⏪الكاتب: عيسى قراقع
صدر عن دار الاستقلال للثقافة والنشر، التابعة لجامعة الاستقلال، ديوان الشاعرة الفلسطينية نداء يونس الذي حمل عنوان “كتابة
الصمت” ويضم ديوانين الأول: “أنائيل” والثاني: “بروفايل للسيد هو”. تشكل قصائد الديوان في انسياباتها خطابا أنثوياً جريئا وحداثيا، وفيه دعوة تمردية للتحرر من النظام الذكوري وثقافة القبيلة، التي تقمع المرأة وانسانيتها، وتسيطر عليها لتعيش معذبة داخل نص دائري أو بفم مغلق.
صمت الأنثى في ديوان “كتابة الصمت” اصبح له صوت، وهذا الديوان دليل على ان الصمت بدأ يتكلم، فحركة اللغة الأنثوية كما تقول نداء، تستطيع أن تفكر وتنطق وتشير الى الطائر الذي يحلق وقدماه في قيد.
أعلمُ أنني أهذِي؛
هل كتبَ شاعرٌ الغيابَ
من فمٍ مغلقٍ
مثلما أفعلْ.
او كما في:
أٌمرّرُ يدي على حصان الوقت
وأخزِهُ في جانبَيهِ
ليشَهق.
صمت نداء يونس الذي لم يعد صمتا، هو صمت قديم يسعى الى الصراخ من أعماق التاريخ، صوت يسعى الى تبرئة المرأة من التأثيم والخطيئة والنظرة الجسدية والتعاليم المحرمة التي لحقت بها نتيجة الأصوات الذكورية الأخرى التي تقول: لأقطف عريها.
ليس يتذكرُ الشاعرَ الذي قال:
لأقطِفَ عُريها ؛
لكنه يتسلقُني
قبل أن تَشيخَ خمسةُ آلافِ عامٍ
في آيةٍ.
او كما في:
أقول أنني أخافُ من جسدي
تحتَ هذه الأرديةِ
فيما لا يفعلُ ذلك رجلٌ
ضَرَبَ خيمته عليه،
ديوان كتابة الصمت فيه روح القصيدة الأدونيسية نسبة الى الشاعر العربي ادونيس، خاصة في ديوانه “تاريخ يتمزق في جسد امرأة” وديوان “اهدأ هاملت، تنشق جنون اوفيليا”، فالشاعر ادونيس دافع عن حقوق المرأة، ونظر اليها بوصفها كائنا مستقلا عن الرجل الذكر، ووقف ضد تهميش المرأة، فبدل أن تظل قطبا اساسيا مثل الرجل صارت موضوعا بل شيئاً من الأشياء، فالمرأة كما يقول ادونيس اكثر من جسد او اناء يتم كسره بعد أن يتم استنفاذ مخزونه، فالمرأة هي العمق الذي نبحث عنه في المكان والوجود.
يقول الشاعر ادونيس:
هذه امرأة لغة نُومَت لم تقم بعد من نومها
هذه امرأة تعشق الحر
لكن هل تفيء الى العبد في نومها؟
لكن ايقاع نداء يونس الانثوي فيه تحريض أعلى من ايقاع أدونيس وهي تقول:
لا تعرفُ النساءُ كيف يحتملنَ
الندمَ،
أو متى يحرِرن أقدامَهن
من البسطارِ العسكري
أو لماذا يُهَرِّبنَ أجسادَهن
من الرغبة،
ولا كيف يضعنَ للجرحِ
ضِمادة.
أو في
ذئبٌ في خزانتِي؛ هو الحب
والمفتاحُ
ليس معي.
مثلما كانت خطوات المرأة قيودًا، فان جسمها فضاءٌ، كما يقول ادونيس، إن نداء يونس تقاوم هذه القيود، رغم انها منعوفة في الصمت والتلف، تحاول ان تكسر المجاز والنظرة العمياء، فجسدها يتسع لكل الغلال.
ما أعرفُه
أنني ما زلتُ
استجوبُ الحاضرَ
عن الخطأ الذي اقْتَرفَهُ الغيبُ
حين أجرَى قِسمتَهُ
وهو يرتدي
عصابَة.
ديوان كتابة الصمت نلمس فيه ايضا روحاً صوفية، روح الفيلسوف الشاعر ابن عربي، فدمج الأنا الانثوية بالـ “هو” الذكورية في ديوان كتابة الصمت، يعني ان الوعي بالذكورة لا يقوم الا بمشاهدة الأنوثة، فالمرأة دليل الرجل، وأن الأنسان كي يصل الى المطلق أي الى الله، لابد له ان يمر بالأنوثة فكل مكان لا يؤنث لا يعول عليه، حسب فلسفة ابن عربي، فالأنوثة مبدأ كوني يتجاوز بعده المادي المحسوس.
ولي فيكَ:
قِسمَةُ الطّيرِ من قَمحِ اللهِ،
والنَّوافِذُ من الضَّوءِ،
والغُموضُ والمكرُ والمَتاهَةُ
والغمرُ والطّميُ
وحكمةُ المَلكوتِ
والغِوايةُ
والنَّشيد.
صوفية نداء يونس تقول: الأنثى طريق الأنسان الى المطلق، لهذا فآلام المرأة في ديوان كتابة الصمت تقود الى الحب والى الحياة، لهذا فالديوان هو ديوان حب، المرأة تحن الى الرجل ويحن الرجل الى المرأة لأنه مشتق عنها، فالحب اساس للوجود الكلي والجزئي، ويجب ان تسافر المرأة الى كينونتها العميقة العاشقة كي يراها الرجل اكثر من خيمة نصبها فوقها.
ألمٌ،
والألمُ أولهُ هلاكٌ وآخره،
لو جاءَ آخره،
حياة.
قصائد ديوان كتابة الصمت ذات بنى متعددة متنوعة، تغرق في الأحالات الفلسفية والرمزية، تغوص في أمكنة مختلفة وفضاءات واسعة بأصوات متموجة هادئة وصاخبة، وهناك تماهٍ بين القصيدة وبين الأنثى، لا تفهم القصيدة الا من خلال المعنى الذي يحمل النص الى رؤية بعيدة، مما يكشف عن خاصية القصيدة، ويعكس فهما للعالم والذات.
أسلوب الكتابة في ديوان “كتابة الصمت” يتجاوز حدود التركيب المألوف، له طقوس خاصة ومعبد خاص، فيه تناقض ودهشة وصدمة، لكنه ينساب في النهاية في تناغم سحري انثوي يتدفق كالماء، فيه انخطاف اللانهائي، وهو ما اسماه نيتشة: الرقص بالكلمات والاسلوب.
ضعْ يدكَ على رأسي كما
كاهنُ المعبدِ،
وعلى عنقِي كعاشقٍ،
وفي ثوبي،
كي تَهجَّ الطيورُ من كمائنِها،
وتَهِيجَ الغزالاتُ في سرَّتي،
ويقفزَ وشمٌ
في دمي
ويغرق.
ديوان كتابة الصمت هو مشروع شعري انثوي، المرأة فيه جامعة بين قوانين الحياة ونواميسها، وما تجمع هذه المتناقضات في المرأة الا دلالة على تعانق جميع القيم لتشكل الجمال الأنثوي.
المرأة في الديوان ثائرة وصانعة وخالقة ومبدعة ومتألمة، تحاول ان تحرر الرجل وتضيء عقله وتشعل مشاعره، تحمل دائما مصباحها وتقتفي أثره، ترفع عنه الغطاء الذي حبسها تحته، تعرف الجذور لا الأغصان، لم تقطع الحبل السري مع الفراغ، تتهجى اسم الرجل رغم ان اسمه جف كثيرا على فمها، وتغني مخاطبة هذا الرجل:
لو تركت جليدَك على بابِي يا حبيبي،
سأغني،
قلتُ لك: ستجدنِي أُغنّي.
الذي لا يغنّي لا يُزهرُ
وهذه الثانية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق