ندوة نقدية أقامها المركز الثقافي العربي في جرمانا |
وقد قدم الندوة وادارها الدكتور غسان غنيم مدير ملتقى جرمانا الثقافي.
بدأ الدكتور أحمد علي محمد قائلا : ( حين ينفتح الكلام على المكان في الشعر ، تستبد بالمرء حيرة ترمي به في فضاءات لا تتناهى ، ليبيت أسير تساؤلات مبهمة ، هل الشعر ينبثق من المكان ، ام المكان يخلق شعريا ) .
ثم أخذ يصف ا نطباعاته عن المكان الذي ينبعث من فم القصيدة بحسب تعبيره ، أي أن القصيدة تنفث في المكان روحا
لتخلقه من جديد ، وقد غشيت غفلة قلب من قال : إن الشعر يحاكي الأشياء ، ومن قال : أن الشعر يصور الوقائع ، ومن قال : إن الشعر يقلد القيم .
طاهر مهدي الهاشمي |
وحين يلقي الشعر بسحره على شيء ، يزيده القا بما في ذلك المكان ، ويؤكد أن المكان لا يوجد وجوده الأكمل إلا في الشعر .
والكمال الذي يعنيه هنا لون من الجمال السامي المنزه عن كل عيب ؛ وهذا لا ندركه بمفردنا في الواقع ، لذا نحن بحاجة دائما الى شاعر ليد لنا على ظواهر الجمال التي تحف بنا .
فحين يشير الشعر إلى الجمال فيما هو موجود، فكانه يوجده ويخلقه من جدبد .
ثم ينتقل الدكتور إلى مجموعة الشاعر راتب سكر"سلافة الروح " فيقول : إن فيها تشكيل بديع للأمكنة ، وهي بطبيعة الحال جزء من صناعة الفن لديه ، فما بين حمص و دمشق و القاهرة تنبت أمكنة شعرية لا نكاد نعرفها إلا من خلال القصائد التي طرزها الشاعر ، وهو يذيب روحه فيها ،ليستاصل من خلال ذلك المزيج سلافة تملأ وجداننا تخييلا واحساسا بالجمال الكامل .
ثم يستطرد الدكتور أحمد في ذكر انطباعاته عن حمص التي عاش فيها ردحا من الزمن بأسلوب شعري أخاذ . مصورا تلك الأماكن تصويرا نفسيا شخصيا ؛ إلى أن يلج قصيدة سكر في حمص فيتعرف تلك المدينة من جديد لأول مرة . وقد شكلت لديه إحساس من يطلع على قطعة من الفردوس ، ويستشهد ببضع مقاطع منها :
(من سلافة طبعها
بنت على أوتار رحلتهم
مباهج من مفاتنها
ونور من سمو حضورها
الطاغي بطلعتها
إلى شرفاتها
كاميرة طلعت من العلياء
مشرقة وراضية وحانية على عشاقها .
ثم ينتقل الدكتور إلى التعليق على هذا المقطع مبينا حب الشاعر لهذه المدينة وحنينه إليها .
فيقول : إنه يشدك إلى جوهر الحقيقة ، فيقدمها من خلال اغشية اخيلته التي تزيدك إحساسا بجمال المكان وروعته .
إلى ان يقول : وليست حمص عند راتب سكر سامية مضيئة بهية اي يكللها الجلال فحسب ، بل جمعت الى جلالها رقة ، ليقول في نصه السابق ": ترقرق الرؤى " . ويزعم علماء الجمال ان الرقة صفة الحركة الخارجية مثل تدفق الماء الزلال رقراقا ، ومشية المرأة الهينة اللينة التي لا تنم عن جهد أو تعب ، وحركة الدليل والفكر وسائر المخلوقات الرشيقة التي تنتقل لحركات متتابعة متسلسلة واثقة متزنة متناسبة منسجمة ، لكن النص الذي ببن أيدينا ينصر ضربا من الحركة الداخلية ، حين وصف الرؤى بالرقة، وهذا المعنى لديه أشار إليه نفر من علماء الجمال في العصرالحديث ومنهم فريدريك فيشر حين قال : "الرقة هي التعبير عن حركة الفكر في الشيء ".
وهو يرى أن روح الشاعر راتب سكر تلبس الأمكنة ، لذا يرى امتداد النفس بالمكان كامتداد المكان فيها . فلا نرى تواصل عنده بين الأقاليم كما لا نرى حدودا لهوية المكان في شعره ، من أجل ذلك تنداح القصائد لديه وتشمل كونا شعريا يؤسس بنية نفسية للمكان ، تتركز على اساس من التجذر الثقافي و الحضاري و الفكري .
انه من خلال تفاعله مع الأمكنة يشدك الى ذاتك والى ثقافتك والى حضارتك بكل براعة ليقدم إليك ذاتا لا تدري كيف ذابت خطوطها في تفصيلات أمكنة تشكل جذورك وحضارتك ومستقبلك في آن .
واذا ما امتدت يد شعره الى مصر بهرك تءلك التشكيل المكاني ، فاذا به يغمسك في صميم النص المعجز ،بكلمات تتحرك في نفسك بتردد : ادخلوا مصر آمنين.
فيقول لك من خلال صيغة المفرد المتكلم أنه لسان ثقافة وحضارة ، او أنه بحسب كلام كارل يونغ تعبير عن ضمير جمعي ، انت بطبيعة الحال صوت من أصوات ذلك الضمير ، يقول :
فادخلها أمينا آمنا
القلب يدخلني إلى الأهرام
والروح التي خضعت تصلي في شواطئ نيلها .
انه يختصر المكان في ثلاث مفردات ( امنا ..الأهرام ..نيلها ) .
ما يشدك إلى شعر سكر هو نفسه الذي يشدك الى روعة مصر وسحر دمشق .وكان قد رأى في نفسه حين
صبت به الأشواق إلى مصر ، وشاح سحابة شرقية انبثقت من دمشق ، فهو لم يكن مسافرا بلا زاد ، بل حمل ما تحمله الصبوة وانطوى على ما تنطوي عليه السحابة إلى مصر ليلقى فيها مثل ما حمله إليها ، إن مصر و دمشق لا يكتملان الا حين يجمعهما فضاء واحد فضاء الشعر .
مع توغل الشاعرفي تفصيلات امكنته تنكشف هواجس خباها في دنانه وامنيات خمرها في جراره وحين تكشفت حقيقته في مكان كان يتوق لاحتضانه في كلماته ، أفرغ كل ما هو كامن في نفسه ، تحدوه آمال لإيجاد ظلاله في مكان ملاه غبطة وحبورا ، ولم يبق لديه إلا أن يسبغ عليه من فيضه الثقافي وجذره الحضاري لتكتمل لديه رحلة البحث عن المفقود والتاءه والمنفي ، في اشار ةخاطفة لضرورة العود إلى الأصل والكمال والوحدة . وهنا تجد الروح انطلاقتها في وجود رحب ، هناك في أرض الكنانة، إذ لا بد للقصيدة أن تبلغ مداها ، بعد أن اشتعلت جذوتها في دمشق، وهنالك في مصر لابد أن يبلغ الشاعر مراده، ويحوز سلافة روح غريبة لا يبل صداها سوى صوت القصيدة الذي مزقته الغربة واتعبه التذكار ، هنالك في مصر تختبئ الأسرار وتنفجر الأسئلة ، وما على القصيدة إلا أن الا ريقها وهي تطلق كل أسئلتها على شواطئ النهر الخالد ؛ ولا شيء يملأ طموحها أكثر من أن تبصر بين أمواجه المتكسرة كيف ضيع الأخوة أخاهم يوسف عليه السلام ، وكيف ألقوه في غبابة الجب ، وكيف انطوت الرمال فتاهت الطرقات وتعثرت الأقدام ، فما كان من القصيدة إلا أن تطلق صرختها
وهي تنادي مجدليتها مريم ، مطمئنة بوهمها ، وفي مكامن الإحساس بربيع أخضر ، وفي احداق العيون أنوار باهرة ، وفي صمبم الفؤاد نشوة تفوق نشوة الخمر ، ويمتد النشيد وتطول رحلة الكلمات وتتوالى لحظات الاغتراب والنشوة و الظفر والنصر والهزيمة و الأمل والضياع في طاقة واحدة تجمعها قصيدة سكر ، ثم تقدم نفسها لقارءها دفعة واحدة ، لتملا قلبه إحساسا بجمال المكان الشعري في كل شيء :
مرت حشود من توهم خاطري
فمضيت أبحث عن قوافلها
فرب اخ ضعت قميصه
في غيهب الجب البعيد
يرد صرخة لهفتي ندما
ويرجع في جناح سفينة سيارة
غطت رمال الأرض أقدامي
فتاهت في دروب رحيلها
....
القصيدة عند.راتب سكر لا تنتهي ، لأنها موصولة بالمكان ، والنشيد لا ينقطع لأن القصيدة نفسها هي التب تخطو باتجاه فضاءات لا تنتهي .
وبعد الانتهاء من المحاضرة جرت مناقشات ومداخلات من الحاضرين رد عليها كل من المحاضر الدكتور أحمد علي محمد والشاعر الدكتور راتب سكر .
طاهر مهدي الهاشمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق