اعلان >> المصباح للنشر الإلكتروني * مجلة المصباح ـ دروب أدبية @ لنشر مقالاتكم وأخباركم الثقافية والأدبية ومشاركاتكم الأبداعية عبر أتصل بنا العناوين الإلكترونية التالية :m.droob77@gmail.com أو أسرة التحرير عبر إتصل بنا @

لماذا نكتب؟

نكتب لأننا نطمح فى الأفضل دوما.. نكتب لأن الكتابة حياة وأمل.. نكتب لأننا لا نستطيع ألا نفعل..

نكتب لأننا نؤمن بأن هناك على الجانب الآخر من يقرأ .. نكتب لأننا نحب أن نتواصل معكم ..

نكتب لأن الكتابة متنفس فى البراح خارج زحام الواقع. نكتب من أجلك وربما لن نعرفك أبدأ..

نكتب لأن نكون سباقين في فعل ما يغير واقعنا إلى الأفضل .. نكتب لنكون إيجابيين في حياتنا..

نكتب ونكتب، وسنكتب لأن قدر الأنسان العظيم فى المحاولة المرة تلو الأخرى بلا توان أو تهاون..

نكتب لنصور الأفكار التي تجول بخاطرنا .. نكتب لنخرجها إلى حيز الذكر و نسعى لتنفيذها

أخبارالثقاقة والأدب

حين ينثال الحرف صدحا ويتحول المكان صرحا قراءة في:كتاب "لطيف المقال في الأدب والترحال" للمبدعة مالكة عسال | الدكتورة اسمهان الزعيم

في هذا الكتاب القيم الجميل تأخذنا المبدعة مالكة عسال في رحلة ماتعة شائقة عبر ربوع هذا الوطن العربي الكبير الممتد من المحيط إلى الخليج. بادئ ذي بدء يجد القارئ العربي ذاته في ربوع وطننا الحبيب يرتع في مرابض الجمال والسحر الذي يكمن في حواضره وأقاليمه وصحرائه وجباله وأنهاره وبحاره، من طنجة عروس الشمال، في أقصى شمال المملكة، وإلى محاميد الغزلان، في أقصى جنوبها الشرقي، والتي رسمتها الكاتبة ببليغ وصفها "محاميد الغزلان الشهباء المنحدرة من ضلع القسوة".

في هذا الكتاب الشيق المعنون ب "لطيف المقال في الأدب والترحال" نجد ذاتنا أمام كتاب يحتفي بثقافة بلدنا الثرة المتنوعة، بجغرافيته التي تحتضن بين مراتعها السهول والمنخفضات والتلال والمرتفعات والبحار والأنهار والواحات، دون أن ننسى هذا الاحتفاء الجميل بلغتنا العربية القحة التي انكتبت بها فصول هذا الكتاب . فالكتاب في حد ذاته احتفاء بالجغرافية والإنسان واللغة. ومن أول فصل تطالعنا المبدعة مالكة عسال بحديثها الشيق ووصفها البديع وسردها الماتع بلغة شفيفة، بهية، منسابة كانسياب جداول عيوننا وتساقطِ رطب نخيلنا، فيمتد الظل ظليلا في كنف هذا الصرح اللغوي الباذخ. من يقرأ هذا الكتاب من أبناء هذا الوطن الحبيب حتما سيزداد عشقا لوطنه واعتزازا بأهله وافتخارا بعطاءاته الجزيلة. أما عن القارئ العربي فسيكتشف بين يدي مالكة عسال أنه في أقصى مغربنا العربي يربض المغرب المطل على أوربا والمحاذي للمتوسط والأطلسي، مغرب الحضارة المتوهجة والأصول العريقة ومباهج الطبيعة التي يزخر بها بلدنا العريق. وفي رأيي فإن هذا الكتاب يعتبر بمثابة إشعاع قوي لبلدنا سيخطف أنظار الزوار من داخل وخارج الوطن.
ولم يفت الكاتبة أن تشرع بوابة الحكي والسرد والوصف البديع بمقدمة جميلة عن أدب الرحلة مُعرّفة به كجنس أدبي له أعلامه الذين تركوا بصمتهم العميقة في باحة الأدب العربي عامة، أمثال ابن خلدون وابن بطوطة وغيرهم كثير. ولعل أبرز ما شد انتباهي هو اهتمام الكاتبة البالغ بالمناطق البعيدة عن المركز والتي يطالها بعض التهميش، فكان دورها فعالا في نفض الغبار عن هذه الحواضر الصغيرة الجميلة التي تزخر بعطاءاتها وأقلامها الفذة حتى ليصح عليها أحيانا المثل القائل "يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر".
وهكذا نجد في طليعة فهرس الكتاب تلك الرحلة الماتعة إلى مدينة أبزو القابعة في أقصى الجنوب الغربي لأطس مدينة بني ملال والتي تزدان طبيعتها الخلابة بشلالات أوزود الآسرة. ولا يفوتني بهذا المناسبة أن ألفت الانتباه إلى الطريقة الجميلة التي انتهجتها الكاتبة في تقديم كل منطقة على حدة، معتمدة في ذلك على ذخيرتها الثقافية الثرة، بحيث تقدم اسم المدينة ثم تشرع في تحليل دقيق للاسم الذي ترجع جذوره أحيانا إلى تاريخ عريق ضارب في القدم، كما هو الشأن بالنسبة لاسم "أبزو" ذي الأصول الأمازيغية والذي يعني "أبسو" المركبة أصلا من كلمتين ملتحمتين "أب" التي تعني ماء و"زو" التي تعني عمق، وأبزو "عمق المياه".

بعدها تأتي مدينة خريبكة والذي نصَّب بيت الأدب المغربي سرادق الثقافة فيها في أيام مباركة من رمضان، والتي قالت عنها الكاتبة

"مدينة خريبكة الجميلة التي تبهر زوارها بشوارعها الفسيحة النظيفة، وبساتينها الخلابة رغم صغر حجمها، ولتنال حظها من رشاح مؤسسة ثقافية، أخذت على عاتقها تفجير ينابيعها الثقافية في أقطار مهمشة خدمة للأدب والأديب المغربيين تحدّت الروابي الناهضة والحظوظ العاثرة لتبصم بالأخضر على صفحات الأدب المغربي، حاضنة بابتسامة رقيقة قامات أدبي’ قابعة بين أقبية التهميش والنسيان" (ص.17)
بعد مدينة خريبكة تحل الكاتبة كشاعرة ومبدعة في تظاهرة ثقافية باذخة في منطقة مهمشة ثقافيا تعرف بحد السوالم، وقد أثارني هنا الإشارة اللبيبة للكاتبة إلى كون هذا النشاط الثقافي الكبير كان نتاجا لمجهود شخصي صِرف تطوعت للقيام به كل من الجمعية المغربية النشيطة للغويين والمبدعين وجمعية نهضة السوالم. ولعل افتتاح الكتاب بمدن من الهامش وليس من المركز، مثل أبزو وخريبكة وحد السوالم لم يكن اعتباطيا، فالكاتبة هنا تحتفي بهذه المناطق على طريقتها، لإثارة الانتباه إلى كون بلدنا يزخر بكفاءات ثقافية جمّة في مناطق يكاد يجهلها البعض من مواطنينا
بعد هذه الفصول ستأتي على التوالي مدن متألقة وطنيا وعربيا، ومعروفة بجمالها وثراء طبيعتها وخصوصيتها التاريخية المائزة، فهذه طنجة عروس الشمال التي ستحتفي بالكاتبة مالكة عسال ذات نشاط ثقافي متوجة إياها ومكرمة لها وهي فعلا أهل للتكريم والتتويج. وهذه بني ملال التي ستنصب خيامها للاحتفاء بالأدباء والمبدعين المغاربة في عرس ثقافي أطلسي باذخ. ثم تأتي مدينة البيضاء الكبرى، مدينة الحجر والبشر، فتنبثق بين عمرانها التليد وامتدادها البعيد نوافير الشعر الفياضة وأفنان البديع الوهاجة.
بعدها تنتقل الشاعرة مالكة عسال مثل عصفورة غريدة لتشنف آذان الحضور بقصائدها الندية المؤثرة في كل من إيفران البهية ومراكش الحمراء الزاهية بحدائقها وجوامعها وباحاتها وساحاتها الشهيرة. ثم مدينة سطات التي احتضنت "فرسان الشعراء" في تظاهرتها الثقافية البهيجة.
وعودا على بدء، تأخذنا الكاتبة في جولتها الثقافية الماتعة مرة أخرى إلى مربعات الهامش، فهذه زاكورة "عروس الجنوب" التي يرن اسمها في الأذن مثل صليل أو نقر على آنية معدنية. وهنا سأتوقف قليلا كي تستمتعوا معي كما استمتعت وأنا أجوب خارطة وطني الحبيب الذي رسمته بجميل قولها وبديع وصفها وصقيل أحرفها وشفيف كماتها المبدعة مالكة عسال:
"كانت الحافلة تكسر قصب الليل، تلتهم على مهلها الفضاءات المتسعة، تلوي عنق الطريق الممتد، محاذية سفوح الجبال والأغوار، تلاعب المنحدرات والمنعرجات برفق، والمسافرون يحدقون في جذع الليل الضخم، منهم من يغازل الصمت المطنب، ومنهم من يدغدغ هاتفه المحمول، ومنهم من ابتلعته غفوة دافئة حملته إلى المدينة المسحورة، لتجتث حبال التعب الملفوفة حول جسده" (ص.73)
والجميل في هذه الرحلة الثقافية الشائقة أنها لا تقف فقط عند وصف تفاصيل الأنشطة الثقافية التي تم إحياؤها في العديد من حواضر بلدنا بل إنها تتعداها إلى رسم ملامح الطاقات البشرية التي ساهمت في تنظيم التظاهرات الثقافية أو شاركت بمنجزها الإبداعي في هذه العرس الثقافي الباذخ. إليكم هذا الرسم الجميل والسبر الشفيف لشخص وشخصية هذا الرجل الزاكوري الذي ترك بصمته على صفحات هذا الكتاب، إنه عبد العاطي الزياني "هذا اللطيف قمحي اللون الذي استقاه من واحات الصحراء، وطلاء المنازل، بلوري القلب، تتدفق على وجنتيه لوحة من الخجل الوردي، الجدي المحارب الذي يشتغل في صمت مكسرا كل أشكال البهرجة، متسلحا بكل الآليات المعرفية والسلوكية والحب، ينحت من جلده وعظامه، ليجعل من زاكورة منارة تشع بالثقافة، تركب كغيرها من المدن جسر الرقي والنماء، فيسلم أبناؤها مشعل الإبداع حين يفسح أمامهم فضاء شاسعا يبعث على العطاء.. وهكذا يبصم بقوة في تاريخ الأدب بصمته الخضراء.." (ص.74-75)
أما عن المبدعين المشاركين فإليكم هذه اللمحات اللبيبة الخاطفة لكنها تترك شذاها في تلافيف الذاكرة حتى ليتمنى الذي لا يعرفهم بشكل مباشر أن يتشرف بلقياهم ومسامرتهم والإنصات إليهم وإلى بديع نصوصهم. فهذا شيخ القصة القاص المغربي أحمد بوزفور:
"هذا الولي الصالح كما الملقب بشيخ القصة؛ قائد جحافل القصاصين المغاربة نحو شرفة السرد بمتنه وخصائصه.. صاحب الابتسامة الوديعة، والرقة الرخامية في الحديث، والحكامة الرشيدة في التدخل أو التعقيب، والاتزان الشامخ أثناء المشي والجلوس والقيام.. أحمد بوزفور الذي حين تجالسه وأنت خالي الوفاض، تخرج بجعبة ممتلئة وطابع خاص في السلوك، يبصمك بخاتمه من حيث لا تدري، فيترك فيك أثرا كهربائيا يرعشك كلما تذكرت شخصه، أو انزلق على لسانك لقبه، أو نطق أي شخص أمامك باسمه.." (ص.74)
وهذا الناقد والمبدع حميد ركاطة "المزَمَّل بحائك الغيرة على الأدب والأدباء، الذي يسرج خيوله في ساحة الأدب ممسكا بسواعدهم، ليسير بهم نحو شرفة الرقي والبهاء، حاملا تعبهم ليخفف من محنتهم، يخرجهم من قباء التهميش والعزلة ليعكس على مرآتهم ظلال النور، فيعرف بهم وبإصداراتهم وإبداعاتهم دون مقابل يرجى، يركب صهريج التضحية ليوصلهم إلى كوكبة الأدباء المرموقين.." (ص.76) وغيرهم من الأدباء كثير مما يتسع المجال لذكرهم.
ولعل أهم خلاصة نستنتجها من رحلة الكاتبة الثقافية عبر ربوع وطننا الكبير هو ما أسمته ب "خلخلة ثقافة الهامش" والتي قال عنها الناقد حميد ركاطة "أن كتّاب الهامش هم أكثر غزارة في الكتابة والإبداع، الذين يصارعون في الظل لنشر أعمالهم، وإثبات وجودهم على الرغم من المنابر الإعلامية المقيَّدة بالزبونية العمياء.." وقد "حركت بعض الجمعيات ودور النشر الماء الراكد في ثقافة الهامش، حيث استطاعت رغم الصعوبات فك العزلة عن بعض أدائها، فردت لهم الاعتبار عن طريق التوقيعات وقيام المعارض والتكريمات، فبزغ كتّاب من الطراز الراقي اهتموا بنقل الواقع المر، وتميزوا بكتابة النص المغاير شكلا ومضمونا، فكانت النصوص حافلة بالرمز والدلالة" (ص.77-78).
ولم يفت الكاتبة أن تحتفي في كتابها الجميل ""لطيف المقال في الأدب والترحال"
بمدينة شفشاون الآسرة، هذه المدينة "التي ترفل في حلل من البهاء"، وقلعة السراغنة التي "رقصت شياطين الشعراء" بين أحضانها ومدينة آسفي التي تخالها الكاتبة "رقعة صغيرة مرمية على حافة البحر مبعثرة الأطراف، أو نقطة مهمشة تكابد حر الإقصاء" (ص.107)، ثم مدينة كرسيف التي نشأ بين ربوعها الشهيد المغربي علال بن عبد الله "الذي امتلأ ضيما وحنقا بالشنئان الاستعماري الفرنسي، واشتعل بين أضلعه لهب الوطنية، فتقدم بسكينه ليغتال ابن عرفة.." (ص.121)
وهي تجوب حواضر هذا الوطن الكبير وطأت قدماها عواصم تليدة تعد حاليا تراثا عالميا مثل مكناس العاصمة الإسماعيلية ثم فاس العاصمة العلمية. ولعل أمتع الجولات التي جبت فيها مع الكاتبة رحاب بلدنا الكبير الشامخ رحلتها الماتعة تلك التي كانت وجهتها إلى أقصى الجنوب الشرقي من مملكتنا التليدة "محاميد الغزلان". وهنا سنرحل عبر بوراق الكلمات الندية الشفيفة مع الكاتبة إلى عواصم مغربية عريقة وأنيقة وأصيلة فنجدها تارة في فاس "مدينة الإرث الحضاري الثقافي العريق" وتارة "بين شساعة الفيافي والقمم الصخرية" (ص.135) ثم في "إيموزار كندر المتربعة على عريش الجمال" ف "إيفران مدينة الثلج والورود" (ص.136) ثم في أزرو "فراشة.. بألوان الطيف" (ص.137) ف "مدينة ميدلت عروس بين بساتين التفاح" ثم "مدينة الريش بين وجع التهميش" (ص.138) وصولا إلى الرشيدية حيث "نقاء الهواء وصفاؤه" (ص.139). وأخيرا ترشقنا الصحراء ببهائها وأناسها الكرام الشهام في "محاميد الغزلان الشهباء المنحدرة من ضلع القسوة.. حيث تقبع الزاوية الناصرية بمكتبتها الثمينة تواجه النسيان والتهميش، بعد أن تهاوى إشعاعها وتقلصت مكانتها وريادتها للمنطقة.. محاميد الغزلان تنبثق عارية من بين الكتبان الرملية، متوجة ببهائها الصحراوي؛ واحة تتمطى على عريش الجنوب الشرقي من المغرب، توازي ضفاف الجزائر من جهة الشرق.. تحيط بجيدها قلائد من الجبال، وسلاسل من الهضاب والتلال الرملية مرصعة ببعض المجاري والعيون والآبار، يحتضنها في رفق وادي درعة الذي يشكو من الجفاف طيلة السنة.." (ص.139-140).
وفي ختام هذا السرد الماتع والجرد الجميل لتفاصيل أنشطة ثقافية زاخرة عرفتها مدن في معظمها مهمشة وفي الظل، تأتي كلمة الكاتبة الفصل التي خلصت إلى القول:
"ماذا عساني أقول من خلال ما دونته عيناي وما اعتنقته روحي، وما جمعته مشاعري من صيد ثمين، تكتنزه مناطق زاهية يحجبها بعد المسافة وتغيبها قرائن الجهل بها، وتقيم بيننا وبينها قلة ذات اليد حواجز شاهقة، فلا ننعم بجمالها ولا نبالي بوضع سكانها، هل العيب منّا، أم تجاهل وإقصاء وتهميش؟" (ص.141).
ولعل قطار الكاتبة المكوكي لم يتوقف عند طنجة ولا عند واحات محاميد الغزلان بل تعداها إلى ربوع وطننا العربي الكبير، فكانت إحدى محطاتها الزاخرة بتونس الخضراء التي تَصافح على أرضها شعراء بلا حدود، وصدحت أجواؤها بقصائد الشعراء في كل من سبيطلة ذات الموقع الأثري الشهير والقصرين حيث تقبع الواحة الخضراء وصولا إلى المحمية ذات المخمل الطبيعي.
بعد هذه الجولة الثقافية الماتعة ستشد الكاتبة الرحال إلى "أم الدنيا أقدم حضارة وأعرقها على وجه الأرض" (ص.151). وهنا ستجد الكاتبة ذاتها بين أحضان بلد طالما عشقته واستمالتها حضارته وثقافته العريقة والمتجذرة في القدم. فمن القاهرة العملاقة الزاخرة بالتاريخ والفن والثقافة حيث النهر الخالد ومعابد الفراعنة الشامخة ومسلاتهم الباذخة إلى مدينة أسوان حيث السد العالي وبحيرة ناصر. وتبقى للكلمة التي ذيلت بها الكاتبة هذا الفصل رنتها الرفيعة وأثرها البليغ وهي تقول:
"عدتُ إلى الفندق وأنا أشد على صدري، مخافة أن يطير من مكانه ويبقى في مصر، هذه العملاقة التي تتموج على مشاعر الزوار، وعلى حلبة التاريخ، فكل كلمة قيلت في مصر تستحقها، جمال طبيعي يقصر عنه الوصف، تجذُّر في التاريخ يزلزل، تربُّع على القمم الراقية في جميع الميادين: ثقافة وفنا وأصالة، وحضارة ضاربة في العمق حتى الجذور.. الحقيقة هذا مجرد ملخص لا يتعدى ذرة مما تتوفر عليه مصر في هذا الجانب، يصعب علي الإلمام به بشكل موسع.. وما ينبغي قوله هو أن مصر فعلا أم الدنيا.." (ص.161)
بعد هذه الجولة العربية الموزعة بين مراكش الحمراء وتونس الخضراء وأرض الكنانة تطير بنا الكاتبة هذه المرة خارج حدود وطننا العربي الكبير، ليس في جولة ثقافية وإنما في رحلة عائلية حيث ستلتقي بفلذة كبدها على أرض السويد الفاتنة "بلد الروعة والأناقة.. دولة السحر والجمال" (ص.165). وهنا ستتوفز حواس الكاتبة لالتقاط هذا الجمال الطبيعي الآسر الذي يزخر به هذا البلد بأجوائه المناخية المبهرة صيفا، وحضارته الراقية ورفعة أخلاق شعبه الباسم. إليكم هذا المقتطف الشفيف الذي تصف فيه الكاتبة شعب السويد:
"كانت العيون الرزرقاء تبتلعني وأنا أتفرس في سحنات أصحابها: شعب ملائكي مولع بحب الطبيعة والأزهار، شغوف بالرونق والجمال، متفان في عبادة وطنه، استمد بياض بشرته من حمّامات الثلج، وزرقة العيون من سماء النفس الصافية، وصفرة الشعر من أشعة الشمس الذهبية، وأخلاقه من محاورة الذات نحو أخيه الإنسان، فخرج بمذهب قدسي متعال: أن يعيش هو وبيئته في سمو طاهر بتسديد خدمات جليلة.." (ص.168).
وفي وصف بليغ ودقيق لساكنة هذا البلد الراقي تقول الكاتبة:
"لا وجوه عابسة ولا حواجب مقطبة، ولا ألسُن تفيض بكلام فاحش مُخِلّ بالحياء.. السياقة وفق القانون تحترم الأضواء والإشارات، القانون يحترم الإنسان، ولا فرق لديه بين هذا وذاك، الإنسان يحترم القانون ولو بقطع الرقبة.. لا زعيق، لا نعيق، لا منبهات توجع الرؤوس، لا نرفزة لا قلق، لا حركات عنيفة، لا مواء قطط، لا نباح كلاب، لا معاكسة في جرأة وتحرش، لا تعرض للسرقة.. الوجوه ممسوحة تماما من علامات العبوس، تتلألأ بالنظرات الهادئة والابتسامات الخاثرة.. الأطفال متأبطون أذرع أمهاتهم وأوليائهم، لا يفارقونهم ولو في ملاعب مخصصة لهم.." (ص.169)
هذه الفقرة بالذات رجتني وجعلتني أرى بقلب موجوع وعيون أسية في الضفة الأخرى بلدانها العربية التي تعيش في خصام وانفصام مع الذات ومع الآخر إلى حد تشوهت معه ملامح ثقافتنا وتناثر الغبار نثيثا على تعاليم ديننا وأفنان لغتنا
ولعل أجمل ما في هذا الفصل هو تلك الأسئلة الوجيهة الحارقة التي ختمت بها المبدعة مالكة عسال كتابها الجميل عن أدب الرحلة، فجاءت أسئلتها متناسلة وهي تقول بدهشة:
"كيف اصطفى الله هذا الشعب بهذه الحلة المميزة؟ كيف استطاع الشعب السويدي هندسة هذا الرقي وكيف بلغ أوجه؟ كيف وصل إلى هذا المسعى النبيل من أجله وبيئته كي يعيشا معا في سلامة وأمن وأمان؟ من كان وراء هذا السلوك النبيل وهذا الطهر الشاسع، هل الحكومة أم النظام أم القانون أم الشعب بمحض إرادته؟ كيف استطاع السويديون التملص والانفلات من الخبث الذاتي وحب الأنا، وركبوا صهوة السلوك الراقي الملائكي؟ من أي قطر نزحوا بهذا الوفاء الكامل؟" (ص.170-171)
ثم خلصت الكاتبة إلى مفارقات عجيبة بقولها:
"لِمَ شعب السويد أمة اقرأْ وطبّقْ وأنتجْ وأمتنا أمة التبعية والاستلاب الاستهلاك؟ ما السر في ابتلائنا بطريق التردي والتقهقر؟ لماذا يركب بعضنا الحقد والطمع والإجحاف والنزوع إلى التدمير والخراب؟ ما السر في التلاعب بالحقوق والواجبات دون مراقب؟ لمَ نتسلح بالعبث والغش وحب الأنا وكره الغير، والتلاعب بالمال العام من أجل المصالح الخاصة" لمَ السم يجري في عروقنا.. ونهدم بأيدينا الأشياء الجميلة التي تخدم شعوبنا وأمتنا؟ لِمَ نتعامى ونغفل ونتجاوز ونرمي بالغايات الكبرى المساهمة في البناء والتطور عرض الحائط ونقول: "أنا ومن بعدي الطوفان"؟ (ص.172-173)
وفي ختام قولها سطرت الكاتبة بقلمها البليغ بعض التوصيات من أجل بناء أمتنا العربية، فرأت أنه من الواجب علينا:
"إعادة النظر على مبدأ أننا كلنا إنسان، ويجب أن نعيش سواسية نتمتع بكافة الحقوق والواجبات تحت مظلتي المراقبة والقانون، نضع أيدينا في أيدي البعض، ونتأهب بكل ما نملك لبناء مجد الأمة، وتأسيس صرح من الرقي والازدهار يشرفها.." (ص.173)
وجاءت أحرف الختام دامعة أسية محزونة على أمة اقرأ التي لا تقرأ، وعلى أمة أضاعت أمجادها في الحروب والاقتتال والفتن والطائفية والانتهازية والحب المفرط للذات، وهي تودع السويد، هذا البلد الوديع البهي الرابض في ربوع أوربا الشامخة بحضارتها التليدة ومبادئها العتيدة:
"عدتُ وقلبي مشحون بغمرة الفرح، ولوعة الأسى في آن واحد: الغبطة بجولة سياحية ممتعة بجمال ساحر، والحزن أسفا على أمتي، التي ما زالت تدبر أحوالها بقراءة الكف، وتخطط مصيرها بهذيان العرافات.. فتتجرع كأس التردي في كل الأوضاع.." (ص.174)
ختاما، يسرني أن أشيد بهذا العمل الأدبي القيم الذي احتفى أيما احتفاء بالمكان والإنسان والثقافة واللغة، فرسم المكان بريشة المبدع الرشيقة وحلق بنا عاليا في ربوع هذا الوطن العربي الكبير. واحتفى بالإنسان الذي يسعى بكل ما أوتي من جهد ليبصم على العتبات والباحات والأقواس والروابي والتلال والجبال بقلمه وقرطاسه. واحتفى أيضا باللغة، لغتنا البليغة الجزيلة الشفيفة البهية التي انكتبت بها فصول هذا الكتاب، فكانت متعتنا مضاعفة ونحن نجوب بعيني مالكة عسال أرجاء هذا الوطن العربي الكبير الباذخ بحضارته العريقة، ونلقى عينا على مراتع الدول الراقية الجميلة الشامخة بثقافتها الأصيلة، وقد رسم ملامحها الأبية يراع مبدعة متألقة وأبية أيضا، فزادنا ذلك عشقا لوطننا وازداد ظمأنا لقراءة المزيد والتجوال الماتع عبر أفنان اللغة وتعاريش البديع.

بقلم د.اسمهان الزعيم
-------

الدكتورة اسمهان الزعيم روائية مغربية حاصلة على دكتوراه الدولة في الأدب الإسباني الحديث سنة 2005 من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، وعلى الماجستير في العلوم السياحية بمدينة روما بإيطاليا سنة 2000.
صدر لها:
ــ ما قيل همسا (رواية) سنة 2007
ــ قبضة ماء ( رواية) سنة 2012
ــ لوعة البياض( نصوص) سنة 2015
ولها قيد الطبع:
ــ عباءات الروح (شعر)
ـــ ريحون (رواية)

ليست هناك تعليقات:

أخبار ثقافية

قصص قصيرة جدا

قصص قصيرة

قراءات أدبية

أدب عالمي

كتاب للقراءة

الأعلى مشاهدة

دروب المبدعين

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...