
كانت طريقته التوحيد وصفاً ، وحكماً ، وحالاً ، تحقيقاً للشرع، ظاهراً وباطناً، بقلبٍ فارغٍ، وكون غائب، ومشاهدة رب خاص، بسريرة لا تجاذبها الشكوك، وسر لا تنازعه الأغيار.
فهو رضي الله عنه، ذو اللسانين والبيانين، وصاحب البرهانين والسلطانين، وذي السراجين والمنهاجين، وإمام الفريقين والطريقين، له في كل أرض خيل لا تُسبق، وفي كل جيش سلطان لا يُخالف، وفي كل منصب خليفة لا يُعزل، ما رفع المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- قدماً إلا وضع سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه قدمه في الموضع الذي رفعه منه المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- إلا أن يكون قدماً من أقدام النبوة، فإنه لا سبيل أن يناله غير نبي.
واعلم أن للإنس مشايخ، وللجن مشايخ، وللملائكة مشايخ، وأما سيدي أحمد التجاني فشيخا للكل.
ملَّكَهُ الله تعالى الأرض، شرقها وغربها، قفرها وعمرانها، برها وبحرها, سهلها وجبلها، إنسها وجنها، تصريفاً وتمكيناً، فتركها واختار العبودية الخالصة، التي ليس فيها شائبة ربوبية ؛ يُنْطِقُهُ اللهُ فينطق، يعطيه الله فيفـرق، يأمره فيفعل، الناس عنده كالقوارير، بواطنهم كظواهرهم.
جعل الله له أربعة وجوه :
– وجه ينظر به إلى الدنيا,
– ووجه ينظر به إلى الآخرة,
– ووجه ينظر به إلى الخلق,
– ووجه ينظر به إلى الحق,
وصَيَّرَهُ الله تعالى خليفة على أرضه وسمائه وعوالمه ، وقال له : إنك لدينا مكين أمين .كانت الخوارق تظهر أحياناً فيه، وتارة منه. مارآه غيره في منامه ؛ رآه هو في يقظته .
وإن كان – تعالى – قد قال: ﴿ويخلق مالا تعلمون﴾ {النحل : 8} . فهو -رضي الله عنه – مما لا علم لنا به وممن ترجم للشيخ رضي الله عنه – من غير أهل طريقته – الشيخ محمد البشير ظافر في كتـابه الشـهير : «اليواقيت الثمينة في أعيان مذهب عالم المدينة» فقال : ” سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه بن المختار بن أحمد بن محمد بن سالم الشريف التجاني الشهير ، القدوة الكامل ، العارف الراسخ ، جبل السنة والدين ، والعلَّامة الدرَّاكة الفهَّامة ، الجامع بين الشريعة والحقيقة ، نادرة الزمان ، ومصباح الأوان “.
قال عنه الشيخ العلَّامة ، حافظ المغرب ، الشيخ الكتاني : ” كان رحمه الله أحد العلماء العاملين ، والأئمة المجتهدين ، ممن جمع بين شرف الجرثومة والدين، وشرف العلم والعمل واليقين، والأحوال الربانية الشريفة، والمقامات العلية المنيفة، قوي الظاهر والباطن، كامل المحاسن، بهي المنظر، جميل المظهر، منور الشيبة، عظيم الهيبة، جليل القدر، شهير الذكر، ذو صيت بعيد، وحال مفيد، وكلمـة نافذة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اشتغل في بدايته بطلب العلوم الأصولية والفرعية والأدبية، حتى رأس فيها، وحصَّل فيها أسرار معانيها. أذن له النبي صلى الله عليه وسلم في تلقين الخلق، سنة ستة وتسعين ومائة وألف، ومناقبه رضي الله عنه وأحواله كثيرة، وتوفي صبيحة الخميس السابع عشر من شوال سنة ثلاثين ومائتين وألف، وحضر جنازته من لا يُحصى من علماء فاس وصلحائها، وأعيانها وفضلائها وأمرائها، ودفن بزاويته المشهورة بحومة البليدة ” .
أما من ترجم له من أهل طريقته ؛ فلا يكاد يحصيهم العاد .
وُلِدَ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه عام خمسين ومائة وألف 1150هـ . 1737م .. ببلدة عين ماضي بالجزائر مقر أسلافه، فجده الرابع سيدي محمد بن سالم، انتقل من قبيلة عبدة مع أسرته، وموطنها المغرب الأقصى إلى بني تجانة، وتزوج منهم، وصار أولاده وأحفاده يُعرفون بالتجانيين. وسيدي أحمد التجاني رضي الله عنه – وهو الشريف الحسني الأصيل -لم يعر لمسألة هذا النسب أي اهتمام، حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم – يقظة ، لا مناماً : ﴿ أنت ولدي حقاً ، ونسبك إلى الحسن بن عليّ صحيح ﴾ .
كانت لعين ماضي أهمية علمية كبيرة، إذ قام العلماء الأشراف الوافدين من المغرب بفتح الزوايا والرباطات العلمية ، وكان لآباء وأجداد الشيخ التجاني رضي الله عنه، باع طويل في نشر الإسلام، وتعاليمه الروحية والعلمية في هذه البلاد، ومنها إلى بلاد شمال إفريقيا والصحراء ووسط إفريقيا.
ومما يؤكد علو كعب أسرته رضي الله عنه في العلم والمعرفة ؛ ما ذكره التاريخ من أن السيد محمد ابن المختار -أبا سيدي أحمد التجاني رضى الله عنهما- كان شيخاً كبيراً لزاوية عظيمة في عين ماضي، وصفه سيدي علي حرازم برادة رضي الله عنه بأنه شيخ الإسلام وملاذ الأنام, أما أمه رضى الله عنهما: فهي السيدة عائشة بنت الولي الجليل سيدي محمد السنوسي التجاني الماضوي، يذكر لها من الصلاح والولاية والمكانة العالية والمرتبة السنية .
أما أخوه السيد محمد رضي الله عنه المكنَّى بابن عمر، فكان عالماً حافظاً للقرآن ، مشاركاً في علوم الشريعة, متقناً لعلوم الفرائض.
أما جده الثالث؛ فهو أحمد بن محمد رضى الله عنهما، العلامة عالم العلماء، وأمير الأمراء، صاحب الحال القوي، والنور السني. أما الرابع؛ فهو محمد بن سالم رضي الله عنه، الشيخ الولي، المكين العلي، ذو النور اللائح، والجذب الواضح، حتى كان إذا خرج من داره للمسجد يتبرقع، ولا يُرى وجهه إلا إذا دخل المسـجد، ثم إذا رجع إلى داره عاد إلى ستر وجهه حتى يدخل لخلوته، ولما سُئل سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه عن ذلك، قال: إنه بلغ مرتبة الولاية، ومن بلغها يصير كل من رأى وجهه رضي الله عنه لا يقدر على مفارقته طرفة عين، وإن فارقه وانحجب عنه مات لحينه.
وكان سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه أوسط الأبناء لأمه وأبيه، ونشأ بين أبوين صالحين شريفين، نشأة عفاف وصلاح، وكان رضي الله عنه أعجوبة الزمان في الذكاء ورجاحة العقل، وكان رضي الله عنه شديد الحزم، لا يريد أمراً إلا بدأه، ولا يبتدئ شيئا إلا أتمه .
وكان رضي الله عنه كريم الأخلاق والخلال، طيب النفس والفعال، كثير الحياء والأدب، حسن السمت، طويل الصمت، كثير القراءة، معتاداً للتلاوة، يعلوه الوقار إذا سكت، والهيبة إذا نطق، حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين برواية ورش، على يد العلَّامة المقريء سيدي محمد بن حمو التجاني الماضوي، والذي تتلمذ على شيخه العارف بالله سيدي عيسى بو عكاز الماضوي التجاني .
وكان مع صغر سنه قوي الظاهر والباطن، كامل الأنوار والمحاسن، وقد توفي أبوه وأمه في يوم واحد، رضي الله عنهم أجمعين، ودفنا بعين ماضي، وكان سيدنا آنذاك لم يتجاوز الحادية عشر. أما هيئته رضي الله عنه فكان أبيضاً مشرباً بحمرة، معتدل القامـة، أقنى الأنف، أزج الحاجب، أجلى الجبهة، منور الشيبة، ذو صوت جهوري، وسمت بهي، فصيح اللسان، حلو البيان.
ظل رضي الله عنه يتعلم العلوم الأصولية والفرعية والأدبية، واستمر في طلب العلم ببلاده، حتى بلغ مرتبة أهلته للتدريس والإفتاء، قبل أن يرحل رحلته الأولى إلى فاس، ثم ما لبث وهو في عين ماضي أن مال إلى الزهد والإنعزال والتأمل، وحُبِّب إليه التعبد وقيام الليل، حتى إذا بلغ سن الرشد صار يدل على الله، وينصح عباده، وينصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى لُقِّب بمحيي الدين ثم صار خليفة لوالده على الزاوية، رغم صغر سنه، إذ كان في السادسة عشر من عمره، فأخذ يُدرِّس القرآن وعلوم السنة، في زاوية والده، خمس سنوات.
لما بلغ من عمره المديد إحدى وعشرين سنة 1171هـ / 1758م رحل إلى فاس (المدينة الإدريسية) أول مرة، فأخذ يحضر مجالس العلم من تفسير وحديث وفقه، وحصل فيها على إجازات، وصار يدخل في مساجلات ومناظرات مع كبار علماء فاس، ودرس القراءات السبع المتواترة في جبل العلم.
– والتقى في مدينة وزَّان بالعارف بالله مولاي الطيب بن سيدي محمد بن مولاي عبد الله بن إبراهيم العلمي الوزَّاني ، وكان شيخـاً للطريقة الوزَّانية ، وأذن له مولاي الطيب في تلقين طريقته، ولكنه امتنع.
– كما التقى في جبل الزبيب بالعارف بالله سيدي محمد بن الحسن الونجلي، وأخبره بأنه سيدرك مقام القطب الكبير أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه، وأشار إليه بالرجوع إلى بلده .
– وفى مدينة فاس التقى بالولي الصالح سيدي عبد الله بن سيدي العربي المعنى الأندلسي، وتكلم معه في عدة أمور، ودعا له دعاءاً كثيراً .
– وفي تارة أخذ عن الولي الصالح الملامتي سيدي أحمد الطواش، ولَقَّنَهُ اسماً، وطلب منه لزوم الخلوة والوحدة والصبر حتى يفتح الله عليه، فداوم سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه على هذه الأوراد ثم تركها.
– ثم أخذ الطريقة القادرية بفاس ، ولكنه مالبث أن تخلى عنها.
– تعرَّف على تعاليم الطريقة الناصرية، عند لقائه بالولي الصالح سيدي أحمد بن عبد الله التزاني، ثم تركها بعد حين .
– أخذ الطريقة الصديقية المنسوبة للقطب الشهير سيدي أحمد الحبيب بن محمد الغماري السلجماسي الصديقي. – ثم عاد إلى بلدته عين ماضي، ومرَّ في طريقه بالبلد الأبيض، وهي قريبة من عين ماضي، حيث التقى بالقطب الشهير سيدي عبد القادر بن محمد الأبيض، فاختارها منزلاً وقراراً، وانقطع فيها للعبادة والتدريس والإفادة لمدة خمس سنوات, وهو بين زاوية سيدي عبد القادر، وبين بلدته عين ماضي.
– ثم رحل إلى تلمسان 1186هـ / 1772م وغادرها في نفس السنة قاصداً زيارة بيت الله الحرام، وزيارة نبيه عليه الصلاة والسلام، وقد قارب عمره الأربعين .
– فلما وصل إلى بلاد زواوه وهو في طريقه من الجزائر إلى تونس، زار الشيخ سيدي محمد بن عبد الرحمن الأزهري، ذو الصيت الواسع والزوايا الكبيرة والأتباع الكثيرين، وأخذ عنه الطريقة الخلوتية.
– ولما وصل إلى تونس في نفس السنة، تعرَّف على بعض الأولياء، منهم سيدي عبد الصمد الرحوي ، أحد مريدي قطب البلد الذي لا يسمح بأن يراه أحد، وأبلغ سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه عن طريق رسول خاص أنه محبوب. ومكث سيدي أحمد التجاني ضي الله عنه بتونس سنة، بعضها بمدينة سوسة، وبعضها بتونس العاصمة، حيث قام بالإفتاء وتدريس عدة كتب، منها كتاب « الحِكَم » لابن عطاء الله رضي الله عنه، فذاع صيته، وبلغ خبره إلى أمير البلاد الذي طلب منه الإقامة بتونس للتدريس والإفادة، إلا أن سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه اعتذر عن ذلك، وغادر البلاد.
– ثم وصل إلى مصر القاهرة بحراً، وبمجرد وصوله؛ شرع يبحث عن شيخها الأكبر في ذلك الوقت؛ سيدي محمود الكردي المصري داراً وقراراً، العراقي أصلاً ومنشأً، لرؤيا رآها له في تونس, وعند لقائه به قال له الشيخ الكبير والولي الشهير: أنت محبوب عند الله في الدنيا وفي الآخرة، فقال له سيدنا رضي الله عنه: من أين لك هذا؟ قال له :من الله، ثم قص عليه سيدنا رضي الله عنه الرؤيا التي رآها في تونس.
وكان يقول فيها لسيدي محمود الكردي: إني نحاس كل ذاتي. فقال له سيدي محمود فيها: وأنا أقلب نحاسك ذهباً. فلما قصها عليه قال له الشيخ الكردي: هو كما رأيت، فما مطلبك؟ فقال له سيدنا رضي الله عنه: القطبانية العظمى. قال : ولك أكثر منها. قال له:عليك؟قال :نعم.
– ثم توجه بحراً إلى البلد الحرام، وكان وصوله إلى مكة المشرفة شهر شوال سنة سبع وثمانين ومائة وألف 1187هـ/1773م، فسمع بالشيخ أبي العباس سيدي أحمد عبد الله الهندي، الذي لم يكن له أيضاً إذن بملاقـاة أحد، ورغم ذلك أخذ عنه سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه علوماً وأسراراً وأنواراً بدون ملاقاة له، إنما كان يراسله مع خادمه، وهو الواسطة بينهما، وقال له في رسائله: أنت وارث علمي وسري ومواهبي وأنواري، فقال له خادمه: هذه مدة ثمانية عشر عاماً وأنا أخدمك، ثم يأتي رجل من ناحية المغرب، تقول: هو وارثي !
فقال له: [يختص برحمته من يشاء] {ال عمرن:74} – لو كان لي بذلك اختيار؛ لنفعت بذلك ولدي قبلك.
– ثم توجه رضي الله عنه إلى المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، لزيارة جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبعد الزيارة الشريفة؛ تلاقى مع القطب الشهير والعالم الكبير: أبي عبد الله سيدي محمد عبد الكريم الشهير بالسمان رضي الله عنه، وأذن له الشيخ السمان في جميع الأسماء، وأخبره بما سيؤول إليه حاله، وأنه هو القطب الجامع.
– وبعد أن أتم مناسك الحج والزيارة؛ رجع بسلامة الله تعالى إلى مصر القاهرة، حيث نزل عند الولي الكبير سيدي محمود الكردي، وأراد الشيخ الكردي أن يلقن سيدنا الطريقة الخلوتية، وإرشاد العباد بها، والتربية بأورادها، فامتنع سيدنا رضي الله عنه، فقال له الشيخ: لقِّن الناس والضمان علي. فقال له: نعم. ثم دعا له الشيخ الكردي رضي الله عنه. وقفل سيدنا عائداً إلى تونس.
– انتقل سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه عام1188هـ / 1774م من تونس إلى تلمسان، أمضى بها ثلاث سنوات في العبادة والمجاهدات، وفي هذا العام التقى سيدنا بكاتب وخازن أسراره: سيدي محمد بن المشري الحسني السباعي السائحي التكرتي، ولقنه الطريقة الخلوتية، ومنذ التقائه به صار يؤمه في الصلاة وبأهله، ويقوم مقامه في كتابة الأجوبة، حتى سنة 1208هـ / 1794م وهي السنة التي بدأ فيها سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه يقوم بالإمامة بنفسه، امتثالاً لأمر جده المصطفى صلى الله عليه وسلم.
– وفي سنة 1191هـ / 1777م شد سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه الرحال من تلمسان إلى فاس -وهذه رحلته الثانية إليها- حيث قصد سيدنا زيارة مولانا إدريس الأزهر، وفي الطريق التقى بسيدي علي حرازم برادة الفاسي لأول مرة، ولقنه الطريقة الخلوتية، وتوجها معاً إلى مدينة فاس، حرسها الله من كل باس.
– وبعد زيارة ضريح سيدي إدريس؛ ودَّع سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه خليفته بفاس، وقفل هو إلى تلمسان، ثم غادرها سنة1196هـ / 1781م إلى قصر الشلالة، وأقام هناك ثلاث سنوات، توجه بعدها للإقامة بأبي سمغون، واستقر بقصر أبي سمغون، حيث ضريح الولي الكامل الذي سمي القصر باسمه، وأقام بأبي سمغون أربع عشرة سنة، حيث حصل فيها الفتح الكبير، والولاية العظمى، التي صبر وصابر من أجل الحصول عليها، وفي خلال إقامته في أبي سمغون؛ توجه مرة إلى توات الغربية، لزيارة العارف بالله سيدي محمد بن الفضيل، وتبادل معه بعض الأسرار .
– وتوجه- للمرة الثانية – إلى مدينة تازة وبها التقى بتلميذه وصاحبه العارف بالله سيدي محمد بن العربي الدمراوي التازي .
– وفي السنة الأولى من رحيله رضي الله عنه إلى أبي سمغون حصل الفتح للشيخ التجاني رضي الله عنه سنة1196هـ .فأذن له سيد الوجود صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، في تلقين الخلق على العموم والإطلاق، وعَيَّنَ له الورد الذي يلقنه، في سنة ست وتسعين ومائة وألف 1196هـ : عيَّن له مائة من الإستغفار، ومائة من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي رأس المائة وهو عام 1200هـ .زاده صلى الله عليه وآله وسلم الكلمة المشرفة لا إله إلا الله .
– وأخبره سيد الوجود صلى الله عليه وآله وسلم، سنة ست وتسعين ومائة وألف، بأنه هو مربيه وكافله، وأنه لا يصله شيء من الله إلا على يديه، وبواسطته صلى الله عليه وسلم، وقال له: لا مِنَّة لمخلوق عليك من الأشياخ، فأنا ممدك على التحقيق، فاترك جميع ما أخذت منهم، والزم هذه الطريقة، من غير خلوة، ولا اعتزال عن الناس، حتي تصل مقامك الذي وُعِدت به، وأنت على حالك، من غير ضيق ولا حرج، ولا كثرة مجاهدة .
– وبعد تمكنه رضي الله عنه من الولاية؛ توجه إلى عين ماضي، حيث أسس الزاوية الأم بها، وظل يتنقل بينها وبين أبي سمغون وتوات .
– ولقد زار سيدي علي حرازم برادة شيخه – رضي الله عنه – بأبي سمغون عام 1203هـ / 1789م .
– ولما زاد الإقبال على الطريقة التجانية، إقبالاً لا مثيل له، وبدأ انتشار الطريقة انتشاراً كبيراً، جعل من التجانية قوة حقيقية، منذ سنة 1198هـ /1783م، بدأ يقلق الحكومة التركية، بل أدى بها إلى شن حملات عسكرية على عين ماضي، وفرض إتاوة على الشيخ التجاني رضي الله عنه وأتباعه، مرة سنة 1199هـ/1784م ، وأخرى سنة -1202هـ/1787م، مما سبب الضيق للشيخ التجاني رضي الله عنه، وحمله على الرحيل إلى فاس مرة أخرى، في 17 ربيع الأول سنة 1213هـ/1798م.
– حيث رحب به سلطانها؛ السلطان سليمان، وجميع رجال دولته وكبرائها، وانخرطوا جميعا في سلك طريقته المباركة. حيث وجد السلطان سليمان أن روح وتعاليم الطريقة التجانية متمشية تماماً مع تعاليم الكتاب والسنة، والرافضة لكل أشكال البدع .
وانظر إلى تأدبه الشديد مع الشيخ التجاني رضي الله عنه، حيث يبعث إليه رسالة فيقول فيها ….بعد البسملة والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: « …..عوض والدنا ، سيدنا وشيخنا وقدوتنا المحمدي: أبو العباس سيدي أحمد، أَحمدُ الله، وأُصلي وأُسلِّم على نبيه الكريم. بلغنا مسطوركم الأبرك، وحمدنا الله تعالى على ما خصنا به من رضى …..». في يوم الإثنين السادس من ربيع الثاني ، سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف 1213هـ/1798م. وصل سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه إلى مدينة فاس، التي أسس بها زاويته، واتخذها مقراً لإقامته مقراً نهائياً، وكان بصحبته سيدي علي حرازم رضي الله عنه، بحيث أشرقت بمقدمه الكريم بقاع الأرض، وعمت بركاته القطر المغربي بالطول والعرض، واستقر به المقام، وأخذ يعرج في المقامات، ويترقى في الدرجات، حتى انتهى إلى مقام الختمية، وحصَّل الكتمية، فرضي الله تبارك وتعالي عنه، إذ أصبح هو مجدد القرن الثالث عشر الهجري بلا مراء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: [إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ ، عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ ، مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا] (1). وفي رواية لأبي داود: [المجَدِّدُ مِنَّا أَهْل البَيْتِ] .
وهناك انخرط في طريقته الكثير من المريدين من علماء وفقهاء ووزراء وعامة الناس، ومن مدينة فاس انطلق إشعاع الطريقة التجانية، ليعم باقي أنحاء المغرب من أقصاه إلى أقصاه، وكذا تونس والصحراء، والسودان الغربي.
1. رواه أبو داود والحاكم في المستدرك والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي في المعرفة والتبريزي في مشكاة المصابيح وابن عساكر في تاريخه والخطيب في تاريخ بغداد ونزل – أولاً – سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه، بدار آباء وأجداد سيدي علي حرازم رضي الله عنه، بحي درب الطويل رقم 20، وكان يلقي الدروس العلمية بمسجد الديوان، وبدأ نجمه رضي الله عنه يسطع، ويذيع صيته، حتى وصل إلى حضرة السلطان سليمان، فأثنى عليه في حضرته كل من الشيخ عبد القادر بن شقرون، وكان أجلّ علماء وقته وقاضي قضاة عصره، والشيخ العلامة العباس بن كيران، أحد علماء الحضرة السليمانية، وكان قاضياً بمكناس،فقرر السلطان سليمان دعوة الشيخ التجاني رضي الله عنه، ليحضر مجالسه السلطانية، والكلام بين يديه، فامتثل الشيخ رضي الله عنه لأمر السلطان، وأظهر من العلوم العقلية والنقلية واللدنية ما أبهر الحضور، وجعل المنكرين عليه يتراجعون عما هم فيه من الغرور .
ومما يدل على سعة علم سيدنا رضي الله عنه، وتبحره في علم الظاهر، وبلوغه درجة الإجتهاد فيه؛ هو أن مولانا سليمان -قدس الله روحه في الجنان- كان يجتمع بحضرته العلماء الأجلّة من فحول عصره، للمذاكرة في العلوم وتدريسها وقراءة التفسير، وكان في جملة من يحضر معه لذلك من الشيوخ الكبار، الذين أخذ عنهم الأمير المذكور؛ الشيخ الطيب بن كيران، المتوفي في 14 فاتح عام 1227 هـ . والشيخ سيدي عبد القادر بن أحمد بن العربي بن شقروني، المتوفى 11 شعبان عام 1219 هـ . والشيخ السيد العباسي الشراييبـي من جملة الساردين المقرئين، فاتفق أن حضر سيدنا رضي الله عنه معهم لما قدم لحضرة فاس، وكان في ذلك اليوم لهم نصاب في سورة الناس من التفسير، فشرع الشيخ الطيب بن كيران يتكلم على عادته بحضرة الأمير في ذلك المجمع الحفيل، لمكانته في العلم الظاهر وعلم المعقول، فأبدى وأعاد، وظن أنه بما أبداه ليس له في العلم مثيل، وأذعن له في ذلك الحاضرين، ثم التفت الأمير إلى الشيخ رضي الله عنه، وقال له: ماذا يقول الشيخ في هذه الآية؟ فشرع سيدنا رضي الله عنه يتكلم في الآية الشريفة بما أبهر العقول، في منقول ومعقول، إلى أن قال سيدنا رضي الله عنه في مسألة أطنب فيها الشيخ بن كيران، وأرعد فيها وأبرق، وظن أن شأنه فيها لا يلحق ما حصله: ( ما ذكره هذا المفسر ليس بصواب، وليس عليه معوَّل عند ذوي الألباب ).
فقال الشيخ الطيب: أتعترض علينا، وقائل هذا فلان وفلان من المفسرين؟ وأغلظ في القول, فقال له سيدنا رضي الله عنه بذلك المجلس الحفيل: (ليس الكلام معك أنت، ولا تكن كمن يحمل الأثقال، وحمَّلوك ما لا تحمله وإنما الكلام مع هؤلاء المفسرين).
ثم شرع سيدنا رضي الله عنه يبين وجه الصواب بالأدلة النقلية والعقلية، إلى أن ظهر الحق لكل مرتاب، وحصحص الحق وزهق الباطل، وأقر بالتحقيق له كل مناضل, وقال كل من بالمجلس: والله إن هذا لهوالحق المبين، وذلك كله بمرأى من الأمير ومسمع، ثم انفض المجلس، ولسان الشكر من المنصفين على سيدنا رضي الله عنه لاهج، ثم تكلم الأمير مع من بقى معه من الحاضرين؛ وقال: أنتم تعلمون مقام سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه، وجلالته في علم الظاهر، أما علم الباطن؛ فهو أبوه وأمه، وهو ابنهما، فماذا تقولون؟ فقالوا: والله إن قوله الصواب، وقد حصحص الحق .
وقد قال علامة تونس سيدي الشيخ محمد بن سليمان المناعي رضي الله عنه، بعد اجتماعه بسيدنا رضي الله عنه: فالموفق الكامل يلتمس الأعذار لرعاع الناس، فضلاً عن إمام مثل هذا، فإنه بحر في علوم الشرع الظاهر لامثيل له فيما رأت عيني:
– يحفظ من كتب الفقه (مختصر ابن حاجب) ، و(مختصر الشيخ خليل) ، و(تهذيب البراذعي) ، عن ظهر قلب , حكى لي أنه يحفظ جميع ما سمع من سماع واحد . على مثل هذا يعترض من لا خبرة له بفرائض الوضوء !
– وأما كتب الحديث ؛ فيحفظ (صحيح البخاري) و(صحيح مسلم) و(الموطأ)عن ظهر قلبه
– وأما كتب التوحيد ؛ فهو نظير الغزالي في هذا الوقت . والقلوب بيد الله ، يصرِّفها كيف يشاء.
ولم تطل إقامة الشيخ التجاني رضي الله عنه عند أقارب الشيخ علي حرازم رضي الله عنه، فقد أهدى مولاي سليمان، دار المرايا -وهي دار معتبرة، أنفق عليها السلطان نفقة عظيمة- أهداها إلى الشيخ التجاني رضي الله عنه، ليسكنها مع أسرته، ورتب له ما يكفيه .
وامتنع الشيخ رضي الله عنه في باديء الأمر حتى بيَّن له السلطان أنها ليست ملكاً للدولة، ولكنها من ماله الخاص، ولكنه لم يشعر بالراحة التامة إلا بعد أن وافقه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على سكناها، شريطة أن يتصدق بقدر كرائها على الضعفاء والمساكين، ففعل .
وظل سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه يجتمع مع أصحابه، لذكر الوظيفة، ببـاب داره، وتارة في بعض مساجد المدينة، إلى أن أمره صلى الله عليه وآله وسلم ببناءالزاوية، فاشترى قطعة أرض بحي البليدة، بفاس القديمة، من ماله الخاص، وهذه الأرض -قبل بناء الزاوية فيها- كانت مُهابة، لا يستطيع أحد أن يدخلها وحده من الهيبة، وكان يُسمع فيها في بعض الأحيان ذكر جماعي، يقصده عدد كبير من مجاذيب فاس .
كما اشترى الشيخ رضي الله عنه ما جاورها من الأرض، ليصبح في الإمكان الزيادة في مساحة الزاوية إن لزم الأمر. ووقف الحاسدون والمنكرون أمام الشيخ رضي الله عنه رافضين لبناء الزاوية.
ففكر الشيخ رضي الله عنه في مغادرة فاس والتوجه إلى الشام، ولما علم السلطان سليمان بموقف هؤلاء المنكرين، واعتراضهم على بناء الزاوية، أصدر أوامره ببنائها رغم أنف المنكرين، كما بعث قدراً كبيراً من المال ليساعد في بناء الزاوية، فردها سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه بلطف، وقال: إن الزاوية أمرها قائم بإذن الله. وتم بناء الزاوية وتشييدها خلال سنة 1215هـ/1800م. وأخبر الشيخ رضي الله عنه بأهمية هذا الإنجاز وبركته :
فقال: (لو علم أكابر العارفين ما في الزاوية من الفضل لضربوا عليها خيامهم) وكان يقول رضي الله عنه: ( الصلاة في الزاوية مقبولة قطعاً ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق