تعاليم عيسى
كتاب " الحوار الغائب "
للشيخ المجدد عبد الغني العمري الحسني ⏪⏬
بقيت "العائلة المقدسة" في مصر ثلاث سنين، إلى أن مات "هيرودوس"، ثم عادت إلى الجليل (الناصرة). ومن غريب الأمر أن
الأناجيل لا تتكلم عن الفترة الزمانية ما بين العودة و"العمادة"، ولا تذكر منها إلا حادثة ضياع يسوع عليه السلام وهو طفل في الهيكل، عند زيارة مريم وزوجها لأورشليم، بحسب إنجيل "لوقا".
ويحكي إنجيل "مرقس" قصة عمادة يسوع على يد "يوحنّا المعمدان" (يحيى عليه السلام)؛ ويعتبر الدارسون أنها كانت بداية دعوة عيسى عليه السلام، بعد القبض على يحيى عليه السلام. وبعد المعمودية، بحسب "متى"، فقد اقتيد يسوع من قِبل الروح إلى البرية، وصام هناك أربعين نهارا وأربعين ليلة. وهذا يُذكّرنا بصوم موسى عليه السلام قبل التكليم، والذي يذكره الله في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]. وهو يُرشدنا إلى سُنّةٍ جارية لله، في الأنبياء عليهم السلام. وهذه الفترة تشبه أيضا، الليالي التي كان يختلي فيها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في غار حراء، قبل نزول الوحي. لكن لا بد هنا من أن نؤكد على أن المسيح عليه السلام، قد بعثه الله إلى بني إسرائيل، لا إلى الناس كافة؛ وقد جاء ذلك صريحا في قول الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ . وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 48، 49]. وحصرُنا الدعوة العيسوية في بني إسرائيل، ليس تنقيصا من عيسى عياذا بالله، كما قد يظن النصارى؛ ولكن لأن الدعوة النبوية في عمومها لم تكن قد اكتملت بعد، لتصلح للكافة. وهذا يعني أن النبوة المحصورة إذا عُمّمت، فإنها لن تناسب بعض الأقوام. ولم نر أحدا، نبه إلى هذا الأصل؛ وكأن النبوات متساوية في سعتها وإطلاقها. ويظهر من الآيتين، من سورة آل عمران، أن المسيح عليه السلام على شريعة التوراة، وأنه اُختُصّ بالإنجيل نافلة. وهو بهذا، على كتاب جامع بين العهد القديم والعهد الجديد. ولقد وُفّق المسيحيون في ترتيب ذلك واعتماده، رغم أننا لا نرى الإنجيل يختلف كثيرا عن التوراة في مسألة الموثوقية. ونعني من هذا أنهما في جانبهما الصحيح تراث شفوي، يُتناقل بالمعنى بين الأجيال، ولا يتقيّد باللفظ إلا قليلا. نقول هذا، لأننا قد وجدنا في بعض ما طالعناه من التوراة ما لا يصدر حقا، إلا من مشكاة ربانية. ولقد ميّزنا بحمد الله بين ما أصله وحي، وما هو من كتابة المؤرخين والقصاصين في ذلك كله.
ولقد مر عيسى عليه السلام بمرحلة تجريب سخّر الله فيها "إبليس" ليمتحنه؛ وهذا يعني أن الامتحان سنة إلهية، لا بد للأنبياء من اجتيازها، حتى يصلُحوا للدعوة. جاء في الإنجيل: "فَبَعْدَما صامَ أَرْبَعِينَ نَهاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَاعَ أَخِيراً. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هَذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزاً! فَأَجَابَ وَقَالَ: مَكْتُوبٌ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الْإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ!"[1]. وكان هذا الامتحان، يُراد منه أن يتصرّف عيسى في الكون عن غير إذن إلهي؛ وهو أشد امتحان على من آتاه الله التصرف بالقدرة!... ولكن عيسى معلَّم مؤّدّب، لن يستجيب لدعوة إبليس، وسيبقى تحت حكم العادة والأسباب، إلى أن يُفرّج الله عنه؛ وكذلك كان. أما عبارة "ابن الله"، فالمقصود منها ابن الاسم "الله"، كما بيّنّا في فصول مضت. وحقيقة المعنى هي "عبد الله"، لا ما يتبادر إلى أذهان العامة من معنى البنوة المعتادة في الخلق.
"ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ، وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ».[2]. وهنا أراده اللعين أن يتوكل على الله في غير محل التوكل؛ وهو ما عناه عليه السلام بتجربة الله. والفرق بين التوكل والتجريب، هو أن يستنفد العبد وسعه في الخروج من ضيقه بالأسباب المشروعة؛ أما إن لجأ إلى ما هو من الغيب المحض، فإنه لا يعلم إن كان الله حَكمَ له به في القضاء أم لا. وهذا يعني أن العمل بالأسباب هو من صميم العبادة، بخلاف مجاوزتها التي هي من سوء الأدب. وعيسى منزه عن سوء الأدب مع ربه، من غير شك. وعلى كل حال فإن الله لا يُجرَّب، ما دام ليس لأحد عنده وعد مخصوص، أو له عليه منة؛ بل المنة له سبحانه على جميع خلقه. وهذه قاعدة من تعلمّها، كان عند الله مرعيّا محفوظا في كل شؤونه.
"ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا، وَقَالَ لَهُ: «أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي». حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ!»[3]. هذا الامتحان، هو لإبليس في الحقيقة، حتى ييأس من عيسى عليه السلام؛ لأن عيسى فوق مرتبة الامتحان من الأصل، لمن كان يعلم.
ثم يواصل الإنجيل: "وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ، انْصَرَفَ إِلَى الْجَلِيلِ. وَتَرَكَ النَّاصِرَةَ وَأَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرَنَاحُومَ الَّتِي عِنْدَ الْبَحْرِ فِي تُخُومِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيمَ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ: «أَرْضُ زَبُولُونَ، وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ، طَرِيقُ الْبَحْرِ، عَبْرُ الأُرْدُنِّ، جَلِيلُ الأُمَمِ. الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ». مِنْ ذلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ: «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ!»[4]. ومعنى ملكوت السماوات في الأناجيل هو الآخرة، التي يبدأ أوانها مع قيام الساعة. وقد يستغرب بعض الناس، تحذير الرسل السابقين من قيام الساعة، مع بعدهم عنها بعشرات القرون؛ وذلك لأنهم (الناس) واقعون تحت الحجاب الزماني النسبيّ. ونعني من هذا، أن الزمان الجزئي في حضرة الدهر، هو لحظة واحدة، هي "الأبد". وفي الأبد الذي هو الإطلاق المـناسب للعقول المطلقة، تُدرك الأمور دفعة واحدة، لا بالترتيب؛ ومن هناك يُعلم تفاضلها، وتراتبها. فهذا هو سبب رؤية الأنبياء عليهم السلام لقرب الساعة منهم. وأما قول نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلّم: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ! (قَالَ: وَضَمَّ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى).»[5]، فالمراد منه عدم وجود نبي بينه صلى الله عليه وآله وسلم والساعة؛ لا قصر الزمان بالمعنى العرفي. وقد كان التوهم الناتج عن الحجاب الزماني، داعيا للعلماء من جميع القرون إلى إعلان قرب قيام الساعة، إلى الحد الذي كانوا يضعون معه لذلك موعدا في السنين، لم يصدُق في غالبه. ونحن نقول هذا، مع تذكيرنا للناس بقرب الساعة النسبي منّا؛ لأننا في المرحلة الزمنية السابقة للخلافة الخاتمة. ورغم ذلك فإن الأمر، قد يتجاوز العقود إلى القرون!...
جاء في الإنجيل: "وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِيًا عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ! فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ.»[6]. وهذا يشير إلى اختيار عيسى لأصحابه "الحواريين"؛ فهو كان يَعْلمهم من جهة الكشف، وهم كانوا يتبعونه اتباعا من غيبهم، يظهر على شهادتهم. لذلك لم يكن هذا الاتباع يخضع للعقل أو للعادة. يقول الله في القرآن عن هذا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14]. وهذه نصيحة إلهية للمؤمنين من المسلمين، ليتشبهوا في اتباعهم لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، بحواريي عيسى، الذين آمنوا إيمانا خالصا، لم تَشُبه شائبة نظر. ولقد كان من كبار الصحابة على هذه الصفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ ويكون على هذه الشاكلة من كل زمان رجال من الأولياء. وأما الإيمان المعلوم لدى علماء الدين ممن يُقعّدون العقائد، فهو ليس إيمانا بهذا المعنى الاصطلاحي الشرعي. ولقد حذّرنا من غائلة النظر كثيرا، ومع ذلك فإن الناس يقعون في حباله، ويجدون له لذة يتوهمون أنها من حلاوة الإيمان؛ وهيهات!...
ويواصل الإنجيل: "ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، فِي السَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا، فَدَعَاهُمَا. فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ."[7] ثم يقول بعد ذلك: "وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشَّعْب. فَذَاعَ خَبَرُهُ فِي جَمِيعِ سُورِيَّةَ. فَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ الْمُصَابِينَ بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَالْمَجَانِينَ وَالْمَصْرُوعِينَ وَالْمَفْلُوجِينَ، فَشَفَاهُمْ. فَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْجَلِيلِ وَالْعَشْرِ الْمُدُنِ وَأُورُشَلِيمَ وَالْيَهُودِيَّةِ وَمِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ."[8]. يقول الله تعالى عن ذلك في القرآن: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110]. والقول من الله هنا لعيسى، هو داخل في علم الأقوال القرآنية الذي أشرنا إليه سابقا؛ وهو في هذه الآية قول شأني ذاتي، من سنخ قوله تعالى للأشياء المرادة "كوني". ولنتناول النعم التي عدّها الله في هذه الآية واحدة واحدة، لمزيد الفائدة:
1. تأييد عيسى بروح القُدس: وهو وإن كان مشتركا بين الأنبياء عليهم السلام والكُمّل من الأولياء المحمديين؛ إلا أن لعيسى منه معنى مخصوصا، وهو ظهوره بأحكامه في عالم الشهادة، بما لم يكن لأحد غيره من تلك المرتبة. ومعنى الظهور بأحكام الروح القدس، هو الظهور بأحكام القِدم في عالم الحدوث. وهو من الأمور المحيّرة لأصحاب العقول، خصوصا عند المعاينة حسّا.
2. تعليم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل: وهذا نظير قول الله عن نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]. وهو يعني أن عيسى كان يتلقى المدد العلمي من الحقيقة المحمدية العليا؛ وهو من هذا الوجه مشابه لخواص هذه الأمة. ولنلاحظ ذكر التوراة والإنجيل مع ذكر الكتاب، فيما يتعلق بعيسى؛ وغيابَ ذكر القرآن باللفظ عند ذكر تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخواص أمته. وذلك لأن القرآن هو النسخة المطابقة للكتاب العلوي ذاته، من دون التوراة والإنجيل أو غيرهما مما أُنزل قبلهما؛ فلو ذُكر مع الكتاب لكان ذلك تكرارا في الذكر، ولَغابت فائدة الدلالة على المطابقة. ولهذا السبب أيضا، كان القرآن ناسخا لما نزل من التوراة والإنجيل على الخصوص؛ بخلاف ما يتوهّم أهل الكتاب لجهلهم. وهذا هو مدلول قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. والهيمنة القرآنية حاصلة، سواء آمن بها الناس أم لم يؤمنوا. ونحن نرى أن جُل المسلمين المؤمنين بها، لا يعلمونها؛ ونعني بهذا أنهم لا يعلمون مُتَعلَّقها. ولهذا نحن نذكرها هنا، حتى تُميَّز من قِبل العلماء، ويزدادوا معها علما بالقرآن ذاته. والنسختان التوراتية والإنجيلية، رغم مطابقتهما للكتاب جزئيا، ورغم فضل مجموعهما (التوراة مع الإنجيل) عليهما باعتبار انفصالهما في التعيّن الكتابي (التوراة غير الإنجيل)؛ فإنهما لا تبلغان القرآن في تطابقه الكلّي مع ذلك. وهذا التطابق لا يعلم مرتبته وعلوّ شأنه، إلا موسى وعيسى عليهما السلام خصوصا؛ بالإضافة إلى ورثة النبوة من هذه الأمة. ومَن علم ما نقول وميّزه، فإنه يحصل له العلم بالفاتحة، ولمَ كانت مخصوصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ ويعلم لمَ سُميت فاتحة، ولمَ سميت أم الكتاب؛ وغير ذلك من الأسماء... وأما الحكمة حيث ذُكرت من الكتاب، فإنها تعني مطابقة العلم للمعلوم من جهة العمل، غيبا وشهادة. وهذا علمٌ لا يكون إلا للأنبياء والورثة. وأما من فسّرها بالسنّة، فإنه يكون قد وافق صورتها المحمدية، وإن لم يعلم أصلها في العلم الإلهي. وهو علم صحيح، يُعرف لأهله، بشرط أن لا يحصروه في مُدرَكهم هم وحدهم.
3. خلق الطير: وهو من الأحداث التي ميّزت طفولة عيسى عليه السلام، في فترة لعبه كما يلعب الصبيان. وذلك لأن عيسى في طفولته المباركة، خَلَق (سماه الله خلقا) طائرا، على عادة الصبيان عند تصويرهم لمـُختلِف المجسمات؛ فلما أكمل تصويره، نفخ فيه الروح الحيواني اللائق بصورته، فصار طائرا يطير بإذن الله. وذِكر الله إذنه العلوي سبحانه هنا، هو حتى لا يُؤلَّه عيسى من دونه سبحانه؛ ومع ذلك، فقد وقع في التأليه النصارى على مرّ القرون. وتأليه عيسى، الذي يراه أحبار النصارى نتيجة للعلم الخاص، هو بعكس ذلك من قُصور عقولهم عن التمييز بين الحقيقة الإلهية والصورة العيسوية. وهو مما ننبّههم هنا إليه، لعلهم يرتقون في علمهم بإذن الله. ولقد رأينا بعض ما يقوله المفسّرون من المسلمين في معنى الخَلق المنسوب إلى عيسى، فوجدناهم يتحاشونه على وضوحه في كلام الله؛ ووجدناهم يقولون بأن ذلك الخلق هو من قُدرة الله، لا من قدرة عيسى. والحقيقة هي أن تفسيرهم لا يدلّ إلا على جهلهم الذي سببه شركهم؛ لأن قدرة الله وقدرة عيسى قُدرة واحدة غير متعددة. وهذه المسألة في العقائد، مما يستشكله المتكلمون عند نسبة الأفعال إلى العباد؛ فيلجأون أحيانا إلى عبارات مستهجنة كقولهم: إن الله يخلق قدرة للعبد على الفعل. والحقيقة -كما ذكرنا- هي أن القُدرة واحدة، حجبهم عنها تقيُّدها في العبد وإطلاقها في الله فحسب؛ وهذا أمر آخر غير معنى القدرة. فما أشد جهل المتنطعين!... ولقد وقع المفسّرون في الجهل، لأنهم لا يريدون أن يُقرّوا بقصورهم عن إدراك كل معاني القرآن؛ ثم لأنهم في تفسيرهم، ينتصرون لعقائدهم التي يرون صوابها، ويُهملون ما يُخالفها وإن كان حقا في نفسه. وقد يحتالون لذلك بعبارات موهمة!... ولقد ساهمتْ هذه الآفة، في قطع شطر كبير من المسلمين -على مر القرون- عن المدد النبوي، عندما بقوا عابدين لأحبارهم ومنزهين لهم تنزيه العصمة، ولو من غير إقرار. وهذا عينه، هو ما وقع فيه اليهود مع التلمود خصوصا، وما وقع فيه النصارى في لاهوتهم. ولعلنا نعود إلى هذه المسألة مرات أخرى، فيما يأتي من هذا الكتاب إن شاء الله، من وجوه أخرى...
4. إبراء المرضى وإحياء الموتى: وهذا من أشد ما يعرض للعامة، لأنهم لا يعلمون (يؤمنون) الله إلا من أفعاله؛ وهي تختلط عليهم هنا لظنّهم أن حقيقة عيسى ينبغي أن تكون مباينة من جميع الوجوه لله، حتى يُميَّز عنه سبحانه؛ وما علموا أن عيسى هو الله من وجه، وهو غيره من وجه آخر. وهذا الجمع بين المتناقضات، هو ما يجعل العقلاء يردّون العلم اللدني، ويفرّون إما إلى التشبيه التام كما فعلت النصارى، وإما إلى التنزيه التام كما فعلت طائفة من اليهود وطائفة من المسلمين. والجمع هو لأهل الجمع، كما يعلم ذلك الأولياء من هذه الأمة.
وجاء في الإنجيل: "وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلًا: «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ.»[9]. ما يعنيه الكلام المنقول عن عيسى عليه السلام، بمسكنة الروح، هو التحقق بالفقر إلى الله؛ لأن من تحقق بالفقر أغناه مولاه. والتحقُّق بالفقر هو غير الفقر، لأن التحقق خاص، والفقر عام؛ والامتياز يكون دائما بما به الافتراق لا بما فيه الاشتراك. وملكوت السماوات، يقصد به عيسى عالم المعاني الذي هو من مرتبة القلب والإيمان. وهذه دعوة جديدة على بني إسرائيل الذين كانوا قد ألفوا الدعوة إلى مرتبة الإسلام في مجملهم. وهو يعني أن دعوة عيسى تكميل لدعوة موسى، ويعني أن الاختلاف بين الدعوتين لم يكن قط اختلاف حق وباطل كما رأى ذلك أحبار اليهود، وإنما كان اختلافا بين مرتبتين من الحق. والحق الذي نعنيه هنا، هو الدين لا غيره. وإن هذا الالتباس الناشئ عن اختلاف المراتب، يعاني منه المسلمون أيضا؛ فنجد أهل مرتبة الإسلام أحيانا يُنكرون على أهل مرتبة الإيمان، كما نجد أهل المرتبتيْن يُنكرون على أهل مرتبة الإحسان. كل هذا، وهم لا علم لهم بالتراتب فيما بينهم، ولا يرون الاختلاف الحاصل في المرتبة ذاتها وفي الدين ذاته؛ مما يجعل الصواب متعدد الصور بحسب كل ذلك. وهذا من أشد الجهل، الذي يستمر ضرره في المسلمين، ويتزايد مع مرور الزمان. ومع ذلك، لا يكادون يشعرون أن الخلل منهم، ما دام الدين واحدا، وما دام النص المنطلَق منه واحدا. ورغم أن القرآن قد عالج هذه الآفة في مواضع كثيرة، إلا أن الناس لا ينهلون منه بصفة مباشرة، بل يُفضلون الأخذ عن "محولات" (transformers) العقول الفقهية القاصرة. وعلى هذا، فإن التحريف اللفظي الذي عصم الله كلامه منه، لم يمنع الناس من أن يُحرفوا المعنى لسبب من الأسباب.
ثم يواصل الناقل: "طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ."[10]. والحزن الذي يدل عليه عيسى أصحابه، هو الحزن الذي تُعطيه مرتبة الإيمان، من كونها محل المعاملة القلبية لله. والمعاملة تتطلب تمحيصا، لا بد أن يرى العبد تقصيره معه، فيكون ذلك سببا لتواصل أحزانه. ولكن عيسى يُبشر الحزانى بالعزاء، لأن الله سبحانه يُجازيهم بمشقتهم النفسية أجرا ونورا، في الدنيا والآخرة. والله أكرم من أن يُهمل عبدا عامله ساعة، فكيف الظن بمن يُعامله العمر كله أو شطره!... أما حزن الأنبياء الذي يَذكر فيه أهل السيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه كان متواصِلَه، والذي أنكره بعض العلماء لقياسه على معلومهم؛ فهو حزن يُعطيه علمهم الخاص بجلال الله. وهذا لا يذوقه إلا من كان منهم، أو كان وارثا لهم. ولعل القارئ قد تعلّم معنا، أن علماء الدين بعيدون عن أحوال الأنبياء والورثة. فهم إما مع من يقلِّدونه من أسلافهم، أو مع عقولهم القاصرة!...
ويضيف الناقل: "طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ."[11]. وهذا هو معنى قول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]. والمقصود بالوُدعاء المتواضعون لجلال الله، المجتنبون لإيذاء الخلق. وهذا أيضا من أخلاق أهل مرتبة الإيمان فما فوق. وأما الأرض الموروثة، فقيل إنها الجنة قياسا على قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74]، وقيل هي الأرض التي وعد الله بني إسرائيل إن هم أطاعوه؛ أو هي الأرض الآئلة في آخر أمرها إلى المؤمنين بالمعنى العام. وهذه المعاني، لا يُعارض بعضها بعضا، لكونها غير متزاحمة في الزمان.
ويُضيف الإنجيل: "طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ."[12]. يريد عيسى من كلامه، أن يُنبّه أتباعه إلى الجوع والعطش إلى الخير، الذي يُنتج لصاحبه الخير؛ بخلاف الجوع والعطش الطبيعيين، فإنهما يشترك الإنسان فيهما مع الحيوان. والفضل دائما، فيما يقع به الامتياز، لا المشاركة. وأما قوله "يشبعون"، فإنه يعني أن الله سيغنيهم بعلمه ونوره ومختلف نعمائه. والمقصود من كونهم يشبعون، أنهم يُكرمون، لا أنهم يقنعون ويقع لهم الاكتفاء. فإن هذا المعنى بعيد عن المعاملين لله.
ثم يضيف: "طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ."[13]. وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «... وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاء!»[14]. وذلك لأن الله هو الرحمن الرحيم، وإليه تعود كل رحمة جزئية، مما يرحم بها العباد بعضهم بعضا. وهي عائدة إليه سبحانه بنَسب الرحمن، لتنزل مرة أخرى على أصحابها جزاء. وهذا الكلام من النبوة حضٌّ على التخلق بالرحمة، وإسباقها في الاعتبار على كل خُلُق سواها؛ وهو من نفيس العلم والحكمة. ورغم أن المخاطَبين من عيسى كانوا يُدعون إلى مرتبة الإيمان، إلا أن الرحمة لا تتوقف هناك؛ بل لها معراج متصاعد بحسب مقامات العباد، إلى أن تبلغ الرحمن من الحقيقة المحمدية.
ثم يقول: "طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ."[15] وهو نظير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الأَبْرَارَ الأَتْقِيَاءَ الأَخْفِيَاءَ؛ الَّذِينَ إِنْ غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا. قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَة.»[16]. ومعنى نقاوة القلب التي ذكرها عيسى، هو سلامته من الشرك الأصغر؛ الذي ينشأ من التوجه إلى الدنيا. ومعنى معاينة الله، هو المشاهدة؛ وهي من مقام الإحسان. وقد دلّ عيسى أصحابه -كما يدل كل رباني- على أن يشهدوا الله فيه؛ لأن صورة العبد الكامل أجلى مرآة يتراءى فيها الله. ورغم أن هذا المعنى الديني ثابت وراسخ، فإن النصارى والمسلمين قد أخطأوه في مجملهم. وذلك -كما أشرنا مرارا- لأن النصارى قيّدوا الله في الصورة العيسوية، ولأن المسلمين جهلوه في الصورة المحمدية؛ وكِلا طرَفَيْ النقيض مذموم.
ثم يقول أيضا: "طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ."[17]؛ وهو نظير قول الله تعالى في وصف عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]. ولا يكون هذا السلام العام، إلا من عباد الاسم "الرحمن"، لأنهم يعلمون التجليات التفصيلية، ولا يردّون أيا منها من جهة الباطن؛ وإن كانت في الظاهر مما يجب إنكاره بلسان الشريعة. وأما غيرهم ممن هم دونهم، فإنهم لا يتمكنون من هذا السلام، وإن ادعوه وزعموه. ومقصود عيسى من لفظ "أبناء الله" هو "المنسوبون إلى الله"، وهو مدلول "عباد الرحمن" ذاته، لكون الرحمن خليفة عن الله. والله يقول: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. أما الأسماء الأخرى، فليست لها هذه الإحاطة.
ثم يقول:" طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ."[18] ؛ وهو معنى قوله تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195]. وهذا، لأن سنة الله في الناس قد اقتضت أن لا يدعو أحد بدعوة الأنبياء عليهم السلام، إلا وتقوم عليه ألسنة الإنكار من كل جهة؛ ليتحقق له المقام ويثبت له الأجر. وكل من رام الجمع بين الدعوة إلى الحق ورضى الناس، فإنه يكون ممكورا به مفتونا. وإن عيسى عليه السلام نفسه، كان نموذجا لمن أوذي في الله، على سطوع آيته وظهور برهانه!...
ثم يقول: "طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ."[19]. وهذه كلمة تخص أصحابه وأمته، إلى حين البعثة المحمّديّة. وقد نطق بها عيسى من جمعيته، لأنه لا فرق في الدلالة بين عيسى والحق، كما ذكرنا مرارا. والمقصود من الكلام، هو أن البلاء لا تُعتبر فيه الصورة وحدها؛ فيكون كل من أوذي داخلا في هذا التكريم، كما نرى في زماننا ذلك لـ "المناضلين" السياسيين وللخارجين عن النظام والقانون؛ وإنما يُعتبر الباعث والسّند. فإن كان المرء يُبتلى في الله وفي دينه، فهو المعنيّ بالكلام؛ وإلا فلا!...
ثم يقول: "اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ."[20]. وهذا هو ما ذكرناه عن عدم الاكتفاء بصورة البلاء وحدها. وهو يعني أن من كان على درب الأنبياء عليهم السلام، وحده هو من ينال الأجر.
ثم يقول: "أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ."[21]. يقصد عيسى عليه السلام، أن أصحابه في زمانهم، هم صفوة الله في الأرض. وكان عليهم أن يعوا ذلك، ليحافظوا على مكانتهم بالتقوى والنقاء. وأما إن انحرفوا، فإنهم سيفقدون تلك الخصوصية، ويُصبحون أحقر من سواهم من الناس؛ لأن الشريف إذا سقط نزل أسفل من السفلة. وهذا الكلام نظيره، من الجهة المقابلة، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ!»[22].
ثم يقول: "أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل، وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ."[23]؛ وهو نظير قول الله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. وهذا التفضيل من الله لعباده المؤمنين في زمانهم، والذي أصبح يُنكَر من قِبل الدجاليين الذين يريدون أن يجعلوا البشرية طبقة واحدة من الممسوخين الذين لا خلاق لهم ولا مزيّة، هو من حكمة الله المودعة في الشرائع. والمؤمنون عليهم، أن يحافظوا على تميُّزهم ذاك دائما، بالتواضع لله وخدمة دينه، لا بنسبة الفضل إلى أنفسهم، كما يفعل الجاهلون في الأزمنة المتأخرة...
إننا بهذه المطابقة بين تعاليم عيسى وتعاليم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، نريد أن ننبه المسلمين وأهل الكتاب جميعا، إلى وحدة الدين وإلى تطور صور التشريع فيه مع كل مظهر؛ حتى يعودوا إلى الله الظاهر ويتحقق لهم التوحيد الشرعي. أما زعم كل فريق أنه على الحق وحده، مع التعصّب وتحقير المخالف، فإنه لا يدل إلا على النقص وعلى مخالفة التعاليم... ولا بأس من تنبيه المسلمين إلى قول الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، الذي لا يؤمن أكثرهم منه بالاسم "الظاهر"، مع ورود ذكره صريحا مع بقية الأسماء. ولا نعني بحقيقة الإيمان به، علمَه؛ لأن علمه يكون للخواص وحدهم!...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] . متى 4: 2-4.
[2] . متى 4: 5-7.
[3] . متى 4: 8-10.
[4] . متى 4: 12-17.
[5] . متفق عليه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[6] . متى 4: 18-20.
[7] . متى 4: 21-22.
[8] . متى 4: 23-25.
[9] . متى 5: 1-3.
[10] . متى 5: 4.
[11] . متى 5: 5.
[12] . متى 5: 6.
[13] . متى 5: 7.
[14] . متفق عليه، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
[15] . متى 5: 8.
[16] . أخرجه ابن ماجة والحاكم في المستدرك، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
[17] . متى 5: 9.
[18] . متى 5: 10.
[19] . متى 5: 11.
[20] . متى 5: 12.
[21] . متى 5: 13.
[22] . أخرجه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[23] . متى 5: 14-16.
كتاب " الحوار الغائب "
للشيخ المجدد عبد الغني العمري الحسني ⏪⏬
بقيت "العائلة المقدسة" في مصر ثلاث سنين، إلى أن مات "هيرودوس"، ثم عادت إلى الجليل (الناصرة). ومن غريب الأمر أن
الأناجيل لا تتكلم عن الفترة الزمانية ما بين العودة و"العمادة"، ولا تذكر منها إلا حادثة ضياع يسوع عليه السلام وهو طفل في الهيكل، عند زيارة مريم وزوجها لأورشليم، بحسب إنجيل "لوقا".
ويحكي إنجيل "مرقس" قصة عمادة يسوع على يد "يوحنّا المعمدان" (يحيى عليه السلام)؛ ويعتبر الدارسون أنها كانت بداية دعوة عيسى عليه السلام، بعد القبض على يحيى عليه السلام. وبعد المعمودية، بحسب "متى"، فقد اقتيد يسوع من قِبل الروح إلى البرية، وصام هناك أربعين نهارا وأربعين ليلة. وهذا يُذكّرنا بصوم موسى عليه السلام قبل التكليم، والذي يذكره الله في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]. وهو يُرشدنا إلى سُنّةٍ جارية لله، في الأنبياء عليهم السلام. وهذه الفترة تشبه أيضا، الليالي التي كان يختلي فيها نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، في غار حراء، قبل نزول الوحي. لكن لا بد هنا من أن نؤكد على أن المسيح عليه السلام، قد بعثه الله إلى بني إسرائيل، لا إلى الناس كافة؛ وقد جاء ذلك صريحا في قول الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ . وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 48، 49]. وحصرُنا الدعوة العيسوية في بني إسرائيل، ليس تنقيصا من عيسى عياذا بالله، كما قد يظن النصارى؛ ولكن لأن الدعوة النبوية في عمومها لم تكن قد اكتملت بعد، لتصلح للكافة. وهذا يعني أن النبوة المحصورة إذا عُمّمت، فإنها لن تناسب بعض الأقوام. ولم نر أحدا، نبه إلى هذا الأصل؛ وكأن النبوات متساوية في سعتها وإطلاقها. ويظهر من الآيتين، من سورة آل عمران، أن المسيح عليه السلام على شريعة التوراة، وأنه اُختُصّ بالإنجيل نافلة. وهو بهذا، على كتاب جامع بين العهد القديم والعهد الجديد. ولقد وُفّق المسيحيون في ترتيب ذلك واعتماده، رغم أننا لا نرى الإنجيل يختلف كثيرا عن التوراة في مسألة الموثوقية. ونعني من هذا أنهما في جانبهما الصحيح تراث شفوي، يُتناقل بالمعنى بين الأجيال، ولا يتقيّد باللفظ إلا قليلا. نقول هذا، لأننا قد وجدنا في بعض ما طالعناه من التوراة ما لا يصدر حقا، إلا من مشكاة ربانية. ولقد ميّزنا بحمد الله بين ما أصله وحي، وما هو من كتابة المؤرخين والقصاصين في ذلك كله.
ولقد مر عيسى عليه السلام بمرحلة تجريب سخّر الله فيها "إبليس" ليمتحنه؛ وهذا يعني أن الامتحان سنة إلهية، لا بد للأنبياء من اجتيازها، حتى يصلُحوا للدعوة. جاء في الإنجيل: "فَبَعْدَما صامَ أَرْبَعِينَ نَهاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَاعَ أَخِيراً. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هَذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزاً! فَأَجَابَ وَقَالَ: مَكْتُوبٌ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الْإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ!"[1]. وكان هذا الامتحان، يُراد منه أن يتصرّف عيسى في الكون عن غير إذن إلهي؛ وهو أشد امتحان على من آتاه الله التصرف بالقدرة!... ولكن عيسى معلَّم مؤّدّب، لن يستجيب لدعوة إبليس، وسيبقى تحت حكم العادة والأسباب، إلى أن يُفرّج الله عنه؛ وكذلك كان. أما عبارة "ابن الله"، فالمقصود منها ابن الاسم "الله"، كما بيّنّا في فصول مضت. وحقيقة المعنى هي "عبد الله"، لا ما يتبادر إلى أذهان العامة من معنى البنوة المعتادة في الخلق.
"ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ، وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ».[2]. وهنا أراده اللعين أن يتوكل على الله في غير محل التوكل؛ وهو ما عناه عليه السلام بتجربة الله. والفرق بين التوكل والتجريب، هو أن يستنفد العبد وسعه في الخروج من ضيقه بالأسباب المشروعة؛ أما إن لجأ إلى ما هو من الغيب المحض، فإنه لا يعلم إن كان الله حَكمَ له به في القضاء أم لا. وهذا يعني أن العمل بالأسباب هو من صميم العبادة، بخلاف مجاوزتها التي هي من سوء الأدب. وعيسى منزه عن سوء الأدب مع ربه، من غير شك. وعلى كل حال فإن الله لا يُجرَّب، ما دام ليس لأحد عنده وعد مخصوص، أو له عليه منة؛ بل المنة له سبحانه على جميع خلقه. وهذه قاعدة من تعلمّها، كان عند الله مرعيّا محفوظا في كل شؤونه.
"ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِبْلِيسُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا، وَقَالَ لَهُ: «أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي». حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ!»[3]. هذا الامتحان، هو لإبليس في الحقيقة، حتى ييأس من عيسى عليه السلام؛ لأن عيسى فوق مرتبة الامتحان من الأصل، لمن كان يعلم.
ثم يواصل الإنجيل: "وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ، انْصَرَفَ إِلَى الْجَلِيلِ. وَتَرَكَ النَّاصِرَةَ وَأَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرَنَاحُومَ الَّتِي عِنْدَ الْبَحْرِ فِي تُخُومِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيمَ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ: «أَرْضُ زَبُولُونَ، وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ، طَرِيقُ الْبَحْرِ، عَبْرُ الأُرْدُنِّ، جَلِيلُ الأُمَمِ. الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ». مِنْ ذلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ: «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ!»[4]. ومعنى ملكوت السماوات في الأناجيل هو الآخرة، التي يبدأ أوانها مع قيام الساعة. وقد يستغرب بعض الناس، تحذير الرسل السابقين من قيام الساعة، مع بعدهم عنها بعشرات القرون؛ وذلك لأنهم (الناس) واقعون تحت الحجاب الزماني النسبيّ. ونعني من هذا، أن الزمان الجزئي في حضرة الدهر، هو لحظة واحدة، هي "الأبد". وفي الأبد الذي هو الإطلاق المـناسب للعقول المطلقة، تُدرك الأمور دفعة واحدة، لا بالترتيب؛ ومن هناك يُعلم تفاضلها، وتراتبها. فهذا هو سبب رؤية الأنبياء عليهم السلام لقرب الساعة منهم. وأما قول نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلّم: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ! (قَالَ: وَضَمَّ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى).»[5]، فالمراد منه عدم وجود نبي بينه صلى الله عليه وآله وسلم والساعة؛ لا قصر الزمان بالمعنى العرفي. وقد كان التوهم الناتج عن الحجاب الزماني، داعيا للعلماء من جميع القرون إلى إعلان قرب قيام الساعة، إلى الحد الذي كانوا يضعون معه لذلك موعدا في السنين، لم يصدُق في غالبه. ونحن نقول هذا، مع تذكيرنا للناس بقرب الساعة النسبي منّا؛ لأننا في المرحلة الزمنية السابقة للخلافة الخاتمة. ورغم ذلك فإن الأمر، قد يتجاوز العقود إلى القرون!...
جاء في الإنجيل: "وَإِذْ كَانَ يَسُوعُ مَاشِيًا عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ أَخَوَيْنِ: سِمْعَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُطْرُسُ، وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ! فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا الشِّبَاكَ وَتَبِعَاهُ.»[6]. وهذا يشير إلى اختيار عيسى لأصحابه "الحواريين"؛ فهو كان يَعْلمهم من جهة الكشف، وهم كانوا يتبعونه اتباعا من غيبهم، يظهر على شهادتهم. لذلك لم يكن هذا الاتباع يخضع للعقل أو للعادة. يقول الله في القرآن عن هذا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14]. وهذه نصيحة إلهية للمؤمنين من المسلمين، ليتشبهوا في اتباعهم لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، بحواريي عيسى، الذين آمنوا إيمانا خالصا، لم تَشُبه شائبة نظر. ولقد كان من كبار الصحابة على هذه الصفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ ويكون على هذه الشاكلة من كل زمان رجال من الأولياء. وأما الإيمان المعلوم لدى علماء الدين ممن يُقعّدون العقائد، فهو ليس إيمانا بهذا المعنى الاصطلاحي الشرعي. ولقد حذّرنا من غائلة النظر كثيرا، ومع ذلك فإن الناس يقعون في حباله، ويجدون له لذة يتوهمون أنها من حلاوة الإيمان؛ وهيهات!...
ويواصل الإنجيل: "ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ فَرَأَى أَخَوَيْنِ آخَرَيْنِ: يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، فِي السَّفِينَةِ مَعَ زَبْدِي أَبِيهِمَا يُصْلِحَانِ شِبَاكَهُمَا، فَدَعَاهُمَا. فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا السَّفِينَةَ وَأَبَاهُمَا وَتَبِعَاهُ."[7] ثم يقول بعد ذلك: "وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشَّعْب. فَذَاعَ خَبَرُهُ فِي جَمِيعِ سُورِيَّةَ. فَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ الْمُصَابِينَ بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَالْمَجَانِينَ وَالْمَصْرُوعِينَ وَالْمَفْلُوجِينَ، فَشَفَاهُمْ. فَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْجَلِيلِ وَالْعَشْرِ الْمُدُنِ وَأُورُشَلِيمَ وَالْيَهُودِيَّةِ وَمِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ."[8]. يقول الله تعالى عن ذلك في القرآن: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110]. والقول من الله هنا لعيسى، هو داخل في علم الأقوال القرآنية الذي أشرنا إليه سابقا؛ وهو في هذه الآية قول شأني ذاتي، من سنخ قوله تعالى للأشياء المرادة "كوني". ولنتناول النعم التي عدّها الله في هذه الآية واحدة واحدة، لمزيد الفائدة:
1. تأييد عيسى بروح القُدس: وهو وإن كان مشتركا بين الأنبياء عليهم السلام والكُمّل من الأولياء المحمديين؛ إلا أن لعيسى منه معنى مخصوصا، وهو ظهوره بأحكامه في عالم الشهادة، بما لم يكن لأحد غيره من تلك المرتبة. ومعنى الظهور بأحكام الروح القدس، هو الظهور بأحكام القِدم في عالم الحدوث. وهو من الأمور المحيّرة لأصحاب العقول، خصوصا عند المعاينة حسّا.
2. تعليم الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل: وهذا نظير قول الله عن نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2]. وهو يعني أن عيسى كان يتلقى المدد العلمي من الحقيقة المحمدية العليا؛ وهو من هذا الوجه مشابه لخواص هذه الأمة. ولنلاحظ ذكر التوراة والإنجيل مع ذكر الكتاب، فيما يتعلق بعيسى؛ وغيابَ ذكر القرآن باللفظ عند ذكر تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخواص أمته. وذلك لأن القرآن هو النسخة المطابقة للكتاب العلوي ذاته، من دون التوراة والإنجيل أو غيرهما مما أُنزل قبلهما؛ فلو ذُكر مع الكتاب لكان ذلك تكرارا في الذكر، ولَغابت فائدة الدلالة على المطابقة. ولهذا السبب أيضا، كان القرآن ناسخا لما نزل من التوراة والإنجيل على الخصوص؛ بخلاف ما يتوهّم أهل الكتاب لجهلهم. وهذا هو مدلول قول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. والهيمنة القرآنية حاصلة، سواء آمن بها الناس أم لم يؤمنوا. ونحن نرى أن جُل المسلمين المؤمنين بها، لا يعلمونها؛ ونعني بهذا أنهم لا يعلمون مُتَعلَّقها. ولهذا نحن نذكرها هنا، حتى تُميَّز من قِبل العلماء، ويزدادوا معها علما بالقرآن ذاته. والنسختان التوراتية والإنجيلية، رغم مطابقتهما للكتاب جزئيا، ورغم فضل مجموعهما (التوراة مع الإنجيل) عليهما باعتبار انفصالهما في التعيّن الكتابي (التوراة غير الإنجيل)؛ فإنهما لا تبلغان القرآن في تطابقه الكلّي مع ذلك. وهذا التطابق لا يعلم مرتبته وعلوّ شأنه، إلا موسى وعيسى عليهما السلام خصوصا؛ بالإضافة إلى ورثة النبوة من هذه الأمة. ومَن علم ما نقول وميّزه، فإنه يحصل له العلم بالفاتحة، ولمَ كانت مخصوصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ ويعلم لمَ سُميت فاتحة، ولمَ سميت أم الكتاب؛ وغير ذلك من الأسماء... وأما الحكمة حيث ذُكرت من الكتاب، فإنها تعني مطابقة العلم للمعلوم من جهة العمل، غيبا وشهادة. وهذا علمٌ لا يكون إلا للأنبياء والورثة. وأما من فسّرها بالسنّة، فإنه يكون قد وافق صورتها المحمدية، وإن لم يعلم أصلها في العلم الإلهي. وهو علم صحيح، يُعرف لأهله، بشرط أن لا يحصروه في مُدرَكهم هم وحدهم.
3. خلق الطير: وهو من الأحداث التي ميّزت طفولة عيسى عليه السلام، في فترة لعبه كما يلعب الصبيان. وذلك لأن عيسى في طفولته المباركة، خَلَق (سماه الله خلقا) طائرا، على عادة الصبيان عند تصويرهم لمـُختلِف المجسمات؛ فلما أكمل تصويره، نفخ فيه الروح الحيواني اللائق بصورته، فصار طائرا يطير بإذن الله. وذِكر الله إذنه العلوي سبحانه هنا، هو حتى لا يُؤلَّه عيسى من دونه سبحانه؛ ومع ذلك، فقد وقع في التأليه النصارى على مرّ القرون. وتأليه عيسى، الذي يراه أحبار النصارى نتيجة للعلم الخاص، هو بعكس ذلك من قُصور عقولهم عن التمييز بين الحقيقة الإلهية والصورة العيسوية. وهو مما ننبّههم هنا إليه، لعلهم يرتقون في علمهم بإذن الله. ولقد رأينا بعض ما يقوله المفسّرون من المسلمين في معنى الخَلق المنسوب إلى عيسى، فوجدناهم يتحاشونه على وضوحه في كلام الله؛ ووجدناهم يقولون بأن ذلك الخلق هو من قُدرة الله، لا من قدرة عيسى. والحقيقة هي أن تفسيرهم لا يدلّ إلا على جهلهم الذي سببه شركهم؛ لأن قدرة الله وقدرة عيسى قُدرة واحدة غير متعددة. وهذه المسألة في العقائد، مما يستشكله المتكلمون عند نسبة الأفعال إلى العباد؛ فيلجأون أحيانا إلى عبارات مستهجنة كقولهم: إن الله يخلق قدرة للعبد على الفعل. والحقيقة -كما ذكرنا- هي أن القُدرة واحدة، حجبهم عنها تقيُّدها في العبد وإطلاقها في الله فحسب؛ وهذا أمر آخر غير معنى القدرة. فما أشد جهل المتنطعين!... ولقد وقع المفسّرون في الجهل، لأنهم لا يريدون أن يُقرّوا بقصورهم عن إدراك كل معاني القرآن؛ ثم لأنهم في تفسيرهم، ينتصرون لعقائدهم التي يرون صوابها، ويُهملون ما يُخالفها وإن كان حقا في نفسه. وقد يحتالون لذلك بعبارات موهمة!... ولقد ساهمتْ هذه الآفة، في قطع شطر كبير من المسلمين -على مر القرون- عن المدد النبوي، عندما بقوا عابدين لأحبارهم ومنزهين لهم تنزيه العصمة، ولو من غير إقرار. وهذا عينه، هو ما وقع فيه اليهود مع التلمود خصوصا، وما وقع فيه النصارى في لاهوتهم. ولعلنا نعود إلى هذه المسألة مرات أخرى، فيما يأتي من هذا الكتاب إن شاء الله، من وجوه أخرى...
4. إبراء المرضى وإحياء الموتى: وهذا من أشد ما يعرض للعامة، لأنهم لا يعلمون (يؤمنون) الله إلا من أفعاله؛ وهي تختلط عليهم هنا لظنّهم أن حقيقة عيسى ينبغي أن تكون مباينة من جميع الوجوه لله، حتى يُميَّز عنه سبحانه؛ وما علموا أن عيسى هو الله من وجه، وهو غيره من وجه آخر. وهذا الجمع بين المتناقضات، هو ما يجعل العقلاء يردّون العلم اللدني، ويفرّون إما إلى التشبيه التام كما فعلت النصارى، وإما إلى التنزيه التام كما فعلت طائفة من اليهود وطائفة من المسلمين. والجمع هو لأهل الجمع، كما يعلم ذلك الأولياء من هذه الأمة.
وجاء في الإنجيل: "وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلًا: «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ.»[9]. ما يعنيه الكلام المنقول عن عيسى عليه السلام، بمسكنة الروح، هو التحقق بالفقر إلى الله؛ لأن من تحقق بالفقر أغناه مولاه. والتحقُّق بالفقر هو غير الفقر، لأن التحقق خاص، والفقر عام؛ والامتياز يكون دائما بما به الافتراق لا بما فيه الاشتراك. وملكوت السماوات، يقصد به عيسى عالم المعاني الذي هو من مرتبة القلب والإيمان. وهذه دعوة جديدة على بني إسرائيل الذين كانوا قد ألفوا الدعوة إلى مرتبة الإسلام في مجملهم. وهو يعني أن دعوة عيسى تكميل لدعوة موسى، ويعني أن الاختلاف بين الدعوتين لم يكن قط اختلاف حق وباطل كما رأى ذلك أحبار اليهود، وإنما كان اختلافا بين مرتبتين من الحق. والحق الذي نعنيه هنا، هو الدين لا غيره. وإن هذا الالتباس الناشئ عن اختلاف المراتب، يعاني منه المسلمون أيضا؛ فنجد أهل مرتبة الإسلام أحيانا يُنكرون على أهل مرتبة الإيمان، كما نجد أهل المرتبتيْن يُنكرون على أهل مرتبة الإحسان. كل هذا، وهم لا علم لهم بالتراتب فيما بينهم، ولا يرون الاختلاف الحاصل في المرتبة ذاتها وفي الدين ذاته؛ مما يجعل الصواب متعدد الصور بحسب كل ذلك. وهذا من أشد الجهل، الذي يستمر ضرره في المسلمين، ويتزايد مع مرور الزمان. ومع ذلك، لا يكادون يشعرون أن الخلل منهم، ما دام الدين واحدا، وما دام النص المنطلَق منه واحدا. ورغم أن القرآن قد عالج هذه الآفة في مواضع كثيرة، إلا أن الناس لا ينهلون منه بصفة مباشرة، بل يُفضلون الأخذ عن "محولات" (transformers) العقول الفقهية القاصرة. وعلى هذا، فإن التحريف اللفظي الذي عصم الله كلامه منه، لم يمنع الناس من أن يُحرفوا المعنى لسبب من الأسباب.
ثم يواصل الناقل: "طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ."[10]. والحزن الذي يدل عليه عيسى أصحابه، هو الحزن الذي تُعطيه مرتبة الإيمان، من كونها محل المعاملة القلبية لله. والمعاملة تتطلب تمحيصا، لا بد أن يرى العبد تقصيره معه، فيكون ذلك سببا لتواصل أحزانه. ولكن عيسى يُبشر الحزانى بالعزاء، لأن الله سبحانه يُجازيهم بمشقتهم النفسية أجرا ونورا، في الدنيا والآخرة. والله أكرم من أن يُهمل عبدا عامله ساعة، فكيف الظن بمن يُعامله العمر كله أو شطره!... أما حزن الأنبياء الذي يَذكر فيه أهل السيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه كان متواصِلَه، والذي أنكره بعض العلماء لقياسه على معلومهم؛ فهو حزن يُعطيه علمهم الخاص بجلال الله. وهذا لا يذوقه إلا من كان منهم، أو كان وارثا لهم. ولعل القارئ قد تعلّم معنا، أن علماء الدين بعيدون عن أحوال الأنبياء والورثة. فهم إما مع من يقلِّدونه من أسلافهم، أو مع عقولهم القاصرة!...
ويضيف الناقل: "طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ."[11]. وهذا هو معنى قول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]. والمقصود بالوُدعاء المتواضعون لجلال الله، المجتنبون لإيذاء الخلق. وهذا أيضا من أخلاق أهل مرتبة الإيمان فما فوق. وأما الأرض الموروثة، فقيل إنها الجنة قياسا على قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74]، وقيل هي الأرض التي وعد الله بني إسرائيل إن هم أطاعوه؛ أو هي الأرض الآئلة في آخر أمرها إلى المؤمنين بالمعنى العام. وهذه المعاني، لا يُعارض بعضها بعضا، لكونها غير متزاحمة في الزمان.
ويُضيف الإنجيل: "طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ."[12]. يريد عيسى من كلامه، أن يُنبّه أتباعه إلى الجوع والعطش إلى الخير، الذي يُنتج لصاحبه الخير؛ بخلاف الجوع والعطش الطبيعيين، فإنهما يشترك الإنسان فيهما مع الحيوان. والفضل دائما، فيما يقع به الامتياز، لا المشاركة. وأما قوله "يشبعون"، فإنه يعني أن الله سيغنيهم بعلمه ونوره ومختلف نعمائه. والمقصود من كونهم يشبعون، أنهم يُكرمون، لا أنهم يقنعون ويقع لهم الاكتفاء. فإن هذا المعنى بعيد عن المعاملين لله.
ثم يضيف: "طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ."[13]. وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «... وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاء!»[14]. وذلك لأن الله هو الرحمن الرحيم، وإليه تعود كل رحمة جزئية، مما يرحم بها العباد بعضهم بعضا. وهي عائدة إليه سبحانه بنَسب الرحمن، لتنزل مرة أخرى على أصحابها جزاء. وهذا الكلام من النبوة حضٌّ على التخلق بالرحمة، وإسباقها في الاعتبار على كل خُلُق سواها؛ وهو من نفيس العلم والحكمة. ورغم أن المخاطَبين من عيسى كانوا يُدعون إلى مرتبة الإيمان، إلا أن الرحمة لا تتوقف هناك؛ بل لها معراج متصاعد بحسب مقامات العباد، إلى أن تبلغ الرحمن من الحقيقة المحمدية.
ثم يقول: "طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ."[15] وهو نظير قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الأَبْرَارَ الأَتْقِيَاءَ الأَخْفِيَاءَ؛ الَّذِينَ إِنْ غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا. قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَة.»[16]. ومعنى نقاوة القلب التي ذكرها عيسى، هو سلامته من الشرك الأصغر؛ الذي ينشأ من التوجه إلى الدنيا. ومعنى معاينة الله، هو المشاهدة؛ وهي من مقام الإحسان. وقد دلّ عيسى أصحابه -كما يدل كل رباني- على أن يشهدوا الله فيه؛ لأن صورة العبد الكامل أجلى مرآة يتراءى فيها الله. ورغم أن هذا المعنى الديني ثابت وراسخ، فإن النصارى والمسلمين قد أخطأوه في مجملهم. وذلك -كما أشرنا مرارا- لأن النصارى قيّدوا الله في الصورة العيسوية، ولأن المسلمين جهلوه في الصورة المحمدية؛ وكِلا طرَفَيْ النقيض مذموم.
ثم يقول أيضا: "طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ."[17]؛ وهو نظير قول الله تعالى في وصف عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]. ولا يكون هذا السلام العام، إلا من عباد الاسم "الرحمن"، لأنهم يعلمون التجليات التفصيلية، ولا يردّون أيا منها من جهة الباطن؛ وإن كانت في الظاهر مما يجب إنكاره بلسان الشريعة. وأما غيرهم ممن هم دونهم، فإنهم لا يتمكنون من هذا السلام، وإن ادعوه وزعموه. ومقصود عيسى من لفظ "أبناء الله" هو "المنسوبون إلى الله"، وهو مدلول "عباد الرحمن" ذاته، لكون الرحمن خليفة عن الله. والله يقول: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. أما الأسماء الأخرى، فليست لها هذه الإحاطة.
ثم يقول:" طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ."[18] ؛ وهو معنى قوله تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران: 195]. وهذا، لأن سنة الله في الناس قد اقتضت أن لا يدعو أحد بدعوة الأنبياء عليهم السلام، إلا وتقوم عليه ألسنة الإنكار من كل جهة؛ ليتحقق له المقام ويثبت له الأجر. وكل من رام الجمع بين الدعوة إلى الحق ورضى الناس، فإنه يكون ممكورا به مفتونا. وإن عيسى عليه السلام نفسه، كان نموذجا لمن أوذي في الله، على سطوع آيته وظهور برهانه!...
ثم يقول: "طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ."[19]. وهذه كلمة تخص أصحابه وأمته، إلى حين البعثة المحمّديّة. وقد نطق بها عيسى من جمعيته، لأنه لا فرق في الدلالة بين عيسى والحق، كما ذكرنا مرارا. والمقصود من الكلام، هو أن البلاء لا تُعتبر فيه الصورة وحدها؛ فيكون كل من أوذي داخلا في هذا التكريم، كما نرى في زماننا ذلك لـ "المناضلين" السياسيين وللخارجين عن النظام والقانون؛ وإنما يُعتبر الباعث والسّند. فإن كان المرء يُبتلى في الله وفي دينه، فهو المعنيّ بالكلام؛ وإلا فلا!...
ثم يقول: "اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ."[20]. وهذا هو ما ذكرناه عن عدم الاكتفاء بصورة البلاء وحدها. وهو يعني أن من كان على درب الأنبياء عليهم السلام، وحده هو من ينال الأجر.
ثم يقول: "أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ."[21]. يقصد عيسى عليه السلام، أن أصحابه في زمانهم، هم صفوة الله في الأرض. وكان عليهم أن يعوا ذلك، ليحافظوا على مكانتهم بالتقوى والنقاء. وأما إن انحرفوا، فإنهم سيفقدون تلك الخصوصية، ويُصبحون أحقر من سواهم من الناس؛ لأن الشريف إذا سقط نزل أسفل من السفلة. وهذا الكلام نظيره، من الجهة المقابلة، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ!»[22].
ثم يقول: "أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لاَ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَل، وَلاَ يُوقِدُونَ سِرَاجًا وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ."[23]؛ وهو نظير قول الله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]. وهذا التفضيل من الله لعباده المؤمنين في زمانهم، والذي أصبح يُنكَر من قِبل الدجاليين الذين يريدون أن يجعلوا البشرية طبقة واحدة من الممسوخين الذين لا خلاق لهم ولا مزيّة، هو من حكمة الله المودعة في الشرائع. والمؤمنون عليهم، أن يحافظوا على تميُّزهم ذاك دائما، بالتواضع لله وخدمة دينه، لا بنسبة الفضل إلى أنفسهم، كما يفعل الجاهلون في الأزمنة المتأخرة...
إننا بهذه المطابقة بين تعاليم عيسى وتعاليم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، نريد أن ننبه المسلمين وأهل الكتاب جميعا، إلى وحدة الدين وإلى تطور صور التشريع فيه مع كل مظهر؛ حتى يعودوا إلى الله الظاهر ويتحقق لهم التوحيد الشرعي. أما زعم كل فريق أنه على الحق وحده، مع التعصّب وتحقير المخالف، فإنه لا يدل إلا على النقص وعلى مخالفة التعاليم... ولا بأس من تنبيه المسلمين إلى قول الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، الذي لا يؤمن أكثرهم منه بالاسم "الظاهر"، مع ورود ذكره صريحا مع بقية الأسماء. ولا نعني بحقيقة الإيمان به، علمَه؛ لأن علمه يكون للخواص وحدهم!...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] . متى 4: 2-4.
[2] . متى 4: 5-7.
[3] . متى 4: 8-10.
[4] . متى 4: 12-17.
[5] . متفق عليه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[6] . متى 4: 18-20.
[7] . متى 4: 21-22.
[8] . متى 4: 23-25.
[9] . متى 5: 1-3.
[10] . متى 5: 4.
[11] . متى 5: 5.
[12] . متى 5: 6.
[13] . متى 5: 7.
[14] . متفق عليه، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
[15] . متى 5: 8.
[16] . أخرجه ابن ماجة والحاكم في المستدرك، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه.
[17] . متى 5: 9.
[18] . متى 5: 10.
[19] . متى 5: 11.
[20] . متى 5: 12.
[21] . متى 5: 13.
[22] . أخرجه مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[23] . متى 5: 14-16.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق