اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

الياسمينة الوحيدة | قصص قصيرة ...*وداد طه

⏪1
الياسمينة الوحيدة

ماتت المرأة الوحيدة وحيدةً في الشارع. وقعتْ أرضًا كأنّها صاعقة. لم يركضْ نحوها أحد، ولم يلتقطْها أحد. بقيتْ على الرَّصيف وحدها، باردةً وبيضاءَ ورقيقة.
كانت تعمل في مصنعٍ في قلب بيروت. تقصد عملها نشيطةً كلّ صباح. تتعمّد الوصولَ قبل الجميع كي تستمتعَ بسيجارةٍ وفنجانِ قهوةٍ ساخن. وحين يبدأ العمّالُ في التَّوافد إلى المكان، تلملم أفكارَها ودخانَها، وتلوذ بصمتها إلى غرفةٍ تتشاطرها مع عاملتيْن أُخرييْن في المصنع.

تثرثر "جمال" و"عناية" طوال النَّهار، بينما تغرق المرأةُ الوحيدةُ في صمتها وتتركهما تتغامزان عليها. تُنجز عملَها في وقتٍ قياسيّ، لكنّها لا تترك المبنى قبل أن ينتهي الدَّوام. في إحدى المرّات طلبتْ إلى صاحب المصنع أن يسمحَ لها بالانصراف، متوقّعةً أن يراعي أنّها في العادة تُنهي عملَها قبل الجميع بمهارةٍ وإتقان. أجابها أنّه يدفع لها راتبًا مقابل ساعاتٍ معيّنة، وأنّها إنْ خالفتْ ذلك فستكون سارقةً في نظر القانون. استغربت المرأةُ الوحيدةُ كلامَه، لكنّها لم تجادلْه؛ فهي تعلم جيّدًا عقليّةَ أرباب العمل، وتعي أنّ سلّتها ستخرج فارغةً إنْ جادلتْه، وقد يصل الأمر إلى فصلها من العمل، فيكون عليها البحثُ عن عملٍ آخر، وحالُ البلد كحال مرطبان المربّى في مطبخ جدّتها.

لم يكن لديها حبيب. أحبّت مرّتين، عصام ومعين. كلاهما تركها فجأةً ورحل. عصام رحل من دون أن يقول أيَّ شيء؛ سافر كأنّه طيرٌ مهاجر. ومعين عاد إلى طليقته بعد سبع سنوات أمضياها معًا. بعد ذلك، لم يعد يهمُّها شيء. عرفتْ كثيرين. عوّضتْ بأحبّاءَ آخرين وهواياتٍ أخرى أحيانًا، وكذبتْ على نفسها أحيانًا كثيرة. لهت مرّاتٍ ومرّات. وأحيانًا فضّلتْ أن تظلّ وحيدةً. كانت تحبّ السينما. أدمنتْ، بعد رحيل معين وعصام، مشاهدةَ الأفلام، ثمّ اكتشفتْ قراءة كتب الحبّ والحرب.

عاشت مع جدّتها لأبيها، وكانت هذه امرأةً سبعينيّةً شرّيرةً ومستبدّة. لم تكلّمْها كثيرًا، ولطالما تشاجرتا لأتفه الأسباب (كأنْ تنير المرأةُ التي ماتت وحيدةً لمبةَ غرفة الجلوس، فتأتي جدّتُها وتطفئها). كانت تقصد البحرَ بعد الظهر، تمشي أو تجلس، صامتةً في الحالتين، ثمّ تعود مع الليل إلى غرفتها، فتتسلّى قليلًا بتصفّح الفيسبوك، أو تشاهد نصفَ حلقةٍ من مسلسلٍ مملّ. تقرمش بعضَ الفستق والتّرمس في السَّهرة. تسأل جدّتَها ألفَ مرّةٍ إنْ كانت تريد شيئًا قبل أن تخلد إلى النوم، فلا تردّ المرأةُ السبعينيّة، ولا تكترث المرأةُ التي ماتت وحيدة. تنسحب وتنام بهدوء، مستعدّةً ليومٍ آخرَ مشابه.

في يوم شتويّ غائم، وفي الشارع الذي مشته نحو بيتها وعملها وبحرها وزرعتْ ياسمينةً صغيرةً في طرفه، وقعت المرأةُ الوحيدةُ وماتت وحدها، بينما كان الجميعُ ينتظر مرورَ موكب الرئيس.


⏪2
كافيـ...ـه

كان سعيد نائمًا حين رنّ الهاتف. مدّ يدَه نحوه، وبعينين مغمضتين أقفل الخطَّ. عاد الهاتفُ يرنّ. تناوله متبرّمًا. قال عزّو من الجهة الأخرى: "يجب أن تحضر سريعًا. لقد وضعوه في غيابك."

لم يُنهِ الصبيُّ جملتَه حتّى قفز سعيد من مكانه. أبعد الشرشفَ الذي غطّتْه به أمُّه ليلًا، وقصد الحمّام. غسل وجهَه، ثمّ تناول بلوزتَه الكحليّة، ومشى صوب باب البيت. حاولتْ أمُّه أن تستوقفه، لكنّه توجّه نحو الدرَج، تاركًا المصعد، وعلاماتُ الدهشة على وجهها البيضاويّ.
---
حين استأجر الكافيه من الدكتور خير الدين، لم يتشدّدْ في مُفاصلته على الإيجار؛ فقد كان همُّه أن يؤمّن بابَ رزقٍ لأخيه الأكبر توفيق، العائد قريبًا من السعوديّة.

على مدى شهرين، كان عزّو يأتيه بالأخبار: أخبارِ أخيه، والطبيب خير الدين، والنساءِ اللواتي يزرن المكان، والأطعمةِ التي تُعدّها زوجةُ أخيه للزبائن، والأحاديثِ التي يسمعها من روّاد الكافيه. قال له ذاتَ مساء وهما يتمشّيان قرب الشاطئ:

"اجتمع بالأمس أربعةُ أطبّاء في الكافيه. طلبوا قهوةً وأراجيل وبوظة. هل تصدّق أنّهم تقاسموا آخرَ ألف ليرة بينهم؟ دفع كلٌّ منهم مئتين وخمسين ليرة. ظلّ أخوك ساعةً ينتظر أن يعطوه الحسابَ كي يغلق الكافيه. هل تعتقد، يا سعيد، أنني حين أصبح طبيبًا سأكون بخيلًا مثلهم؟"

نظر سعيد إلى الطفل الذي بدا له أطولَ من المعتاد، وربّت على كتفه. لم تكن تلك الأخبارُ تقلق سعيدًا أو تفرحه. بدا طبيعيًّا أن يمارس الاستخبارَ ــ ــ فهي عادةٌ لم يتمكّن من التخلّص منها حتّى بعد مضيّ عشر سنوات على تركه الخدمةَ العسكريّة وتقاعدِه المبكّر. لكنّ شيئًا ما في داخله كان يهمس له بصوتٍ خفيّ لم يتبيّنه إلّا مع الأيّام.
---
حين انقطع توفيق عن مواظبة العمل في الكافيه، اضطرّ سعيد إلى العودة من باريس إلى لبنان، ريثما يجد حلًّا للمشكلة. كان غارقًا في الفواتير المتكدّسة أمامه، يشعر بالغيظ من أخيه الأكبر الذي أوقعه في ديونٍ لا يُفترض أن يكون معنيًّا بردّها عنه. قال لأمّه غاضبًا: "لقد آثرتُه على نفسي. متى سيستفيق من وهْم المكاتب الفاخرة في السعوديّة؟ قولي له إنّه في لبنان، وإنّني رددتُ ديونَ الفواتير المتراكمة. ولكنْ عليه أن يوفي دفعاتِ القرض إلى البنك، ولو اضطررتُ إلى مقاضاته وحبسِه!"

لم تنطق أمُّه بكلمة؛ فهي التي كانت قد أقنعتْه بأن يتركَ باريس التي كان يخطّط لدراسة الموسيقى فيها، وأن يعود إلى لبنان ليفتحَ لأخيه الكافيه. وها هو الآن يغرق في فواتيرها الباهظة.
---
وصل سعيد إلى الكافيه، فوجد فوضى ورملًا وآثارَ أقدامٍ عاثت بسكينة المكان. جلس على الدرَج بصمت، ثمّ تناول هاتفَه والتقط صورًا لكلّ شيء: الأصص، والطاولات، واللافتة المنزوعة من مكانها.

راح يقلّب الصور: هذه الياسمينة، كيف تجرّأوا على قتلها؟ والسّروات الصغيرات، كيف سيَبِتْن خارج بيتهنّ الليلة؟

ولم يلتفت إلى المولِّد الكهربائيّ مرّةً واحدة.

كان عزّو قاصدًا المدرسةَ في الصباح الباكر حين وجد أخاه على الدرج. هرول إليه، وجلس إلى جانبه، وراح يربّت على كتفه قائلًا: "لن أقول للماما أنّي سأتغيّب عن المدرسة. هل تريد فنجانَ قهوة؟"

حين عاد سعيد إلى البيت، وجد أختَه تصرخ في الخادمة كعادتها. توجّه إلى غرفته، وتمدّد على السرير. منذ الصباح ترنّ في أذنيه جملةٌ ردّدها والده: "مَن يأكل حقّك كُلْ قلبَه!" تناول الهاتف. استعرض الأسماءَ بسرعة. وحين لاح اسمُ مَن يريد، ضغط على الصور وأرسلها كاملةً، ثمّ ذيّل رسالته: "لقد طفح الكيل! انظرْ ما عليك أن تفعله، وإلّا سيكون لي شأنٌ آخر!"

ما كادت الإشارةُ الزرقاءُ تؤكّد وصولَ رسالته حتّى هاتَفَه أحمد مسعود، زميلُه ومعاونُ مسؤولٍ كبير. حاول أحمد أن يهدّئ من ثورة سعيد؛ وكان الأخير قد هاتفه منذ أسبوع حين اكتشف أنّ ذلك المسؤول هو مَن سهّل للطبيب خير الدين وضعَ المولِّد أمام الكافيه، من دون إذنٍ أو رخصة. ليس ذلك فحسب، بل إنّه يزوره ليلًا في تلك العيادات الخاصّة، التي اكتشف سعيد أنّها هي الأخرى غير مرخّصة من وزارة الصحّة. لم يتأكّد سعيد من أسباب تلك الزيارات، لكنّها بدت له مريبةً. ثم إنّ الدكتور خير الدين يقدّم شروحًا وافية ومجّانيّة عن مريضاته لمن يجالسه؛ وقد قال له مرّةً بعد أن دخلتْ سيّدةٌ محجّبةٌ إلى الكافيه وطلبتْ قهوةً: "إنّها ترتدي سترينج بدوِّخ!"

ــــ أنت تحرجني يا سعيد. قلتُ لك لن تكون إلّا راضيًا.

ــــ أوّل الشهر بعد يومين. لن أدفع له فلسًا إضافيًّا. منذ شهرين وأنت تمهلني، ومحلّي مغلق. إنْ كنتم تستسهلون الكذبَ، فلن أشاركَكم الكذبَ على نفسي. سأنتظر حتّى الصباح. وبعد ذلك، سأتصرّف.

ــــ حسنًا. إهدأْ يا صديقي. كيف الحجّة إمّ محمود؟

أغلق سعيد الهاتف واستسلم للتعب.
---
كان سعيد يحتسي القهوةَ مع منى في الأوتيل حين رنّ هاتفُه. لم تلتقط عيناها الخضراوان أيَّ إشارةٍ إلى جنس المتحدّث؛ فهو حريص جدًّا على أن يجعل نبرةَ صوته صفرًا من المشاعر. هزّ برأسه ألفَ مرّةٍ خلال ذلك الاتّصال، وزمّ شفتَه السفلى، وقوّس عينيه، لكنّه لم يقل كلمةً واحدة. طلب منها أن ترتدي ثيابَها. لم يعتذرْ عن إلغاء العشاء. قاد السيّارةَ بتوتّرٍ ظاهر. أنزلها عند أقرب نقطةٍ تجد فيها سيّارةَ أجرة، وغاب.

لم يشعرْ بأنّ اتّصال المحامي يطمئن، فعاود الاتّصالَ به.

ــــ إيه ميتر، شو القصّة؟

ــــ وين صرت؟

ــــ عالطّريق، قلّي شو صاير؟

ــــ الطبيب خير الدين وُجد مقتولًا بعد الظهر في عيادته. وحين سألوا السكرتيرة قالت، وهي تبكي بجنون، إنّكَ مَن قتله. أين أنت؟

أغلق سعيد الهاتفَ وهو لا يصدِّق ما سمعه. هل مات غريمُه بهذه السهولة؟ مَن قتله؟ دارت الأفكارُ كالإعصار في رأسه. وما كاد يدلف إلى البيت، حتّى أمسك به شرطيّان كانا في انتظاره، واقتاداه أمام أعين سكّان البناية المتجمهرين. لم يلتفت سعيد إلى أيٍّ منهم. كلُّ ما رآه: بقعةُ دمٍ حمراء، وجسدُ خير الدين ملقًى فوقها.

دار التحقيقُ في المفرزة كمطحنةٍ في رأسه. أعادوا الأسئلةَ عينَها ليلةً ونهارًا كامليْن. طلب المحامي، فقيل له إنّه تنازل عن الدفاع عنه. أصرّ على رؤية محاميةِ الطبيب خير الدين. جاءته وعيناها تغليان (يعرف سعيد العلاقة التي كانت بينها وبين المغدور). حاول إقناعَها بأنّه لم يقتلْه، وأنّه كان ليلتها في مكانٍ آخر. سألته أين؟ تحفّظ عن الإجابة، إذ لم يُرد أن يخبرَها أنّه كان في الفندق مع منى. ردّت: "حين تعرف أين كنتَ، هاتفْني!"
---
مَن هو ابنُ الجنّيّ الذي نصب له هذا الفخّ؟

أرهقته الاحتمالاتُ الكثيرة ــ ــ فشخصٌ مثل الدكتور خير الدين له خصومٌ وأعداءٌ كثر، وهو ارتكب العديدَ من الأخطاء، وليس نصبُ ذلك المولِّدِ إلّا إحدَها.

طلب من المحقّق إجراءَ مكالمةٍ هاتفيّة. بعد مشاورات ومماطلة، مدّ المحقّق يدَه بالهاتف قائلًا بتهكّم: "تفضّل مسيو، بتحبّ نطلبلك قهوة كمان؟"

ــــ ألو سيّدة مروة الهاني؟ أجل، لا تعرفينني. أنا سعيد مملوك. لديّ موضوع جيّد للنشر في محطّتكم، إنْ كنتِ مهتمّة. هل يمكن أن تحضري إلى المَفْرزة؟ بالطبع يُسمح للزّوار بالزيارة؛ فأنا لم أُحَلْ بعد على قاضي التحقيق. أنتظركِ.

بدت السيّدة الهاني مهتمّةً بما يقول. دوّنتْ كلَّ كلمة، ووضعتْ إشاراتٍ حمراء تحت العديد منها. طلبتْ منه أسماءَ الجيران الذين وقّعوا العريضةَ المرفوعةَ إلى المحافظ، ورقمَ الحارس الذي يملك فيديو كاميرات المراقبة في المبنى، وأسماءَ مَن قصدهم للوساطة أو حاول من خلالهم تخويفَ الطبيب من عاقبة أفعاله. أعطاها سعيد ما أرادته. وعدتْه بأن تفعل ما يمليه عليه ضميرُها المهنيّ والإنسانيّ. ثمّ خرجتْ.
---
كاد جسدُ سعيد يتفسّخ في المَفْرزة؛ فهو لم يستحمّ منذ مدة طويلة. كانت قد مضت أسابيعُ وهو هنا من دون محاكمة. كما أنّه لم يشربْ فنجانَ قهوة واحدًا، ولم يدخّنْ، ولم يرَ أمّه، ولم ينم ليلةً كاملة، ولم يأكلْ إلّا الفتات.

اقتاده المحقّقُ إلى قاعة المحكمة. قال وهو يسخر منه: "زبون مرتّب. متوصّيين فيك. إمّك داعيتلك بليلة القدر. قلتلي إسمك سعيد؟ مشِّ يا فرحان."

في قاعة المحكمة، لاحظ سعيد أنّ أحدًا لم يحضرْ باستثناء عزّو، الذي جلس إلى جانب والدته، وحين رأى سعيدًا يدخل تحرّك صوبه وقال له: "مبارح كتبتلك إسمَك على ورقة وحطّيتها تحت نهر جاري. هيك قالتلي ستّي أعمل عشان يتيسّر أمرك." ابتسم سعيد الذي لم يتمكّنْ من توكيل محامٍ جديد بعد أن تخلّى مارون شكري عن قضيّته، فكان عليه أن يواجه القاضي بمفرده. كما غابت محاميةُ الطبيب لأسبابٍ يجهلها. فلم يُبَتّ في الحكْم، وعاد سعيد إلى جدران السجن.

كان قد مضى على آخر مرّةٍ زارته منى عامان ونصفُ العام، منذ المحاكمة التي لم يحاكم فيها. وها هو المحقّق، الذي بات أحدَ أصدقائه بحكم الإقامة من دون حكمٍ طوال تلك المدّة، يرافقه لكي يراها. جلبتْ منى طفلَها معها. وحين جلس، رسم على ملامحه ابتسامةً خفيفةً، وهنّأها بالمولود من الرجل الذي تزوّجته حديثًا، وداعبه. حاولتْ أن تتكلّم، فأسكتها. جلستْ بعض الوقت، ثمّ قامت وغادرت الغرفة.

ظلّ جالسًا في غرفة المحقّق صامتًا. أما المحقّق فقد مدّ ساقيْه على المكتب، وراح يقلّب القنوات على شاشة التلفزيون. فجأةً، انتبه سعيد إلى وجهٍ يقول:

"هنا، ومنذ سنتين ونيّف، قُتل الطّبيب محمود خير الدين بدمٍ بارد. اليوم، تتكشّف أوراقُ الحقيقة واحدةً تلو الأخرى. سعيد مراد، المتّهَم بالقتل، يقبع بين جدران السجن من دون محاكمة. فهل تنتظر الدماءُ التي مازالت تلطِّخ أرضَ هذه الغرفة أن يقوم صاحبُها وينطق بالحقيقة؟ من أمام قصر العدل، كانت معكم شهيرة البدوي."

نظر الرّجلان واحدُهما إلى الآخر. لم يبدُ على وجه أيّ منهما أيُّ تعبير. قام سعيد من مكانه وتوجّه وحده إلى زنزانته. شعر المحقّق أنّ سعيدًا غيرُ قادرعلى رفع قدمه عن الأرض. لكنّه تركه يسير وحيدًا. مازحه قائلًا: "إحلقْ ذقنك، بلكي المرّة الجاية بتجي العروس."
---
مضت جنازةُ سعيد بصمت. لم يمشِ فيها غيرُ أمّه وعزّو، وغطّتها وسائلُ الإعلام كافّةً. كان قد انتحر حين عاد إلى الزنزانة ذلك العصر؛ أمسك شفرةَ حلاقة وحزّ بها وريدَه. سألتْ شهيرة البدوي محدّثتها: "هل أعود إلى بيت أمّه الآن؟"

"فورًا،" أجابتها السيّدة الهاني، التي عُيّنتْ مديرةً للمحطّة منذ سنتين ونصف.


⏪3
مرطبان المربّى

لم أعرفْه جيّدًا، لكنّني لم أتصالحْ مع فكرة ابتعاده. حين رحل كامل، أخفيتُ ألمًا من نوعٍ نادر: ألمَ الإصابة بحبِّ شخصٍ ميّت. لا أعرفُ لِمَ يراودُني شعور أنّه مازال في مكانٍ ما، في نِيس أو موناكو، يدخِّن سيجارَه التوسكانيلّي، ويحتسي بيرةً باردةً، ويجلس تحت الشمس، رأسُه الأقرع اللامع فارغٌ من كلّ شيء، حتّى من اسمِه، ينظر إلى أوجه العابرين من دون أن يراهم.

كان كامل ــ كعادته في ذلك النهار ــ نائمًا، حين هاتفَه عوْني، أخوه الأكبر. صمت عوني طويلًا قبل أن يقول، وهو يصحِّح وضعَ نظّارتيْه فوق أنفه الأفطس: "أمُّكَ في ذمّةِ الله." مضت أيّامُ الحداد الأربعون، كانت زياراتُ الأهل والأقارب تتوالى خلالها متقطِّعةً، وتتكثّف في العطل الأسبوعيّة. كان كامل يستمع، ويبتسم، ويَلْزم الصمتَ. وكان صمتُه يُحْرجهم، أو يُشْعرهم بأنّ إقامتَه سنواتٍ في أوروبا جعلته يتكبّر عليهم. حاول أولادُ عمّه استرجاعَ أيّام الطُّفولة التي قضوْها في الملجأ، وضحكوا. لكنّ كامل بقي صامتًا.

في آخر الليل، حين يغفو كامل، كان يرى حلمًا غريبًا: أبوه يمسك بيده ويأخذه إلى مكانٍ واسع، فيه صفرةٌ مشوبةٌ بالغبار أو الضّباب. يركض كامل نحو أبيه، لكنّه لا يصل إليه. وحين يتلفّت لا يجده، فيصحو وهو يصرخ "أبي!"

تكرّر ذلك الحلمُ، فلم يعد كامل ينام. كان قد عوّد ذاكرتَه على النّسيان. لذلك فقد أشعره طغيانُ الذّكريات، مع زيارات الأقارب، بالضّياع. ثمّ صار، هو نفسُه، يستعيد تفاصيلَ ظنّ أنّها ماتت منذ زمن.

تذكّر يومَ سفره. كان قد أخبر والدَه أنّ طيّارتَه بعد ساعتين. لم يلتفتْ إلى الوراء. حين وصل إلى مطار روما، أعطى الرّجلَ الذي ساعده في العثور على فندق رخيص ذلك المرطبانَ المحشوَّ بالقاورما، الذي كانت أمُّه قد ركضتْ به خلفه وأصرّت على أن يأخذَه معه. ظلّ شهرًا لا يفعل شيئًا سوى المشي ليلَ نهارَ في شوارع روما. كان يبيتُ في الشارع أحيانًا. وحين صادف روبيرتو في تلك الحانة، لم يتردّدْ لحظةً في العودة معه إلى بيته. قال له ليلتَها معتذرًا عن عدم امتلاكه أيَّ نقود: "لقد تأخّرتْ حوالتي المصرفيّة. أنت تعرف الأوضاعَ في لبنان. إنّها الحرب!" وكان روبيرتو يصحو على صراخه كلَّ ليلة، يمسح عرقَه عن صدره وجبينِه، يطوِّقُه بذراعيْه، يسأله: "الحلم ذاته؟" يومئ كامل برأسه إيجابًا. يرشف من كأس الماء التي على المنضدة بجانب السّرير، ثمّ يدسّ رأسَه في صدر روبيرتو.

بعد أسبوع، طلب منه روبيرتو أن يغادرَ البيت. لم يُبدِ كامل أيَّ رفض. لم يرجُه أنْ يستبقيَه في منزله، ولم يندمْ لاحقًا على تلك العلاقة. ولأوّل مرّة منذ سنتيْن هاتف والدَه: "أبي أحتاج مبلغًا. اعتبرْه ديْنًا، سأردُّه قريبًا. تأخّر معاشي هذا الشّهر لظروفٍ تمرّ بها المصارف، وأنت تعلم أنّ صاحبَ البيت لا يصبر على الأجرة." كان أبو كامل يسمعه وهو يعلم أنّ كلّ كلمةٍ يقولها كذب. قال بهدوء: "آخرَ الأسبوع تصلك. أجريْنا لأمّكَ عمليّةَ قلبٍ مفتوح منذ شهرين. هل تودّ أن تسلّم عليها؟" ادّعى كامل أنّ تشويشًا يمنعه من سماع بقيّة المحادثة، فقال وهو يمثّل الصّراخَ: "حسنًا أبي، إنْ كنتَ تسمعني فإنّي سأردّ إليك المالَ قريبًا. هل تسمع؟"

هام خمسةَ أيّام في الشّارع، لكنّه لم يفكّر في الرّجوع إلى لبنان؛ فما تركه هناك كان موتًا ساخرًا يلعب دورَ الحياة. وجد سقيفةً احتمى تحتها، لكنّها لم تكن كافيةً لردّ تلك المسامير التي تقذفُها السّماء. لم يعد يملك من المال الذي جاد به المارّةُ إلّا ما اشترى به مرطبانًا من المربّى وبعضَ التّوست. في الأيّام التي تلت، اكتفى بالمرور إلى جانب المطاعم، يستمع إلى قرقعة الملاعق، ويكتفي بالتلمّظ. كان قد مرّ أسبوعٌ على مكالمته أباه، فعرف أنّ تلك الحوالةَ لن تصل مطلقًا، وكان عليه أن لا يموتَ من الجوع.

لم يكن السّجنُ يزعجه؛ على العكس تمامًا، فقد أمّن له مأوًى من ضجيج العالم، وسببًا للصّمت. غير أنّ السّجنَ لم يدم، فكان عليه أن يغادر، وأن يعودَ لتدبُّر أمره. أعطاه مسؤولُ السِّجن الذي كان يعطف عليه عنوانًا وقال له: "هناك ستجد مَن يعلّمُكَ شيئًا تعيش منه." أخذ كامل الورقةَ منه، وقصد العنوان، فوجده محطّةً للوقود، صاحبُها لبنانيّ يقيم في إيطاليا منذ عقود. اتّفق مع مدير المحطّة على أن يباشر العملَ فورًا، وصار يبيت فيها.

أتاح عملُ المحطّة لكامل أن يتعرّف إلى كثيرين، رجالًا ونساءً. بعضُهم تجمعه بهم، بعد العمل، سهراتٌ مسلّية، يشربون فيها ويرقصون. وبعضُهم كان يأتيه بالمخدِّرات. وأثناء ذلك، تعرّف إلى بنيلوبي، وهي ممثلّةُ أفلامٍ إباحيّة قالت له: "أنت جميل جدًّا، ولديك جسدٌ مثير جدًّا. لِمَ لا تعمل في السّينما؟" ثمّ عرّفتْه إلى مُخْرج أفلامها. كان كامل يحبّ الخمرَ، ويقول لمن حوله وهو يرفع كأسَه بنشوة: "الجنّة الآن وهنا..." ثمّ يكرعهُا دفعةً واحدة، ويروح يحكي بصوتٍ عالٍ، وبسرعةٍ جنونيّة، كلامًا بالعربيّة، لم يكن أحدٌ يفهمه.
---
في رحلة عملٍ، لتصوير أحد الأفلام خارج إيطاليا، التقاه في أحد المقاهي. سلّم الرّجلُ بهدوء. ردّ كامل التحيّةَ ببرودٍ أيضًا، وعاد يدخّن سيجارَه. لاحظ كامل أنّ الرّجلَ الأسمر، ذا اللحية، ينظر إليه باستمرار. تبرّم وظنّ أنّه أحدُ سجّانيه؛ فهو لم يعد يحتفظ بصورٍ واضحةٍ عمّن حوله. لاحقّا لم ينسَ كامل، لسنوات، الشّيخ سالم.

خلال علاقتهما، اشترى الشّيخ سالم له قصرًا، في روبليوفكا، بضواحي موسكو، بمئة مليون دولار، كان فيه حمّامٌ من الذّهب الخالص. سافرا باليخوت والطّائرات الخاصّة. قابل كامل رؤساءَ العالم. عرف معنى أن تكون ملكًا من دون الحاجة إلى لقب. كان الشّيخ سالم مولعًا باقتناء اللوحات الفنّيّة، يختار تلك التي فيها وجوه، الكثيرُ من الوجوه. وفي ليلهما الأحمر، أكانا معًا أمْ ضمن مجموعة، كان سالم يقلّد تلك الوجوهَ، ثمّ يضحك عاليًا، وبعدها يبكي بحرقة، وينادي أمَّه منتحبًا، طالبًا منها العفوَ عنه، وعدمَ إدخاله "غرفةَ الفئران." ثمّ يأمر كامل أن يفعلَ مثله.
---
راقبتُه حين زار بيروت. كان يجلس ساهمًا ضجرًا في أحد مقاهي الرّوْشة. لم ينتبهْ إلى وجودي. لعلّه نسيني. وجهٌ مريبٌ، حائرٌ، عينان غائرتان في سوادٍ حولهما، لحيةٌ بيضاء غير مرتّبة، سيجار مطفأ في زاوية فمه، قلمٌ وورقة. لاحظتُ أنّه يترك الورقةَ على الطّاولة كلّ يوم. طلبتُ من النّادل أن يعطيني تلك الأوراقَ، فوافق بعد أن دفعتُ له مبلغًا مغريًا.

في اليوم الأوّل لم أجد شيئًا على الورقة. خطٌّ أفقيّ وبقعةٌ سوداءُ فقط. في اليوم التالي رشف كامل آخرَ رشفةٍ من فنجان قهوته، ثمّ رحل. جاءني النّادلُ بالورقة، فلاحظتُ أنّه فعل الشيءَ نفسَه، إلّا أنّه ألحق الخطَّ الأفقيَّ بخطٍّ عموديّ، وبدت النقطةُ السّوداء أقربَ إليه. توالت الأيّامُ وأنا أمرّ بالمقهى قبل أنْ أقصدَ عيادتي، فأتفحّص الورق. كان الخطُّ العموديّ يكبر، والنّقطةُ السوداءُ تزداد اقترابًا منه.

قلتُ للضّابط بصوت واضح ونبرة واثقة: "أنا معالجة نفسيّة لا أكثر. طلبتُ تلك الأوراق فضولًا لا أكثر. قلتُ لك للمرّة الألف إنّني أتلفتُها جميعًا. لم يكتب سوى كلمةٍ واحدةٍ بجانب العمود. ولا أعلم شيئًا عن أسباب انتحاره."

- ألم يقصد المدعوّ كامل عيد عيادتَكِ؟

- أبدًا. التقيتُه مرّةً أو مرّتين في المقهى، وقد بدا هادئًا جدًّا.

- وبمَ تفسّرين انتحارَه بتلك الطريقة؟

- ينتحر النّاسُ لأسباب كثيرة. قد يوصل الاكتئابُ الشديد إلى الانتحار.

- وكيف عرفتِ أنّه عانى اكتئابًا شديدًا؟

- لم أعرف. أحاولُ فقط أن أوضح أحدَ أسباب الانتحار. هل يمكنني أن أعود إلى عملي؟

- تفضّلي، آنسة رزق. لكنّنا قد نحتاجُ إليك. لذا، لا يمكنك السّفر في هذه الفترة.

لم أقل للمحقِّق كلَّ شيء. هناك أمور يجب أنْ يقتلَها الكتمان. ولكنْ كان عليّ أن أستعيد لقاءنا كي أرتّب كلّ شيء.

عرفتُ كامل في مطار باريس منذ عامٍ تقريبًا. كنتُ عائدةً إلى بيروت ليلًا لقضاء عطلة الميلاد ورأس السّنة. رأيتُه يجلس وحيدًا. ثيابُه السّوداء أكسبتْه غموضًا شهيًّا. ثمّ وجدتُني أجلس إلى جواره في الطّائرة. تحادثنا. بدا مثقّفًا محبًّا للفنّ، لكنّه كتومٌ ولا يبادر إلى الحديث. شرب كثيرًا. قال شيئًا عن مذكّراتٍ يريد كتابتَها. كنتُ تعبة، فنمتُ ساعةً كاملةً ورأسي محنيّ فوق كتفه. صحوتُ على يدٍ تلمسني وتضغط على أعلى فخذي. الظّلامُ يسود المكان. الرُّكّاب يغطّون في نومهم. كانت تلك هي المرّةَ الأولى التي أقيم فيها علاقةً سريعة. لم أنسَ لذّةَ ذلك.

"لابيلّا سينيورا،" ناداني كامل وهو يرفع قبّعتَه مودِّعًا بعد أن حطّت الطّائرةُ في بيروت. وصلتُ بيتي في الرّملة البيضاء صباحًا. نمتُ حتّى أوّل الليل. حين أفرغتُ حقيبةَ حاسوبي المحمول من محتوياتها، عثرتُ في جيبها الدّاخليّ على كرّاسة جلديّة سوداء صغيرة:

"ها أنا معلّقٌ على خشبة. مشيتُ دربَ آلامي وحيدًا. كلُّ مَن مرّوا بي رموا الشّوكَ في طريقي. انتهت تلك الحربُ منذ أعوام، وبقيَتْ نارُها هائجةً في ذاكرتي. ها أنا أركضُ منها نحو الظَّلام. لا أجد طريقًا ولا أصل. أمّي تصرخ وتلملمنا تحت إبطيْها. المقاتل يقترب. يتناول عوْني من رقبته. أبي في الخارج. كان مع بعض الجيران في الملجأ. شعر أنّنا تأخّرنا في جلب الحاجيّات التي قصدْنا البيتَ لجلبها، فلحق بنا. أبي يطلب من المقاتل أنْ يتركَنا ويأخذَه هو. المقاتل يأمره أنْ يقف ووجهُه إلى الحائط. أبي يمدّ يدَه عاليًا. صوتٌ مكتوم. عينُ المقاتل تضحك. يدُ أبي تنزلق ببطء عن الحائط. بقعة حمراء راحت تكبر وتكبر حتّى غطّت وجهي..."


⏪4
مَن يبيع؟

كان وقتُ الصلاة قد حان. وقف المصلّون في صفوفٍ منتظمة. أطال الإمامُ السُّجود، وتهدّج صوتُه وهو يتلو آيَ الذّكْر. بكى بعضُ المصلّين. وحين انخفضت الوجوهُ وتهاوت الأيادي عنها، بقيت الحاجّة سلمى في مكانها، ولم ترفعْ نظرَها عن أرض الحرم الملساء النّظيفة ــ ــ وهو أمرٌ بات جميعُ من يزورون مكّةَ يعرفونه؛ فالقيّمون على أمر الحرم يُبقونه طاهرًا على الدوام.

لاحظتْ أنّ امرأةً تجلس قبالتها وهي تتململ في مكانها. أحسّت أنّها تريد أن تتحدّثَ معها، فبعثتْ بابتسامةٍ مقتضبةٍ شجّعتْها على أن تبادرَ بالتحيّة. قالت أمّ عادل، كما عرّفتْ عن نفسها:

ــــ مبيّن عليكِ مؤمنة كثير. إنتِ من لبنان؟ أنا جاية من غزّة.

ــــ أهلًا بكِ. كلّنا عرب وإخوة. الله يعينكن شو عاملين بهالوضع؟ مضيّقين عليكن اليهود، صحّ؟

قالت الحاجّة سلمى ذلك، وهي تدير عينيها، تريد أن تعودَ إلى خشوعها. لكنّ أمّ عادل أرادت لمسار الحديث خطّةً مغايرة، فقالت: "والله اليهود أحسن من العرب. بتقولي إخوة؟ خدلك هالسّولفة وإنتِ أحكمي."
---
"عندي ابن في الخامسة والثلاثين. ولد واحد لله. حاولنا، أنا ووالدُه، أن نبقيه سالمًا، ونبعده عن كلّ المظاهرات والخطابات والأحزاب، فلم ينتسبْ إلى أيّ فريق، والله شاهد. في يوم كنّا قاعدين، أنا وهو ووالده، فسمعنا أصواتًا من خارج الحوش. قمنا مفزوعين، نجري وراء الصّوت. فتح أبو عادل الباب. لقينا مجموعة من الرّجال، قدّامهم واحد أسمر، بدا مسؤولهم، وصرخ في وجه زوجي: ’وين إبنك هالعرص؟‘ ثمّ لمح عادل آتيًا من خلف أبيه، فانقضّ عليه بيديه وسلاحه، وانهالوا جميعًا على كتفيه ووجهه بالضّرب. سحبوه من جاكيتته. بدا، وهم يجرّونه، مثل خروف مسحوب إلى القتل. خفت ورحت أصرخ وألطم وجهي وأحاول أن أمسك بطرف ثوب الرّجل، من دون جدوى.

"مرّت خمسة أيّام لم نسمعْ خبرًا عن عادل. لم نعرف أين أخذوه، ولا الجهة التي اعتقلتْه. كان الموضوع ملفوفًا بغموض مخيف، جعلني ذاتَ عصر أقوم من مكاني عن الكنبة بجانب أبي عادل، الذي زاد عمرُه في تلك الأيّام الخمسة عقودًا. المهمّ، بلا طول سيرة عليك خيْتا، قلتله للرّجّال: ’خالية من دين محمّد، ما برجع على هالبيت إلّا ما أعرف وين إبني.‘ وضعتُ في حقيبة يدي سرواليْن، ولففتُ وجهي بشالي، وخرجتُ وهو يحاول أن يثنيني عن الخروج، قائلًا: ’بكرا بيرجّعوه، إهدي يا مرا كرمال الله.‘

"مثلَ زوبعة تدور في العاصفة همتُ على وجهي. لم أعرف أين كنتُ أنام، على كرسيّ بجانب الجامع، أو قرب حاوية قمامة، أفرش جاكيتتي أحيانًا، أو أُحْضر كيسًا وأنام فوقه. كنت أدور من مركز شرطة إلى آخر، هذا يدفعني إلى ذاك، وذاك يدلّني على ذلك. للمرّة الأولى في حياتي عرفتُ طعمَ الليل، ليلِ غزّة الطّويل. عشتُ فيها عمري كلَّه، ولكنْ لم يتسنَّ لي قبلًا أن أكتشف كلَّ ما فيها، أو أحفظَ أسماءَ شوارعها وأحيائها وسجونِها الكثيرة.

"في اليوم التاسع خارج البيت، وصلتُ إلى أحد مراكز الشرطة. لا أعرف أيّ شيء عن أبي عادل، ولا هو يعرف إنْ كنت حيّةً أو ميّتة. وصلتُ المركز منهكةً. لم أكن قد أكلت؛ فالنّقود التي كانت معي صرفتُها على الرّشاوى والإرضاءات لكلِّ مَن زعم أنّه سيدلّني على مكان ابني. وجدتُ كرسيًّا، فرميتُ بنفسي فوقه. وصودف مرورُ رجل، فأمسكتُ بطرف ثوبه وقلت له: ’يمّا يا حبيبي بتعرفلي وين بلاقي عادل المغربي؟ إبني عادل أخدوه من عشر تيّام، وحالفة ما أرجع بلا ما أعرف وينه. بالله يمّا، يا حبيبي، برضى الله عليك، ساعدْني أعرفه وينه.‘

"نظر الرّجل إلى عينيّ وقال: ’لحظة.‘ غاب ساعتين تقريبًا، ثمّ لمحتُه يدخل الغرفة التي بجانب الكرسيّ، من بابٍ آخر، في آخر الرّواق. هرولتُ نحوه، فقال: ’هيّاه جاي استنّي شويّ!‘ تشاغلتُ بمراقبة الناس الذين يراجِعون رجالَ المباحث في مركز الشرطة. جلستْ قربي امرأةٌ. أخبرتني قصّةَ ابنتها. قالت: ’ابنتي، لا أخفي عليكِ، منظّمة. تحبّ المظاهرات. تعالج المصابين في المسيرات. عرفتُ أنّهم لن يتركوها من دون عقاب، فوضّبتُ البئر تحت البيت تحسّبًا لهجومٍ مفاجئ. وصحّ ظنّي. إذ كنتُ أجلس مع جاراتي، حين هاجم الدارَ رجالُ الشرطة، وعاثوا في المكان تفتيشًا. لم يجدوها، فتوعّدوا بالعودة، وهدّدونا جميعًا ــــ أنا والجارات ــــ بأنّنا لن نُفلتَ من عقاب التستّر على مخرِّبة. همّوا بالانصراف، فإذا بملثّم من فوق سور الدار يشير إلى الأسفل ناحية البئر. اقترب أحدُ الرّجال من المكان. رفع الغطاءَ الحشيشيّ الذي وضعتُه، فوقع. أبعد الأحجارَ من جوانب البئر، وفتح البابَ الخشبيّ، ثمّ تناول الفتاة كأنّها قطّة، وجرجروها عبر البوّابة. لم تحتمل إحدى الجارات الظّلم، فسعت إلى الملثّم، ثمّ حاوطته النّسوة، فلم يتمكّن من الفرار. وحين أمطنا لثامَه، إذا به...ابني، أخوها! بعد أسبوع، مات أبوهم. وها أنا أزورها كلّما سمحوا لي برؤيتها. لم يحاكموها. هي في يد السّلطة. الله بيعلم شو بيعملوا فيها.‘

"أخبرتِ المرأةُ قصّتَها وأنا أسبّح بمسبحتي العاجيّة. انفرطتْ حبّاتُها فجأةً بعد أن أنهت آخر كلماتها، فتشاءمتْ، وقامت من مكانها. دخلتْ في آخر الرّواق وغابت. رحتُ ألملم حبّات المسبحة. كان ذلك صعبًا، لأنّ لونَها بلون بلاط المركز. جلستُ على كرسيّ، وأنا أضعها في يدي بمحرمةٍ مهترئةٍ لا تكفي للحفاظ عليها، فراحت حبّاتُها تكرّ واحدةً واحدة، كلّما هوت حبّةٌ هرولتُ إليها، فأصبتُ بعضَها، وغاب بعضُها. وبعضَها رأيتُه تحت أقدام الرّجال الرائحين والغادين، تدوسه، من دون أن تشعرَ به.

"توضّأتُ وصلّيتُ العصرَ والمغربَ والعشاء، ثمّ أخرجتُ سندويشًا جاءني بها الرّجلُ الأسمر الذي لم يقل لي اسمَه أبدًا. وفجأةً، وأنا أقضم آخر لقمة، إذا بعادل بين رجليْن، يجرّانه كما فعلوا حين أخذوه. الله وكيلِك، حين رأيتُه بصقتُ اللقمة من فمي، وقمت مفزوعة، أبوّس يديه ورجليه. ’حبيبي يمّا! فرجيني إيديك، شو هاذ الي بإيدك يا عادل؟‘ وكلّما حاولتُ أن أرفع كمَّه جاء أحد الرّجلين وأنزله بعصبيّةٍ ونفور. بدا عادل تعبًا ولونُه غريبًا، كأنّه رماديّ موشّى بالزّرقة والحمرة. عيناه زائغتان، ورأسه يتدلّى إلى الخلف كأنّه طابة.

"عدتُ إلى البيت. وجدتُ أبا عادل على الكنبة في مكانه، كأنّ الأيّام العشرة لم تمرّ به. كانت لحيتُه أطولَ وأكثرَ تشعّثّا. وضعتُ حقيبتي بجانبه. لم أكلّمه. أخرجتُ السّروالين وفضضتُهما تحت ماء الصّنبور في المطبخ، ثمّ نشرتُهما على حبل الغسيل. رأتني جارتي، فهرولتْ إليّ تطمئنّ. لم أستطع أن أقول الكثير. فهمتْ واستأذنتْ. قلتُ لها أن تعود في اليوم التالي لتشرب فنجان قهوة.

"استعدتُ صورةَ عادل الغريبة. لم أردْ أن أحكي لأبيه كيف بدا هزيلًا. وضعتُ على النار طنجرةً فيها بعضُ اللحم الذي كنتُ قد ادّخرتُه للأيّام الصّعبة. قشّرتُ بعضَ حبّات البطاطا. قليتُها بزيت لم أغيّرْه منذ شهرين، فأعطاها لونًا بنّيًّا جعل طعمَ اليخنة مشوبًا بالاحتراق. تذكّرتُ يديْ عادل المحترقتيْن، فلم آكل شيئًا.

"بعد ثلاثة أيّام كنت أشذّب شجرةَ الليمون التي زرعها أبو عادل في الدار. فإذا بسيّارة الجيب التي أخذتْ عادل تلقيه أمام الباب. جاء أبوه كالسّهم. التقطناه وأدخلناه بعناء. بقي نائمًا ساعات، وأنا ووالدُه نحرس نومَه، ويدمَى قلبانا لكلّ صرخةِ ألمٍ تصْدر منه وهو يقلّب بدنه فوق الكنبة. في المساء أفاق واستطاع الكلام. قال لي جملةً جعلتني أكره العالمَ كلّه والعربَ والأجانب: ’يمّا، وأنا هناك، كنت أحلم بصوتك، سمعت صوتك يمّا يقلّي قوم يا عادل.‘"
---
ما كادت المرأة ذات السِّنّ الذهبيّة الوحيدة تُنهي آخرَ كلاماتها، حتّى أقام المؤذّنُ الصلاة. وقفت المرأتان، من دون أن تنظر أيٌّ منهما إلى الأخرى، وكأنّما تواطأتا على تفادي المزيد من الألم. لكنّ أمّ عادل اشتبهتْ بوجهٍ تعرفه. كان الرّجلُ الأسمر بين الجموع يرفع يديه إلى أذنيه مكبِّرًا، وعلى وجهه علاماتُ الخشوع والإيمان.

*وداد طه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*روائيّة فلسطينيّة. تعمل في حقل التعليم. تحضّر أطروحةَ دكتوراه في الأدب العربيّ. لها ثلاثُ روايات منشورة: ليمونةان، أخون نفسي، حرير مريم. ولها عدّة مقالات ومراجعات نقديّة في الرواية، بالإضافة إلى عدد من القصص القصيرة المنشورة في صحف ومجلات عربيّة.

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...