⏪⏬
...الزّغاريد من حولها تنبثق كالقبل...وجه الحبيبة أمّها لا ينفك يطالعها بحب..عائلتها الرّائعة تحتفل...أخيرا تحتفل...أخيرا ترى أكاليل الورد تزيّن الرّأس العنيد الّذي روّض أخيرا لمنطق الواقع وحتميات الحياة...هذا الرّأس الّذي تركوه طويلا يمتلئ بالمثاليّات والقيم
وآراء العقلاء المجانين من فلاسفة ومفكّرين وشعراء...هذا الرّأس الّذي عاند طويلا وتمسّك بكلّ بسالته حتّى لا يخضع لمنطق النّخاسة المقّنّعة..لما يسمّونه الزّواج التقليديّ..يبتسم ثغرها وهي تلتفت لعريسها الّذي أكسبه الصّيف والتّعب سمرة لذيذة ..قبّلته بعينيّها خلسة عنه..وأشاحت بوجهها سريعا في بعض التقطيب اللّطيف لحاجبيها نوعا من التمويه أمام العيون الّتي تحوّطها من كلّ مكان ..عيون لأشخاص يحبّونها ويحاذرون على فرحتها من هبّة النّسيم...وعيون لأشخاص لا يصدّقون حدّ اللّحظة ما يرونه..عروس بكامل بهائها تتصدّر أمامهم في خفر..تتلألأ بفستان زفافها الأبيض المرصّع ...ليست هي نفسها ذاك الكائن الغريب الّذي لا يرتاد أعراسهم ولا يشارك بناتهم في استعراض أنوثتهنّ المقنّع بالبراءة لصيد عريس..أليست هي نفسها الّتي لا تشاطر النسوة حلقات أنسهنّ ولاتلبث لحظات تجالس ضيوف عائلتها..؟ أليست هي من رفضت أولادهم حين طلبوها للزواج لأنّها اصبحت تمتلك راتبا وظيفيّا..؟! نعم هيّ التي اقسموا أنّها ستتعفّن مع كتبها في الزوايا المظلمة ..ستظفر الشيب وتأكل أصابعها ندما على كلّ فرصة ضيّعتها ...تنظر للحاضرات ..عيناها تزينهما المساحيق والأضواء تجعلهما تتلألآن...تغيبان دون ان ينتبه أحد في حكاية كلّ وجه معها...تلك السيّدة الباذخة الثياب ترتدي كلّ ثروتها من الذهب..تتمايل بواجهة حليّها ذات اليمين وذات الشمال..تذكر أنذها زارت منزل عائلتها ذات مساء أقلّتها إليه سيّارة فخمة ..عندما استوت في جلستها كملكة واثقة من أنّها ستأمر وتطاع قالت{ابني لديه كلّ ما تحلم به فتاة ..لا يريد أن تحصل زوجته على شهادة جامعية وتنتظر راتبا زهيدا من وظيفتها في كلّ شهر..} تذكر أنّ أمّها أكرمت وفادة هذه السيّدة كثيرا وبكامل الأدب أعلمتها أنّ ابنتها لن تتزوّج إلا حين تكمل تعليمها وتحقّق ذاتها..تذكر ايضا غضبة والدها رحمه الله قائلا{ماذا يريدون من البنت ؟ ان تنقطع عن دراستها لتتزوّج ابنها المدلّل ذاك؟}..فرص كثيرة بمنطق سوق النخاسة قد ضيّعتها من يدها..ستأكل الدّراسة عمرها وتخنع في الأخير..لكنّها لم تخنع..تلك المراة البدينة الضّاحكة إليها في فجاجة كالصّراخ..أتتها ذات يوم بعريس لا يرفض حسب رأيها ..{ماذا تريد الفتاة غير زوج متديّن وميسور الحال.؟.لا ..هذه الفتاة مسلّط عليها جنيّ..قرين يجعلها ترفض الرّجال...}..لا..هي ترفض أن تقدّم على طبق التّعارف بضاعة يقلّبها التّاجر ليرضى بها او ينصرف عنها...هذه الضحكات الفجّة سمعتها سابقا..سمعتها بنبرة متشفية عندما عادت هذه المرأة ومعها بطاقة استدعاء لحضور زفاف عريس الغفلة الّذي جاءتها به سابقا ورفضته..توعّدتها أن تبكي بكاء الندم والحسرة..دودة الكتب ..بومة العزلة..غريبة الحيّ..كلّ النعوت التي وسموها بها لم تغيّر موقفها من تجارة الزّواج..تلتفت الآن لأمّها الّتي تزيّنت بثوبها الورديّ لا تسعها الدنيا من الفرح..تقدّمت الغالية منها فمسكت يدها تقبّلها ..تشكرها لأنّها حمتها من زمن بشع..لأنّها لم تهنها ولم تقف مع الآخرين ضدّها..لأنّها آمنت برأيها ودافعت عنه...صارت الدموع تقبّل يدها ..{لا تبكي يا بنيّتي..حتى لاتذهب زينة وجهك..}..أنت زينتي يا أمي!..أنت زينتي التي تجمّلت بها ومازلت..يا طمأنينتي في بحر ملأته أسماك القرش البشريّة..كم حاصروني..كم ضيّقوا الخناق عليّ...{لا سترة للبنت غير الزواج..إلى متى تظلّ هكذا..}...كنت تجيبينهم {إنّنا مازلنا نريد ابنتنا معنا...مازالت بهجة منزلنا..لن يجيء يوم ننوء بوجودها..}..تسوّي الأمّ ثوب ابنتها المطرّز ..تفرده على الجانبين..كانّها تفتح أوراق وردة بيضاء..آه أيّتها الامّ الرّائعة...!..كنت تخفين خوفك عليّ ..تناصرينني لكنّك في نفس الوقت ترتعبين من مصيري..تقولين لنفسك{هذه الفتاة العنيدة تنتظر من يسعدها ومن يراها سعادته..كيف ؟!..وهي غائبة في عوالم الكتب أو منصرفة في تعب العمل؟..حتّى زملاؤها أعطتهم انطباعا بانّها متزوّجة فلم يدن منها أحد..}..تقدّمت من عريس ابنتها أسرع هو ايضا يقبّل يدها..هذا الابن الجديد الّذي دخل العائلة..يشدّ على يدها ويرفع عينيه إليها ..قالت عيناه الكثير لقلبها الواجف..اطمئني..ابنتك في صميم الرّوح..تبتع الأم في حبّ عن العروسين لتعود إلى حلقة الحفل واثقة أن الصّبر انتهى بالبركة والخير..كانت عيني ابنتها تتأمّلانها وهي توزّع ودّها على الحاضرين..التفتت العينان من جديد للعريس..أيّها الرّجل السّاحر..يا صاحب الخطى التي كانت تتبعني كلّ يوم في غدوّي ورواحي دون أن ينبس بكلمة..يستعير نفس الكتب التي أرجعتها إلى المكتبة..يمسح دمعي من بعيد وأنا جاثمة على قبر أبي..ولا أنتبه إليه إلا وانا مغادرة للمقبرة وألتفت لأراه جانب القبر يتلو الفاتحة..يا صاحب القلب الذكيّ الّذي حضر زفاف أخي دون أن تتمّ دعوته وجلس في آخر القاعة يراقبني ويعدني بفرحة مماثلة..يتقدّم لخطبتي في الّلحظة التي أوشكت فيها أن أتزلزل..يتلقّفني من خوفي الّذي أوشك أن يرديني..هذا الرّجل الطيّب الّذي لم يرني وأنا أرقبه يمسح ثياب طفل سقط بجانبه وأخذ يكفكف دمعه ويضاحكه وهو قابع على ركبتيه..أحببته كثيرا دون أن يعلم..الجميع يحسب أنّه الرّجل الّذي قبلته أخيرا في صفقة زواج تقليديّ...!
*وفاء الرعودي
تونس
...الزّغاريد من حولها تنبثق كالقبل...وجه الحبيبة أمّها لا ينفك يطالعها بحب..عائلتها الرّائعة تحتفل...أخيرا تحتفل...أخيرا ترى أكاليل الورد تزيّن الرّأس العنيد الّذي روّض أخيرا لمنطق الواقع وحتميات الحياة...هذا الرّأس الّذي تركوه طويلا يمتلئ بالمثاليّات والقيم
وآراء العقلاء المجانين من فلاسفة ومفكّرين وشعراء...هذا الرّأس الّذي عاند طويلا وتمسّك بكلّ بسالته حتّى لا يخضع لمنطق النّخاسة المقّنّعة..لما يسمّونه الزّواج التقليديّ..يبتسم ثغرها وهي تلتفت لعريسها الّذي أكسبه الصّيف والتّعب سمرة لذيذة ..قبّلته بعينيّها خلسة عنه..وأشاحت بوجهها سريعا في بعض التقطيب اللّطيف لحاجبيها نوعا من التمويه أمام العيون الّتي تحوّطها من كلّ مكان ..عيون لأشخاص يحبّونها ويحاذرون على فرحتها من هبّة النّسيم...وعيون لأشخاص لا يصدّقون حدّ اللّحظة ما يرونه..عروس بكامل بهائها تتصدّر أمامهم في خفر..تتلألأ بفستان زفافها الأبيض المرصّع ...ليست هي نفسها ذاك الكائن الغريب الّذي لا يرتاد أعراسهم ولا يشارك بناتهم في استعراض أنوثتهنّ المقنّع بالبراءة لصيد عريس..أليست هي نفسها الّتي لا تشاطر النسوة حلقات أنسهنّ ولاتلبث لحظات تجالس ضيوف عائلتها..؟ أليست هي من رفضت أولادهم حين طلبوها للزواج لأنّها اصبحت تمتلك راتبا وظيفيّا..؟! نعم هيّ التي اقسموا أنّها ستتعفّن مع كتبها في الزوايا المظلمة ..ستظفر الشيب وتأكل أصابعها ندما على كلّ فرصة ضيّعتها ...تنظر للحاضرات ..عيناها تزينهما المساحيق والأضواء تجعلهما تتلألآن...تغيبان دون ان ينتبه أحد في حكاية كلّ وجه معها...تلك السيّدة الباذخة الثياب ترتدي كلّ ثروتها من الذهب..تتمايل بواجهة حليّها ذات اليمين وذات الشمال..تذكر أنذها زارت منزل عائلتها ذات مساء أقلّتها إليه سيّارة فخمة ..عندما استوت في جلستها كملكة واثقة من أنّها ستأمر وتطاع قالت{ابني لديه كلّ ما تحلم به فتاة ..لا يريد أن تحصل زوجته على شهادة جامعية وتنتظر راتبا زهيدا من وظيفتها في كلّ شهر..} تذكر أنّ أمّها أكرمت وفادة هذه السيّدة كثيرا وبكامل الأدب أعلمتها أنّ ابنتها لن تتزوّج إلا حين تكمل تعليمها وتحقّق ذاتها..تذكر ايضا غضبة والدها رحمه الله قائلا{ماذا يريدون من البنت ؟ ان تنقطع عن دراستها لتتزوّج ابنها المدلّل ذاك؟}..فرص كثيرة بمنطق سوق النخاسة قد ضيّعتها من يدها..ستأكل الدّراسة عمرها وتخنع في الأخير..لكنّها لم تخنع..تلك المراة البدينة الضّاحكة إليها في فجاجة كالصّراخ..أتتها ذات يوم بعريس لا يرفض حسب رأيها ..{ماذا تريد الفتاة غير زوج متديّن وميسور الحال.؟.لا ..هذه الفتاة مسلّط عليها جنيّ..قرين يجعلها ترفض الرّجال...}..لا..هي ترفض أن تقدّم على طبق التّعارف بضاعة يقلّبها التّاجر ليرضى بها او ينصرف عنها...هذه الضحكات الفجّة سمعتها سابقا..سمعتها بنبرة متشفية عندما عادت هذه المرأة ومعها بطاقة استدعاء لحضور زفاف عريس الغفلة الّذي جاءتها به سابقا ورفضته..توعّدتها أن تبكي بكاء الندم والحسرة..دودة الكتب ..بومة العزلة..غريبة الحيّ..كلّ النعوت التي وسموها بها لم تغيّر موقفها من تجارة الزّواج..تلتفت الآن لأمّها الّتي تزيّنت بثوبها الورديّ لا تسعها الدنيا من الفرح..تقدّمت الغالية منها فمسكت يدها تقبّلها ..تشكرها لأنّها حمتها من زمن بشع..لأنّها لم تهنها ولم تقف مع الآخرين ضدّها..لأنّها آمنت برأيها ودافعت عنه...صارت الدموع تقبّل يدها ..{لا تبكي يا بنيّتي..حتى لاتذهب زينة وجهك..}..أنت زينتي يا أمي!..أنت زينتي التي تجمّلت بها ومازلت..يا طمأنينتي في بحر ملأته أسماك القرش البشريّة..كم حاصروني..كم ضيّقوا الخناق عليّ...{لا سترة للبنت غير الزواج..إلى متى تظلّ هكذا..}...كنت تجيبينهم {إنّنا مازلنا نريد ابنتنا معنا...مازالت بهجة منزلنا..لن يجيء يوم ننوء بوجودها..}..تسوّي الأمّ ثوب ابنتها المطرّز ..تفرده على الجانبين..كانّها تفتح أوراق وردة بيضاء..آه أيّتها الامّ الرّائعة...!..كنت تخفين خوفك عليّ ..تناصرينني لكنّك في نفس الوقت ترتعبين من مصيري..تقولين لنفسك{هذه الفتاة العنيدة تنتظر من يسعدها ومن يراها سعادته..كيف ؟!..وهي غائبة في عوالم الكتب أو منصرفة في تعب العمل؟..حتّى زملاؤها أعطتهم انطباعا بانّها متزوّجة فلم يدن منها أحد..}..تقدّمت من عريس ابنتها أسرع هو ايضا يقبّل يدها..هذا الابن الجديد الّذي دخل العائلة..يشدّ على يدها ويرفع عينيه إليها ..قالت عيناه الكثير لقلبها الواجف..اطمئني..ابنتك في صميم الرّوح..تبتع الأم في حبّ عن العروسين لتعود إلى حلقة الحفل واثقة أن الصّبر انتهى بالبركة والخير..كانت عيني ابنتها تتأمّلانها وهي توزّع ودّها على الحاضرين..التفتت العينان من جديد للعريس..أيّها الرّجل السّاحر..يا صاحب الخطى التي كانت تتبعني كلّ يوم في غدوّي ورواحي دون أن ينبس بكلمة..يستعير نفس الكتب التي أرجعتها إلى المكتبة..يمسح دمعي من بعيد وأنا جاثمة على قبر أبي..ولا أنتبه إليه إلا وانا مغادرة للمقبرة وألتفت لأراه جانب القبر يتلو الفاتحة..يا صاحب القلب الذكيّ الّذي حضر زفاف أخي دون أن تتمّ دعوته وجلس في آخر القاعة يراقبني ويعدني بفرحة مماثلة..يتقدّم لخطبتي في الّلحظة التي أوشكت فيها أن أتزلزل..يتلقّفني من خوفي الّذي أوشك أن يرديني..هذا الرّجل الطيّب الّذي لم يرني وأنا أرقبه يمسح ثياب طفل سقط بجانبه وأخذ يكفكف دمعه ويضاحكه وهو قابع على ركبتيه..أحببته كثيرا دون أن يعلم..الجميع يحسب أنّه الرّجل الّذي قبلته أخيرا في صفقة زواج تقليديّ...!
*وفاء الرعودي
تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق